الفصل التاسع عشر

الاستعداد

وظل أبو مسلم وخالد في خلوة، فقال أبو مسلم: «علينا أن نحارب هؤلاء جميعًا: الكرماني، وشيبان، ونصر.»

فسكت خالد ولم يُجب، فأدرك أبو مسلم غرضه فقال: «كأني بك تقول وكيف نحارب هؤلاء وليس معنا من الرجال أحد. تمهَّل وسترى كيف يأتيك الناس مئات وألوفًا. كيف حال الطقس يا ترى؟» قال ذلك ونهض ليرى الجو، فمشي معه خالد إلى الباب، فأطلَّا على الحديقة، فرأى الشمس مشرقة وقد صفا الجو، وأقبل الدفء، وأخذت المياه في الجفاف، فقال أبو مسلم: «نستطيع السفر الليلة إن شئنا.»

فقال خالد: «إذا رأى الأمير أن نبيت الليلة هنا ونرحل في الصباح كان ذلك أقرب إلى الصواب.»

قال: «لا بأس من ذلك، وأرى أن نبعث إلى كبار النقباء نخبرهم بعزمنا، ونشاورهم في أمرنا، وفي الخطة التي يجب أن نعمل بها قبل الإقبال على مرو؛ لأننا في حاجة إلى الرجال والأموال كما ذكرت، وإن كنت على يقين من نجدة كل دهاقين خراسان ومَن يقول بقولهم. وهم ليسوا في خصام بينهم مثل خصام العرب اليمنية والمضرية، بل هم متفقون على النقمة على العرب كافَّة لما يسومونهم من الظلم والذل.»

فقال خالد: «رأيك هو الصواب. ألا ترى أن نكاتب الدهاقين ونستنجد بهم، ونبث الدعاة قبل نهوضنا من هنا؛ حتى إذا نهضنا إلى مرو لا يطول انتظارنا للنجدة، ثم تتوالى علينا النجدات، بإذن الله؟»

قال أبو مسلم: «سنكاتب الدهاقين ونبث الدعاة متى خرجنا من هذا المكان، وسننزل في أقرب القرى إلينا لنقيم فيها حينًا لهذا الغرض، ثم نرحل إلى سفيذنج ننزل فيها ضيوفًا على صاحبنا سليمان بن كثير ونكون تجاه مرو.»

فلما سمع خالد اسم ابن كثير تذكَّر ما في قلب أبي مسلم من هذا الرجل مع ما يظهره من احترام له؛ لأن ابن كثير كان يدعو لأهل البيت قبل ظهور أبي مسلم، وقد أبلى في ذلك بلاءً حسنًا، ونال مقامًا رفيعًا. فلما بعث إبراهيم الإمام أبا مسلم إلى خراسان وعهِد برياسة الدعاة إليه لم يقبله سليمان بن كثير؛ لصغر سنه، وقد كبُر عليه أن يكون تحت أمره. وكان في جملة الدعاة رجل اسمه أبو داود؛ أشار على الدعاة بقبول أبي مسلم رئيسًا عليهم، وحاجَّهم بما لا محل له هنا، فقبِلوه. وكان قد بلغ أبا مسلم ما قاله ابن كثير فيه، فأسرَّها في نفسه وعرف فضل أبي داود، فلما سمع خالدُ بن برمك أبا مسلم يذكُر ابن كثير تذكَّر هذه الحادثة، ولكنه تجاهل وأسرع إلى الجواب لئلا ينتبه أبو مسلم لما جال في خاطره؛ لأنه كان دقيق الفِراسة، فقال خالد: «حسنًا رأيت أيها الأمير، فلنتأهَّب للمسير، وفي الغد نسافر إلى أقرب القرى إلينا؛ وهي (فنين) على ما أظن.»

قال: «نعم، هي بعينها؛ فابعث إلى النقباء أن يكونوا على أُهبة الرحيل في غدٍ، ولا بد لنا قبل الرحيل من وداع دهقاننا؛ لنوصيه بمخابرة أصدقائه من الدهاقين في مرو؛ ليمدوا لنا يد المساعدة بالمال أو الرجال. والله الموفق.»

فأشار خالد إشارة الاستحسان وخرج.

وأما جلنار فقد تركناها بعد خروج ريحانة من عندها وهي مضطربة البال، فقضت تلك الليلة قلقة، وكلما تصورت ذهاب الضحاك لمقابلة أبي مسلم وتقديم الهدية إليه يخفق قلبها، فلم تنم إلا قليلًا، فأصبحت منحرفة الصحة لعِظَم ما قاسته من القلق والاضطراب في الأمس من قلة النوم، فظلت على فراشها تتناولها الأفكار المتضاربة، وتخشى أن يبكِّر والدها إليها ويخاطبها في شأن خطبة ابن الكرماني وهي تحب الاطلاع على ما يُكنُّه قلب أبي مسلم أولًا. فلما تراكمت عليها الأفكار شعرت بالحاجة إلى ريحانة واستبطأتها، فصبَّرت نفسها ومكثت في الفراش تارةً تجعل اللحاف فوق رأسها للدفء أو الاستغراق في التفكير، وتارةً يضيق صدرها فتزيحه إلى أسفل كتفها وتتنهد وهي تتوقع مجيء أحد ثلاثة: إما أن يأتي والدها بخبر الكرماني، أو تأتيها ريحانة وحدها تنبئها بإرسال الهدية، أو تأتيها بالضحاك بعد الفراغ من المهمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤