الفصل الخامس عشر

الهدية

فسُرَّت جلنار بذلك ونهضت ومشت نحو غرفتها وهي تسترق الخُطى مخافةَ أن يُسمع وقع قدميها. أما ريحانة فإنها أطفأت السراج وسارت في أثرها حتى وصلتا إلى غرفة جلنار، فدخلتا وتوسدت جلنار فراشها وتغطت باللحاف والتفت بالمطرف؛ دفعًا لما أحست به من البرد في أثناء مرورها في الرواق، وجلست ريحانة بين يديها وقد لفت رأسها وحول عنقها بالشال. فلما استقر بهما المقام قالت ريحانة: «قد فهمت اعتراضك يا مولاتي.»

قالت: «فما رأيك؟ ألا ترين أني أواجه مشكلة صعبة؟»

قالت ريحانة: «إذا كنت محقة في ظني، فالمشكلة على صعوبتها لا نعدم وسيلة لحلها.»

فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وكيف نستطيع الحل؟ وأراني كحجر بين مطرقتين. إن والدي من جهة قد وعد بزواجي من ابن الكرماني، وسأُزفُّ قريبًا إليه، وأرى نفسي من جهة أخرى مقيدة القلب (وتنحنحت وبلعت ريقها حياء) وأنا مع ذلك لا أدري إذا كانت المحبة متبادلة! فكيف أتخلص من أمر والدي؟ وماذا يكون أمري إذا لم تكن المحبة متبادلة؟!» قالت ذلك وشرقت بريقها، واحمرت وجنتاها، أو زادتا احمرارًا؛ لأن وجهها كان قد تورد من الدفء وإعمال الفكرة. ولحظت ريحانة في عينيها دمعتين تترددان بين المآقي، فتأثرت لحالها، وشعرت بخطر موقفها، فبادرت إلى التخفيف عنها فقالت: «أما ابن الكرماني فليس أمره مهمًّا؛ لأنك لو زُففتِ إليه من الغد، فبقاؤك عنده لا يكون إلا بانتصاره على أبي مسلم، فإذا انتصر عليه، فأبو مسلم لا يليق بك، وأما إذا كانت الغلبة لأبي مسلم، فأنت له لا محالة؛ لأنه يستولي على كل ما هو للكرماني. وإذا كنت تكرهين هذا العريس وترومين بُعده؛ فلك من حكمتك وحسن أسلوبك ما يضمن بقاءك عنده مدة طويلة وأنت مصونة كأنك في بيت أبيك.»

فأدركت جلنار ما تعنيه ريحانة، وقد أخجلها، لكن سرورها بهذا الحل هوَّن عليها ذلك التعريض، فابتسمت والانقباض ينازع الابتسام في وجهها، فعادت ريحانة إلى حديثها فقالت: «بقي علينا النظر في الوسيلة إلى أبي مسلم، والحق يقال إن هذا العربي المهزار قد رأى رأيًا حسنًا؛ فلا غرو إذا وقع لديك موقع الاستحسان؛ لأن زيارتك لأبي مسلم بدون علم أو مبادلة سابقة لا تخلو من الابتذال؛ فالذي أراه أن ترسلي إليه مع الضحاك مبلغًا من المال على سبيل الإعانة، والضحاك يُفهمه بأسلوب لطيف أنك بعثت بهذه الهدية حبًّا فيه وفي دعوته، ونرى ما يكون من جوابه. وإذا رأيت أن ترسلي إليه هدية خاصة تؤكد محبتك فعَلت.»

فأشرق وجه جلنار لهذا الرأي، وكانت متكئة فجلست وقالت: «لقد أعجبني يا ريحانة رأيك الأخير؛ لأن إرسال الهدية الخاصة استطلاع لرأي أبي مسلم فيَّ. فما عسى أن تكون تلك الهدية؟»

قالت: «أجمل هدية تُهدى للقواد السيف، فإذا بعثت إليه بسيف مرصع، وبلَّغه الرسول أنه هدية منك إليه؛ ازداد اعتقادًا بسلامة نيتك في نصرته، وإذا كان في نفسه شيء ظهر.»

فقالت: «ومن أين آتي بهذا السيف؟»

قالت: «ذلك هين على من يبذل المال، فأعطِ الضحاك مالًا وفوضيه أن يبتاع سيفًا، فما هو إلا أن يذهب ويعود إليك بالسيف في نحو ساعة.»

ففرحت جلنار بهذا التدبير وقالت: «إني أترك تدبير هذا الأمر إليك، وأما النقود فهي عند الخازنة. خذي منها ما تريدين، واحذري أن يعلم والدي بشيء من هذا التدبير فنقع في مشكلة يصعب حلها.»

قالت: «كوني مطمئنة يا مولاتي، فلا يكون إلا الخير، إن شاء الله. والآن خففي عنك ونامي، وعليَّ تدبير كل شيء.»

ثم قبَّلت رأسها ويدها وخرجت حافية حتى عادت إلى غرفتها. ولا نظن أن جلنار نامت في تلك الليلة إلا قليلًا لعظم اضطرابها.

فلندع هؤلاء في تدبيرهم، ولنرجع إلى أبي مسلم؛ فقد تركناه في دار الضيافة ومعه خالد بن برمك وقد ناما، وأبو مسلم قلَّما غمض جفنه وهو يفكر في مشروعه، وفيما عساه أن يحول دونه من العقبات. وكان أبو مسلم شديد الحذر، متيقظ الخاطر، سيئ الظن في المستقبل، لا يأمن كوارث الأحداث، فكان — وهو في فراشه — سابحًا في بحار التأملات يفرض الممكنات، ويهيئ الأسباب، حذرًا من الفشل. وبعد أن نام هزيعًا من الليل أفاق على هبَّات الرياح، وقصف الرعد، وسقوط الأمطار، فشقَّ عليه ذلك مخافة أن تحول الظروف دون مسيره، فلما استيقظ نهض من الفراش، وأطل من نافذة غرفته إلى ما حوله — وكان المطر قد انقطع والصبح قد تبلج — فرأى المياه قد ملأت الطرق وسالت في أخاديد الأرض، فتحول إلى غرفة خالد. ولم يكد يدخلها حتى رآه خارجًا منها وقد تزمَّل بعباءته وتخمر بعمامته، فصاح فيه أبو مسلم: «خالد.»

فقال: «لبيك أيها الأمير.»

قال: «ما رأيك في صاحب الخبر الذي بعثناه بالأمس، هل تظنه تمكَّن من التجسس؟»

قال: «لا أظنه إلا فعل، وإذا أبطأ علينا فلا يؤخره إلا المطر والوحال؛ لأنه من أهل النجدة والهمة.»

قال: «إني في انتظاره على مثل الجمر؛ لنعلم حال أعدائنا في مرو، فنتدبر في حربهم.»

قال خالد: «ذلك هو الأمر الذي شغل خاطري الليلة وحرمني النوم، على أني واثق بالرجل وإخلاصه؛ لأنه يخشى غضبك، وهو يكره نصر بن سيار كرهًا شديدًا.»

قال أبو مسلم: «ليس في معسكرنا من يحب نصرًا، ولكنني أخاف أن يخدعهم الكرماني؛ لأنه من دُهاة الرجال، وقد بلغني أنه أخرج نصرًا من مرو وتملَّكها.»

وبينما هما في ذلك إذ سمعا حركة في داخل الدار، وإذا ببعض الغلمان قد أقبلوا وهم يحملون موقدًا فيه نار قد تجمَّرت وضعوه في أحد جوانب الغرفة للاستدفاء، وذروا فيه شيئًا من البخور، فانتشرت رائحته في الدار كلها، فاستأنس أبو مسلم بالدفء والبخور، وجلس على وسادة فوق البساط، والتفَّ بمعطف من خزٍّ أسود، ولفَّ عمامته على رأسه بغير نظام، وأشار إلى خالد فجلس إلى جانبه، ثم تذكر أنه لم يصلِّ بعدُ، فنهض ونهض معه خالد وصلَّيا الصبح، وجلسا وكلاهما يفكر في أمر الرجل الذي أرسلاه ليتجسس أحوال مرو قبل وصولهم إلى تلك المحلة. وكانا قد أوعزا إليه أن يوافيهما إلى هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤