الفصل التاسع والعشرون

العروس في بيت حميها

أما جلنار فقد تركناها في القبة ذاهبة إلى معسكر الكرماني، وقبل وصولها جاءها وفد من رجال الكرماني استقبلوها وأنزلوها في خباء خاصٍّ نصبوه في مؤخر المعسكر، وأنزلوا فيه أحمال الآنية والفرش، وأدخلوا جلنار غرفة من غرفه ليس فيها من النساء سواها، ومعها بعض الجواري وريحانة. وقد زادت تعلُّقًا بها في هذه الغربة، وأصبحت لا تصبر على فراقها لحظة. وكانت ريحانة أكثر تعلُّقًا بها للسبب نفسه، وأحست بأنها مسئولة عنها وحدها. وقد علمت بما يهددها من الأخطار الجسام. فوطَّنت النفس على بذل كل ما في وسعها لراحتها وسلامتها.

فلما وصلت جلنار إلى الخباء سبقتها الجواري إلى تهيئة ما يلزم من أسباب الراحة، واشتغل الضحاك في إنزال الأحمال ومعه العبيد والخدم. ثم جاءت ريحانة إلى جلنار فأدخلتها غرفتها، وأخذت تنزع ما عليها من ثياب السفر وتلبسها ثوب البيت وهي صامتة لا تتكلم، ثم لاحت منها التفاتة إلى جلنار فرأت عينيها تدمع، فانقبضت نفسها وابتدرتها قائلة: «ما الذي يبكيك يا مولاتي؟» ولم تكد تلفظ هذه العبارة حتى اختنق صوتها وغصَّت برِيقها، فاكتفت جلنار بما شاهدته من ريحانة ولم تُجبها، فتشاغلت ريحانة بتصفيف شعر سيدتها وتجلَّدت وأعادت السؤال وهي تحذر أن يختنق صوتها وقالت: «ما بالك — يا مولاتي — لا تجيبين عن سؤالي؟»

فالتفتت جلنار إلى ريحانة والدمع يتلألأ في عينيها، وقالت بالفارسية: «أتسألينني عن السبب وأنت أعلم به مني؟ أين نحن الآن؟ كيف خرجت من دار أبي وقد كنتُ فيها في حصن حصين، وجئت إلى دار الحرب، والنبال تتساقط على فسطاطي، ثم إني لا أعرف إلى مَن أنا صائرة.»

فأحبت ريحانة أن تخفف عنها فقالت وهي تتظاهر بالابتسام: «أنت صائرة إلى الأمير علي بن الكرماني، وكلُّ هذا المعسكر رهن إشارتك.»

قالت: «وأين هو علي هذا؟ إني لم أره، ولو رأيته ما عرفته. سامحك الله يا أبتاه! لقد فرطت فيَّ. بل اللوم عليَّ؛ كيف أسلم نفسي لرجل لا أعرفه ولم أره؟ وقد وصلت إلى منزله ولم أجده.»

فقالت ريحانة: «خفِّفي عنك يا مولاتي. إنه لا يلبث أن يأتي؛ فقد اتفق وصولنا ساعة خروج الأمير الكرماني لملاقاة جند مرو في حرب. ولا شك أن عليًّا ابنه معه، وسترينه عائدًا وقد تلطخ صدر جواده بدم الأعداء، وفي وجهه عزُّ النصر. وهو عزٌّ لك. إن في ذلك لذةً لم تتعوديها، فإذا ذُقتِها مرَّة فإنَّك لن تنسي لذَّتها. إن لذة النصر عظيمة يا مولاتي.»

فذعرت جلنار عند سماعها كلمة الحرب وقالت بالفارسية أيضًا: «هو في حرب؟ ألم تقولوا لي إنه صاحب مرو، وله الأمر والنهي، وبيده الحل والعقد.»

قالت: «قد كان كذلك على ما علمنا. فالظاهر أنه خرج منها، ولكنه لا يلبث أن يفتحها كما فتحها قبلًا.»

فصاحتْ وقد نسيت موقفها: «لا يَهمُّني فتَحها أم لم يفتَحها. إني لا أريده. أخرجوني من هذا المكان. يا ريحانة، أخرجيني إلى حيث شئت.»

فضحكت ريحانة في وجهها تخفيفًا لغيظها، وأظهرت الاستخفاف بخوفها. وكانت قد فرغت من تمشيطها وتبديل ثيابها، وألبستها في ذلك اليوم ثوبًا عنابي اللون، وتمنطقت عليه بمنطقة مرصعة، ولفَّت كتفيها بمطرف من الخز الموشَّى مبطَّنٍ بالفرو الثمين، وقد احمر وجهها من أثر السفر، وتوردت وجنتاها، وتكسرت عيناها من البكاء، وغشيهما ذبول القلق، وتجلَّى في جبينها وبين عينيها هيبة الانقباض، وأحدق بفمها معنًى يعبر عنه بالخوف أو الحذر، واسترسل شعرها ضفيرة واحدة على ظهرها وقد تلألأ القرطان في أذنيها، وكلٌّ منهما جوهرة واحدة تضيء في الظلام، فضلًا عما في عنقها من العقود الثمينة، وما يحيط بمعصميها من الدمالج والأساور، فأصبحت ملاكًا في صورة إنسان. وكانت ريحانة لا ترتوي من النظر إليها، فلما فرغت من إلباسها دعتها إلى الجلوس، فجلست وهي تقول: «وأين الضحاك يا ترى؟»

قالت: «لا يلبث أن يأتينا؛ فقد تركته يهتم بالأحمال ونحوها.» وصفَّقت فدخل خادم كان في جملة الخدم خارجًا، فقالت له: «أين الضحاك؟»

قال: «كان حول الخباء ثم ذهب. لا أدري إلى أين.»

فأجفلت جلنار من قوله ونظرت إلى ريحانة كأنها تستطلع رأيها في أمره، فقالت ريحانة: «هلم بنا نُطِلُّ من باب الخباء لنرى منظر هذا المعسكر؛ لعلنا نرى الضحاك.»

فنهضت ومشت على أثر ريحانة حتى أطلتا من باب الخباء، وإذا بسهم سقط بين يديهما عند الباب، فذعرت جلنار وتراجعت، ولم تذعر ريحانة؛ لأنها كثيرًا ما شهدت مثل هذه المعارك، فضلًا عن اضطرارها للتظاهر بالجلد تشجيعًا لمولاتها، فقالت وهي تضحك: «ما الذي أجفلك يا مولاتي؟»

قالت وهي ترتعد خوفًا: «يظهر أنهم يحاربون على مقربة منا. بالله ما هذا؟ ما الذي جاء بي إلى هذا المكان؟ كيف رضيت بالمجيء؟ آه يا أبا مسلم.» وكأنها نطقت باسمه سهوًا، فخجلتْ وتشاغلت بمسح دموعها بمنديل كان في منطقتها.

وكانت ريحانة أعلم منها بعظم المصيبة، ولكنها لم يسعها إلا التخفيف عنها، وشعرت أنها أساءت إليها إذ لم تمنعها من المجيء فقالت: «الحرب بعيدة عنا. اخرجي وانظري المعركة؛ فإنها وراء هذا المعسكر بينه وبين المدينة. وأما هذا السهم فقد أفلت وابتعد صدفة. اخرجي.» قالت ذلك وأمسكت بيدها وأخرجتها من الخباء رغم إرادتها، فأطلت على المعركة عن بُعدٍ فرأت الفرسان تجول، والنبال تتطاير، والسيوف تبرق في أيدي الفرسان، وبعضهم يحمل التروس، وبعضهم يشرعون الرماح، وأكثر القتال بين الفرسان؛ ولذلك قلما كانوا يترامون بالنبال؛ لأن النبالة أكثرهم من المشاة. فلم تستطع جلنار الصبر على ذلك المنظر فدخلت، ودخلت ريحانة في أثرها وهما صامتتان، وقد شغل خاطرهما؛ لأنهما لم يشاهدا الضحاك، حتى إذا دنا المغيب — وهي الساعة التي تنقبض فيها النفوس بلا سبب — زاد انقباض جلنار وتصوَّرت قرب مجيء زوجها الذي لم تره عيناها، ولا أحبه قلبها، ولا ترجو أن يحبه؛ لانشغاله بسواه، فأمسكت ريحانة بيدها، فأحست هذه بارتعاشها، فقالت: «ما بالك ترتعدين يا مولاتي؟»

قالت: «إني أرتعد لقرب الساعة التي سألقى فيها ابن الكرماني أو كما تسمونه. بالله كيف أقابله؟! أحقيقة هو زوجي؟! كلا. الموت أحبُّ إليَّ مِن قُربه.» ثم قبضت على يد ريحانة بيديها جميعًا وصاحت: «لا أعرف سبيلًا لنجاتي إلا بك.»

قالت: «لا بأس عليك يا سيدتي. أنا أدبر كل شيء، ومن يوم إلى يوم يأتي الله بالفرج. وإنما أتوسل إليك أن تتجلدي بين يديه، ولا تُظهري نفورك منه. وقد يكون لا بأس به. كيف تبغضينه قبل أن تنظري إليه؟»

فنظرت إليها جلنار بطرف عينيها ولسان حالها يقول: «ألا تعلمين ما يكنُّه قلبي من حب أبي مسلم؟»

فأدركت ريحانة مرادها وتبسمت وهي تقول: «كوني على يقين من أنك ستنالين بغيتك، ولكن بالصبر والحزم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤