الفصل الخمسون

الشفاعة

أما جلنار فإنها نزلت في قصر ذلك الدهقان بجوار دار الإمارة وقد استأنست بقرب الحبيب، فأنزلها صاحب القصر بين نسائه، فلقيت عندهن كل إكرام وترحيب، وخاصةً من الدهقانة صاحبة المنزل؛ لأنها كانت تعرفها وتعرف والدتها قبلها، على أن جلنار كانت لا تستأنس بأحد؛ لاشتغال خاطرها بأبي مسلم وما عسى أن يدور بينه وبين والدها بشأنها، وكانت تنتهز الفرص لتخلو بريحانة وتحدِّثها فيما يهمها من الشئون ريثما يعود والدها من تلك الزيارة. وحان موعد الظهر وأهل البيت ينتظرون مجيء الدهقان ليتناولوا الطعام معًا، فلما أبطأ ظنُّوه تناول طعامه على مائدة الأمير، فتناولوا طعامهم. وكانت جلنار أكثرهم قلقًا على غيابه، ليس خوفًا على حياته؛ لأن ذلك لم يخطر ببالها، بل حبًّا في معرفة ما يدور من الحديث بصددها.

قضت بقية ذلك النهار وهي على مثل الجمر، وريحانة تعدُها وتمنِّيها حتى أمسى المساء، فلاحظت على أهل القصر تغيُّرًا، ورأتهم يجتمعون ويتسارُّون، وإذا رأوها تظاهروا بالمجاملة والمحاسنة، فاشتغل خاطرها وشكتْ ذلك إلى ريحانة، فقالت لها: «وأنا لاحظت ذلك عليهم.»

فقالت جلنار: «لا بد من أمر حدث لوالدي.»

وما أتمت كلامها حتى جاء أحد الخدم يقول لجلنار: «إن أحد خدمكم بالباب.»

فنهضت ريحانة وتبعتها جلنار حتى أقبلتا على الباب، فإذا هناك صالح (أي الضحاك) وفي وجهه أثر البغتة، فقالت ريحانة: «ما وراءك؟»

قال: «أدخلاني إلى مكان لا يسمعني فيه أحد سواكما.»

فدخلتا به إلى غرفة وأقفلتا الباب، فجلس وجلنار في قلق، وقلبها يخفق خفقانًا شديدًا حتى بدأ صالح بالكلام فقال لها: «هل سمعت بما حدث اليوم في مجلس أبي مسلم؟»

قالت: «كلا.»

فقص عليها ما دار بين أبي مسلم ووالدها كأنه كان حاضرًا، حتى بلغ إلى أمر أبي مسلم بقتل والدها، فاقشعر بدنها وامتقع لونها، ثم أخبرها بتوسط خالد بالعفو عنه، وأنهم أجلوا قتله وحبسوه. فلما سمعت ذلك استغربته وظنَّت نفسها في حلم وقالت: «حكم على والدي بالقتل. ولماذا؟»

قال: «لأنه زوَّجك إلى ابن الكرماني ورغب في مصاهرته وهو عربي. وكان مولاي الدهقان يتظاهر بتأييده لحزبه الفارسي، وأبو مسلم يقتل على الشك كما لا يخفى عليك.»

فأطرقت ثم التفتت إلى ريحانة كأنها تستطلع رأيها، فرأتها أشد حيرة منها، فنظرت إلى صالح وقالت: «هذا وقت المروءة وصدق الخدمة.» وترقرق الدمع في عينيها.

فوقف صالح وقال: «إني رهن أمرك يا مولاتي، والذي أراه.» وسكت، فازدادت جلنار قلقًا لتردده فقالت: «قل ما الذي تراه؟»

قال: «لا أرى أحدًا يقدر على التوسط في ذلك سواك.»

فجاء قوله موافقًا لما في خاطرها؛ لأنها طالما تمنَّت مقابلة ذلك الحبيب، وقد جرى ما جرى بينه وبينها ولم يتخاطبا ولا تشاكيا مع اعتقادها أنه يحبها. وكانت عند سماعها بالحكم على والدها قد عزمت على الذهاب بنفسها لمخاطبته في شأنه؛ إذ لا بد من أن يتشعب الحديث إلى التشاكي، فيطمئن خاطرها، وتثق من حبه، فلما أشار صالح بذهابها انبسطت نفسها، وبان البشر على وجهها، ووقفت بغتة بدون إرادتها، فقال لها صالح: «أتذهبين الآن؟»

قالت: «لا بد من ذلك؛ لأن الفرصة قصيرة، وأخشى أن يتسرع الأمير بقتل والدي قبل غدٍ.»

فقال: «حسنًا تفعلين، وأنا أستأذن لك بالدخول على يد الحاجب؛ فقد عرفته، وهو الذي قص عليَّ الحديث اليوم. انهضي غير مأمورة وتخمِّري ريثما أعود إليك بالإذن.» وخرج.

فتحولت جلنار إلى مكان هناك يصلح أهل القصر شعورهن فيه، وأصلحت من شأنها إصلاحًا بسيطًا، والتفت بالمطرف المزركش، ولفَّت رأسها بشال موشًّى، فقالت ريحانة: «هل أذهب معك يا مولاتي؟»

قالت: «لا أظن أن ذهابك يجدي؛ فربما لا يأذن لنا بالدخول معًا وأنا أحبُّ أن أخاطبه على انفراد.»

ثم جاء صالح وهو يقول: «قومي يا مولاتي. لقد أذن الأمير بمقابلتك.»

فنهضت جلنار وقد اشتد خفقان قلبها، وتصاعد الدم إلى وجهها، ومشت مع صالح والليل قد أسدل ستاره، فخرجت من باب القصر، ولم تمشِ بضع خطوات قليلة حتى أطلت على باب القاعة وصالح يمشي بجانبها، فلما دخلتْ إلى هناك قال: «لا يخلو دخولك على هذا الأمير من باعث على الحذر، فكوني على يقين — إذا شعرت بضيق — إني آتيك كما تأتي المردة، ولكن احذري أن تناديني باسمي القديم.»

فأوجست من هذا التحذير خوفًا، ولكنها شُغلت عن التفكير به لما هاج في خاطرها من مقابلة أبي مسلم، وهي أول مرة ستُخاطبه في خلوة، مع ما في قلبها من لواعج الحب وعوامل الإعجاب به. فأوصلها صالح إلى الباب وأشار إلى الحاجب، فوقف لها وأدخلها القاعة وقد أزاح لها ستر الباب بيده، فرأت قاعة كبيرة في أحد أركانها شمعدان عليه شموع منيرة. وفي صدر القاعة رجل متكئ على وسادة وعليه ثياب الإمارة كأنه في مجلس الحكم، فسبقها الحاجب حتى وقف بين يدي الرجل وقال: «قد أتت الفتاة التي استأذنت في الدخول على الأمير.»

فقال أبو مسلم: «أين هي؟» وأشار بيده إلى الحاجب، فخرج ومشت جلنار وهي تخطو الهوينى وقدماها لا تساعدانها على السرعة لما داهمها من الرعشة؛ لدخولها وحدها على أبي مسلم، والرجال الأشداء يرتعدون في حضرته، فكيف بفتاة مفتونة وقد قاست الصعاب في سبيل الحصول على رضاه؟! والفتاة ترتعد بين يدي حبيبها وهو مندفع إليها، فكيف بمن يخشى الناس غضبه، وإذا شكَّ قتل؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤