الفصل الحادي والثلاثون

الضحاك

فنهضتا إلى حجرة الطعام في ذلك الخباء — وكانت الجواري قد أعددن الطعام — فجلستا لتناوله وإذا بأحد الخدم قد دخل مهرولًا وهو يقول: «إن الضحاك بالباب.»

فانبسطت نفس جلنار وزهدت الطعام لرغبتها في مقابلة الضحاك، ولم تكن ريحانة أقل رغبة منها في ذلك؛ لكي تطلعه على ما وُفِّقتا إليه تلك الليلة، فقالت للخادم: «أدخله إلى الحجرة الوسطى، واحمل إليه الطعام وقل له: إن الدهقانة قادمة إليه عاجلًا.»

وأسرعتا في الأكل ثم نهضتا إلى تلك الحجرة، فوجدتا الضحاك قد فرغ من طعامه وجلس في انتظارهما، فوقف لهما، فلما شاهدته جلنار انشرح صدرها وأحست بحمل ثقيل ينزاح عن كاهلها، ثم صاحت فيه: «أين كنت يا رجل؟»

فتأدب في موقفه ويداه في منطقته، وعمامته مائلة على رأسه، وقد نبش شعر لحيته وشاربه حتى تغيرت سِحنته، فلم تتمالك جلنار عن الضحك، فأجابها بضحكة طويلة، فأشارت إليه أن يجلس، وجلست وأجلست ريحانة بجانبها، فجثا الضحاك على ركبتيه وقال: «لقد أذنبت بخروجي بلا استئذان، ولكن العفو أقرب للتقوى.»

فقالت ريحانة: «كيف تتركنا وحدنا وقد أوصاك الدهقان برعاية مولاتنا وألا تفارقها؟!»

قال: «نعم. أخطأت بمخالفتي وصية مولاي الدهقان، ولكنني أصبت بمجاراة مولاتي الدهقانة.» قال ذلك وأطرق في حياء.

فقالت: «دعنا من مجونك، وقل أين كنت؟»

قال: «إذا كنتِ لم تفهمي كلامي، فمولاتي الدهقانة قد فهمته.» ونظر إلى جلنار وقال: «إيه.»

فقالت جلنار: «لعلك ذهبت إلى أبي مسلم؟»

فقهقه ثم قطع ضحكته بغتة وقال لريحانة: «أرأيت الفرق بين من يفهم ومن لا يفهم؟ نعم يا مولاتي قد ذهبت إليه.»

فتطاولت جلنار بعنقها نحوه وقالت: «وماذا فعلت؟»

قال: «غدًا تعلمين ماذا فعلت.»

فقالت ريحانة: «قل الآن، فنقول لك ماذا فعلنا نحن.»

قال: «أنا أقول لك ماذا فعلتِ يا ذكية؛ قد عاهدت صاحبنا ألَّا يتزوج إلا في دار الإمارة.»

فبُغتت جلنار لاطِّلاعه على ذلك، والتفتت إلى ريحانة لتشاركها في الدهشة، فالتفت الضحاك إلى ريحانة وقال: «وهل من الغريب أن أعرف شيئًا أنا فعلته؟»

فقالت ريحانة: «وكيف ذلك ونحن إنما جررناه إلى هذا الوعد خطوة خطوة؟!»

قال: «أنا وضعت الأساس، وقد فكرت في الأمر قبل خروجنا من بيت سيدي الدهقان، فلما وصلنا كان قصارى همي ألا ألاقي العريس، فتركتكم وذهبت إلى جانب المعركة، حتى إذا عاد الأمير عليٌّ منها بشَّرته بمجيء العروس، ثم ألقيت إليه كلامًا أعددتُ به ذهنه إلى ذلك العهد.»

فأعجبتا بتيقظه وذكائه، وقالت ريحانة: «ثم إلى أين ذهبت؟»

قال: «ذهبت إلى العريس الآخر.» ورفع بصره إلى سقف الخباء وتظاهر بأنه يتفرَّس فيما نُقش عليه من الرسوم والأشكال الملونة ولم يضحك، ثم أرسل بصره إلى جدران الحجرة فابتدرته ريحانة قائلة: «وما الذي فعلته هناك؟»

قال: «غدًا تعرفينه.»

فقالت: «أقسمتُ عليك، وكرامةً مولاتنا، أن تُفصح وتترك المجون.»

فتظاهر بالجدِّ ووجَّه خطابًا إلى جلنار قائلًا: «بحثت عن أبي مسلم في الطريق المؤدي إلى بقائه وحده في هذا الميدان.»

فقالت جلنار: «وكيف ذلك؟ قل.»

فقص عليها ما دار بينه وبين أبي مسلم مُختصرًا إلى أن قال: «والحق يقال إن هذا الخراساني ذكي عاقل، وبخاصةً لأنه شهد لي بالذكاء!» وضحك.

فقالت ريحانة: «إن ذكاءك معروف لنا.»

قال: «أراك تمدحينني كأنك تطمعين فيَّ وقد قلتُ لك إني نذرت العفة ولست أفكر في الزواج!»

فقطعت جلنار كلامه وقالت: «اكفف عن ريحانة ولا تعبث بها.»

قال وهو يحك ذقنه: «كأنك تظنينها تكره ذلك، ولكنني عملًا بأمرك قد عفوتُ عنها؛ لأنني أراها تحبك.»

فضحكت جلنار وقد انبسطت نفسها وخفَّ ما بها، فلما رأت ريحانة سرور سيدتها شاركتها فيه، وشعرت بمقدار فضل الضحاك في كل ذلك، وقالت في نفسها: «لا بد لهذا الرجل المهذار من شأن، وإن أمره لعجيب!»

ثم التفتت ريحانة إلى سيدتها وقالت: «ألا تذهبين إلى الفراش يا مولاتي؟»

قالت: «نذهب.» ووقفت.

فوقف الضحاك وقال: «وأنا ذاهب، وربما لا أنام الليلة؛ فإذا طلبتماني في ساعة ولم تجداني فلا تحسباني فررتُ.»

قالت جلنار: «افعل ما بدا لك. إننا لا ننسى لك جميلًا تبذله في سبيل راحتنا. إذا وُفِّقنا إلى ما نريد كان لك ما ترضاه. انصرف إذا شئتَ.»

فخرج إلى المبيت في فسطاط الأعوان والحاشية. وكان الكرماني وابنه قد استأنسا به حين لاقاهما في غروب ذلك اليوم، وآنسا فيه خفة الروح، وطيبة الخُلق، وخاصةً عليَّ بن الكرماني؛ فإنه ارتاح إلى رؤيته، واطمأنت نفسه إليه.

ولم تنقضِ تلك الليلة حتى عَلِم أن رسول أبي مسلم مرَّ بذلك المعسكر وقبضوا عليه، ورأى الكرماني في فسطاطه يتلو كتاب أبي مسلم ومعه ابناه عليٌّ وعثمان. وكانا لا يفارقان مجلسه، وهما عمدته في حروبه، وكان عثمان أصغر من عليٍّ. فلما تحقَّق الضحاك من نجاح تدبيره ذهب للنوم مع الخدم والأعوان، ولم يخاطبه أحدٌ منهم إلا استخفَّ روحه واستلطفه.

فلما التحم الجيشان في صباح الغد، وقف الضحاك يرصد حركاتهما، فلما رأى الكرماني قد قبِل مصالحة نصر بن سيار، أسرع إلى معسكر نصر مُلثَّمًا واستحثَّ ابن الحارث أن يثأر لأبيه، فجاء وقتل الكرماني، كما تقدَّم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤