الفصل الثامن والخمسون

مروان بن محمد والناسك

فلنتركهم في تدبير شئونهم، ولنذهب بالقارئ إلى دمشق الفيحاء؛ دار الخلافة الأموية؛ فإن الأمويين اغتصبوا الخلافة من أهل البيت، كما تقدم، ونقلوا عاصمة المسلمين من المدينة إلى دمشق؛ لأن أهل الحجاز متفقون مع عليٍّ وأولاده، ودمشق من المدن العظمى التي كان لها شأن كبير في التاريخ القديم، فجعلها الأمويون مقرًّا للخلافة، ومركزًا لقوة المسلمين، حتى حدثتهم أنفسهم أن ينقلوا منبر النبي من المدينة إليها؛ ليضيفوا إلى عصبيتهم العربية أعظم أثر إسلامي يفاخرهم به أعداؤهم المقيمون في الحجاز، فلم يتيسر لهم ذلك، واكتفوا بالعصبية، فحكموا المسلمين نحو مائة سنة، وامتد سلطانهم إلى معظم العالم المعمور في ذلك الوقت. وفي أيامهم بلغ العرب أسمى درجات العز.

والدولة الأموية أقوى دول العرب وأشدها بطشًا، وهي وحدها (بعد الخلفاء الراشدين) دولة عربية خالية من شوائب العجمة؛ لأن أمراءها عرب، وعمالها عرب، وكُتَّابها عرب، وهي التي نقلت دواوين الحكومة إلى اللغة العربية، ونصرت العصبية العربية، لكنها بالغت في ذلك واحتقرت غير العرب، واستبدت بالفرس وغيرهم ممن دان لسلطانها حتى نقموا منها وساعدوا أهل البيت على حربها؛ لإخراج البلاد من أيديها.

وكان على رأس الخلافة في عصر روايتنا هذه مروان بن محمد؛ وهو من أحسن الخلفاء، وأكثرهم حمية وحزمًا وغيرة على الإصلاح، ولكنه جاء متأخرًا وقد تمكَّن الفساد من جسم الدولة الأموية، وتغلغل الفساد إلى أعضائها الحيوية، حتى انقسمت على نفسها، وقام من بني أمية غير واحد ادَّعوا الخلافة لأنفسهم، فتمكَّن مروان ببسالته وعقله من التغلُّب عليهم. وكان الخلفاء الذين تقدموه قد انغمسوا في الترف واللهو، وأكثرهم شربوا الخمر واستكثروا من النساء. فلما تولى مروان الخلافة ورأى حالها من الاضطراب عزم على الحزم والتعفف، فحرَّم الخمر على مجالسه، وابتعد عن النساء،١ واهتم بشئونه اهتمام الرجال.

ولكن ذلك لم ينفعه شيئًا؛ لأن الدعوة العباسية كانت قد استفحلت في أيامه، ورسخت أقدامها في خراسان، وانتشر دعاتها في أنحاء فارس والعراق، فارتبك في أمره وبذل غاية جهده في دفع أعدائه، وكانت ثقته بنصر بن سيار عظيمة. ونصر شيخ جليل بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وقد حنَّكته الأيام، وفي طبعه ميل إلى الإصلاح. فألقى إليه مقاليد خراسان، وأوصاه بحمايتها وحفظها من الشيعة، ولم يكن يخطر له الخوف عليها؛ لعلمه بقلة الشيعة وتسترهم، حتى جاءه الخبر بسقوط مرو وفرار نصر بن سيار منها بأهله وأولاده، فأُسقط في يده، وأيقن بخروج خراسان وما وراءها من سلطانه، وأصبح خائفًا على سائر مملكته.

وكان مروان في تلك السنة قد بلغ الثالثة والستين من عمره، وأمه كردية الأصل. وذلك نادر في الخلفاء على عهد بني أمية؛ لمحافظتهم على العصبية العربية، خلافًا لما صارت إليه الحال في أيام بني العباس، فإن معظم خلفائهم من الهجناء. والهجين أبوه عربي وأمه غير عربية. وكان مروان قوي البدن شجاعًا، فلقبوه بالحمار. وكان ربع القامة، أبيض اللون، أشهل شديد الشهلة، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها،٢ وشيبه أكبر من سنِّه؛ لهول ما لاقاه من الأمور العظام، وبخاصة بعد أن جاءه النبأ بسقوط مرو وفرار نصر، فإنه ما فتئ يجمع رجاله وقواده ويشاورهم في أمره، ويتداول معهم فيما صارت إليه حال الدولة من الاضطراب. وقد أخذ في إعداد الجنود وهمَّ أن ينهض بنفسه؛ لأنه رأى أنه من الحزم ألا يثق بأحد من رجاله في مثل تلك الحال، فكان يقضي نهاره مشاورًا، ومعظم ليله مفكرًا، وربما مضى الليل وهو يضرب في أرجاء غرفته منفردًا عن الأهل والجواري والسراري.

فاتفق في إحدى الليالي وهو ساهر على تلك الصورة وقد جاءه الخبر باستفحال أمر الشيعة، أن جاءه الحاجب مهرولًا، فظنه جاءه برسول أو رسالة. وكان من عادتهم ألا يردُّوا عن باب الخليفة صاحب خبر في أية ساعةٍ جاء، ولو في نصف الليل أو بعده. فلما دخل الحاجب على مروان صاح فيه: «ما وراءك؟»

قال: «إن بالباب رجلًا غريب الشكل يطلب أن يخاطب أمير المؤمنين.»

قال مروان: «لعله صاحب خبر، أو رسول، أو من هو؟»

قال: «كلا، ولست أدري من هو، ولمَّا أردت تأجيل أمره إلى غدٍ قال: إنه يريد مخاطبة أمير المؤمنين في شأن لا يجوز تأجيله لحظة.»

فاهتمَّ مروان بالأمر وقال: «أدخله.»

وكان مروان جالسًا على سريره فنهض والتفَّ بالعباءة وتمشَّى في الغرفة، وظله يتنقل شمالًا أو يمينًا حسب موقعه من المشمعة القائمة في جانب الغرفة. ولم تمضِ لحظات قليلة حتى عاد الحاجب وهو يقول: «الرجل بالباب يا مولاي.»

قال: «ليدخل.»

فدخل رجل طويل القامة حاسر الرأس، وقد تجعد شعر رأسه ولحيته وتلبد من الوسخ والإهمال، وعليه قميص طويل يكسوه إلى الركبة، وهو حافي القدمين، عاري الساقين والزندين، والقذارة ظاهرة على يديه وأنامله، وفي وجهه ولحيته، وعلى قميصه، وعلى كل شيء فيه، مع بَلَه يظهر من خلال قذارته. وحين رآه مروان ابتدره بالسؤال عما في نفسه، فقال بلغة التهديد: «ألا تدعوني للجلوس؟ كأنَّك تخاف على الطنافس من جلدي! أو غرَّك ما رأيته من زهدي. إن أولياء الله لا يلبسون الحرير والديباج، ولا يهتمون بالمشط والطيب.»

فلما سمع مروان كلامه هابَه، ولم يكن شديد الاعتقاد بالولاية؛ لأنه كان قد تعلم من الجعد بن أدهم مذهبه في خلق القرآن والقدر٣ وغير ذلك، ولكن شدة افتقار المرء إلى الشيء تهوِّن عليه تصديق المستحيل، وتساعده على التصديق رغبته في الحصول على ذلك الشيء، فكان مروان في حاجة إلى من يشير عليه أو يرشده إلى الصواب، فاحتمل جسارة ذلك الرجل ورحَّب به وأمره بالجلوس، فجلس على طنفسة، وجلس مروان على وسادة تجاهه وأصاخ بسمعه، فرأى الرجل يتمتم بكلام لم يظهر منه لمروان إلا حركة الشفتين، فظنه يصلي فصبَّر نفسه وهو على أحرِّ من الجمر، فطال جلوس الرجل وطالت صلاته ومروان صابر حتى كاد يضجر، وإذا بالشيخ قد مسح وجهه بيديه واعتدل في مجلسه وقال: «اعلم يا مروان أني جئتك برسالة من عالم الغيب جاءتني في المنام الليلة، وقد أوصاني صاحب الرؤيا أن أُبادر بإبلاغك إياها حالًا، وأوصيك وصية؛ فهل أنت مصدق لما أقوله لك؟»

قال مروان: «نعم. قل.»

١  ابن الأثير، الجزء الخامس.
٢  المسعودي، الجزء الثالث.
٣  ابن الأثير، الجزء الخامس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤