الفصل الثاني والخمسون

الفرار

فمشت جلنار مع الحاجب وهي تصيح: «وا والداه!» وتبكي، حتى إذا دنت من باب القاعة سمعت الحاجب يُكلِّمها همسًا وهو يقول: «لا تخافي يا سيدتي لا بأس عليك.»

فعرفت أنه صوت صالح، فنظرت في ثيابه فإذا هي ثياب الحاجب، فاستغربت وصوله إلى تلك الحيلة، ولكنها كانت لا تزال في شغل من أمر والدها، ولا تزال صورة رأسه الملطخ بالدم نصب عينيها. فلما خرج بها من الباب، رأت في الدهليز شبحًا نائمًا وبقربه ثياب، فالتقط صالح الثياب بخفة ودفعها إلى جلنار وقال لها: «البسي.» فإذا هي جبته وقلنسوته، فلبستها بسرعة ومرَّا في الدهليز وليس فيه أحد حتى بلغا إلى الباب الخارجي، فخرجا ولم يعترضهما الحراس؛ لاعتقادهم أنهما الحاجب وأحد الخدم، فلما خرجا من دار الإمارة مشى بها صالح فنزلا في حجرة يُصعد إليها بسُلَّم وقد قطعا الطريق ولم يفُه أحدهما بكلمة.

فلما نزلا الخان ودخلا تلك الحجرة أخذ صالح في تخفيف الأمر على جلنار فقال لها: «ألم ألمِّح لك غير مرة أنه خائن غادر. قد سمعته ينكر ما قاله لي عن حبه لك وافتتانه بجمالك، ولكن أنَّى لي أن أُكذِّبه وهو صاحب السيف، ولا شفقة عنده ولا عهد له، ولم أكن أعلم أنه فعل ذلك خداعًا حتى يستخدمنا في قتل ذلك الرجل المسكين ثم يقتلنا. وقد أراد قتلي معه، فأوصى الرجل الذي أرسله معي لقتل ابن الكرماني أن يدس السم في قدحي أيضًا، ولو لم تساعدني الأقدار ويغلب عليَّ القيء سريعًا لكنت الآن في عالم الأموات، وهو يعتقد أني قتلتُ، وقد قال لك ذلك الليلة، على أنني لم أكن أظنه يتعمد أذاك أو أذى مولاي الدهقان. ولو علمت أنه سيرتكب هذه الجريمة ويُنكر حبك لمنعتك من الذهاب إليه، وإن كنت لا أظنك تقبلين مشورتي بالامتناع عن زيارته؛ لما غرس في قلبك من الحب له وحسن الظن به، ومع ذلك فقد أوجست خيفة وهيئت ما يلزم للفرار بك عند الحاجة، فأغريت الحاجب حتى أسكرته، ولبست ثيابه، وتزييت بزيه؛ لأتمكن من إنقاذك، وقد وُفِّقت إلى ذلك بعون الله.»

وكانت جلنار تسمع كلامه كأنها في حلم لما مرَّ بها تلك الليلة من الغرائب. رأت رأس أبيها في وعاء وقد تلطخ بالدماء، وسمعت جفاء حبيبها فانقطع رجاؤها في الحب، وذهبت آمالها أدراج الرياح، فاستغرقت في التأمل وصالح جالس بين يديها، ثم قال لها: «أتأذنين لي أن أذهب لاستقدام ريحانة؟»

فانتبهت وقالت: «لا بد من ذلك. اذهب حفظك الله.»

فقال لها: «أعطني جبتي وقلنسوتي.»

فخلعتهما، فلبسهما وهو يقول: «امكثي في هذه الحجرة ولا تخرجي منها حتى أعود.» وخرج وأغلق الباب وراءه.

فجلست وقد خلت بنفسها في تلك الحجرة الحقيرة، فتلفتت فلم تجد حولها إلا جدرانًا عارية عليها رفوف من الخشب قد سُمِّرت فيها، وعلى الأرض حصير بالٍ فوقه فراش قذر، والمكان موحش يزيده رهبة ضعف نور المصباح. وتصورت قصر والدها وما كانت فيه من النعيم، وما كانت قد بنته من قصور الآمال، وكيف ضاعت تلك النعم وتهدمت تلك القصور فى ساعة، فقتل والدها، وخانها حبيبها، وخرجت هاربة تائهة لا تعرف مقرها. وفكرت في أسباب ذلك الشقاء، فلم تجد اللوم يقع على غير أبي مسلم، وتصورت ما كان له من الحب في قلبها، وكيف قابلها بالجفاء وهددها بالقتل بعد أن فتك بوالدها، فانقلب حبها إلى بغض شديد، وأصبحت لا تستطيع تصوره. تلك هي العادة في مثل هذا الحال، فإن المحب إذا رأى من حبيبه غدرًا أو خيانة انقلب حبُّه بغضًا شديدًا، وأصبح من أشد الناس كراهية له، فكيف بجلنار وقد انتهرها حبيبها وخانها وقتل والدها؟! وإن كان في الحقيقة لم يخن حبها؛ لأنه لم يعاهدها، ولا أظهر لها الحب، ولكنها كانت تعتقد ذلك بناءً على شهادة الضحاك. وإن كنا لا نبرَّئ أبا مسلم من الشدة والقسوة، ولعل عذره أنه كان يكره النساء، ويعد الزواج جنونًا، بل هو لا يعرف عواطف المحبين؛ لأنه لم يكن يحب ولا يشعر بالحب؛ وذلك نادر في الناس — والحمد لله — لأن الحب يدمِّث الأخلاق، ويلَطِّف الطباع، وهو أبو الشفقة وشقيق الحنان، ولولاه لأكل الناس بعضهم بعضًا؛ لأن الذي لا يحب لا يرحم ولا يشفق، فيذهب الضعفاء ضياعًا لتسلُّط القوة الحيوانية. وإنما تصلح هذه الخصلة في رجل الحرب، وخاصةً في ذلك العصر؛ عصر الشدة والبطش. وقد كانت في أبي مسلم بأعلى درجاتها؛ لأن كان لا يبالي أن يقتل أباه أو أخاه إذا وقف في سبيل مقاصده، فلما علم بتلاعب الدهقان بادر إلى قتله؛ ليتخلص مما قد يخطر له من الخيانة ونحوها. ولو كان في صدر أبي مسلم قلب يحبُّ ما أصمَّ أذنه عن استغاثة جلنار، ولا خطر له أن يكافئها على حبها له بعرض رأس والدها في وعاء بين يديها.

قضت جلنار في مثل هذه الهواجس حينًا، واستغرقت في ذلك حتى نسيت نفسها، ثم انتبهت لوحدتها في تلك الحجرة لا تسمع إلا شخير الخيل أو صهيلها وضرب الأرض بالحوافر، وقد غلبت رائحة الدواب على كل طِيبٍ — وكفى برائحة الخان مثلًا للقذارة والنتن — وتذكرت بيت أبيها ومقتل والدها فغلب عليها الحزن، فعادت إلى البكاء ولم ترَ ما يفرِّج كربها سواه، فبكت حتى بلت ثيابها وهي تحذر أن يعلو صوتها لئلا يسمعها أحد فيأتي إليها وهي منفردة على هذه الصورة، فتعاظم أمرها عندها. والمصيبة العظمى تظهر ساعة وقوعها صغيرة في عيني صاحبها، ثم تنجلي له فتتعاظم عنده حتى تبدو كما هي، فإذا طال صبره عليها تصاغرت حتى تزول. وكذلك جلنار، فإنها لم تدرك عظم مصيبتها لأول وهلة، فلما خلت بنفسها وأطلقت العنان لتصوراتها أخذت مصيبتها تنجلي لها وتتعاظم عندها، وأبو مسلم السبب الرئيسي في كل ذلك. وكانت إلى تلك الساعة إذا ذكرته أحست بشيء من العطف هو بقية الحب الصادق، على أن ذلك الشعور لم يكن يمكث إلا كلمح البصر ثم يزول ويخلفه الغضب وحب الانتقام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤