الفصل الثامن والسبعون

الخاتمة

فتركه إبراهيم ووقف بين يدي الخليفة وقال: «إن هذا الذي يتظاهر بالزهد ويسمي نفسه تارة صالحًا، وطورًا الضحاك، وآونةً الزاهد؛ رجل من الخوارج الأشرار كان في جملة رجال شيبان بقرب مرو في أثناء محاصرة أبي مسلم إياها، وقد قام في نفسه أن يساعد حزبه بالمكائد والحيل، فالتصق بوالد هذه الفتاة؛ وهو من الدهاقين في خراسان، فجعل نفسه خادمًا عنده، واحتال حيلًا استخدم فيها هذه الفتاة لقتل أعدائه، وهي تطيعه عن سذاجة وسلامة نية؛ طمعًا في مساعدته في الفوز بأبي مسلم. وقد كان أقنعها أن أبا مسلم يحبها، وزعم أنه شكا إليه حبها، ولم يكن هذا القتيل يعلم ذلك، ثم ظهر لها أن أبا مسلم لا يحبها، فحملت ذلك محمل الخيانة منه، وحرضها هذا الشرير على الانتقام منه لوالدها. وكان أبو مسلم قد قتله بدسيسة بعضهم، فحمل هذه الفتاة وطار بها في الآفاق يترقب الفرص لإتمام غرضه. والخوارج — كما لا يخفى على أمير المؤمنين — لا يرون السلطة جائزة لأحد. ثم ندم أبو مسلم على جفائه، ورأى أن هذه المسكينة مظلومة، فبعثني بكتاب منه هو هذا الذي بيد أمير المؤمنين، وكلفني أن أطوف البلاد للبحث عنها، فوجدتها في الكوفة وهممتُ أن أخبرها بالأمر، فحال هذا اللعين بيننا؛ لأنه لما علم بمجيئي هرب بها إلى دير خارج الكوفة، وأسرع للاحتيال على أمير المؤمنين حتى أقام في قصره، وأظهر أنه يشير عليه ويطلعه على الغيب، ثم بلغه أنني أبحث عن هذه الفتاة لأبلغها هذه الرسالة، فكتم ذلك عنها مع أنه شاهدها بالأمس، وشكتْ إليه غربتها وأن نفسها تحدثها برضى حبيبها، وهو ينكر ذلك مخافة أن يكون في اطِّلاعها على فحوى الكتاب ما يخفِّف ذنب ذلك المسكين عند أمير المؤمنين. ولا شك عندي أن أمير المؤمنين لو اطَّلع على هذا الكتاب قبل فتكه بهذا القائد العظيم لحفظ له حياته؛ إذ يتحقق من توبته وتعلقه بالخلافة العباسية.

وقد عرفت بوجود هذا الخارجي في دار أمير المؤمنين منذ أمرتني بكتابة ذلك الكتاب الذي كان سببًا في مقتل هذا الرجل، وعلمت أنه ما من أحد يعرف مكان جلنار سواه، فما زلت أترقب خروجه إليها حتى المرة الأخيرة، فأرسلت غلامًا عرف مكانها، وعاد إليَّ قبل رجوعه، وأنا مع أمير المؤمنين في هذه المدينة. فلما جاء أبو مسلم منذ ثلاثة أيام فرحتُ بمجيئه، وأحببتُ أن أفاجِئَه بمجىء حبيبته، فلم أذهب للسلام عليه، بل أسرعت إلى الدهقانة ودفعت الكتاب إليها، فجاءت معي وقلبها يكاد يطير من الفرح، فسرَّني أن يتم لقاء هذين الحبيبين تحت ظل أمير المؤمنين، فلما وصلنا إلى هذا القصر قيل لنا إن أبا مسلم في مجلس الخليفة، فالتمسنا من قيِّم الدار أن يدخلنا لنقيم ريثما يفرغ من المقابلة، فأدخلونا إلى هذه الحجرة المؤدية إلى هنا، فجلسنا ننتظر خروج هذا المسكين، ثم سمعنا صوته واستغاثته، وعلمنا أنه يُقتل، فهجمت هذه الفتاة وهي لا تعي ولم أستطع ردَّها، وفعلت ما رأيتموه. وإذا شاء أمير المؤمنين أن يُتلى هذا الكتاب بحضرته، تحقق من صدق قولي.»

فأخفى المنصور الكتاب لئلا يكون فيه ما يُثبت توبة أبي مسلم، فيُذاع أنه قُتل مظلومًا.

فلما فرغ إبراهيم من كلامه صاحت جلنار بصالح: «ويلك يا خائن! أنت من الخوارج، وقد خدعتني طوال هذه المدة، وأنا أضعك في منزلة أبي؟» وصرَّت على أسنانها وأطرقت وهي تبكي.

فقالت ريحانة وهي لا تزال ممسكة بثوب صالح: «اعلم يا أمير المؤمنين أن هذا الرجل هو الذي سعى في مقتل الإمام إبراهيم عند مروان، ثم جعل نفسه زاهدًا، فجاءكم في الحميمة وخدعكم، ولا يزال يخدعكم إلى الآن. وإذا كنت لا تصدق قولي؛ فاطلب منه أن يزيل هذه العصابة عن عينيه، فيظهر لك أنه سليم البصر وهو يتظاهر بالعمى.» قالت ذلك ومدَّت يدها، فحلت العصابة فبانتْ عيناه، فأجال نظره في الحضور وهو ثابت الجنان، رابط الجأش، كأنه واقف على ضفاف دجلة للنزهة.

فلما سمع المنصور ذلك انفطر قلبه على تلك الفتاة، ولكنه لم يندم على قتل أبي مسلم، ثم التفت إلى صالح فرآه واقفًا لا يتكلم ولا يرتعد، ولم تظهر عليه البغتة، فأراد أن يسأله عما سمعه فقال له: «ماذا تقول عما سمعته؟»

فقال صالح: «كل ما قالوه صحيح.»

فقال المنصور: «تقول ذلك ولا تخشى غضبي؟»

فقال صالح: «لست أخشى غضبك. فهل تستطيع أن تفعل بي شيئًا أشد من القتل؟ وأنا لا أبالي بالذي يصيبني بعد أن حققت هدفي بقتل هذا الظالم، غير أني أنصحك أن تقتل هذا اليهودي أيضًا؛ لأنه من أكبر المنافقين.»

فقال المنصور: «أما القتل، فإنه قليل على ذنوبك؛ لأنها كثيرة، وكل واحد منها تستحق عليه القتل.» ثم نظر إلى جلنار فرآها مطرقة وقد استغرقت في أحزانها، فأراد أن يشفي غليلها، فقال لها: «إن هذا الجاني لك؛ فاختاري الطريقة التي تريدينها لقتله مما يشفي غليلك.»

فرفعت بصرها إلى الخليفة والدمع ملء عينيها وقالت: «هل إذا بالغت في عذابه يحيا حبيبي؟ لا يهمني بأية طريقة يقتل.» قالت ذلك وقد خنقتها العبرات. وكانت قد هدأ روعها من البغتة وعاد إليها رشدها.

فأعجب المنصور بتعقلها والتفت إلى صالح وقال: «كل ضروب القتل قليلة على ذنوبك، ولكنني سأقتلك كما قتَل الحجاج فيروز.» وصفق فدخل الحراس، فأمرهم أن يشقُّوا القصب الفارسي ويخلعوا ملابس الرجل، ويشدوا القصب المشقوق على جسده، ثم يسلُّوه قصبة قصبة فيجرحه، ثم يصبُّون عليه الخل والملح حتى يموت من الألم، فأخذوه وفعلوا به ما أمرهم به الخليفة.

فلما سمعت جلنار ذلك الوصف اقشعرَّ بدنها، والتفت المنصور إليها وقال: «وأنت يا بنية، عظَّم الله أجرك في والدك وحبيبك، وقد نفد القدر، ولا رادَّ لما نزل، فإذا شئت أن تنزلي في دار أمير المؤمنين مثل سائر أهله نزلت مكرمة معززة، أو اخترت الإقامة في مكان آخر؛ كان لك ما تريدين.»

فأثنت على فضل المنصور وقالت: «إذا أحب أمير المؤمنين أن يسعدني فليلحقني بهذا.» وأشارت إلى مكان أبي مسلم وعادت إلى البكاء.

فقال المنصور: «إن البكاء لا ينفعك؛ فاذهبي الآن مع حاضنتك إلى دار النساء للاستراحة؛ فإننا في شغل.»

فنهضت وأخذت تبحث عن جثة أبي مسلم في أقصى القاعة فلم تجدها؛ لأنهم كانوا قد لفوها في البساط، ثم التفتت إلى المنصور ووجهها ملوث بالدم وقالت: «أوصيك بهذه الجثة خيرًا.» وخرجت وهي تبكي وكفَّاها على عينيها، وقد جمد الدم عليهما، وريحانة تتبعها.

أما إبراهيم فإن وصية صالح بقتله أثرت على المنصور، وأوجبت الشك فيه على الأقل، فأمر بقتله سرًّا. والتكتم وحفظ الأسرار من شئون الدولة العباسية.

وأما جلنار فقضت تلك الليلة هناك وهي تندب حظها، وتبكي حبيبها، وأصبح أهل الدار في اليوم التالي فلم يجدوها بينهم، ولا عرفوا مكانها؛ لأنها كرهت معاشرة الأحياء، واختارت الإقامة في الدير الذي كانت فيه مع حاضنتها، وانقطعت عن الناس ولم نعلم مصيرها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤