الفصل الثامن والعشرون

الحرب

أما أبو مسلم فصفَّق فجاءه خالد وسليمان، وأمر بالكاتب فجاء، فأخبرهم بما عزم عليه من المخابرة على الكيفية التي تقدَّم بيانها، وأملى على الكاتب فكتب كتابين إلى شيبان الخارجي، وسلَّمهما إلى رسولين من أصحاب الخبرة البارعين في الجاسوسية، وأمر أحدهما أن يمر بمعسكر نصر بن سيار، والآخر بمعسكر الكرماني. ومتى قُرئ الكتابانِ يرجعان بهما إليه، ولا يوصلانهما إلى شيبان، فسار الرسولان وفعلا كما أمر.

فلما اطلع الكرماني على أحد الكتابين وفيه ما فيه من نقمة أبي مسلم على قبائل مضر توهَّم أن أبا مسلم معه على المضرية، ولما اطلع نصر بن سيار على الكتاب الآخر توهم أن أبا مسلم معه على اليمنية، فقويت نفس كلٍّ منهما على قتال صاحبه. وكان أبو مسلم في أثناء إقامته هناك قد كتب إلى الكور بإظهار الأمر، فسوَّد — لبس السواد — جماعة كبيرة في نسا، وأبيورد، ومرو الروذ، وكثير من قرى مرو، وأقبلوا إليه تباعًا.

وفي صباح الغد عاد الجيشان إلى الحرب بقلوب قوية، وهواهما مع أبي مسلم. ولإتمام الحيلة كتب أبو مسلم إلى كلٍّ من نصر بن سيار والكرماني كتابًا خاصًّا يقول فيه: «إن الإمام إبراهيم (صاحب الدعوة) قد أوصاني بك وبرجالك خيرًا، ولستُ أعدو رأيه فيكم.» فازداد الفريقان رغبة فيه، ورهبة منه، وزادت نقمة كلٍّ منهما على صاحبه، فلما احتدم القتال ركب أبو مسلم بمن معه من النقباء والأتباع وأقبل على المتحاربين، فلم يتعرض لهم أحد بسوء، فنزل بمن معه بين خندق الكرماني وخندق نصر بن سيار، وهابه الفريقان. ورأى بدهائه أن يشجع الكرماني حتى يُعرِّضه للخطر، فبعث إليه: «إني معك.» فقبِل الكرماني ذلك بسرور، فانضم أبو مسلم إليه فعلًا، فاشتد الكرماني به.

فلما رأى نصر ذلك أدرك حيلة أبي مسلم، فبعث إلى الكرماني يقول: «ويحك! لا تغترَّ؛ فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه، فادخلْ مرو ونكتب كتابًا بيننا بالصلح.» وكان غرض نصر أيضًا أن يفرق بين الكرماني وبين أبي مسلم.

فلما سمع الكرماني كلامه رجع إلى صوابه، وخشي أن يكون نصر مصيبًا، فدخل الكرماني فسطاطه وظل أبو مسلم في المعسكر.

ثم خرج الكرماني حتى وقف في الرحبة بين المعسكرين في مائة فارس وعليه قرطق — وهو قباء ذو طاق واحد — وأرسل إلى نصر يقول: «اخرجْ لنكتب بيننا ذلك الكتاب.»

فلما رآه أبو مسلم يقول ذلك خشي أن يخفق مسعاه. وكان أبو مسلم واقفًا على جواده وعليه درع كاملة تغطي جسمه وبعض الجواد، وهو لا يبالي بتساقط النبال عليه، فإنها كانت ترتد عنه خائبة. وبينما هو في تلك الحيرة أبصَرَ رجُلًا مُلثَّمًا طويل القامة يتقدم بسرعة الجواد الجموح نحو معسكر نصر وهو يتَّقي السهام بكفيه، فعرَف من حركته وزيِّه أنه الضحاك، وما لبث أن رآه تغلغل في ذلك المعسكر، ثم رأى كوكبة من الفرسان خرجت من معسكر نصر وفي مقدمتها فارس يصيح بأعلى صوته: «أنا الرجل الموتور، أنا ابن الحارث بن سريج. جئتك يا كرماني يا ابن الفاعلة، أنت قتلتَ أبي وأنا أقتلك.» قال ذلك وانقض انقضاض الصاعقة، والتقت الكوكبتان واشتبكتا. واشتد أَزْرُ المضرية، ثم رأو فارسًا خرج من مرو يحرض المضرية ويسُوق فرسه أمامهم وقد جلَّله الشيب، ولكن الشيخوخة لم تُغير شيئًا من نشاطه وحميته. ولما ساق جواده لعبت الريح بلحيته — وهي بيضاء عريضة ملء صدره — وصاح في رجاله يستحثُّهم، فعلم أبو مسلم أنه نصر بن سيار، فقال في نفسه: «لو ظهر في بني أمية مثل هذا الرجل قبل أن يتمكَّن الفساد فيهم لما كان سقوطهم وشيكًا، ولكنه لن يستطيع أمرًا.» وهجم مع نصر كوكبة من الفرسان فتغلبوا على الكرماني ووجهوا إليه طعنة فخرَّ عن دابته، فأتمُّوا قتله، وأمر نصرٌ بحمل الجثة وصَلْبها، فصلبوه ومعه سمكة!

فلما رأى أبو مسلم مصرع الكرماني تظاهر بالأسف، وتوقَّع فشل اليمنية، وإذا بعلي بن الكرماني قد هجم يطالب بثأر أبيه، فهجم أبو مسلم معه، ونادى رجاله فهجموا جميعًا على نصر ورجاله فأرجعوهم عن مواقفهم، ثم تراجع الجيشان.

رجع أبو مسلم من المعركة وقد سرَّه مقتل الكرماني، وأخذ في أثناء رجوعه يعمل فكرته في تدبير الحيلة لمقتل ابنه علي، ولكنه رأى أن يستعين به على نصر أولًا ثم يقتله ويقتل شيبان الخارجي، فوصل معسكره واجتمع إليه النقباء، فنظر إليهم وهو يقول: «ألم يكن رأينا صوابًا؟ قتلنا الكرماني ولم نسفك نقطة من دماء رجالنا. والرأي فوق شجاعة الشجعان.»

فأعجبوا بدهائه، وعظُم إيمانهم بفوزه في سياسته، فازدادوا تفانيًا في طاعته وقالوا: «مرْ بما تشاء؛ فإنك صاحب الرأي النافذ والقول الفصل.» واشتغلوا في مهامهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤