الفصل الخامس والأربعون

النبيذ

فجلست جلنار وهي مطرقة ولم تتكلم، فكان سكوتها أفصح من الكلام، وظلت ريحانة واقفة فجلس الأمير وأشار إليها أن تجلس، فتنحَّت وأرادت الجلوس في بعض جوانب الغرفة، فأمرها أن تجلس بالقرب من سيدتها، ثم صفق ونادى الضحاك فدخل وهو يقود الدب وراءه، فلما رأت ريحانة الدب لم تتمالك عن الضحك؛ لغرابة منظره، فوقف الضحاك والدب إلى جانبه، فأمره عليٌّ أن يرقصه، فجره بالمقود فلم ينتقل من مكانه، فصاح فيه: «أرقص ولا تخجلنا بين يدي الأمير.» فلم يتحرك.

فضحك الضحاك حتى كاد يستلقي، ولما فرغ من ضحكه التفت إلى الدب وهو يقول له: «كأنك تستحيي أن ترقص أمام النساء.»

فلم يبق أحد هناك لم يُغرب في الضحك، وخصوصًا ابن الكرماني، فإنه قهقه قهقهة عظيمة، فتظاهر الضحاك بالغضب من الدب، وشدَّه ثانية فظلَّ واقفًا كأنه صخر، فتقدم نحوه ووضع أذنه على فمه كأنه يتلقى أوامره سرًّا، وصبر هنيهة ثم تراجع وهو يضحك ويقول: «لم أكن أعلم أن الدب يشرب الخمر قبل الآن.»

فالتفت ابن الكرماني إلى الضحاك وقال: «يظهر أنه تعوَّد المُسكر من عِشْرة رجال بني أمية في مرو؛ فقد رأينا في قصورهم مئات من آنية الخمر على أنواعها، وأما نحن فلا نشرب غير النبيذ، فاسأله هل يريد نبيذًا؟»

فعاد الضحاك إلى مسارَّة الدب، ثم عاد عنه وقال: «لقد رضي بالنبيذ. أليس ذلك غريبًا؟ وأغرب منه أنه لم يطلب النبيذ إلا وهو في الخباء.» وضحك.

فقال ابن الكرماني: «يظهر أن دبك ألطف ذوقًا منك، وليس النبيذ محرمًا، وخصوصًا في مثل هذا المجلس. هات النبيذ يا غلام.»

ولم تمض هنيهة حتى جاء الغلمان وهم يحملون مائدة عليها أصناف من نبيذ التمر والتفاح وغيرهما في أباريق الرصاص، وحولها الأقداح من الزجاج الصافي الملون، وأوعز ابن الكرماني إلى الساقي أن يدير الأقداح على الحضور، فجاء غلام ممنطق بمئزر من حرير وتناول قدحًا أراق فيه نبيذًا وقدَّمه إلى الأمير، فتناوله وقدَّمه إلى الدهقانة فاعتذرت عن شربه، فعزم عليها فشربت بعضه وأعادته إليه، فشربه وأمر الساقي أن يصبَّ ويسقي الضحاك ودبَّهُ، ففعل. ولما تقدم بالقدح نحو الدب أعرض الدب عنه، فتقدم الضحاك وهو يقول: «لقد بالغ دبنا بالدلال الليلة. هات القدح.» فأخذه من الساقي وقدمه إلى الدب، فتناوله بكفه الغليظة وشربه، وأعاد القدح إلى المائدة بيده وهو يخطو بخطوات الدب المعروفة والجميع يضحكون، ثم عاد إلى مكانه وأخذ في الرقص من تلقاء نفسه، وأجاد وأبدع والضحاك يطاوعه في تنقله كأنه يرقص معه، ثم وقف الدب بغتة فقال الضحاك: «لا ينبغي لنا أن نغفل عن مراد صاحبنا.» وأسرع إلى قدح ملأه نبيذًا وقدَّمه إليه فتراجع ولم يمد يده، فصاح الضحاك فيه: «ما الذي تريده؟ لقد أتعبتنا بدلالك.»

فتقدم الدب نحو المائدة ومدَّ يده إلى الإبريق فقبض عليه، وجعل يصب في الأقداح حتى ملأها والناس ينظرون إليه، وقلوبهم تدق خوفًا على المائدة وما فوقها من «لياقة» الدب، فإذا هو قد ملأ الأقداح ولم يخطئ بواحد منها، ثم أخذها قدحًا قدحًا وقدمها إلى الحضور، فشربوا وهم مسرورون وشرب هو أيضًا، واستحسنوا لياقة هذا الساقي، فصاروا يطلبون منه أن يسقيهم فسقاهم مرارًا وجلنار لا تشرب إلا قليلًا، ثم أمسكت عن الشرب فظل الشرب قاصرًا على الأمير والضحاك والدب، فانقضى هزيع من الليل وهم في ذلك، وقد أخذ الطرب من الأمير مأخذًا عظيمًا. وعند ذلك تظاهر الدب بالسكر وأفلت من يد الضحاك، وخرج من الخباء والقدح بيده، فتبعه الضحاك وتظاهر بمغاضبته وأرجعه إلى الخباء والقدح لا يزال في يده، وتقدم نحو الأمير فدفعه إليه وأخذ في الرقص، فتناول الأمير القدح وشربه كالعادة، ثم صبَّ الدب قدحًا وقدَّمه إلى الضحاك فتناوله وشربه، ثم صاح فيه: «ويلك! لقد أكثرت من الشرب وأصبحت خائفًا على نفسي منك، وأخاف ألا يكون الأمير متعودًا الشرب الكثير فيضره؛ لأني مع تعودي النبيذ أعوامًا أراني أشعر بدوار شديد.» قال ذلك وتظاهر بالسقوط إلى الأرض، وأن الدوار غلب عليه، وأحس بالميل إلى القيء، فتنحى وخرج من الخباء وتقايأ، ثم تقيقأ كل ما في جوفه عنوة والأمير يضحك منه ويقول: «إني لا أشعر بالدوار مطلقًا.»

وكان الضحاك قد ترك المقود عند خروجه، فأفلت الدب وخرج من الخباء وطلب الفرار، فازداد الأمير ضحكًا وقهقهة، ثم دخل الضحاك دخول المبغوت وصاح: «أين ذلك الدب الملعون؟ يظهر أنه فر. فوالله لأدركنه وأذيقه العذاب.» قال ذلك وقهقه وأشار إلى ريحانة إشارة خفية وخرج.

فأدركت ريحانة أن الضحاك قد أنفذ حيلته وسقى الأمير سمًّا، فنهضت وتظاهرت بالدوار وقالت للأمير: «أرى مولاتي الدهقانة قد تأذَّت من الشرب أيضًا.» وأمسكتها بيدها وهي تقول: «الأفضل لها أن تذهب إلى الفراش. هل يأمر لها مولاي بالانصراف؟»

فنهض وهو مشعر بالدوار أيضًا، ولكنه تجلد وتظاهر بالقوة ووقف وهو يقول: «فلننصرف جميعًا.»

وصفَّق فجاءه الغلمان وأسندوه وخرجوا به من الخباء يطلبون فسطاطه، وذهبت ريحانة بالدهقانة إلى غرفة الرقاد، واشتغل الخدم في نقل آنية النبيذ من الخباء، فلم تمضِ ساعة حتى خلا الخباء من الأمير وغلمانه.

فلما خلتْ ريحانة بسيدتها ظهر عليها الاضطراب، فاستغربت جلنار ذلك منها فقالت وهي تتوسد الفراش: «ما لي أراك مضطربة يا ريحانة؟»

قالت بالفارسية وهي ترتعد من التأثر وتحاول خفض صوتها: «أظنهم سموه يا مولاتي.»

فبُغتت جلنار وجلست وهي تقول: «سمُّوه؛ قتلوه؟»

قالت: «نعم. ألم تري الدبَّ خرج بحيلة السكر إلى خارج الخباء ثم عاد والقدح في يده؟»

قالت: «بلى.»

قالت: «أظنه خرج ليضع السُّم في ذلك القدح. وفي صباح الغد يظهر فعله ونسمع بموت ابن الكرماني.»

فاقشعر بدن جلنار وصارت ترتجف من البغتة والخوف، ووقعت في حيرة، فابتدرتها ريحانة قائلة: «لا ينبغي أن تستسلمي إلى الضعف؛ فإن هذا أوان التعقل والدهاء، وقد قضي الأمر الذي كنا نخافه.»

فارتبكت جلنار في أمرها، وأعظمت الجريمة، على أنها كانت (وهي في معظم الاضطراب) تشعر بفرح داخلي عميق لتخلُّصها من ابن الكرماني وتقرُّبها من حبيبها.

فأخذت ريحانة تخفف عنها وتمنِّيها بقرب الاجتماع بحبيبها حتى سكن روعها، وتظاهرت بالرقاد ولكنها لم تستطع نومًا.١
١  وفي التاريخ أن أبا مسلم قتل عليًّا وعثمان ابني الكرماني بعد فتح مرو بالتفريق بينهما، فأرسل عثمان عاملًا على بلخ، وأوعز إلى بعض أصحابه أن يقتلوه، فامتنع ذلك عليهم، ثم احتال أبو مسلم على عليٍّ فسار به إلى نيسابور لحربٍ اقتضت ذلك، واتفق هو وأحد رجاله على أن يقتل أبو مسلم عليًّا، ويقتل ذاك عثمان، فقتلاهما غيلة. ولم يكتف أبو مسلم بقتلهما، بل طلب من عليٍّ أسماء خاصته ليوليهم الولايات، ويأمر لهم بالجوائز، ويعطيهم الكسوات، فلما سماهم أمر أبو مسلم بقتلهم، فقتلوهم جميعًا، ولا ذنب لهم إلا خوف أبي مسلم من سطوتهم؛ لئلا يقفوا في سبيل مشروعه. تلك كانت سُنَّته في تأييد دعوته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤