الفصل السابع والعشرون

سياسة التقسيم

ثم حياه وتحوَّل وهو يقول بصوت عالٍ: «فنحن إذن قد أخطأنا الطريق إلى معسكر الكرماني. هلُمَّ بنا يا قوم إلى تلك الأعلام اليمنية؛ فإن الكرماني هناك.»

ولما وصل إلى الفيل تناول المقود وأشار إلى أحد العبيد فانطلق مسرعًا يعدو نحو معسكر الكرماني؛ كي يخبرهم بقدوم العروس ليستقبلوها. وكان الكرماني قد كتب الكتاب في منزل الدهقان قبل ذلك اليوم ودفع المهر وأبرم الاتفاق.

أما خالد فإنه ترك أبا مسلم يخاطب الضحاك وانصرف نحو المعسكر، فرأى رجلًا مسرعًا نحوه وهو يقول: «أين الأمير؟»

فقال: «وما الخبر؟»

فأشار بيده نحو مرو وقال: «إن الحرب قد نشبت بين الكرماني ونصر.»

فالتفت خالد إلى مرو، فرأى الفرسان قد خرجت من المدينة ومعها أعلام بني أمية، وخرج إليهم رجال الكرماني بأعلامهم وقد تطايرت النبال واشتبك القتال. وكان أبو مسلم قد أقبل نحو خالد، ورأى مثلما رأى خالد ففرح وصاح: «لقد حانت ساعة العمل.»

فقال خالد: «هل نستعد للهجوم أيها الأمير؟»

قال: «احذر أن تفعل. إنما شأننا اليوم الصبر لنرى عاقبة هذا القتال.»

قال: «ألا نغتنم فرصة انشغال نصر بالحرب ونهجم على المدينة؟»

قال: «إذا هجمنا لا نأمن أن يتَّحد العدوَّانِ علينا، ولكن نصبر إلى الغد.» قال ذلك ومضى إلى منزل سليمان بن كثير، فرأى النقباء قد اجتمعوا هناك وهم يسألون عن أبي مسلم، وكلهم يرون رأي خالد بالهجوم. فلما أقبل أبو مسلم عليهم استشاروه فقبَّح رأيهم وأمرهم بالانتظار، فسكتوا وأطاعوا.

فلما غربت الشمس تراجع الجيشان وأمسكا عن القتال، ورجع كلٌّ منهما إلى مكانه، والنقباء يرون أن أبا مسلم قد أخطأ لتقاعده عن اغتنام تلك الفرصة، وهو لا يقول شيئًا. فلما أمسى المساء طلب الخلوة بخالد وسليمان، وأمر سائر النقباء أن يبيتوا على حذر.

فلما خلا بخالد وسليمان، همَّ أن يكاشفهم بما في ضميره، فسمعوا طارقًا يطرق الباب ففتحوا له، وإذا بفارس ومعه رجل مُوثَق بعمامته والفارس يقول: «قد قبضنا على هذا الرجل مارًّا في معسكرنا وليس هو منا.» فحالما رآه أبو مسلم بنور المصباح عرفه، فصاح به: «الضحاك؟»

قال: «نعم يا مولاي.»

فأشار إلى الفارس فتركه وانصرف، ودخل الضحاك فحلوا وثاقه، وسأله عن أمره فقال: «هل أتكلم أم تأذن لي بخلوة؟»

فأدرك أنه يريد الخلوة، فأشار إلى خالد وسليمان فذهبا إلى غرفة أخرى، وجلس أبو مسلم على وسادة وأمره أن يجلس وقال: «قل. ما وراءك؟»

فجلس الضحاك جاثيًا متأدبًا وقال: «اسمح لي — يا مولاي — أن أُثني على إرجائك الهجوم الليلة، وكنت خائفًا أن تأمر جندك بالهجوم.»

قال: «لا تخف. ثم ماذا؟»

قال: «هل أتقدم برأي أبديه؟»

قال: «قل. بارك الله فيك. ما أسرع ما اطَّلعت على الخفايا!»

قال وهو لا يضحك: «قد رأيت يا مولاي أمرًا هالني وخشيت عاقبته على رجالك.»

قال أبو مسلم: «وما هو؟»

قال: «وصلنا بالعروس إلى فسطاط الكرماني، فإذا هو قد ركب لمحاربة نصر بن سيار؛ صاحب مرو، وابنه عليٌّ معه؛ أعني العريس المبارك، (وضحك) فأنزلنا العروس في خبائها بين عبيدها وجواريها، وخرجتُ لاستطلاع الأحوال، فرأيتُ جند الكرماني كبيرًا، وكلهم من رجال اليمن الأشداء، وفيهم العدة والنجدة، وربما زادوا عن خمسة أضعاف رجالك. ولما خرج رجال نصر لقتاله رأيتهم أيضًا كثيرين، فخِفتُ أن يغرَّك ذلك فتخرج برجالك للحرب وأنا لا أضمن لك الفوز؛ لعلمي أن الجندين وإن تباينتْ عصبيتهما بين اليمن ومضر فإنهم جميعًا من العرب، فإذا رأوا الخراسانيين يحاربونهم اتحدوا عليهم.»

قال أبو مسلم: «صحيح. إيه. قل.»

قال: «فرأيت أن خيرًا ما تفعله الآن أن تمكِّن البغضاء بين هذين الجيشين.»

فاستغرب أبو مسلم قوله، وأُعجب بسداد رأيه؛ لأن هذا هو الرأي الذي كان قد عزم عليه، وقال: «ذلك هو الرأي الصواب يا رجل، وهو الذي عزمت عليه، ولكن ما هو الطريق إلى إلقاء الفتنة الليلة حتى تتم لنا الحيلة في صباح الغد؟»

قال: «أتستشيرني يا مولاي؟»

قال: «لا بأس من المشورة؛ فإنها آمنُ عاقبة، فإذا لم يعجبني رأيك رجعت إلى رأيي.»

فأخد الضحاك يحكُّ جانب رأسه بإحدى يديه، ويده الأخرى على عمامته يسندها لئلا تقع، ثم ضحك وقال: «أكرم بك يا ضحاك! إن الأمير يستشيرك!» ثم عاد إلى هيئة الجد وقال: «الرأي — يا سيدي — أن تكتب كتابًا نجعل عنوانه إلى شيبان الحروري؛ صاحب الجند الآخر المُعسكر وراء الكرماني، وتقول في خطابك إلى شيبان المذكور ما معناه: «إن قبائل اليمن لا وفاء لهم، ولا خير فيهم؛ فلا تثقنَّ بهم، فإني أرجو أن يمكِّنك الله منهم، وإذا بقيتُ فلن أدع لأهل اليمن شعرًا ولا ظفرًا.» أو نحو ذلك مما يدل على أنك تكره اليمنية، ولا ترجو خيرًا منهم. وترسل هذا الكتاب مع رسول تأمره أن يجعل طريقه إلى معسكر شيبان من جهة معسكر المضرية أصحاب نصر بن سيار. فهم طبعًا سيشكون في أمره، ويقبضون عليه، ويأخذون الكتاب منه فيفتحونه ويطَّلعون عليه، فيقوم في نفوسهم أنك معهم قلبًا وقالبًا، فيميلون إليك وتقوى نفسهم على اليمنية. واكتب كتابًا آخرًا إلى شيبان أيضًا على نفس هذه الطريقة، ولكنك تطعن فيه المضرية، وتقول عنهم مثل الذي قلته عن اليمنية بذلك الكتاب، وترسل هذا الكتاب مع رسول يجعل طريقه من جهة معسكر الكرماني؛ وهم يمنية، فيشكون في أمر الرسول ويطَّلعون على الكتاب، فيرون أنك معهم على المضرية، وتقوى نفوسهم بك،١ فإذا نشب القتال في الغد وأردت النزول كان الفريقان معك.» وضحك ضحكة طويلة، فلم يتمالك أبو مسلم عن مجاراته في الضحك ولو قليلًا، وقد انبسطت نفسه بذلك الدهاء وقال: «إن لك لشأنًا يا رجل، وما أنت ضحَّاك كما تتظاهر. إني فاعل كما أشرتَ الساعة.» ثم نهض ليأمر الكاتب بذلك، فتعلق الضحاك بذيله وقال: «وأنا؛ ماذا أعمل؟»

قال أبو مسلم: «تأخذ هدية جزاء صدق خدمتك.»

قال: «هدية؟ إني لا ألتمس على خدمتي أجرًا، ومع ذلك فإني لم أفعل شيئًا أستحق عليه أجرًا، ولعلي أستطيع ذلك بعد الآن. إني منصرف الساعة إلى مولاتي الدهقانة، وسأبلغها سلامك وامتنانك، ليس لأنك تحبها، ولكن لأن ذلك يسرُّها ويخفِّف ألمها من رؤية عريسها الأعور!»

قال أبو مسلم: «ومن تعني؟»

قال: «أعني عليَّ بن الكرماني؛ فإنه نصف أعمى، فضلًا عن غرابة شكله، وهو مع ذلك زوجها بعقد مكتوب، ومهر مدفوع. وسترى كم ينفعنا هذا العقد. أنا منصرف الآن بأمرك، وسآتيك بالأخبار عند الحاجة.»

ثم وقف فقبل يد أبي مسلم وخرج مهرولًا.

١  ابن الأثير، ج٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤