الفصل الثاني والعشرون

الوداع

فلما ضاقت ذرعًا عن أن تقطع الأمر برأي أشارت إلى الضحاك بالانصراف، ومضت إلى غرفتها لتخلو بنفسها؛ لعلها تهتدي إلى حل تلك المشكلة، فأغلقت بابها واستلقتْ على الفراش وقد استغرقت في الهواجس، فقضت في ذلك ساعة وهي تطوف في عالم الخيال، ثم تعود إلى حيث بدأت حتى ضاق صدرها، فأحست بحاجتها إلى ريحانة وصارت تتوقع مجيئها على مثل الجمر، ثم غلب عليها التعب والقلق وهي مستلقية على الفراش فأحست بالنعاس وشعرت بالبرد، فالتفَّت باللحاف ونامت، واستغرقت في النوم وقد تركت الباب مغلقًا ولم توصده، فجاءت ريحانة لتتفقدها فرأتها نائمة فتركتها ومضت وهي أكثر قلقًا منها لاستطلاع ما أسره إليها الضحاك. وكانت على يقين من أن سيدتها لا تكتم عنها شيئًا.

وظلت نائمة حتى استيقظت على ضوضاء الخدم عند الغروب، ففتحت عينيها وهي تحسب نفسها في الصباح، فنهضت فرأت ريحانة جالسة بجانب فراشها، فمسحت عينيها وتلفتت حولها فانتبهت إلى الوقت ساعة الغروب، فلما رأت ريحانة قالت لها: «لقد أبطأتِ وغلَب عليَّ النوم.»

قالت: «تخلفت عنك لتستوعبي سرك، ثم جئتُ فرأيتك نائمة.»

فقالت جلنار: «ما هذه الضوضاء التي أسمعها؟»

قالت ريحانة: «إن الضيوف في القاعة مع مولاى الدهقان، والخدم في خدمتهم.»

فلما سمعت ذلك أجفلت وأحست بميل شديد إلى رؤية أبي مسلم، وأدركت ريحانة غرضها فقالت: «إن مولاي الدهقان سألني عنك، فأخبرته أنك نائمة، فهل تريدين الذهاب إلى القاعة؟»

قالت: «وماذا يفعلون هناك؟»

قالت ريحانة: «أظنهم جاءوا للوداع، وهم على أهبة السفر في صباح الغد.»

فوقفت ودنت من المرآة المعلقة بالحائط لتصلح من شأنها، ولم تصبر على ريحانة لتصلحها، فأسرعت هذه إلى المشط فسرحت شعرها وضفَّرته، وأتتها بزجاجة الطيب فتطيبت، ولبست ثوبًا سماوي اللون، والتفَّت بشال موشًّى بالحرير وهي تضطرب من التأثُّر، وترتعد رعدة الحب، وتتظاهر بأنها إنما ترتعد من البرد، فجاءتها ريحانة بمطرف من الخز التفَّت به فغطى معظم ثيابها.

ومشت ريحانة بين يديها حتى دخلت القاعة من بابها السري وتنحَّت ريحانة، وأشرفت جلنار على الجلوس بحيث تراهم ولا يرونها، فرأت والدها جالسًا على وسادة في صدر القاعة وبين يديه محجن فيه مسك، وهو يتشاغل بتفتيت المسك بين أنامله، وقد فاحت رائحته حتى تضوَّع المكان بها، ورأت أبا مسلم جالسًا وقد بدَّل ثياب السفر التي رأته بها بالأمس، فجعل على رأسه قلنسوة من خز أسود، وفوق ملابسه قباء أسود، فتذكرت ما سمعته عن الشعار الأسود الخاص بأصحاب هذه الدعوة، ورأت خالدًا بجانب أبي مسلم بمثل لباسه، وقد جلسا على وسادتين مثنيتين دلالةً على علو منزلتهما عند صاحب الضيافة، فوقفت هنيهة وهي لا تمتلك نفسها من الرعدة، فانتبه لها والدها، فناداها وأشار إليها أن تجلس إلى بعض الأساطين، فجلست ولم تتكلم، ولكنها كانت متوجهة بكل جوارحها نحو أبي مسلم لترى ما يبدو منه بعد ما سمعته عنه، فلحظت منه التفاتًا لم تعهده من قبلُ، فانشرح صدرها. وكانوا قد أخذوا بأطراف الحديث قبل وصولها، فخاطبهم والدها بالفارسية قائلًا: «أراكم مسرعين في الرحيل عنا! لعلكم لم ترتاحوا إلى ضيافتنا!»

فقال أبو مسلم: «كلا يا حضرة الدهقان، بل نحن لا ننسى حسن وفادتكم، ونتمنى أن يكون سائر الدهاقين مثلكم.»

قال: «لا ريب عندي أنكم ستلاقون من إخواننا الدهاقين كل رعاية، وسيكونون عونًا لكم في هذه الدعوة؛ لأنكم إنما تدعون إلى نصرتهم، بل أنتم تسعون في إنشاء دولة سيكون لآل خراسان نفوذ عظيم فيها، فننسى تحكُّم العرب في شئوننا، واستئثارهم بالأموال دوننا؛ فقد كنا قبلهم — في أوائل دولتهم — نحن أهل السطوة وأصحاب الحكومة، فما زالوا ينازعوننا عليها حتى كادوا يحكمون فينا، ولا يمر يوم لا يأتوننا فيه بضريبة.»

فقال أبو مسلم: «وأظن هذا هو السبب في بقاء معظم الدهاقين على الزردشتية أو المجوسية.»

قال الدهقان: «نعم هذا هو السبب، وأنا أعرف جماعة من هؤلاء لولا ظلم هذه الدولة واستبدادها لاعتنقوا الإسلام، على أن بعضهم همَّ بالإسلام ثم عدل عنه. ولا ريب عندي أنهم إذا آنسوا من حكامهم رفقًا فلن يتخلف أحد منهم عن الإسلام، وأنا أضمن ذلك إذا شئتم.»

قال خالد: «يكفينا من حضرة الدهقان أن يبعث بعض أتباعه إلى مَن والاه من الدهاقين داعيًا لأن يحسنوا الظن بدعوتنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤