(١) الأسطورة: مسائل أساسية في المصطلح
في دراستنا لأية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية، هنالك مسألةٌ تطرح نفسها، ابتداءً، ولا نستطيع السير قُدمًا في مهمتنا قبل التوقف عندها مليًّا؛ ألا وهي مسألة المصطلح والتعريف. فبدون هذه الخطوة المبدئية التي من شأنها تعريف الظاهرة وتوضيح حدودها، قد يجد الباحث نفسه وهو يلاحق ظواهر بعيدة عن دراسته، أو ينساق وراء جوانب ثانوية من الظاهرة المعنية على حساب جوانبها الرئيسية؛ على أن المشكلة التي تواجهنا عندما نحاول أن نستهلَّ دراستنا بتعريفٍ للظاهرة وتوضيح لمصطلحاتها، هي أننا لا نستطيع التوصل إلى تعريفٍ مُرضٍ قبل أن نكون قد قطعنا شوطًا واسعًا في تقَصِّي ظاهرتنا؛ لأن التعريف الذي لا يأتي نتيجة الدراسة المتأنية والمعمقة، سوف يعكس أهواء الباحث ومواقفه المسبقة وإسقاطاته الخاصة، عوضًا عن أن يكون مرشدًا موضوعيًّا له؛ أي إننا أمام مأزقٍ فعليٍّ يتعلق بالمنهج؛ ذلك أن التعريف المسبق أمرٌ ضروري لغاية توضيح وتحديد مجال البحث، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن نُشبع ظاهرتنا التي نعكف عليها بحثًا وتحليلًا.
من هنا فإني أرى أن دراسة أية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية يجب أن تسير على مرحلتين، تهدف المرحلة الأولى إلى التوصل إلى تعريفٍ دقيق للظاهرة انطلاقًا من تعريفٍ مبدئيٍّ عامٍّ وفضفاض، من شأنه حصر مجهود الباحث وتركيزه ضمن قطاعٍ عام أو ظاهرة أشمل تحتوي على الظاهرة الأصغر التي نحن بصددها. أما المرحلة الثانية فتعود إلى نقطة البداية مزودة بتعريفٍ واضح ودقيق للموضوع، وتُقبل عليه مجددًا وقد صار محددًا ومميزًا عن بقية الموضوعات المشابهة له أو المتداخلة معه.
في مجال الأسطورة، وهي ظاهرة من أهم ظواهر الثقافة الإنسانية، يمكن للباحث أن يبتدئ من التعريف المبدئي الآتي: «إن الأسطورة هي حكايةٌ تقليدية تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية.» غير أن التقدم في مسيرة البحث سوف يطلعنا على العديد من الأجناس الأدبية التي ينطبق عليها هذا التعريف، والتي نستبعدها من دائرة الأسطورة تدريجيًّا؛ وذلك لعدم صلتها بها رغم مشابهتها لها من حيث الشكل. فنتعرف على الخرافة وعلى القصص البطولي وعلى الحكاية الشعبية وغيرها، وجميعها مما يشترك إلى هذه الدرجة أو تلك بالتعريف الذي أوردناه. وكلما سرنا قُدمًا في مجهود الجمع والتدقيق والمقارنة استطعنا تمييز جنس الأسطورة عن غيره من الأجناس، واقتربنا أكثر فأكثر نحو تعريفٍ دقيقٍ يمكن الانطلاق منه إلى دراسة الأسطورة كظاهرةٍ ثقافيةٍ متميزة وذات خصوصيةٍ عاليةٍ. وهذا التمييز لا يهم فقط باحثي الميثولوجيا بل بقية الباحثين في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، وعلى وجه الخصوص تاريخ الأديان وعلم الأديان المقارن والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والسيكولوجيا، نظرًا لما تقدمه أساطير الشعوب إلى هذه المجالات من مادةٍ غنية تساعدها على فهم وتفسير ظواهر الثقافة الإنسانية الأخرى. يضاف إلى ذلك ما لتوضيح مصطلح الأسطورة من أهميةٍ بالغة بالنسبة لجمهرة القُرَّاء المهتمين بهذا الحقل المعرفي.
ولرُبَّ سائلٍ يسأل: لماذا نثير الآن مسألة المصطلح والتعريف بعد أن ظننا المسألة قد صارت من ماضي البحث. وبعد أن أمضى علم الميثولوجيا أكثر من قرنٍ وهو يبحث ويُنقِّب ويصوغ النظريات؟ أليس في العودة إلى هذه المسألة وضع إشارة استفهام حول منهجية البحث الميثولوجي ومعظم منجزاته؟ وجوابي على هذا التساؤل، هو أني أريد بالفعل أن أضع إشارة الاستفهام هذه حول ما يعتقد الكثيرون بأنه قد صار في حكم المعروف والموصوف في هذا المجال؛ وعلى وجه الخصوص تلك المجموعات من حكايا الشعوب التي يقدمها لنا مصنفوها تحت عنوان الميثولوجيا، ومن دون أن يختبروا مادتهم على أي معيارٍ من شأنه أن فرز النص الأسطوري عن غيره من النصوص التي تنتمي إلى أجناسٍ أدبيةٍ أخرى ما زالت مختلطة بالجنس الميثولوجي الأصيل، حتى في أذهان كثيرٍ من الإخصائيين. ومن هذه المجموعات، أخصُّ بالذكر ما يُقدَّم إلى القُرَّاء تحت عنوان «الميثولوجيا الإغريقية»؛ لأن معظم مادتها لا ينتمي إلى الأسطورة بل اختلط بها لأسباب تتعلق بتاريخ البحث الميثولوجي.
ومما زاد الطين بلًّا، أن جامعي ومقدمي الميثولوجيا الإغريقية من المحدثين، قد عمدوا إلى إعادة صياغة ما كان الجامعون الإغريق والرومان قد أعادوا صياغته في وقتها، وذلك بلغةٍ تروق لقارئ اليوم. وغالبًا ما لجئوا إلى المزج بين الروايات المتعددة القديمة للحكاية الواحدة، فجاءت النسخ العصرية للميثولوجيا الإغريقية في حلةٍ لا يربطها إلا أوهى الروابط بأصولها التي كانت متداولة شفاهةً قبل عصر التدوين في اليونان. ولكي أعطي مثالًا عن الجمع العشوائي غير المدقق للحكاية الإغريقية التقليدية تحت عنوان «أساطير الإغريق»، مما راج في القرن العشرين، أذكر كتابًا شائعًا في الغرب عنوانه «الميثولوجيا» لمؤلفته إديث هاميلتون. لقد جمعت المؤلفة في كتابها هذا كل ما يخطر بالبال من حكايا إغريقية، تتدرج في الأهمية والجدية من أسطورة خلق العالم إلى حكاية حبٍّ بطلها شابٌّ وفتاة صغيران يَحول الأهل دون زواجهما فينتحران. ولسوف أتوقف قليلًا عند هاتَين «الأسطورتَين» — كما دعتهما المؤلفة — لأظهر مدى العبث الذي نال من أسطورة التكوين الإغريقية من جهة، ومدى افتقاد قصة الحب تلك إلى أي عنصرٍ من عناصر الأسطورة الحقة.
تقول إديث هاميلتون في مطلع نصها عن أسطورة التكوين الإغريقية ما يأتي:
إلى جانب أسطورة الخلق هذه، أوردت المؤلفة العديد من الحكايات التي تنتمي إلى الجنس الميثولوجي الأصيل، ولكنها في الوقت ذاته ملأت بعض فصول كتابها بقصصٍ من نوع: لماذا يوجد الذهب في رمال النهر؟ لأن الملك ميداس قد اغتسل في ينبوع نهر باكتولوس ليزيل عنه لعنة اللمسة السحرية التي تُحوِّل كل ما يلمسه إلى ذهبٍ، حتى طعامه وشرابه. أو: لماذا ثمار التوت حمراء؟ لأن دماء عاشقَين قتيلَين قد ضرَّجتها بالحُمرة بعد أن كانت بيضاء مثل الثلج … وما إلى ذلك من القصص التبريري الساذج الذي ما زال الفلكلور الشعبي حافلًا به، والذي لم يؤخذ في يومٍ من الأيام على محمل الجد. وإليكم فيما يأتي ملخصًا لحكاية التوت وكيف صار أحمر.
والآن، ما الذي يجمع حكاية هذَين العاشقَين إلى حكاية ظهور الكون المظلم من العماء البدئي؟ وكيف يمكن لكليهما أن يصنَّف في كتابٍ واحدٍ تحت عنوان: الميثولوجيا؟
لقد قدمتُ هذه الوقفة عند كتابٍ مقروء على نطاقٍ واسع، لغرض إيضاح طبيعة المشكلة التي تعانيها الدراسات الميثولوجية بسبب غموض المصطلح، ولغرض الإشارة إلى أن مشكلتنا مع المصطلح والتعريف نشأت في جزئها الأكبر من مشكلة البحث الميثولوجي مع ما يُدعى بالميثولوجيا الإغريقية، ومناهج دراستها وتبويبها وتصنيفها. وهذه المشكلة في اعتقادي ستبقى قائمةً ما لم يتم الاتفاق على معايير دقيقة لتمييز النص الأسطوري عن غيره من الأقاصيص. وهذا أمرٌ يبدو بعيد التحقيق في الوضعية الراهنة للبحث الميثولوجي، ولكنني سوف أتقدم فيما يأتي بطرح وجهة نظري في هذه المسألة، وكما تشكَّلت لديَّ بعد تفرغٍ طويل لدراسة الأسطورة وتاريخ الأديان.
-
(١)
من حيث الشكل، الأسطورة هي قصة، وتحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكةٍ وعقدةٍ وشخصيات، وما إليها. وغالبًا ما تجري صياغتها في قالبٍ شعريٍّ يساعد على ترتيلها في المناسبات الطقسية وتداولها شفاهةً، كما يزودها بسلطان على العواطف والقلوب لا يتمتع به النص النثري.
-
(٢)
يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترةٍ طويلةٍ من الزمن، وتتناقله الأجيال طالما حافظ على طاقته الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة. فالأسطورة السومرية «هبوط إنانا إلى العالم الأسفل»، والتي دُوِّنت كتابةً خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، قد استمرت في صيغتها الأكادية المطابقة تقريبًا للأصل السومري إلى أواسط الألف الأول قبل الميلاد. غير أن خصيصة الثبات هذه لا تعني الجمود أو التحجر؛ لأن الفكر الأسطوري يتابع على الدوام خلق أساطير جديدة، ولا يجد غضاضةً في التخلي عن تلك الأساطير التي فقدت طاقتها الإيحائية، أو تعديلها.
-
(٣)
لا يُعرف للأسطورة مؤلف معين؛ لأنها ليست نتاج خيال فردي، بل ظاهرة جمعية يخلقها الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها. ولا تمنع هذه الخصيصة الجمعية للأسطورة من خضوعها لتأثير شخصيات روحية متفوقة، تطبع أساطير الجماعة بطابعها وتُحدِث انعطافًا دينيًّا جذريًّا في بعض الأحيان.
-
(٤)
يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة. فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان ظهوره مكملًا لا رئيسيًّا.
-
(٥)
تتميز الموضوعات التي تدور حولها الأسطورة بالجدية والشمولية. وذلك مثل التكوين والأصول، والموت والعالم الآخر، ومعنى الحياة وسر الوجود، وما إلى ذلك من مسائل التقطتها الفلسفة فيما بعد. إن هم الأسطورة والفلسفة واحد، ولكنهما تختلفان في طريقة التناول والتعبير. فبينما تلجأ الفلسفة إلى المحاكمة العقلية وتستخدم المفاهيم الذهنية كأدواتٍ لها، فإن الأسطورة تلجأ إلى الخيال والعاطفة والترميز، وتستخدم الصورة الحية المتحركة.
-
(٦)
تجري أحداث الأسطورة في زمنٍ مقدسٍ هو غير الزمن الحالي. ومع ذلك فإن مضامينها أكثر صدقًا وحقيقية، بالنسبة للمؤمن، من مضامين الروايات التاريخية؛ فقد يشكك هذا المؤمن بأية روايةٍ تاريخية، ويُعطي لنفسه الحق في تصديقها أو تكذيبها، ولكن الشك لا يتطرق إلى نفسه، إذا كان بابليًّا، بأن الإله مردوخ قد خلق الكون من أشلاء تنين العماء البدئي؛ وبأن بعل قد وطَّد نظام العالم بعدما صرع الإله يم وروَّض المياه الأولى، إذا كان كنعانيًّا. ويستتبع لا تاريخية الحدث الأسطوري، أن رسالته غير زمنية وغير مرتبطة بفترةٍ ما. إنها رسالة سرمدية خالدة تنطق من وراء تقلبات الزمن الإنساني. إن عدم تداخل الزمن الأسطوري بالزمن الحالي يجعل من الحدث الأسطوري حدثًا ماثلًا أبدًا. فالأسطورة لا تُقصُّ عما جرى في الماضي وانتهى، بل عن أمرٍ ماثلٍ أبدًا لا يتحول إلى ماضٍ. ففعل الخلق الذي تم في الأزمنة المقدسة، يتجدد في كلِّ عامٍ، ويجدد معه الكون وحياة الإنسان. وإله الخصب الذي قُتِل ثم بُعِث إلى الحياة موجودٌ على الدوام في دورة الطبيعة وتتابع الفصول. وصراع الإله بعل مع الحية لوتان ذات الرءوس السبعة، هو صراعٌ دائم بين قوى الخير والحياة وقوى الشر والموت. وخلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدم إله قتيل، هو تأسيس لفكرة الطبيعة المزدوجة للإنسان وتكوينه من عنصرٍ مادي وآخر روحاني. وحتى عندما تتحدث الأسطورة عن حدثٍ محددٍ في تاريخ الناس، فإن مرامي هذا الحدث تكون خارج الزمن وتتخذ صفة الحضور الدائم. ونموذج هذا النوع من الأساطير أسطورة الطوفان الرافدية؛ فرغم أن السومريين قد اتخذوا من حادثة الطوفان، التي أبلغت عنها الأسطورة، نقطةً في التاريخ يؤرخون بها لما حدث قبلها وما حدث بعدها؛ إلا أن فحوى الأسطورة لم يكن تاريخيًّا بالنسبة إليهم؛ لأن الطوفان الذي دمَّر الأرض من حولهم مرة، هو نذيرٌ دائم بسطوة القدر وتحذيرٌ من الغضب الإلهي البعيد عن أفهام البشر، ومن الاطمئنان إلى استمرارية الشرط الإنساني وثبات الأحوال.
-
(٧)
ترتبط الأسطورة بنظامٍ دينيٍّ معين وتعمل على توضيح معتقداته وتدخل في صلب طقوسه. وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورةٍ إذا انهار هذا النظام الديني، وتتحول إلى حكايةٍ دنيويةٍ تنتمي إلى نوعٍ من الأنواع الشبيهة بالأسطورة.
-
(٨)
تتمتع الأسطورة بقدسيةٍ وبسلطةٍ عظيمةٍ على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي تمتعت بها الأسطورة في الماضي، لا يدانيها سوى سطوة العلم على العصر الحديث. فنحن اليوم نؤمن بوجود الجراثيم وبقدرتها على تسبيب المرض، وبأن المادة مؤلفةٌ من جزئيات وذرات ذات تركيبٍ معينٍ، وبأن الكون مؤلفٌ من مليارات المجرات … إلخ. وذلك لأن العلم قد قال لنا ذلك. وفي الماضي آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، مثلما نؤمن اليوم وبدون نقاش بما ينقله لنا العلم والعلماء، وكان الكفر بمضامينها كفرًا بكل القيم التي تشد الفرد إلى جماعته وثقافته، وفقدانًا للتوجه السليم في الحياة.
اعتمادًا على ما قدمته أعلاه، أستطيع أن أخلُص إلى التعريف الآتي، فأقول: «إن الأسطورة هي حكايةٌ مقدَّسة، ذات مضمونٍ عميقٍ يشفُّ عن معانٍ ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان.»
إن التعريف الذي سُقته أعلاه، سوف يساعدنا على تمييز النص الأسطوري، وعلى فرز جنس الميثولولجيا عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة بها. وبشكلٍ خاصٍّ، فإن صفة القداسة التي يتمتع بها النص الأسطوري، يجب أن تكون الفيصل الأساسي في عملية التعرف على النصوص الأسطورية لثقافةٍ ما وتفريقها عن بقية النصوص. ولسوف أنتقل فيما يأتي إلى استعراض أهم الأجناس الأدبية التي تختلط عادة بالأسطورة، والتي يصعب معها أحيانًا التمييز بينهما.
لعل الخرافة هي أكثر أنواع الحكايا التقليدية شبهًا بالأسطورة، ولكن العين الفاحصة ما تلبث حتى تتبيَّن الفروق الواضحة بين النوعين. تقوم الخرافة على عنصر الإدهاش وتمتلئ بالمبالغات والتهويلات، وتجري أحداثها بعيدًا عن الواقع حيث تتحرك الشخصيات بسهولةٍ بين المستوى الطبيعاني المنظور والمستوى فوق الطبيعاني، وتتشابك علائقها مع كائناتٍ ماورائية متنوعة مثل الجن والعفاريت والأرواح الهائمة. وقد يدخل الآلهة مسرح الأحداث في الخرافة، ولكنهم يظهرون هنا أشبه بالبشر المتفوقين لا كآلهةٍ سامية متعالية كما شأنهم في الأسطورة. من هنا، فإن الحدود بين الخرافة والأسطورة ليست دائمًا على ما نشتهي من الوضوح. وقد يشبه بعض الخرافات الأساطير في الشكل والمضمون إلى درجةٍ تثير الالتباس والحيرة، فلا نستطيع التمييز بينهما إلا باستخدام المعيار الرئيسي الحاسم الذي أثبتناه في تعريفنا للأسطورة، وهو معيار القداسة. فالأسطورة هي حكايةٌ مقدسة يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصدق روايتها إيمانًا لا يتزعزع، ويرون في مضمونها رسالةً سرمديةً موجهةً لبني البشر. فهي تشِفُّ عن حقائقَ خالدةٍ وتؤسس لصلةٍ دائمةٍ بين العالم الدنيوي والعوامل القدسية. أما الخرافة، فإن راويها ومستمعها على حدٍّ سواء يعرفان منذ البداية أنها تقص أحداثًا لا تلزم أحدًا بتصديقها أو الإيمان برسالتها.
من الحكايا التقليدية التي يصنفها المؤلفون الغربيون في زمرة الأساطير الإغريقية، بينما ينبغي تصنيفها في زمرة الخرافة (وفقًا لما قدمته من معايير التفريق)، تلك الحكايا التي تدور حول الأبطال الخرافيين من الرجال وأنصاف الآلهة، أمثال بيرسيون وجيسون وثيسيوس. فهذه جميعًا حكايا غير مقدسة ولم يتداولها الإغريق كأساطير تحمل رسالة سرمدية من أي نوعٍ لبني البشر. فإذا بحثنا عن أمثلةٍ أكثر قربًا من ثقافتنا العربية، وجدناها في عددٍ من الحكايا التقليدية مثل سيرة سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة، وعدد لا بأس به من حكايا ألف وليلة.
إن صلة القربى التي تربط بين الأسطورة والخرافة، تخلق بينها حالة تبادل؛ فقد يلتقط الكهنة، في فترات ضعف المؤسسة الدينية وانهيار المعتقدات الراسخة، حكاية خرافية ويحملونها مضامين دينية ويضفون عليها طابع القداسة. وبالمقابل فقد تؤدي تغييرات عميقة في بنية المعتقدات الدينية إلى زوال القداسة عن أسطورةٍ ما وهبوطها إلى مستوى الخرافة، حيث تستمر في الأدب التقليدي بعد زوال الرابطة التي كانت تنشدها إلى نظامٍ دينيٍّ معينٍ.
وكما رأينا في الخرافة أقربَ الأقرباء إلى الأسطورة، فإننا نرى في الحكاية البطولية أقرب الأقرباء إلى الخرافة، ولكن الحكاية البطولية تختلف عن الخرافة في أمرين؛ أولهما أن أحداثها أقرب إلى الواقع رغم المبالغة والتهويل. وثانيهما، وهو الأهم، أن البطل فيها يُشكل صورةً مثالية عن الإنسان وعما هو إنساني. وهي تستثير الرغبة في السامع إلى تحقيق هذه الصورة المثالية، وإن بدرجاتٍ قد لا تصل حد النموذج الأعلى الذي ترسمه الحكاية. وذلك على عكس صورة البطل في الخرافة، فإنها تطرح نموذجًا متخيَّلًا بعيدًا عن الواقع إلى درجة لا يصلح لأن يكون مثالًا يُحتذَى على أي صعيد. فلقد قام بيرسيوس في الخرافة اليونانية بقتل المرأة الأفعى ميدوزا التي تحوِّل الرجال بنظرتها إلى حجارة، ثم حطَّ بعد ذلك في إثيوبيا حيث أنقذ العذراء أندروميدا المقيدة أمام التنين الهائل قربانًا له. وفي الخرافة العربية نجد سيف بن ذي يزن يصرع عشرات الجن بسيفه الذي انتهى إليه من سام بن نوح، ويقضي على الغيلان في واديهم بريشة ديكٍ مسحورٍ، وتلتقطه العفاريت الطائرة في الهواء كلما أحكم عليه الأعداء حصارًا … إلخ. إن مثل هذه المشاهد والأحداث لا تحركها شخصيات إنسانية نموذجية، بل شخصيات مختلفة حُكم عليها منذ البداية أن تبقى حبيسة في حبكة القصة وخيال السامع، ودون تفاعل حقيقي مع النفس الإنسانية. أما في الحكاية البطولية، فرغم المبالغات التي تغلف أحداثها وشخصياتها، فإن أبطالها بشرٌ عاديون يتحركون في جوٍّ إنساني، وأعمالهم هي نموذجٌ سامٍ ومتفوق لما يمكن للأفراد أن يطمحوا إليه، وعواطفهم وانفعالاتهم ليست مما لا يشعر به أو يختبره السامع. من القصص البطولي في التراث العربي نسوق مثال عنترة بن شداد، ومن القصص البطولي الإغريقي حكايا الإلياذة التي تدور حول شخصيات بطولية نبيلة مثل أخيل وآغاممنون وباتروكليس وهيكتور. وهي حكايا متفرقة من حيث الأصل تم جمعها فيما بعد إلى نسيج ملحمة واحدة. وأحب أن ألفت النظر هنا، إلى أن حضور هذا الإله أو ذاك في هذه الحكايا الإغريقية، لا يختلف عن حضور الجني الحارس للبطل في الحكايا العربية والذي يقدم له العون حين الحاجة. ويبقى أن مسرح الحدث هنا إنساني ومشكلاته إنسانية وأبطاله إنسانيون إلى أبعد الحدود.
فإذا كانت الحكاية البطولية مما يقص أحداثًا تاريخية أو شبه تاريخية، أسميناها بالحكاية البطولية الإخبارية. ويعتمد هذا النوع الأدبي على عددٍ من الوقائع التاريخية، ولكنه يراكم فوقها أحداثًا إضافية خيالية إلى درجةٍ يغيب التاريخ معها في ضباب الخيال. إن الحروب الطروادية نموذج للحكاية البطولية الإخبارية، ومثلها تغريبة بني هلال في الأدب الشعبي العربي؛ فالتغريبة رغم عنايتها بوصف البطولات الفردية لشجعان بني هلال ولخصومهم على حدٍّ سواء؛ إلا أنها تهدف من وراء ذلك إلى تقديم حدث تاريخي في قالبٍ أدبيٍّ مُشبع بالخيال.
نأتي الآن إلى الحكايا الشعبية. إن ما يميز الحكاية الشعبية بشكلٍ رئيسيٍّ عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية هو هاجسها الاجتماعي. فموضوعاتها تكاد تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية والأسرية منها خاصة. والعناصر القصصية التي تستخدمها الحكاية الشعبية معروفة لنا جميعًا؛ وذلك مثل زوجة الأب الحقودة، وغيرة الأخوات في الأسرة من البنت الصغرى التي تكون في العادة الأجمل والأحب، أو غيرة الإخوة من أخيهم الأصغر المفضل لدى الأب، والذي تجتمع له خصائص الشجاعة والنبالة في مقابل الخسة والحسد والغيرة لدى إخوته، وما إلى ذلك. والحكاية الشعبية واقعية إلى أبعد حدٍّ وتخلو من التأملات الفلسفية والميتافيزيقية، وترتكز على أدق تفاصيل وهموم الحياة اليومية؛ وهي رغم استخدامها لعناصر التشويق؛ إلا أنها لا تقصد إلى إبهار السامع بالأجواء الغريبة أو الأعمال المستحيلة؛ ويبقى أبطالها أقرب إلى الناس العاديين الذين نصادفهم في سعينا اليومي. ففي مقابل القوة الخارقة للبطل في الحكاية البطولية وتصرفاته الفروسية، فإن البطل في الحكاية الشعبية يلجأ إلى الحيلة والفطنة والشطارة للخروج من المآزق والتغلب على الأعداء. كل هذا لا يعني أن العناصر الخيالية معدومة تمامًا في الحكاية الشعبية. فهذه العناصر قد تُستخدم في الإثارة والتشويق عندما يقابل البطل غولًا أو جنيًّا فيستخدم شطارته وحيلته للإيقاع به؛ إلا أن دخول هذه العناصر في نسيج الحكاية الشعبية لا ينفي طابع الواقعية عنها، مثلما لا يضفي طابع الواقعية على الخرافة وجود أحداث وشخصيات واقعية فيها. ومن حيث أسلوب الصياغة، فإن بنية الحكاية الشعبية هي بنيةٌ بسيطةٌ تسير في اتجاهٍ خطِّيٍّ عكس الحكاية الخرافية ذات البنية المعقدة التي تسير في اتجاهاتٍ متداخلة لا تتقيد بزمانٍ حقيقي أو مكانٍ حقيقي. وأخيرًا فإن الحكاية الشعبية تتميز برسالتها التعليمية التهذيبية، ومعظمها يحمل في ثناياه درسًا أخلاقيًّا ما؛ وذلك مثل جزاء الخيانة وفضل الإحسان ومضار الحسد، وما إلى ذلك.
إن الحدود بين هذه الأجناس الأدبية التي صنَّفناها خارج زمرة الميثولوجيا، ليست على درجةٍ كافية من الدقة والوضوح. من هنا فإن الباحث في الأدب التقليدي يمكن أن يجزئها إلى زمرٍ أكثر تخصيصًا. وهذا الموضوع يخرج عن دائرة البحث التي حددتها هنا، والتي تقتصر على رسم الإطار العام لمصطلح الأسطورة، ووضع أهم المعايير التي تفيدنا في التعرف على النص الأسطوري.