الفصل الخامس والخمسون

الرحيل

وبينما هما في الحديث جاءت ريحانة مسرعة وهي تقول: «قد أعددتُ ما يلزم وجمعت كل الحلي والنقود والثياب، وهي كثيرة تحتاج إلى عدة بغال لحملها، وأوصيت الخادم أن يعد الأفراس والبغال.»

فقال صالح: «هلم بنا يا مولاتي.»

فنهضت وخرجت من القاعة حتى أطلَّت على الحديقة فسمعت صهيل الأفراس، ورأت البغال وعليها الأحمال، وتصوَّرت أنها خارجة من البيت الذي ولدتْ فيه، وربِّيت بين أشجاره وجدرانه في عز ونعيم، وحولها الجواري والحشم كأنها سلطانة في مملكة، فكيف تخرج منه هاربة إلى دار غريبة لم تطَأْها قدمُها من قبلُ، وفي مشروع عظيم يعجز عنه كبار الرجال، فغلب عليها ضعف النساء فدمعت عيناها. وكان صالح يرقب حركاتها ويخشى ضعفها، فلما لاحظ ذلك عليها ابتدرها قائلًا: «لا بد لنا من السرعة قبل أن يدركنا ذلك الظالم برجاله ويقبض علينا جميعًا فينال منا ما يريد، وتذهب مساعينا هباءً، فاختاري من خدمك اثنين أو ثلاثة تثقين بهم يكونون معنا لخدمتك، أو لمهام أخرى.»

فلما سمعت تهديده هان عليها الخروج، وقنعت بالنجاة، والتفتت إلى ريحانة وقالت: «من ترين أن نصطحب من الخدم الأُمناء؟»

فأجابتها على الفور: «نصطحب سعيدًا الصقلبي؛ فإنه أمين ويقظ، فيكون في خدمتك خاصة، ونأخذ معنا أبا العينين؛ لأن أصله من العراق ويعرف عادات البلاد وطرقها، فيكون عونًا لنا ودليلًا، وهو إلى ذلك نشط أمين. وإذا شئت خادمًا ثالثًا، فسليمان الحلبي لا بأس به؛ لأن أصله من الشام.»

فاستصوبت جلنار رأيها وقالت لها: «ابعثي إليهم وأْتِينا بهم سريعًا.»

فذهبت ريحانة كما أمرتها، ووقفت جلنار في انتظارها وهي تفكر في أمرها، ومصير ذلك القصر وأهله، فقالت في نفسها: «إن أهل هذا القصر لا يزالون سعداء؛ لأنهم لم يعلموا بما أصاب مولاهم، ولا بما يهددهم من الخطر في الغد.» ثم نظرت إلى صالح وقالت له: «هل تترك أهل هذا القصر معرَّضين للقتل والأسر ونحن نعلم بما يهددهم؟ ألا ترى أن نخبرهم بما أصاب والدي ونحذرهم؟»

قال: «لا بد من ذلك، ولكن بعد خروجنا ونجاتنا بما معنا.»

فعلمت أنه لم يفُتْه شيء من التدبير فسكتت، ثم جاءت ريحانة وجاء الخدم الثلاثة: سعيد الصقلبي؛ أصله من سبي الأندلس لما فتحها موسى بن نصير سنة ٩٢ﻫ؛ إذ جمع من السبي كثيرًا، وفيهم الغلمان والنساء. وكان سعيد يومئذ في الخامسة من عمره، فوقع في نصيب أحد الجند فباعه لأحد النخاسين الذين يتجرون بالخصيان البيض، فخصَاه وضمَّه إلى مَن كان عنده وسمَّاه سعيدًا، ثم انتقل سعيد بالبيع إلى دهقان مرو، وعاش في منزله مدة طويلة، وكان يتكلم العربية والفارسية، ونسي لغة بلده. وقد سموه صقلبيًّا لبياضه. وكان طويل القامة، طويل الساقين، صغير العينين، صوته كصوت النساء، ووجهه قليل الشعر.

وأما أبو العينين، فقد لقب بذلك لكبر عينيه وجحوظهما، وأصله من أنباط العراق، دخل في خدمة الدهقان منذ صغر سنِّه بلا شراء، وانقطع إليه وهو يعد نفسه من رقيقه.

وأما سليمان الحلبي، فسُمي بذلك لأنه حضر من جهات حلب، وهو ليس حلبي الأصل، ولكنه رومي وقع أسيرًا في بعض المواقع بين الروم والعرب، وبِيع كما تباع الأسرى في تلك الأيام، ولم يوفَّق لمن يفتديه حتى دخل في حوزة الدهقان وصار من عبيده، فأُعجب الدهقان بحسن خلقه، ورأى فيه مروءةً فأعتقه، فأصبح من مواليه، فأطلق سراحه وخيَّره بين البقاء عنده كبعض أولاده، أو الذهاب إلى بلده، ففضَّل البقاء عنده لأنه ألف المكان ولم يعد يعرف مصير أهله. وكان الدهقان يحبه ويثق به.

فريحانة قد وفقت في اختيارها، وقد جاء هؤلاء الثلاثة، واستعدوا للرحيل وهم لا يعرفون الغرض من ذلك. وجاءوهم بالدواب لركوبهم، ودبروا كل شيء. وكان الفجر قد دنا، فأشار صالح بالركوب فركبوا وركب في مقدمتهم، وقال للحارس وغيره من أهل القصر: إنه عائد إليهم بعد قليل. فأطاعوا وهم يستغربون ما رأوه؛ لأنهم لم يعلموا بمقتل دهقانهم، ولا ما ينويه أبو مسلم من الفتك بهم.

سار الركب والليل يكاد ينقضي، وقد أقبل الفجر مبشرًا بطلوع الشمس سلطانة النهار. ولما بعدوا عن المحلَّة أوقفهم صالح في خلوة وأخبرهم أنهم ذاهبون في خدمة الدهقانة جلنار إلى الحج، وأن ذهابها سري فلا ينبغي أن يعلم به أحد، فإذا سُئلوا عن المكان الذي جاءوا منه، فليقولوا إنهم من مدينة بلخ، وقد خرجوا يريدون اللحاق بقافلة تقدمتهم منذ يومين قاصدة بيت الله الحرام، وأوصاهم ألا يذكروا اسم الدهقانة ولا الدهقان، وأنه سيخبرهم بالسبب بعد قليل. ثم تقدَّم إلى الدهقانة وقال لها: «إني راجع إلى القصر لأخبر الخدم والحراس بالواقع وأعود، فامكثوا في انتظاري.»

قالت: «سر في رعاية الله، وافعل ما تشاء.»

قال: «أعطيني رجلًا من أتباعك يزكي شهادتي أو يؤيد قولي.»

فأمرت سعيدًا الصقلبي أن يرافقه، فسار معه ولم يفهم القصد، ولكنه سار تلبيةً لأمر مولاته، فأسرَّ له صالح حقيقة الأمر، وأوصاه أن يساعده في تلك المهمة، وساقا جواديهما نحو القصر، فلما وصلا إليه، رأيا أهله في هرج وقد استيقظوا من نومهم وعلموا بمسير مولاتهم على تلك الصورة، فدعا صالح قيِّم الدار وأخبره على انفراد بمقتل الدهقان، وأن أبا مسلم سيرسل من يستولي على القصر بما فيه، وأوصاه أن يتدبر الأمر، وأن الدهقان قبل أن يموت أعتق عبيده وجواريه جميعًا، وأن القصر بما فيه صار ملكًا حلالًا لهم، إلى أن قال: «فتدبَّر أنت بحكمتك حتى لا يظفر ذلك القاتل بكم، وأسرع؛ لأنه لا يلبث أن يبعث بمن يقبض عليكم.»

فسأله عن الدهقانة فقال: «إنها انتقلت إلى بعض أهلها في نيسابور، وإنها هي التي بعثت إلى أهل القصر بالعتق والحرية ووهبتهم كل ما فيه.» إلى أن قال: «وهذا سعيد رسولها إليكم.»

فأيَّد سعيد قوله، وأكد أن الدهقانة توصيه بأهل القصر خيرًا، وأن ينقذهم بحكمته وبحسن تدبيره، ويوافيها بعد ذلك إلى نيسابور؛ لأنها سوف تكون هناك بعد بضعة أيام، فصدقهما وأخذ في التدبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤