(١٠) الأخلاق في التوراة وصور الإله اليهودي

لا يستطيع قارئ التوراة أن يستخلص منظومة أخلاقية واضحة من أسفار هذا الكتاب؛ فالوصايا الطقسية تطغى في كل مكان على الوصايا الأخلاقية. والإله يهوه يأمر بمكارم الأخلاق ثم ينأى بسلوكه الشخصي عن أي معيار أخلاقي. والشخصيات الرئيسية في الكتاب، من سِفر التكوين إلى أسفار الأنبياء، لا تسلك وفق قاعدة أخلاقية واضحة. وغالبًا ما تتصف أفعالها بالبعد عن أبسط الوصايا الأخلاقية المبعثرة في خضم الأوامر والنواهي الطقسية ولوائح التابو.

تنبع إشكالية الموقف الأخلاقي في كتاب التوراة من إشكالية أعم وأشمل تتمثل في «مفهوم الإله» في التوراة. فنحن عبر أسفار الكتاب نواجه مفاهيم عن الألوهة، وصورًا لها، متباينة ومتغايرة إلى درجة يمكن معها القول بأننا لا نتعامل مع إله بعينه، بل مع عدة آلهة لا تشبه بعضها بعضًا. فإله الآباء في سِفر التكوين هو غير إله موسى في سِفر الخروج، وإله سِفر القضاة هو غير إله أسفار الملوك وأخبار الأيام … إلخ. إن فقدان الاتساق الداخلي للمعتقد التوراتي وتخلخل بنيته الذاتية يضعنا أمام عدة لواهيت لا أمام لاهوتٍ واحد ذي إطار واضح ومحدد الملامح. وهذا ما سأعرض له ببعض التفصيل قبل الدخول إلى صلب موضوع هذا البحث.

(١) صور الإله في التوراة

ينشأ الاختلاف في صورة الإله التوراتي، بشكل رئيسي، عن تعدد مصادر الرواية التوراتية وطريقة جمع وتحرير فصولها ودوافع كتابتها. فهذه الرواية تنتمي من حيث الشكل والمضمون إلى جنس من الكتابة يمكن وصفه بجنس الجمع التراثي. فهنا يعمد المحررون إلى جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة أدبية شفوية شعبية، متعددة من حيث المنشأ والأصول وخطوط التداول، ويرتبونها في تسلسل زمني مفروض عليها من الخارج، ويجعلها تبدو وكأنها رواية تاريخية متصلة الحلقات. فقصص الآباء من إبراهيم إلى يعقوب والأسباط هي تقليد مستقلٌّ، من حيث الأصل، جاء به المحررون فجعلوه بداية لروايتهم. ولكي يعملوا على عقد صلة بين قصص الآباء هذه وقصة وجود العبرانيين في مصر ثم خروجهم منها برئاسة موسى. فقد جاءوا بقصة يوسف، وهي قصة مستقلة أيضًا ومتداولة في معزل عن قصص الآباء، وأدمجوها في آخر تقليد الآباء حيث جعلوا من يوسف هذا الابن الأصغر ليعقوب، لكي يتم الربط بين عصر الآباء وعصر الخروج بشكل منطقي ظاهري، وإظهار جماعة الخروج على أنها استمرار لجماعة الآباء. ويستطيع القارئ المدقق لبقية أسفار التوراة ملاحظة هذا الأسلوب التحريري عند كل انتقال من سِفرٍ إلى آخر، بل وعند المفاصل الرئيسية في السِّفر نفسه.١ ورغم أن المحررين الذي كانوا عاكفين على صياغة هذه الرواية خلال العصر الفارسي (فيما بين أواخر القرن السابع وأواخر القرن الرابع قبل الميلاد)، قد حاولوا فرض منظورهم الأيديولوجي المتأخر على القصص التوراتي الذي ينتمي إلى حقب تاريخية مجهولة ومتباعدة ومصادر ثقافية متنوعة، وذلك بقصد إضفاء التجانس الفكري عليها بعد أن أضفوا عليها طابعًا تاريخيًّا زائفًا؛ إلا أن التقاليد التوراتية بقيت مع ذلك تسبح في أجوائها الاجتماعية والدينية الأصلية، ويشف كل منها عن تصوراته الدينية في البيئة التي نشأ فيها.
في مطلع سِفر التكوين، تطالعنا صورة للإله التوراتي غريبة كل الغرابة عن بقية أسفار الأنبياء الأخرى. فالإله التوراتي هنا، هو الإله الكوني الأعلى خالق السماء والأرض وكل مظاهر الطبيعة، الذي خرج من السرمدية ليظهر الكون ويطلق الزمن، ويدخل مع مخلوقاته في التاريخ. هذا التصور للألوهة مستمد بشكل رئيسي من المعتقد الفارسي الزرادشتي والمعتقد الرافدي. وبما أن شعب إسرائيل (بالمصطلح والمفهوم التوراتي)،٢ لم يكن بعد قد ظهر على مسرح الرواية التوراتية، فإن هذا الإله يعلن نفسه منذ البداية، وبشكل مغاير لتاريخه اللاحق، على أنه الإله الأوحد للبشرية جمعاء، شأنه في ذلك شأن الإله الأوحد الفارسي، والإله الأعلى في ثقافات الشرق القديم.٣ على أن هذه الرؤية الشمولية ما تلبث أن تضيق كلما اقتربت قصة أصول إسرائيل من بداياتها الأولى فتاريخ البشرية الذي تعرضه علينا الإصحاحات من ٥ إلى ١١، بأسلوب القص الميثولوجي، يتوقف تمامًا في مطلع الإصحاح الثاني عشر لتبدأ قصة أصول إسرائيل التوراتية مع المدعو تارح وابنه إبرام، ثم يعمل محررو التوراة على تطوير قصتهم في تجاهل تام لتاريخ بقية شعوب المنطقة المشرقية، أو جهل بها. ومع ابتداء قصة إسرائيل يتحول الإله الشمولي، الذي تعرفنا عليه في الإصحاحات الأولى، إلى إله محلي، ويهجر كل شعوب المعمورة لكي يعقد عهدًا مع المدعو أبرام وذريته من بعده، فيعطيهم أرض كنعان مقابل أن يعبدوه وحده من دون بقية الآلهة.

ورغم أن إله الآباء يُدعى إيل في سِفر التكوين، وهو نفس اسم الإله الأعلى في سوريا منذ مطلع عصورها الكتابية؛ إلا أن شخصية هذا الإله التوراتي في عصر الآباء لا تشبه في شيء شخصية الإله السوري المعروف؛ فهي شخصية باهتة وغامضة وبدون ملامح واضحة. وعبر الأحداث العادية لسِفر التكوين، عقب الإصحاح الحادي عشر، والتي تتلخص في تحركات رعوية وزيجات ونزاعات عائلية روتينية، لا يظهر الإله للشخصيات الرئيسية في السِّفر أو يحدثهم جهرًا أو وحيًا، إلا ليعقد معهم الميثاق أو يجدد هذا الميثاق، أو يبشرهم بميلاد إعجازي في سن الشيخوخة. كما أنه لا يستن لهم، شريعة ولا يوحي بوصايا من أي نوع، أخلاقية كانت أم طقسية أم تابو، ولا يبين لهم طريقة ما في العبادة تقربهم إليه. من هنا، يبدو أولئك الآباء بدون عقيدة واضحة أو دين مؤسس ذي طقوس وعبادات وميثولوجيا تميزه وترسم حدوده وأبعاده الواضحة.

ورغم أن بقيةً من صورة الإله الشمولية التي رسمها الإصحاحان الأول والثاني تظهر بشكل عرضي في خطاب إبراهيم لملك مدينة سدوم في التكوين ٢٢: ١٤ حيث نقرأ: «فقال إبرام لملك سدوم رفعت يدي إلى الرب الإله العلي مالك السماء والأرض … إلخ.» إلا أننا لا نلبث طويلًا حتى نرى هذا الإله نفسه وهو يقوم بزيارة لإبراهيم ومعه اثنان من الأتباع، فيجلس تحت الشجرة قرب الخباء ويغسل رجليه لكي يبترد من حر النهار، ثم يأكل ويشرب مع جماعته من طبيخ سارة زوجة إبراهيم. فإذا انتهى من ذلك كله تمشَّى مع إبراهيم الذي قام لتشييع ضيوفه وأسر له بنواياه في تدمير سدوم وعمورة. نقرأ في التكوين ١٧–١: ١٨: «وظهر له الرب عند بلوطات مَمْرَا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار. فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر، ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيدي. إن كنتُ قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا هكذا نفعل كما تكلمت، فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميذًا، اعجني واصنعي خبز ملَّةٍ. ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلًا رخصًا وجيدًا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبدًا ولبنًا والعجل الذي عمل ووضعه قدامهم. وإذا كان هو واقفًا تحت شجرة أكلوا (يلي ذلك وعد الرب لإبراهيم وسارة بغلام ينجبانه في شيخوختهما). ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشيًا معهم ليشبعهم. فقال الرب لإبراهيم: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله … إلخ.»

وبعد ذلك يتعرض يعقوب، حفيد إبراهيم، إلى مواجهة مع الرب أكثر درامية من مواجهة إبراهيم، حيث يلتحم معه في صراع جسدي طيلة الليل. وعندما لا يستطيع الرب أن يتغلب على يعقوب حتى طلوع الفجر، وكان يعقوب ممسكًا به بشدة وإحكام، يطلب منه أن يطلقه قبل أن ينبلج الصبح عليهما. نقرأ في التكوين ٣٢:

«ثم قام في تلك الليلة وأخذ امرأتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر، وعبر مخاضة يبوق، أخذهم وأجازهم الوادي، وأجاز كل ما كان له … فبقي يعقوب وحده. وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب المكان فنيئيل قائلًا: لأني نظرت الله وجهًا لوجهٍ ونجَّيت نفسي. وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل وهو يخمع على فخذه.» (٣٢: ٢٢–٢٩)

وفي ميثولوجيات الشرق القديم، لا يظهر الإله الأعلى عادةً، أو أحد من الآلهة الرئيسية في المجمع، لواحد من البشر مهما علت مكانته الدينية أو السياسية. فإذا أرادت الآلهة أن تتصل ببشر لأمرٍ جلل ما، كلَّمته وحيًا بكلمات تُلقى في قلبه أو في حلم. وحتى في حالة الوحي الذي يأتي به الحلم، فإن الإله لا يسفر عن وجهه أو شكله وإنما يكلم الموحى إليه من وراء حجاب. ففي أسطورة الطوفان السومرية يرى الملك-الكاهن زيوسودرا حلمًا يكلمه فيه الإله إنكي محذرًا من طوفان يدمر الأرض، ولكن خطاب الإله يأتي من وراء جدار:

في تلك الأيام، زيوسودار كان ملكًا وقيمًا على المعبد،
قام بتقديم قربانٍ عظيم وجعل يصلي ويسجد بخشوع،
فرأى في أحد الأيام حلمًا لم يرَ له مثيلًا،
الإله (إنكي يقف وراء) جدار (ويأمره أن يقترب)،
وعندما وقف زيوسودرا قرب الجدار سمع صوتًا يقول:
قف قرب الجدار على يساري واستمع،
سأقول لك كلامًا فاتبع كلامي،
وأعطِ أذنًا لوصاياي.٤

وفي أسطورة الطوفان البابلية، يتحدث الإله إلى بطل الطوفان من وراء جدار كوخه المصنوع من القصب، فيستمع إليه دون أن يراه:

فنقل إيا حديث الآلهة إلى كوخ القصب:
كوخ القصب، يا كوخ القصب. جدار يا جدار،
أنصت يا كوخ القصب، وتفكر يا جدار،
قوِّض بيتك وابنِ سفينةً … إلخ.
وأما ظهور الآلهة لبطل الطوفان في نهاية الأسطورة، فلم يكن إلا مقدمة لضمه إلى عالمهم وإسباغ نعمة الخلود عليه.
فصعد إنليل إلى السفينة،
ثم أخذ بيدي وأصعدني معه،
وأصعد زوجتي وجعلها تركع إلى جواري،
ثم وقف بيننا ولمس جبهتينا مباركًا:
ما كنت قبل الآن إلا بشرًا فانيًا،
ولكنك منذ الآن ستغدو وزوجك مثلنا.٥

على أن بعض الآلهة الصغيرة الثانوية يمكن أن تظهر للإنسان وتتحدث إليه مثلما فعل الإله كوثر-حاسيس؛ إله الحرف والصناعات، عندما قام بزيارة لدانيال في ملحمة دانيال الأوغاريتية. وهذه الزيارة تشبه في أحداثها وتفاصيلها إلى حد كبير زيارة الرب لإبراهيم في سِفر التكوين. فقد كان دانيال حاكمًا عادلًا يجلس كل يومٍ للقضاء عند باب المدينة ولكنه كان عقيم النسل، ودائم الصلاة لكي ترفع الآلهة عنه لعنة العقم. وأخيرًا وعده الإله بعل بأن يتوسط من أجله عند كبير الآلهة إيل. فرزق دانيال بغلام أسماه أقهات. وفي أحد الأيام مر به الإله كوثر-حاسيس فدعاه دانيال لتناول الطعام. ولنتابع القصة في العمود الخامس من اللوح الأول للنصِّ الأوغاريتي:

نهض دانيال وجلس عند البوابة قرب الأكداس يقضي قضاء الأرملة وحكم اليتيم. وعندما رفع بصره، رأى على بعد ألف حقل كوثر-حاسيس قادمًا حاملًا قوسًا وجعابًا ونبالًا. عند ذلك نادي دانيال زوجته قائلًا: اسمعي أيتها السيدة دانتية. أعدي خروفًا من القطيع لإكرام كوثر-حاسيس، وجهزي لإطعام وسقي الآلهة. فسمعت دانتية وأعدت خروفًا من القطيع لإكرام كوثر-حاسيس. بعد ذلك وصل كوثر-حاسيس وأعطى القوس الدانيال من أجل بِكْره أقهات. عندها أولمت السيدة دانتية وقدمت شرابًا وكرمت السيد. وعندما غادر كوثر-حاسيس إلى موطنه، أخذ دانيال القوس وأعطاها لأقهات هديةً قائلًا: إن بواكير صيدك يا بني سوف تكون للمعبد.»٦

تتفق القصة الأوغاريتية والقصة التوراتية في عناصرهما الرئيسية جميعها، مع اختلافٍ بسيط في ترتيب عنصر الوعد الإنجاب والحمل الإعجازي في سن الشيخوخة. ففي القصة الأوغاريتية تأتي الزيارة الإلهية بعد الوعد والإنجاب، أما في القصة التوراتية فإن الزيارة تسبق الوعد والإنجاب. وتوضح المقارنة التي أسوقها فيما يأتي مدى تطابق القصتين من الناحية البنائية:

– دانيال يجلس عند بوابة المدينة يقضي بين الناس بالعدل.
إبراهيم يجلس عند باب خيمته قرب مدينة حبرون.
– دانيال يرفع بصره ويري كوثر-حاسيس عن بعد.
إبراهيم يرفع بصره ويري يهوه ومعه اثنان من حاشيته.
– دانيال ينادي زوجته ويعطيها التعليمات بخصوص إكرام الضيف. ثم يستقبل كوثر-حاسيس ويستلم منه القوس هدية لأقهات.
إبراهيم يركض من باب خيمته لاستقبال القادمين ويعرض ضيافته التي تلقى القبول.
ثم يعطي تعليماته لزوجته بخصوص إكرام الضيوف.
– دانتية تجهز خروفًا لإطعام الضيف الإلهي.
سارة تعجن خبزًا، وإبراهيم يختار عجلًا طريًّا لإطعام الضيوف الإلهيين.
– بعد أن يفرغ الضيف الإلهي من طعامه، يعطي دانيال القوس الأقهات،
ويأخذ عليه عهد كوثر-حاسيس بأن يقدم بواكير صيده للمعبد.
بعد أن يفرغ الضيوف الإلهيون، يعطي يهوه وعدًا بولادة وريثٍ لإبراهيم.

إن الإله الذي يستريح من حر النهار تحت الشجرة، ثم يغسل قدميه ليبترد، ويأكل بعد ذلك ويشرب من ضيافة إبراهيم ثم يتمشى معه فيطلعه على خططه المقبلة، لا يمكن مقارنته بذلك الإله الخالق الذي قال في الإصحاح الأول من سِفر التكوين: «ليكن نور، فكان نور. وفصل بين النور والظلمة ودعا النور نهارًا والظلمة دعاها ليلًا. وقال ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلًا بين مياه ومياه، وكان كذلك، ودعا الجلد سماء. وقال لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد وتظهر اليابسة، وكان كذلك، ودعا اليابسة أرضًا ومجتمع المياه دعاه بحارًا … إلخ.» كما أن هذا الإله الكوني الذي يفصل الإصحاحان الأول والثاني فعالياته الخلاقة في الزمن البدئي، لا يشبه في شيء ذلك الجني الغامض الذي صارع يعقوب عند مخاضه يبوق ولم يقدر عليه، فأراد الفكاك من قبضته والفرار قبل شروق الشمس، مثله في ذلك مثل بقية العفاريت والأرواح الهائمة التي تفر إلى مساكنها في آخر الليل هربًا من ضوء النهار.

ظهر إله سِفر التكوين لآخر مرة في الإصحاح الخامس والثلاثين، حيث قال ليعقوب: «أمة وجماعة أمم تكون منك وملوك يخرجون من صلبك، والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحاق لك أعطيها، ولنسلك من بعدك أعطي الأرض.» وبعد ذلك يختفي الإله من بقية أحداث السِّفر، فيما بين الإصحاح ٣٥ والإصحاح ٥٠. وتتحرك شخصيات وأحداث قصة يوسف، وهي آخر مرويات عصر الآباء، في جوٍّ دنيوي بحت فلا الإله يتصل بيوسف ولا يَظهر له وجاهة أو في حلم على طريقة بقية الآباء، ويوسف من ناحيته لا يذكره إلا عرضًا وبطريقة لا توحي بوجود صلة من نوع خاص بينهما كتلك التي كانت قائمة بين الإله وأسلاف يوسف. فهذه القصة، كما أسلفت منذ قليل، تنتمي إلى تقليد مختلف عن تقليد الآباء، جاء بها المحررون التوراتيون لعقد، صلة بين عصر الآباء وعصر الخروج، والعبور بين تقليدين مستقلين تمام الاستقلال.

في سِفر الخروج نتعرف على صورة ثالثة للإله التوراتي، لا علاقة لها بالصورتين السابقتين. فلمدة أربعمائة سنة عاش بنو يعقوب حالة العبودية في مصر بدون إله آبائهم؛ لأن الإله قد نسيهم بعد وفاة يوسف، على ما يقوله لنا مطلع سِفر الخروج حيث نقرأ: «وحدث في تلك الأيام أن ملك مصر مات، وتنهد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونظر الله بني إسرائيل» (الخروج ٢٣: ٢–٢٥). وبذلك تم التمهيد لربط إله عصر الآباء بإله عصر الخروج. لقد عاش موسى فترة فتوته الأولى في مصر جاهلًا إله عصر الآباء جهل بقية شعبه به، وكان على هذا الإله أن يذكره بنفسه على أنه إله آبائه وأجداده الأقدمين الذي عاشوا في كنعان؛ وذلك عندما تجلى له لأول مرةٍ عند جبل حوريب وهو يرعى الغنم لحميه يثرون. نقرأ في سِفر الخروج ٣:

«وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون، حميه، كاهن مديان. فساق الغنم إلى وراء البرِّية وجاء إلى جبل حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر فرأى العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترق العليقة. فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. قال: لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال له: أنا إله أبيك؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب … هو ذا صراخ بني إسرائيل قد أتى إليَّ ورأيت الضيقة التي يضايقهم بها المصريون. فالآن هلمَّ إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر.» (الخروج ٣: ١–١٠)

ولما كان شعب موسى جاهلًا بهذا الإله جهل موسى به، فقد سأله موسى عن اسمه لكي يجيب الشعب إذا سأله: «فقال موسى لله: ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى … هكذا تقول لبني إسرائيل. يهوه إله آبائكم؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد» (الخروج ١٥: ٣). وتبدو محاولة الربط التعسفي بين إله عصر الآباء وإله عصر الخروج في موضع آخر من سِفر الخروج حيث نقرأ: «ثم كلَّم الله موسى وقال له: أنا الرب وأنا أظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله على كل شيء. وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم» (الخروج ٦: ٢–٤).

ولكن هذا الإله القادر على كل شيء، كما يصف نفسه أعلاه، وهو الوصف المستمد من مطلع سِفر التكوين، يبدو بعد قليل قاصرًا عن تمييز بيوت العبرانيين عن بيوت المصريين عندما ينوي إنزال المصائب بقوم فرعون، فيأمر موسى أن يضع إشارةً بالدم على عتبات بيوت العبرانيين كي لا تطالهم ضرباته: «وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب بيته حتى الصباح، فإن الربَّ يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين، يَعبُر الرب من الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب» (الخروج ١٢: ٢٢-٢٣). ورغم قسوته وجبروته فقد كان يهوه مترددًا في اتخاذ القرارات. وغالبًا ما استطاع موسى التلاعب بعواطفه وإقناعه بتغيير رأيه. فبعد خروج موسى من مصر بجماعته يكثر تذمر بني إسرائيل عليه وعلى ذلك الإله الذي أخرجهم من مصر إلى تلك الصحراء الجرداء: «وقال الرب لموسى حتَّى متى يهينني هذا الشعب، وحتَّى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟ إنِّي أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيِّرك شعبًا أكبر وأعظم منهم، فقال موسى للرب: فإن قتلت هذا الشعب، كرجل واحد يتكلم الشعوب الذين سمعوا بخبرك قائلين لأن الرب لم يقدر أن يدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم، قتلهم في القفر … اصفح عن ذنب هذا الشعب. فقال الرب: قد صفحت حسب قولك» (العدد ١١: ١٤–٢٠). وبما أنه سريع الغضب يبادر موسى ويتحدث إليه بما يشبه التقريع: «فتضرع موسى أمام الرب إلهه وقال: لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك الذي أخرجته من مصر، لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث لكي يقتلهم في الجبال … ارجع عن غضبك واندم على الشر بشعبك … فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه» (الخروج ٣٣: ١١–١٤).

لقد ترك إله مطلع سِفر التكوين، خالق السموات والأرض، عرشه السماوي ليسكن في خيمة خاصة أُعدت له في مضارب العبرانيين الهائمين في الصحراء، واعتزل كل مهامِّه الكونية الكبرى لكي يسير أمامهم في النهار على شكل عمود من دخان، وفي الليل على شكل عمود من نار ليهديهم الطريق. من هنا، فلا عجب إن استطاع موسى رؤيته بالعين. ففي إحدى المرات طلب موسى من ربه أن يُظهر له هيئته وشكله، فوافق شريطة أن لا يرى وجهه. بعد ذلك اجتاز من أمام موسى وهو يضع كفه أمام وجهه لكيلا يراه، وبعدما عبر رأى موسى ربه من خلف وهو مدبر: «فقال: أرني مجدك … فقال: لا تقدر أن ترى وجهي؛ لأن الإنسان لا يراني ويعيش. وقال الرب: هو ذا عندي مكان فتقف على الصخرة. ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر من ورائي، وأما وجهي فلا يرى» (الخروج ٣٣: ١٨–٢٣).

وفي موضع آخر من سِفر الخروج يرى سبعون من شيوخ إسرائيل إلههم وجهًا لوجه على جبل سيناء: «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة، ولكن لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل. فرأوا الله وأكلوا وشربوا» (الخروج ٢٤: ٩–١١).

يتابع سِفر التكوين وبقية الأسفار الخمسة تطوير هذه الشخصية التي تنتمي إلى القوى الظلامية أكثر من انتمائها إلى القوى الإلهية. فهي تصب جام غضبها بطريقة تخلع الأفئدة، على أتباعها عندما يخطئون، وتطلب منهم حين يفيئون إليها أن يقطعوا دابر بقية الشعوب وإفناءها عن بَكرة أبيها. فعندما يهبط موسى من جبل سيناء، وبيده لوحا الشريعة اللذان كتبهما الرب بخطِّه، يجد أن مَن أُنزلت إليهم هذه الشريعة يتعبدون لعجلٍ ذهبي صنعه لهم هارون أخوه، فيكسر موسى اللوحين في ثورة غضبه ويأتيه وحي الرب أن يأمرهم بالاقتتال فيما بينهم حتى يُفنوا بعضهم بعضًا. لا يميز أحدهم أبناءه أو إخوته: «وقف موسى في باب المحلة وقال: مَن للرب فإلي. فاجتمع إليه جميع بني لاوي فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: ضعوا كل واحد سيفه على فخذه ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه. ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى، وسقط من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل. وقال موسى: املئوا أيديكم اليوم للرب، حتى كل واحد بابنه وبأخيه فيعطيكم اليوم بركة» الخروج (٣٢: ٢٤–٢٩). وعندما أقام العبرانيون في شرقي الأردن أخذوا يزنون ببنات شعب موآب وتعلقوا بآلهتهن وتركوا عبادة الرب. فأمر الرب موسى أن يقطع رءوس الشعب ويعلقها قربانًا للرب: «وأقام إسرائيل في شطيم وابتدءوا يزنون مع بنات موآب. فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن. فحمي غضب الرب على إسرائيل، فقال الرب لموسى: خذ جميع رءوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس فيرتد حمو الرب عن إسرائيل. فقال موسى لقضاة إسرائيل: اقتلوا كلُّ واحدٍ قومَه المتعلقين ببعل» (٢٥: ١–٥). ومن الأمثلة على حملات الإفناء التي كان يقوم بها موسى تنفيذًا لأوامر إلهه حملته على مديان، التي كان عليه فيها أن يقتل كل نفس حية عدا البنات العذراوات: «فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذَكرٍ وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم … وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وكل أملاكهم وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم … فخرج موسى لاستقبالهم إلى خارج المحلة، فسخط موسى على وكلاء الجيش وقال لهم موسى: هل أبقيتم كل أنثى حية؟ فالآن اقتلوا كل ذَكرٍ من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلًا. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن ذكر أبقوهن لكم» (العدد ٣١: ٧–١٨).

في سِفر القضاة الذي يبدو لقارئه أكثر الأسفار تفككًا وافتقادًا للحبكة التي تجمع أحداثه بعضها إلى بعض، تغيب صورة إلى الخروج لتحل محل صورة أقرب إلى صورة إله الآباء. فالإله هنا لا يتدخل مباشرةً في سير الأحداث ولا يوجهها، بل يبدو وكأنه قد اعتكف واستراح مما كابده في أسفار موسى الخمسة، تاركًا القبائل المتفرقة التي عبر بها يشوع نهر الأردن، تسعى بنفسها لتثبيت أقدامها في أرض كنعان بشعوبها القوية ومدنها الحصينة، وهو لا يعلن عن وجوده في الحياة الدينية لتلك الجماعات إلا من خلال مداخلات عابرة وغير مباشرة، تطالعنا عبر فصول سِفر القضاة التي لا ينتظمها عقد، وذلك مثل: «وعمل بنو إسرائيل الشر في عين الرب فدفعهم الرب ليد مديان سبع سنين» (القضاة ٦: ١). «ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عين الرب فدفعهم ليد الفلسطينيين أربعين سنةً» … إلخ (القضاة ١٣: ١). ويبدو لنا بوضوحٍ من قراءة أخبار عصر القضاة أن كاتب هذا السِّفر لم يطلع على فحوى سِفر يشوع الذي سبقه؛ لأنه يأتينا بقصته الخاصة عن دخول أرض كنعان والاستقرار فيها، وهي مختلفة تمامًا عن قصة الفتح العسكري الصاعق التي رسمها سِفر يشوع بطريقة حيوية تبدو مقنعة للوهلة الأولى. ففي سِفر يشوع ينهي المحرر قصة الاقتحام العسكري المظفر لبلاد كنعان بقيادة يشوع بن نون وتوزيع أراضيها التي اكتُسبت عنوةً على القبائل الموحدة الاثنتي عشرة، بالمقطع الآتي: «فأخذ يشوع كل الأرض حسب كل ما كلم به الرب موسى، وأعطاها يشوع ملكًا لإسرائيل حسب فِرقهم وأسباطهم، واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع ١١: ٢٣).

ولكننا في مطلع سِفر القضاة نفهم أن يشوع قد عبر نهر الأردن سلمًا ولم يكن لديه خطة للفتح العسكري. لقد عسكر عند الضفة الأخرى من النهر وترك القبائل الإسرائيلية لتتدبر أمرها كلٌّ على طريقته، وذلك تحت ذريعة أن الرب قد عدل عن مساعدتهم لأنهم خذلوه ولم يستمعوا لصوته: «وصعد ملاك الرب وقال: قد أصعدتكم من مصر وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت لا أنكث عهدي معكم إلى الأبد. وأنتم فلا تقطعوا عهدًا مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم. ولم تستمعوا لصوتي. فقلت أيضًا لا أطردهم من أمامكم بل يكونون لكم مضايفين وتكون آلهتهم لكم شركًا … وصرف يشوع الشعب، فذهب بنو إسرائيل كل واحد إلى ملكه لأجل امتلاك الأرض» (القضاة ٢: ١–٦). إن في هذا التناقض الصارخ بين سِفر يشوع وسِفر القضاة حول مسألة من أهم المسائل في الرواية التوراتية وهي دخول بني إسرائيل إلى كنعان، نموذجًا عن أسلوب المحررين التوراتيين القائم على الجمع والربط غير الموفق بين تقاليد مختلفة وقصص متضاربة لا يوحدها إطار تاريخي واضح، ومحاولة إضفاء الطابع التاريخي عليها.

في أسفار صموئيل الأول والثاني وسِفري الملوك وسِفري أخبار الأيام، تتبادل صور الإله التوراتي التي عرضنا لها، الخفاء والظهور. أكتفي هنا بذكر مثالين. فبعد تشكيل المملكة الموحدة المزعومة لكل إسرائيل، وصعود داود على العرش، يرفع إله سِفر الخروج عقيرته بالشكوى من كونه بلا بيتٍ ولا مأوى وأنه يسكن في خيمة لا تليق به، هي الخيمة التي أعدَّها له موسى بعد الخروج من مصر: «وفي تلك الليلة كان كلام الرب لناثان النبي قائلًا: اذهب وقل لعبدي داود هكذا قال الرب: أأنت تبني لي بيتًا لسكناي؟ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن. في كل ما سرت مع جميع بني إسرائيل، هل تكلمت بكلمة إلى أحد قضاة إسرائيل الذين أمرتهم أن يرعوا شعبي قائلًا لماذا لم تبنوا لي بيتًا من الأرز؟ والآن فهكذا تقول لعبدي داود … نسلك الذي يخرج من أحشائك هو يبني بيتًا لاسمي وأنا أثبت مملكته، هو يبني لي بيتًا» (صموئيل الثاني ٧: ١–١٣).

ونسل داود الذي يشير إليه المقطع أعلاه هو سليمان باني البيت للرب، ولكننا نجد في خطبة سليمان العصماء التي ألقاها أمام الشعب بعد انتهائه من بناء الهيكل، عودة إلى صورة إله مطلع سِفر التكوين، صور الإله الشمولي الأعلى الذي لا تتسع له السماء فما بالك ببيت تبنيه يد الإنسان: «ووقف سليمان أمام مذبح الرب تجاه كل جماعة إسرائيل وبسط يديه إلى السماء وقال … والآن يا إله إسرائيل فليتحقق كلامك الذي كلمت به عبدك داود أبي؛ لأنه هل يسكن الله حقًّا على الأرض. هي ذي السموات وسماء السموات لا تسعك فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت» (الملوك الأول ٨: ٢٢–٢٧).

في سِفر المزامير، الذي يحتوي على الصلوات والأناشيد الدينية التوراتية، والذي يفترض فيه أن يقدم لنا صورة متسقة عن المعتقد التوراتي، تطالعنا صور عن الإله متناقضة كل التناقض مرصوفة جنبًا إلى جنبٍ. في المزمور ٧٢، لدينا وصف لإله شمولي تتعبد له جميع الشعوب ويبسط سلطانه على كل المعمورة: «يخشونك ما دامت الشمس، وقائم القمر، إلى دور فدور … يملك من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض، أمامه تجثو أهل البرِّية … ويسجد له كل الملوك، كل الأمم تتعبد له؛ لأنه ينجي الفقير والمستغيث والمسكين» (٧٢: ٥–١٢). وفي المزمور ٧٤ تطالعنا الصورة السامية نفسها عندما نقرأ: «لك النهار، ولك الليل أيضًا، أنت هيأت النور والشمس. أنت نصبت كل تخوم الأرض. الصيف والشتاء أنت خلقتهما» (٧٤: ١٦–١٧).

ولكننا لا نلبث حتى نرى هذا الإله الشمولي خالق الكون يصارع وحوش البحر في المزمور نفسه ويقتل لوياتان التنين المعروف في الميثولوجيا الأوغاريتية: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان جعلته طعامًا للشعب، لأهل البرِّية» (٧٤: ١٣–١٤).

وفي المزمور ٧٧، لا يتمتع الإله التوراتي بصفة الوحدانية بل يخاطب على أنه أعظم الآلهة: «أي إله عظيم مثل الله؟» (٧٧: ١٣). وكذلك الأمر في المزمور ٨٦: «يا رب، إله الجنود، من مثلك رب قوي؟ وحقك من حولك» (٨٩: ٨). وهو في هذا المزمور أيضًا يتصدى لصراع التنانين المائية ويشتبك مع الوحش البحري المدعو رهب: «أنت متسلط على كبرياء البحر. عند ارتفاع لججه أنت تسكنها. أنت سحقت رهب مثل القتيل» (٨٩: ٩-١٠).

وفي المزمور ٨٢، يقف يهوه في مجمع الآلهة يقضي ويصدر الأوامر لهم: «الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي: حتى متى تقضون جورًا وترفعون وجوه الأشرار … أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون» (٨٢: ١–٦). وتتأكد فكرة مجمع الآلهة هذه في المزمور ٨٩: «لأنه مَن يعادل في السماء الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله. إله مهوب جدًّا في جماعة القديسين ومخوف عند جميع الذين حوله» (٨٩: ٦-٧). إن تعبير أبناء الله في هذا المقطع يعادل تعبير جماعة القديسين الذي يوجد ما يشبهه في النصوص الأوغاريتية التي تدعو آلهة الدرجة الثانية من أبناء الإله الأعلى إيل بأبناء القدس. نقرأ في النص ١٢٩ من ملحمة بعل وعناة، السطرين ١٩ و٢٠ على لسان بعل ما يأتي: «أنا ليس لي بيت كما للآلهة، وليس لي مسكن كما لبني القدس.»٧

ولكن مضمون الفقرة من المزمور ٨٩ أعلاه، يدل بوضوح على أن الإله التوراتي ليس الله نفسه بل واحد من أبنائه، أبناء القدس، وأعلاهم شأنًا. وهذا ما يؤكده لنا المزمور ١١٠، حيث نجد الإله التوراتي جالسًا على يمين الإله الأعلى في السماء: «قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك» (١١٠: ١).

فإذا وصلنا إلى أسفار الأنبياء وجدنا صورة الإله الشمولي الأوحد تعود إلى الظهور وخصوصًا في سِفر إشعيا الذي اقتطف فيما يأتي بعضًا من فقراته: «إني أنا هو. قبلي لم يُصوِّر إله، وبعدي لا يكون. أنا، أنا الرب وليس غيري مخلِّص» (٤٣: ١٠–١١). «أنا الأول وأنا الآخر، ولا إله غيري» (٤٤: ٦). «أنا الرب صانع كل شيء، ناشر السموات، وحدي باسط الأرض. مَن معي؟» (٤٤: ٢٤). «أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي … مصور النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشر. أنا الرب صانع كل هذا» (٤٥: ٥–٧). «أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها. يداي أنا نشرت السموات، وكل جندها أنا أمرت» (٤٥: ١٢). «لأنه هكذا قال الرب خالق السموات. هو الله مصور الأرض وصانعها، هو قررها، لم يخلقها باطلًا، للسكن صوَّرها. أنا الرب وليس آخر» (٤٦: ١٨). «أليس أنا الرب ولا إله غيري. إلهٌ بارٌّ ومخلِّص ليس سواي. التفوا إليِّ وأخلِصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر بذاتي أقسمت وخرج من فمي كلمة لا ترجع: إنه لي تجثو كل ركبةٍ، يحلف كل لسانٍ» (٤٦: ٢١–٢٣). «أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وجدت من الذين لم يطلبوني. قلت ها أنا ذا لأمة لم تسمع باسمي (لأني) بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره» (٦٥: ١-٢). «السماء كرسيِّ والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنونه لي، وأين مكان راحتي، وكل هذه صنعتها يدي» (٦٦: ١-٢).

ولكن هذا الإله الشمولي بقي في النهاية إلهًا لإسرائيل بالدرجة الأولى، ومسيرة التاريخ بأكملها تنتهي عند أورشليم الجديدة: «افرحوا مع أورشليم وابتهجوا يا جميع محبيها. افرحوا معها فرحًا يا جميع النائحين عليها. لكي ترضعوا وتشبعوا من ثدي تعزياتها، لكي تعصروا وتتلذذوا من درة مجدها. لأنه هكذا قال الرب. ها أنا ذا أدير عليها سلامًا كنهر، ومجد الأمم كسيل جارف، فترضعوه وعلى الأيدي تحلمون وعلى الركبتين تدللون … لأنه كما أن السموات الجديدة والأرض الجديدة التي أنا صانع تثبت أمامي. يقول الرب، هكذا يثبت نسلكم واسمكم» (٦٦: ٥–٢٢).

بعد هذه الوقفة عند صورة الإله التوراتي نعود إلى موضوعنا الأساسي في هذا البحث.

(٢) الأخلاق في التوراة

إن اختلاف وتناقض صورة الإله في التوراة، إضافة إلى عدم توصل اللاهوت التوراتي إلى فكرة الخير المحض في شخصية الإله، قد أدى إلى رسم طبيعةٍ أخلاقية متناقضة له موزعة بين الخير والشر. وهو إذ يأمر بمكارم الأخلاق، فإنه ينأى بسلوكه عن القواعد التي اشترعها للآخرين، ويتعامل معهم بمعايير غير مفهومة من الناحية الأخلاقية. ونستطيع متابعة هذه الطبيعة الأخلاقية المتناقضة منذ الإصحاحات الأولى من سِفر التكوين حتى نهاية الكتاب.

فبعد أن يتكاثر الناس على الأرض يخشى الإله من اتحادهم ضده فيفرقهم إلى جماعات وشعوب ويجعلهم يتكلمون بلغات مختلفة. نقرأ في سِفر التكوين: «وكانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغةً واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعةً في أرض شنعار وسكنوا هناك، وقالوا هلمَّ نبني لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسمًا لكيلا نتبدد على وجه الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذَين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم. وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعلموه. هلمَّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بناء المدينة. لذلك دعي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض» (التكوين ١١: ١–٩). وبعد ذلك يعمد إلى إفناء كل نفس حية بين إنسان وحيوان في طوفان شامل بعد أن ندم على خلقهم: «فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته مع بهائم ودابات وطيور السماء» (التكوين ٦: ٦-٧).

وهو يأخذ البريء بجريرة المذنب وينتقم من الآباء في أبنائهم وأبناء أبنائهم: «افتقد ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (الخروج ٢: ٥). وسلوكه هذا يتناقض مع القاعدة التي شرعها في سِفر التثنية والتي تمنع أخذ الابن بجريرة أبيه: «لا يُقتل الآباء عن الأبناء، ولا يُقتل الأبناء عن الآباء. كل إنسانٍ بخطيئته يُقتل» (التثنية ٢٤: ١٦). وعندما يأتي لدمار مدينتي سدوم وعمورة، يقف أمامه إبراهيم مذكِّرًا إياه بالقواعد الأخلاقية: «حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر، أن تُميت البار مع الأثيم، أديَّان الأرض لا يصنع عدلًا؟» (التكوين ١٨: ٢٣–٢٥). وهو ولوع بالأضاحي البشرية وغضبه لا يهدأ أحيانًا إلا بها. من الأمثلة على ذلك أنه حدث جوعٌ في الأرض أيام الملك داود لمدة ثلاث سنين. وعندما طلب داود وجه ربه لمعرفة السبب، قال له إنه غاضبٌ على الأرض لأن سلفه الملك شاؤل كان قد ضرب أهل مدينة جبعون بعد العهد الذي كان يشوع قد قطعه لهم منذ القدم بعدم الاعتداء عليهم. فجاء داود إلى الجبعونيين وسألهم كيف يستطيع التكفير عن خطيئة شاؤل، فطلبوا منه أن يسلمهم سبعةً من ذرية شاؤل يقدمونهم قربانًا للرب. فأخذ داود ولدي شاؤل وزوجته رصفة، وخمسة من أولاد ميكال ابنة شاؤل وسلَّمهم إلى الجبعونيين: «فصلبوهم على الجبل أمام الرب، فسقط السبعة معًا وقُتلوا في أيام الحصاد … وبعد ذلك استجاب الله من أجل الأرض» (صموئيل الثاني ٢١: ١-٢).

ولدينا قصة قربان بشري تقشعر لها الأبدان في سِفر القضاة. فقد ولي القضاء على إسرائيل المدعو يفتاح الجلعادي الذي أخذ على عاتقه تخليص بني إسرائيل من العمونيين المتسلطين عليهم. وقبل المضي إلى المعركة الفاصلة نذر يفتاح للرب أضحية بشرية يرفعها محرقة للرب إن هو نصره على أعدائه، واختار أن تكون هذه الضحية البشرية أول شخص يخرج للقائه بعد عودته منتصرًا. فدفع الرب بني عمون ليد يفتاح فشتت جيشهم وملك أرضهم. ولدى عودته إلى بيته كان أول خارج للقائه ابنته الوحيدة التي قابلته بالرقص والدفوف والغناء: «وكان لما رآها أنه مزق ثيابه وقال: آه يا بنتي قد أحزنتني لأني قد فتحت فمي إلى الرب، ولا يمكنني الرجوع. فقالت له: يا أبي هل فتحت فاك إلى الرب فافعل بي كما خرج من فيك، بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك. ثم قالت لأبيها فليفعل بي هذا الأمر. اتركني شهرين فأذهب وأنزل على الجبال وأبكي عذريتي أنا وصاحباتي … وكان عند نهاية الشهرين أنها رجعت إلى أبيها ففعل بها نذره الذي نذر» (القضاة: ١١).

ورغم أن يهوه كان يعاقب شعبه بقساوةٍ بالغة لعدم التفاتهم إليه والسير وراء آلهةٍ أخرى؛ إلا أنه كان يرسل عقابه عليهم أحيانًا دون سببٍ واضح ومفهوم، ولدينا في آخر حادثة من حوادث حياة الملك داود خير مثال على ذلك. فلقد دفع يهوه عبده داود إلى الخطيئة وزينها له، لكي يتخذ منها ذريعة لإنزال الوباء بالناس والقضاء على عشرات الآلاف منهم. والخطيئة هنا هي تعدي حدود تابو قديم في الشريعة يمنع عد الأنفس: «وعاد فحمي غضب الرب على إسرائيل — والنص هنا لا يلمح أو يصرح عن سبب الغضب — فأهاج عليهم داود قائلًا امضِ وأحصِ إسرائيل ويهوذا. فخرج يوآب ورؤساء الجيش من عند الملك ليعدوا الشعب … وطافوا كل الأرض وجاءوا في نهاية تسعة وعشرين يومًا إلى أورشليم … فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد. فمات الشعب من دان إلى بئر السبع، سبعون ألف رجلٍ … فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» (صموئيل الثاني ٢٤: ١–١٧).

ومن سمات يهوه الكذب ونقض المواثيق. وها هو كاتب المزمور ٨٩ يوجه له التهم الموثقة بالشواهد: «وقلت … لا أنقض عهدي ولا أغير ما خرج من شفتي. مرةً حلفت بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس أمامي، مثل القمر يثبت إلى الدهر، والشاهد في السماء. لكنك رفضت ورذلت، غضبت على مسيحك نقضت عهد عبدك، نجست تاجه في التراب … أين مراحمك الأول يا رب التي حلفت بها لداود بأمانتك؟» (المزمور ٨٩: ٣٤–٤٩). وكاتب المزمور ٩٤، من جهته، يبدأ نشيده بتعنيف يهوه لنسيانه شعبه وينبِّهه إلى أن الأغراب يهزءون منه ويقولون إنه لا يبصر ولا يلاحظ ما يدور حوله: «يا إله النقمات يا رب، يا إله النقمات أشرق. ارتفع يا ديان الأرض. جاز صنيع المستكبرين. حتى متى الخطاة، يا رب، حتى متى الخطاة يشمتون، يبقون يتكلمون بوقاحة. كل فاعلي الإثم يفتخرون. يسحقون شعبك يا رب ويذلون ميراثك … ويقولون الرب لا يبصر، وإله يعقوب لا يلاحظ» (المزمور ٩٤: ١–٦).

ويبدو سلوك يهوه غير المفهوم من الناحية الأخلاقية، كأوضح ما يكون في سِفر أيوب. فهنا يقع الرب في مصيدة الشيطان الذي يوغر صدره على عبده الصالح أيوب: «وكان هذا الرجل كاملًا ومستقيمًا يتقي الله ويحيد عن الشر. ووُلد له سبعة بنين وثلاث بناتٍ. وكانت مواشيه سبعة آلاف رأسٍ من الغنم وثلاثة آلاف جملٍ وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان، وخدمه كثيرون جدًّا. فكان هذا الرجل أعظم بني المشرق» (أيوب ١: ١–٣). وفي أحد الأيام جاء الآلهة ليمثلوا أمام الرب، ومن بينهم الشيطان: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثُلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم» (١: ٦). وعندما يمتدح الرب أيوب ويثني على تقواه واستقامته يقول له الشيطان أن أيوب لا يفعل ذلك مجانًا بل بسبب الخيرات التي أغدقها الرب عليه، ويقنعه بأن أيوب سوف يكفر بربه ويتخلى عن صلاحه إذا مسَّه منه ضرٌّ. فيطلق الرب يد الشيطان في أيوب لينزل به ما يشاء من الضربات، فيباشر الشيطان عمله بمباركة الرب. في يوم واحد سُرقت أبقاره وجماله وقتل اللصوص عبيده جميعًا، وسقطت نارٌ من السماء فأحرقت قطعان غنمه، ثم سقط البيت على أولاده فماتوا جميعًا: «فقام أيوب ومزق جبته وجز شعر رأسه وخر على الأرض وسجد وقال: عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا» (١: ٨–٢١).

بعد ذلك أتى الشيطان مرةً أخرى للمثول أمام الرب مع بقية بني الله، فقال له الرب إن أيوب ما زال رجلًا صالحًا، وهو متمسك بكماله رغم ما حلَّ به من مصائب: «ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، وإلى الآن هو متمسك بكماله، وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سببٍ.» فيقترح الشيطان أن يطال الأذى والضر أيوب في جسمه وصحته بعد أن طال ماله وأبناءه. فيوافق الرب على ذلك: «فأجاب الشيطان الرب وقال ابسط يدك ومس عظمه ولحمه فإنه عليك يجدف. فقال الرب للشيطان هنا هو في يدك، ولكن احفظ نفسه. فخرج الشيطان من حضرة الرب وضرب أيوب بقُرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شقفة يحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته أنت متمسك بعد بكمالك. بارك الله ومت. فقال لها تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات. أَلخيرَ نقبل من عند الله والشر لا نقبل؟ في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه» (٢: ١–١٠).

ولكن يهوه يزداد إمعانًا في تعذيب أيوب الذي يرفع عقيرته بالشكوى وطلب العدل: «أبحر أنا أم تنين حتى جعلت عليَّ حارسًا؟ إن قلتُ فراشي يعزيني وينزع كربتي، تريعني بالأحلام وترهبني برؤى … كُف عني الآن لأن أيامي نفحة. ما هو الإنسان حتى تعتبره وحتى تضع عليه قلبك، وتتعهده كل صباح وكل لحظة تمتحنه. حتى متى لا تلتفت عني ولا ترخيني ريثما أبلع ريقي، أأخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس، لماذا جعلتني عاثورًا لنفسي حتى أكون على نفسي حملًا؟» (٧: ١٢–٢٠).

ولكن هذه الشكوى تذهب هباءً لأن يهوه هو الخصم هنا والحكم، وما من أحد يحاكم أفعاله، فيتابع أيوب: «ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثر جروحي بلا سببٍ لا يدعني آخذ نفَسي ولكن يشبعني مرائر. إن كان من جهة قوة القوي يقول: ها أنا ذا. وإن كان من جهة القضاء يقول: مَن يحاكمني؟ … أنا مستذنب فلماذا أتعب عبثًا. لو اغتسلت في الثلج ونظفت يدي بالأشنان، فإنك في النقع تغمسني حتى تكرهني ثيابي. لأنه ليس هو إنسان مثلي فأجاوبه فنأتي جميعًا للمحاكمة. ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا» (٩: ٢٩–٣٣). «كرهت نفسي حياتي. أتكلم في مرارة نفسي قائلًا لله لا تستذنبني، أفهمني لماذا تخاصمني … يداك كونتاني وصنعتاني كلي جميعًا، أفتبتلعني؟ اذكرْ أنك جبلتني كالطين، أفتعيدني إلى التراب؟ … أليست أيامي قليلة؟ اتركْ، كُفَّ عني، قبل أن أذهب ولا أعود إلى أرض ظلمة وظل موت» (١٠: ١–٢١). «الإنسان مولود المرأة، قليل الأيام وشبعان تعبًا. يخرج كالزهر ثم ينحسم، ويبرح كالظل ولا يقف، فعلى مثل هذا حدقت عينيك، وإياي أحضرت للمحاكمة معك» (١٤: ١–٣).

ومع ذلك فلو استطاع أيوب المثول أمام كرسي يهوه لأحسنَ تقديم قضيته وعرض أمامه كثيرًا من الحجج الدامغة على براءته: «ضربتي أثقل من تنهدي، مَن يعطيني حتى أجده فآتي إلى كرسيه، وأُحسن الدعوى أمامه وأملأ فمي حججًا، فأعرف الأقوال التي بها يجيبني، وأفهم ما يقول لي. أبكثرة قوة يخاصمني؟» (٢٣: ١–٦).

ولكن ادعاء البراءة من جانب أيوب وثباته على توكيد حقه أمام إلهه، لا يزيد هذا الإله إلا تعنتًا. وها هو يخاطبه مخاطبة الند للند مستعرضًا قوته أمام هذا الإنسان الضعيف القاعد فوق كومة من الرماد بين أطلال بيته المتهدم يحك قروحه بكسرة فخار: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال: مَن هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة؟ اشدد حقويك الآن كرجل، فإني أسألك فتُعْلمني. أين كنت حين أسستُ الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم، مَن وضع قياسها أو من مد عليها مطمارًا؟ على أي شيء قر قواعدها، أو مَن وضع حجم زاويتها عندما ترنمت كواكب الصبح معًا، وهتف جميع بني الله؟» (٣٨: ١–٦). وبعد خطبة طويلة تستغرق كامل الإصحاحين الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين، يتقدم أيوب بإجابة مقتضبة تنم عن اليأس من الاحتكام لإله يعتبر نفسه فوق الواجبات الأخلاقية: «فأجاب أيوب الربَّ وقال: هنا أنا حقير فبماذا أجاوبك، وضعت يدي على فمي. مرةً تكلمت فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد» (٤٠: ٢–٤).

هذه الإجابة المختصرة تدعو يهوه إلى ثورة غضب أقوى من الأولى، لأنه يرى في ثناياها اتهامًا مبطنًا من قِبل أيوب: «فأجاب الرب أيوبَ من العاصفة فقال: الآن أشدد حقويك كرجل. أسألك فتُعْلمني. لعلك تناقض حكمي! تستذنبني لكي تبرر أنت» (٤٠: ٦–٨). ثم يعود بعد ذلك إلى استعراض قوته وتسلطه على الوحوش المائية الجبارة من أمثال بهيموت ولوياتان: «هل لك ذراع كما لله وبصوت مثله ترعد؟ … أتصطاد لوياتان بشص أو تضغط لسانه بحبل؟ … مَن يفتح مصراعي فمه؟ دائرة أسنانه مرعبة … عطاسة يبعث ثورًا وعيناه كهدب الصبح … إلخ» (٤٠: ٩، و٤١: ١–١٩). بعد أن ينتهي يهوه من خطبته الاستعراضية الثانية هذه. يدرك أيوب أخيرًا أن يهوه لا ينطلق في تصرفاته من أية قاعدة منطقية أو أخلاقية، بل من إحساسه بالتفوق والسلطة المطلقة، وأنه لا يطلب من عباده محبة بل اعترافًا تامًّا بالتفوق، ناهيك عن تذكيره بالعدل والإنصاف. من هنا يصوغ أيوب إجابته الأخيرة لكي تأتي في اتفاق مع نظرة يهوه إلى نفسه، ويفلح في كسب قضيته: «فأجاب أيوب الرب فقال: قد علمتُ أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر … وقد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقي لم أعرفها … بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني. لذلك أرفض أندم في التراب والرماد» (٤٢: ١–٥).

لا يوجد في خطاب أيوب الأخير أي عرضٍ لحقٍّ أو احتكام لعدل أو تذكير بالقواعد الأخلاقية في التعامل، بل خضوع كامل وغير مشروط لجبروت إله كان يسمع بعجائبه ولكنه رآها بأمِّ عينه. لهذا يهدأ غضب يهوه ويقرر الرأفة بأيوب، فيعيد إليه كل ما سلب منه: «وزاد الرب على كل ما كان الأيوب ضعفًا. فجاء إليه كل إخوته وكل أخواته وكل معارفه وأكلوا معه خبزًا في بيته، ورثوا له وعزوه عن الشر الذي جلبه الرب عليه، وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه … وعاش أيوب بعد هذا مائةً وأربعين سنةً» (٤٢: ١–١٦)، ولكن مَن يعيد لأيوب أولاده وبناته الذين ماتوا دون سببٍ، أو من يعيد لأيوب كرامته الإنسانية التي هدرت على يد إلهٍ يدعي أنه الذي أسس الأرض ورفع السماء، ويتباهي بقتل التنانين واصطيادها بشص كما السمك، ولكنه لا يملك الحد الأدنى من المعرفة التي تمكنه من الاطلاع على خبيئة نفس أيوب ليتأكد من صحة ادعاء الشيطان.

إن الصورة غير الواضحة للإله التوراتي وتناوس سلوكه بين الخير والشر، وعدم إقامته وزنًا للقواعد الأخلاقية في تعامله مع الآخرين، وما يتبع ذلك من عدم الإمكانية على فهْم تصرفاته ودوافعها والتنبؤ بردود أفعاله، قد جعل من الديانة اليهودية ديانة طقسية بالدرجة الأولى، ترجح إتيان الطقوس على السلوك القويم والأخلاق الحميدة. وأسفار موسى الخمسة التي أسست للشريعة اليهودية لا تحتوي في الواقع إلا على النذر اليسير من التعاليم الأخلاقية التي ترد عرضًا في خضم آلاف الوصايا الطقسية المفصلة إلى درجة تثير الملل. وفي الحقيقة، فإن أول وصية نزلت على موسى قبل أن يشرع بالخروج من مصر، وقبل أن يتلقَّى الشريعة على جبل سيناء، لم تكن وصيةً معتقدية ولا تعبدية ولا أخلاقية، بل كانت وصيةً طقسية بحتة. فهنا يكلم يهوه موسى وهارون قائلًا: «هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور. هو لكم أول شهور السنة. كلما جماعة إسرائيل قائلين في العاشر من هذا الشهر تأخذون كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء، شاة للبيت الواحد … تكون لكم شاة صحيحة ذكَرًا ابن سنة، ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر. ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية، ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلون فيها. ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويًّا بالنار مع فطير. لا تأكلوا منه نيئًا ولا طبيخًا مطبوخًا بماء، بل مشويًّا بالنار، رأسه مع أكارعه وجوفه، ولا تبقوا منه إلى الصباح، والباقي منه إلى الصباح تحرقونه بالنار. وهكذا تأكلونه: أحقاؤكم مشدودة وأحذيتكم في أرجلكم وعصيكم في أيديكم. وتأكلونه بعجلة. هو فصح للرب … وسبعة أيام تأكلون فطيرًا، اليوم الأول تعزلون الخمير من بيوتكم، فإن كل مَن أكل خميرًا من اليوم الأول إلى اليوم السابع، تقطع تلك النفس من إسرائيل» (الخروج ١٢: ١–١٥).

منذ أن خاطب الرب إبراهيم لأول مرةٍ في حاران وأمره بالتوجُّه من هناك إلى أرض كنعان، داوم على الاتصال به وبإسحاق ويعقوب من بعده على فترات قليلة ومتباعدة. وكان فحوى الخطاب في كل مرةٍ مقتصرًا على توكيد العهد أو تجديده أو التبشير بغلام في شيخوخة الأبوين، وما إلى ذلك، ولكنه لم يتقدم لأي منهم بوصيةٍ من أي نوع. أما خلال فترة الإقامة في مصر فقد نسي الرب بني إسرائيل مدةً تزيد عن الأربعمائة سنة، ثم تذكَّر فجأةً عهده مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأمر موسى بالعودة إلى مصر لتخليصهم من حياة العبودية. من هنا يأتي العجب أن تكون أول وصيةٍ يتقدم بها الرب لشعبه بعد هذا الزمن الطويل، وصية طقسية لا تحمل أية دلالةٍ أو معنى. فلماذا تؤخذ الشاة ذكرًا وابن سنة؟ ولماذا في العاشر من الشهر ويحتفظ بها حتى الرابع عشر منه؟ لماذا يتوجب عليهم أن يأكلوها مشويةً لا نيئة ولا مطبوخة؟ ولماذا يأكلونها وهم وقوفٌ وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم؟ ولماذا يأكلون خبزًا فطيرًا لا خميرًا مدة سبعة أيام؟ أسئلة لا يمكن الإجابة عليها إلا بالمقارنة مع لوائح التابو البدائية التي تكمن عند جذور وأصول الممارسة الدينية للإنسان. والأهم من ذلك كله أن هذه الوصية الطقسية الأولى التي استهل بها يهوه شريعته، قد ألحقت بها أول عقوبة قتل في الشريعة. وهذه العقوبة لم توضع على مَن يُخلُّ بنظام الجماعة ويهدد أمنها، ولا على مَن يتعدى حدود قاعدة أخلاقية، بل على مَن يأكل خبزًا خميرًا لا فطيرًا خلال أيام الفصح السبعة. إن أول نفس أُحلَّ قتلها في إسرائيل هي النفس التي تأكل الخمير لا الفطير: «فإن كل مَن أكل خميرًا من اليوم الأول إلى السابع تُقطع تلك النفس من إسرائيل» (الخروج ١٢: ١٠). وبذلك تعلن الشريعة الموسوية عن مضمونها وتوجهاتها منذ البداية، ويعلن يهوه عن مطلبه الرئيسي من عباده وهو: والخضوع وتأدية الطقوس وعدم تعدي حدود التابو. أما الأخلاق فثانوية، ويستطيع الآثمُ غسل ذنوبه وتجاوزاته الأخلاقية عن طريق أداء طقوسٍ معينة لا عن طريق الاعتراف بالذنب والتوبة النصوح.

إن معظم الخطايا والآثام ذات الآثار المدمرة على حياة الجماعة، مما يرتكبه الفرد يمكن غسله بسهولة، وذلك مثل السرقة واغتصاب مال الآخرين وجحد الأمانة واليمين الكاذبة. وما على المذنب إلا أن يأتي بذبيحة إثم إلى الكاهن ليحله من ذنوبه وآثامه أمام الرب الذي تقبل الذبيحة ويصفح عنه. عن مثل هذا نقرأ في سِفر اللاويين: «إذا أخطأ أحد وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه وديعة أو أمانة أو مسلوبًا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبًا على كل شيء من كل ما يفعله الإنسان مخطئًا به، يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشًا صحيحًا من الغنم ذبيحة إثم للكاهن، فيُكفِّر عنه الكاهن أمام الرب، فيصفح عنه في الشيء الذي فعله مذنبًا به» (اللاويين ٦: ١–٧). وإلى جانب هذا النوع من الطقوس التطهيرية الفردية هناك طقس جمعي يمكن بواسطته غسل ذنوب بني إسرائيل طرًّا، وهو طقس تيس الخطيئة، الذي يشرحه سِفر اللاويين ١٦ بالتفصيل. وهذه آخر فقراته: «ومتى فرغ من التكفير عن القدس وعن خيمة الاجتماع وعن المذبح، يقدم التيس الحي، ويضع هارون يده على رأس التيس ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد مَن يلاقيه إلى البرِّية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة» (اللاويين ١٦: ٢٠–٢٢).

إن كل خطايا بني إسرائيل يمكن غسلها بطقسٍ تطهيري بسيط. أما تجاوز قاعدة طقسية أو حدود تابو معين فيودي بحياة أكثر الناس تقوى على الفور. وهذا ما حدث لابنَي هارون أخي موسى، وكانا كهنةً للرب يخدمان تابوت العهد في مسكنه تحت خيمة الاجتماع: «وأخذ ابنا هارون كل منهما مجمرته وجعلا فيها نارًا، ووضعا عليها بخورًا وقرَّبا أمام الرب نارًا لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (اللاويين ١٠: ١-٢). وهذا ما حصل أيضًا للرجل الصالح عزة، عندما أمسك بتابوت العهد ليمنعه من السقوط عن المركبة بينما كان داود ينقله إلى أورشليم: «فأركبوا تابوت الله على عجلة جديدة وحملوه من بيت أبيناداب الذي في الأكمة. وكان عزة وأخيو؛ ابنا أبيناداب، يسوقان العجلة الجديدة … ولما انتهوا إلى بيدر ناحون، مد عزة يده إلى تابوت الله وأمسكه لأن الثيران انشمصت. فحمي غضب الرب على عزة وضربه الله هناك لأجل غفلة فمات. فاغتاظ داود لأن الرب اقتحم عزة اقتحامًا وسمى ذلك الموضع فارص عزة إلى هذا اليوم. وخاف داود من الرب في ذلك اليوم وقال كيف يأتي إليَّ تابوت الرب. ولم يشأ داود أن ينتقل تابوت الرب إليه، إلى مدينة داود» (صموئيل الثاني ٦: ٣–٩).

ونتابع في أسفار موسى الخمسة مئات ومئات من القواعد الطقسية وحدود التابو، التي يؤدي تجاوزها إلى الموت في كثير من الأحيان. فعدم غسل الكاهن ليديه ورجليه قبل أداء الطقوس يعرِّضه للموت: «فيغسل هارون وبنوه أيديهم وأرجلهم عند دخولهم إلى خيمة الاجتماع، أو عند اقترابهم إلى المذبح للخدمة ليوقدوا وقودًا للرب. يغسلون أيديهم وأرجلهم لئلَّا يموتوا» (الخروج ٣٠: ١٧–٢٠). كما أن ممارسة أي عمل في يوم السبت تستوجب الموت: «وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلةٍ مقدس للرب. كل مَن صنع عملًا في يوم السبت قتلًا يُقتل» (الخروج ٣١: ١٥). ومثل العمل في يوم السبت أيضًا، العمل في اليوم العاشر من الشهر السابع، فهو أمر يعاقب عليه الرب فورًا بالموت: «وأما العاشر من الشهر السابع فهو يوم الكفارة … وكل نفس تعمل عملًا ما في هذا اليوم عينه، أبيد تلك النفس من شعبها» (اللاويين ٢٣: ٢٧–٣٠). وفي غمرة هذا الفيض من الأوامر والتعليمات الطقسية وحدود التابو المفروضة، تضيع الوصايا العشر وبقية الأحكام الأخلاقية المبعثرة في خضم الأحكام غير المفهومة وغير المسوَّغة.

فإذا جئنا إلى أسفار الأنبياء التي رسمت أحيانًا صورةً شمولية لإله التوراة دون أن ترتقي به بالفعل إلى مرتبة الإله الأوحد المطلق، فإننا نجد تعديلًا في الموقف من الأخلاق يرجحها أحيانًا على الطقوس والعبادات. من ذلك مثلًا ما نقرؤه على لسان الرب في سِفر إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم. يقول الرب. أُتخمت من محرقات كباشٍ وشحم مسمنات … البخور هو مكرهة لي. رأس الشهر والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الإثم والاعتكاف. رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت عليَّ ثقلًا، مللت حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثَّرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دمًا. اغتسلوا، تنقَّوا. اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر، اطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة» (إشعيا ١: ١١–١٧). وأيضًا: «ومَن يذبح ثورًا هو قاتل إنسان. مَن يذبح شاة فهو ناحر كلب. مَن يُصعد تقْدِمة يُصعد دم خنزير. مَن أحرق بخورًا فهو مبارك وثنًا. بل هم اختاروا طرقهم وبمحرقاتهم سرت أنفسهم» (إشعيا ٦٦: ٣). ويسير النبي عاموس على خطى إشعيا في إعلائه للأخلاق فوق الطقوس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحييوا … بغضت كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدَّمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعدْ عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليجرِ الحق كالمياه، والبر كنهر دائم» (عاموس ٥: ١٤، ٢١: ٢٤). أما حزقيال فيجعل إله التوراة يصحح سلوكه السابق عندما كان يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، حيث يقول على لسان إلهه: «ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا، يقول السيد الرب. لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل … النفس التي تخطئ هي التي تموت … الابن لا يحمل من إثم الأب» (حزقيال ١٨: ٢–٤، ٢٠). وفي الحقيقة، فإن كل ما ينتقده هؤلاء الأنبياء من الطقوس التي يمارسها شعبهم قد نصَّت عليه الأسفار الخمسة، ويهوه الذي يضع هؤلاء على لسانه هذا النقد إنما يتنكَّر لماضيه.

إن عدم توصل إله التوراة إلى موقف متسق من مسألة الأخلاق، سواء فيما يتعلق بسلوكه الخاص أو بمطلبه الأساسي من شعبه، وما تبع ذلك من سيادة الطقس والتابو على ما سواه، قد جعل الشخصيات الرئيسية في الرواية التوراتية تسلك بدوافع من محاكماتها الآنية بعيدًا عن أي منظور أخلاقي واضح ومتكامل. وغالبًا ما جاءت أفعالها في تناقض تام مع أبسط القواعد الأخلاقية الراسخة في ضمير الإنسان، بصرف النظر عن ثقافته ومعتقده ودينه. لنتابع فيما يأتي سلوك هذه الشخصيات منذ أن تم خلق الزوجين الأولين في جنة عدنٍ.

لقد جعل المحررون التوارتيون المعصية والخروج على القاعدة، في بذرة التاريخ البشري. ولكي يتم تسهيل أول خروج على القاعدة، كان لابد من صياغة هذه القاعدة بطريقة تجعل الخروج عليها أمرًا محتمًا بالنسبة للطبيعة البشرية. فبعد أن خلق الرب الإنسان الأول وغرس من أجله جنةً في عدن شرقًا، خلق له امرأةً لتكون مؤنسًا له في ذلك المكان. وبعد ذلك بيَّن لهما أول تابو يقيد من حريتهما التي بدت تامةً لهما وغير منقوصة للوهلة الأولى، فقد كان باستطاعتهما أن يفعلا ما يشاءان في جنتهما ويأكلا من كل ثمرها إلا شجرة واحدة هي شجرة المعرفة. وبذلك عمل الرب على تسهيل المعصية الأولى والحض على ارتكابها عندما اشترع حدًّا غير مفهوم ولا مسوَّغ من وجهة النظر الإنسانية. وبعد المعصية الأولى جاءت الجريمة الأولى التي جعلت أيضًا في بذرة التاريخ البشري، عندما عمل الرب على زرع الحقد بين الإخوة وخلق المناخ الملائم لإتيان الجريمة البدئية، وذلك بتقبله لقربان هابيل من دون قربان قاين دون سببٍ مقنع، فكان أن قتل قاين أخاه، وتم التأسيس للتاريخ بالمعصية والخروج عن القاعدة أولًا، وبالجريمة ثانيًا. من هنا فلا عجب إن اتسم سلوك بقية الشخصيات التوراتية بالشذوذ والخروج عن المألوف.

ونحن إذا تتبَّعنا سير مختاري الرب في الرواية التوراتية حتى آخرها، طالعتنا مواقف وتصرفات لا تليق بإنسانٍ عادي، فما بالك بأولئك المختارين الذين رسم لهم الرب أدوارًا مهمة ومتميزة في حياة الجماعة. فهذا نوحٌ، الأب الثاني للبشرية بعد آدم، والذي جاء وصفه في الإصحاح السادس من سِفر التكوين على أنه الرجل البار والكامل، يتكشَّف عن سكير أخرق يعاقر الخمرة في خيمته ويتعرى من ثيابه فتنكشف عورته أمام أولاده (التكوين ٩: ٢٠–٢٤). وهذا لوطٌ ابن أخي الأب الأول إبراهيم يأخذ الخمرة من يد ابنتيه ويشرب حتى يفقد وعيه، فتقوم ابنته الكبرى وتضاجعه في الليلة الأولى، ثم تفعل أختها الصغرى الشيء نفسه في الليلة التالية، وتحمل الاثنتان من أبيهما. وينهي محرر السِّفر قصته هذه دون أي تعليق حيث يقول: «فحبلت ابنتا لوط من أبيهما فولدت البكر ابنًا ودعت اسمه موآب … والصغيرة أيضًا ولدت ابنًا ودعت اسمه ابن عمي» (التكوين ١٩: ٣٦–٣٨).

وعندما حصلت مجاعة في بلاد كنعان، ارتحل إبراهيم وزوجته سارة إلى مصر، وهناك كان الأب الأول للتاريخ التوراتي خائفًا على حياته أكثر من خوفه على عِرضه، فقال لسارة زوجته أن تقول إنها أخته حتى لا يُقتل بسببها؛ لأنها كانت جميلةً وربما رغب في الزواج منها أحد أشراف مصر، ولم يجد وسيلةً لذلك إلا بتدبير مكيدة لزوجها. وقد صحَّت توقعات إبراهيم؛ حيث لفت جمال المرأة نظر بعض المسئولين فأخذوها إلى بيت فرعون الذي ضمها إلى حريمه ودخل عليها، ثم أجزل العطاء لإبراهيم الذي كان راضيًا عن هذه المقايضة التي جعلت منه رجلًا غنيًّا لولا تدخل الرب الذي: «ضرب الفرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام. فدعا فرعون أبرام وقال له: ما هذا الذي صنعت بي، لماذا لم تخبرني أنها امرأتك، لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي؟ والآن هي ذي امرأتك خذها واذهب. فأوصى عليه فرعون رجالًا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له» (التكوين ١٢: ١٧–٢٠).

ثم يكرر إبراهيم الأمر نفسه عندما يأتي إلى مدينة جرار الفلسطينية حيث قال عن سارة إنها أخته. فيأخذها ملك المدينة المدعو أبيمالك. وهنا يتدخل الرب مرةً أخرى ويحذِّر الملك في الحلم من لمسه للمرأة لأنها متزوجة، ولم يكن الملك قد اقترب منها بعدُ مثلما فعل فرعون. فيردها إلى زوجها ويعنفه قائلًا: «ماذا فعلت بنا، وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت عليَّ وعلى مملكتي خطيئة عظيمة؟ فقال إبراهيم: إني قلت ليس في هذا الموضوع خوف الله البتة فيقتلوني لأجل امرأتي … فأخذ أبيمالك غنمًا وبقرًا وعبيدًا وإماء وأعطاها لإبراهيم وردَّ إليه سارة امرأته» (التكوين ٢٠: ١–١٤). وبذلك يتفوق أبيمالك أخلاقيًّا على إبراهيم لإحساسه بخطيئة الدخول على امرأة متزوجة، في الوقت الذي لم يرَ فيه إبراهيم مانعًا من دخول الرجال على امرأته خوفًا من خطرٍ متوهَّم على حياته أثبتت الأحداث اللاحقة عدم جدِّيته.

ويبدو أن رهاب الخوف من القتل كان من شيمة أسرة إبراهيم؛ لأن إسحاق ابنه قد فعل ما فعله أبوه من قبله. فقد هبط إسحاق وزوجته رفقة إلى مدينة جرار إثر مجاعة حلَّت بالأرض، وهناك قال عن زوجته أيضًا إنها أخته: «وسأله أهل المكان عن امرأته فقال: هي أختي؛ لأنه خاف أن يقول امرأتي؛ لعلَّ أهل المكان يقتلوني من أجل رفقة؛ لأنها كانت حسنة المنظر. وحدث بعد أن طالت الأيام له هناك أن أبيمالك ملِك الفلسطينيين أشرف من الكوَّة ونظر، وإذا إسحاق يلاعب رفقة امرأته. فدعا أبيمالك إسحاق وقال: إنما هي امرأتك فكيف قلت هي أختي؟! فقال إسحاق: لأني قلت لعلِّي أموت بسببها. فقال أبيمالك: ما هذا الذي صنعت بنا؟! لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبًا. فأوصى أبيمالك جميع الشعب قائلًا: الذي يمس هذا الرجل أو امرأته موتًا يموت» (التكوين ٢٦: ٣–١١).

ولقد ورث إسحاق عن أبيه إبراهيم العهد الإلهي من جملة ما ورث: «وظهر له الرب وقال … لك ولنسلك أُعطي جميع هذه البلاد، وأوفي بالقَسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك، وأُكثِّر من نسلك كنجوم السماء وأعطي نسلك جميع هذه البلاد، وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض» (التكوين ٢٦: ٤-٥). غير أن انتقال الميراث من إسحاق إلى أحد أولاده من بعده، لم يكن ليتمَّ بهذه البساطة والسهولة. فقد كان لإسحاق ولدان: الأول عيسو، وهو الابن الأكبر والوريث المادي والروحي، والثاني يعقوب، وهو الأصغر الذي صار فيما بعد يُدعى إسرائيل. وقد أحب إسحاق عيسو لأنه كان صيادًا. أما رفقة زوجته فقد أحبت يعقوب الذي كان قريبًا منها ولا يبرح الخيام: «وكان عيسو إنسانًا يعرف الصيد، إنسان البرِّية، ويعقوب إنسانًا كاملًا يسكن الخيام. فأحب إسحاق عيسو لأن في فمه صيدًا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب» (التكوين ٢٥: ٢٧-٢٨).

ولما كان عيسو هو الوريث الطبيعي لأملاك أبيه وللعهد الإلهي، خصوصًا بعد أن ينال بركة أبيه ورضاه. فقد عمد يعقوب وأمه إلى الحيلة والخداع من أجل تحويل حقوق الابن البكر إلى أخيه الصغير. ففي أحد الأيام رجع عيسو من رحلة صيدٍ طويلة وهو متعبٌ وجائع، فوجد يعقوب عند الخيام يطبخ حساء عدس أحمر، فطلب إليه أن يطعمه من طبيخه فأبى يعقوب، وطلب لقاء طبيخه أن يتنازل له عيسو عن جميع حقوق البكورية التي يتمتع بها الابن الأكبر في العائلة، فوافق عيسو في لحظة طيشٍ واستهتار وأكل من طبيخ أخيه: «وطبخ يعقوب طبيخًا، فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا، فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت؛ لذلك دُعي اسمه أدوم، فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو: ها أنا ماضٍ إلى الموت، فلماذا لي بكورية؟ فقال يعقوب احلف لي اليوم، فحلف له فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزًا وطبيخ عدس، فأكل وشرب وقام ومضى» (التكوين ٢٥: ٢٩–٣٤). وبانتقال حقوق البكورية إلى يعقوب يكون بنو إسرائيل قد اشتروا عهد الرب بطبخة عدسٍ، وخسرها بنو أدوم نسل عيسو.

ولكي تكتمل حقوق يعقوب في البكورية كان عليه أن يتلقَّى بركة أبيه قبل موته، باعتباره الابن الأكبر. وهنا تحتال رفقة على زوجها إسحاق الذي كلَّت عيناه عن النظر، فعندما دعا إسحاق ابنه الأكبر عيسو ليعطيه بركته، جاءت رفقة بابنها المفضَّل يعقوب ليأخذ بركة أبيه عوضًا عن عيسو، ووضعت على يديه وعنقه فروة جدي ليغدو ملمسه مشعرًا كملمس أخيه لأن يعقوب كان أملس البشرة: «فقال إسحاق ليعقوب تقدم لأجسك يا بني. أأنت هو ابني عيسو أم لا. فتقدم يعقوب إلى إسحاق أبيه فجسه وقال الصوت صوت يعقوب ولكنَّ اليدَين يدا عيسو، ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه فباركه» (التكوين: ٢٧: ١٨–٢٣).

ولكن الشكوك كانت تراود إسحاق بعد أن أعطى بركته، فعاد ليسأل ابنه عن هويته الحقيقية. وهنا يكذب يعقوب بملء فمه دون حياءٍ أو خجل بعد أن كذب بأفعاله: «وقال إسحاق: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو» (التكوين ٢٧: ٢٤). وبذلك استكمل أبو القبائل الإسرائيلية اغتصاب حق البكورية بالكذب بعد أن استلبه في لحظة ضعفٍ وغفلة من أخيه المتعب الجائع.

ويتعرض يعقوب بدوره لمكيدة من أولاده وهو في سن الشيخوخة. فقد أحب يعقوب ابنه الصغير يوسف أكثر من بقية إخوته لأنه كان ابن شيخوخته؛ الأمر الذي جلب على يوسف بغض وحسد إخوته. ومما زاد في بغضهم له أنه كان يقص على أهله أحلامًا يراها وتتنبأ بعلو مكانته وتفوقه على أخوته. ومنها الحلم الذي قال فيه: «إني حلمت حلمًا أيضًا. وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا ساجدة لي … فانتهره أبوه وقال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض؟! فحسده إخوته. أما أبوه فكتم الأمر. وبينما إخوة يوسف يرعون الغنم في مكانٍ بعيد، أرسله أبوه وراءهم ليستطلع أحوالهم وأحول القطيع. فلما رأوه قادمًا من بعيد، قال بعضهم لبعض: هو ذا صاحب الأحلام قادم، هلمُّوا نقتله فنرى ماذا تكون أحلامه. وعندما همُّوا بقتله قال لهم أخوهم رأوبين: ولا تسفكوا دمًا، اطرحوه في هذه البئر التي في البرِّية … فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه الملون وأخذوه وطرحوه في البئر. وأما البئر فكانت جافةً … فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسًا من المعزى وغمسوا القميص في الدم وأرسلوا القميص الملون وأحضروه إلى أبيهم وقالوا: وجدنا هذا، حقِّقْ، أقميص ابنك هو أم لا؟ فتحقق وقال: قميص ابني، وحش رديء أكله، افترس يوسف افتراسًا. فمزَّق يعقوب ثيابه وناح على ابنه أيامًا كثيرة» (التكوين: ٣٧). وبذلك تبتدي قصة الأسباط الاثني عشر من أولاد يعقوب/إسرائيل بالكراهية والبغض والقتل والكذب.

وقبل أن نتابع في رواية سِفر التكوين قصة يوسف وما جرى له في مصر بعد أن انتُشل من البئر وبيع عبدًا، سنتحدث عن يهوذا بن يعقوب الذي تُنتسب إليه قبيلة يهوذا، وكيف زنى بكنَّته وولدت له ابنين. وملخص القصة أن يهوذا هذا قد زوج ابنه الأكبر بفتاة اسمها تامار، ولكن الابن مات قبل أن تحمل منه زوجته. فأعطى يهوذا تامار زوجةً لابنه الثاني الذي ما لبث أن مات أيضًا. ولما كان ابنه الثالث قاصرًا، فقد أعاد يهوذا تامار إلى بيت أبيها ريثما يكبر الابن الثالث، ولكن الابن كبر ولم يعطه يهوذا تامار زوجةً. وبينما يهوذا في طريقه إلى بلدة تمنه لبعض أشغاله. خلعت تامار عنها ثياب ترمُّلها وتغطت ببرقع وجلست على جانب الطريق. ولما مر بها يهوذا ظنها زانية فطلب أن يدخل عليها. فقالت له: ماذا تعطيني إذا دخلت عليَّ؟ فقال: أعطيك جديًا من الماعز. فقالت: هل تعطيني رهنًا ريثما ترسل الجدي؟ قال: ما الرهن الذي أعطيك؟ قالت: خاتمك وعصاك التي في يدك وعصابة رأسك. فأعطاها ما طلبت ودخل عليها. ثم قامت وقد حبلت منه وعادت إلى بيتها. وعندما أرسل لها يهوذا الجدي لم يجدوها في المكان. وبعد ثلاثة أشهر قيل ليهوذا إن كنَّته تامار قد زنت وها هي حبلى. فقال يهوذا: أخرجوها فتُحرق، ولكن تامار أرسلت إلى حميِّها خاتمه وعصاه وعصابة رأسه وقالت إنها حامل من صاحبها. فعرف يهوذا أشياءه وبرأها من تهمة الزنى. فولدت له ابنين: الأول اسمه فارص والثاني اسمه زارح (التكوين: ٣٨). ومن فارص انتهت سلسلة نسب الزنى هذه إلى الملك داود: «وهذه مواليد فارص: فارص ولد حصرون، وحصرون ولد رام، ورام ولد عميناداب، وعميناداب ولد فحشون، وفحشون ولد سلمون، وسلمون ولد بوعز، وبوعز ولد عوبيد، وعوبيد ولد يسي. ويسي ولد داود» (راعوث ٤: ١٨–٢٢). وبعد ذلك يأتي مؤلفو الأناجيل ليتابعوا هذه السلسلة وصولًا إلى يسوع المسيح.

لقد رهن رأس سبط يهوذا خاتمه وعصاه وعصابة رأسه عند زانية لكي يدخل عليها، وعاد إلى بيته حاسر الرأس وخاسر الخُلق. ولم تكن الزانية إلا كنَّته وزوجة اثنين من أولاده المتوفيين على التوالي. ومن فارص ابن الزنى بالكنَّة يتسلسل داود مختار الرب، رغم أن الرب قد قال في سِفر التثنية (٢٣: ٢): «لا يدخل ابن زنًى في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر، ولا يدخل منه أحد في جماعة الرب.» وكما نستنتج من سلسلة النسب أعلاه، فإن داوود كان ينتمي إلى الجيل العاشر.

في سِفر الخروج يبتدئ موسى تاريخه بجريمة قتلٍ عمد لم يكن مضطرًّا إليها: «وحدث في تلك الأيام، لما كبر موسى، أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم فرأى رجلًا مصريًّا يضرب رجلًا عبرانيًّا من إخوته. فالتفت إلى هنا وهناك ورأى أن ليس أحد فقتل المصري وطمره في الرمل، ثم خرج في اليوم الثاني وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان، فقال للمذنب: لماذا تضرب أخاك؟ فقال: مَن جعلك رئيسًا وقاضيًا علينا؟ أمفتكر أنت بقتلي كما قتلت المصري؟ فخاف موسى وقال: حقًّا قد عُرف الأمر. فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يُقتل موسى فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان» (الخروج ٢: ١١–١٥). وقبل أن يخرج موسى بجماعته من مصر حضَّهم على استغلال ثقة جيرانهم المصريين وسرقتهم تحت ذريعة الإعارة المؤقتة. وقد شارك الرب في عملية السرقة هذه عندما زين للمصريين أن يعيروا لبني إسرائيل ما طلبوا: «وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضةٍ وأمتعة ذهبٍ وثيابًا. وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين» (الخروج ١٢: ٣٤–٣٦). أما عن الجرائم الجماعية وقتل الأطفال بالجملة، مما ارتكبه موسى في حملاته الحربية، فقد ذكرناها في مكان آخر من هذا البحث، وهي الجرائم التي بزَّه فيها تلميذه يشوع الذي استلم القيادة بعد وفاته: «وكانت أريحا مقفلة مغلقة بسبب بني إسرائيل لا أحد يخرج ولا أحد يدخل فقال الرب ليشوع انظر قد دفعت بيدك أريحا … فسقط السور في مكانه وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة وحرَّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، بحد السيف» (يشوع ٦: ١–٢١). وتعبير «حرَّموا» الوارد في هذا المقطع يعني اتبعوا مبدأ «التحريم» وهو بالمصطلح التوراتي القتل من أجل مرضاة الرب وتقديم الأنفس المقتولة قربانًا له.

في سِفر القضاة الذي يصف حالة القبائل الإسرائيلية بعد دخولها إلى بلاد كنعان، ومحاولة كل قبيلة إيجاد موطئ قدم لها في تلك الأرض ذات الثقافة العريقة والمدن القوية الحصينة، سوف أتوقف عند شخصيتين من قضاة بني إسرائيل الذين كانوا بمثابة الحكام القبليين خلال تلك الفترة التي سبقت تشكيل المملكة الموحدة المفترضة لكل إسرائيل. وهاتان الشخصيتان هما يفتاح الجلعادي وشمشون. كان يفتاح واحدًا من أهم شخصيات سِفر القضاة. وقد نشأ منبوذًا من قومه لأنه كان ابن عاهرة. وعندما شبَّ عن الطوق صار رئيس عصابةٍ من الأفَّاقين وقاطعي الطرق. ولما تضايق قومه من العمونيين الذين بغوا عليهم ولم يجدوا بينهم مَن هو أهلٌ للقيادة، جاءوا إلى ابن الزنى وقاطع الطرق يطلبون عونه على أعدائهم، فاشترط يفتاح لقاء ذلك أن يُرئسوه عليهم ويعطوه منصب القضاء، فوافقوا: «ولما حارب بنو عمون إسرائيل، ذهب شيوخ جلعاد وقالوا ليفتاح تعالَ وكن لنا قائدًا فنحارب بني عمون، فقال يفتاح لشيوخ جلعاد: أما أبغضتموني، أنتم وطردتموني من بيت أبي، فلماذا أتيتم إليَّ الآن إذ تضايقتم؟ … فذهب يفتاح مع شيوخ جلعاد وجعله الشعب عليهم رأسًا» (القضاة ١١: ٥–١١). ولكي يعينه الرب على أعدائه نذر له أضحية بشرية. وقد أوردنا قصة هذه الأضحية في مكانٍ سابق من هذا البحث.

أما شمشون فقد كان قاضيًا في إسرائيل مدة عشرين سنة (القضاة ١٦: ٣١)، أوكل له الرب مهمة إنقاذ بني إسرائيل من الفلسطينيين الذين اضطهدوهم مدةً طويلة، وجعله نذيرًا له فيهم: «وكان رجل من صرعة اسمه منوح وامرأته عاقر لم تلد. فتراءى ملاك الرب للمرأة وقال لها … ها أنت تحبلين وتلدين ابنًا، ولا يعلُ موسى رأسه؛ لأن الصبي يكون نذيرًا لله من البطن، وهو يبدأ يخلِّص إسرائيل من يد الفلسطينيين» (القضاة ١٣: ١–٥).

اشتهر شمشون بقوَّته البدنية الخارقة، فكان يقتل الأسود بيديه العاريتين ويصرع منفردًا في كل انقضاض له على الأعداء ألف رجل. غير أن أول أعمال هذا المخلِّص والنذير كان زواجه من امرأة فلسطينية من أعداء قومه، وهو لم ينقلب على هؤلاء إلا لثأرٍ شخصي وبعد أن منعه أهل زوجته عنها وزوجوها لشخص آخر: «وكان بعد مدة في أيام الحصاد أن شمشون افتقد امرأته بجدي معزى، وقال ادخل إلى امرأتي إلى حجرتها، ولكن أباها لم يدعه أن يدخل، وقال أبوها: إني قلت إنك قد كرهتها فأعطيتها لصاحبك. أليست أختها الصغيرة أحسن منها، فلتكن لك عوضًا عنها. فقال لهم شمشون: إني بريء الآن من الفلسطينيين إذا عملت لهم شرًّا» (القضاة ١٥: ١–٣).

بعد هذه الحادثة يبدأ شمشون حربه الطويلة ضد الفلسطينيين، ولكنها حربٌ بلا جنود أو معدات، قوامها شمشون الذي يقاتل منفردًا على طريقة العصابات مستخدمًا قوته وحيلته، وجماعات الفلسطينيين الذين كان يفاجئهم في الأمكنة والأوقات غير المتوقعة، فيقتل منهم الآلاف. وعندما أزعجت نشاطات شمشون الفلسطينيين استعانوا عليه بقومه أنفسهم: «فنزل ثلاثة آلاف رجل من يهوذا إلى شق صخرة عيطم، حيث كان يقيم شمشون، وقالوا لشمشون: أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا؟ فماذا فعلت بنا؟ فقال لهم: كما فعلوا بي هكذا أفعل. فقالوا له نزلنا لكي نوثقك ونُسلمك إلى أيدي الفلسطينيين. فأوثقوه بحبلين جديدين وأصعدوه من الصخرة. ولما جاء إلى موضع لحي، صاح الفلسطينيون للقائه، فحل عليه روح الرب فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككتَّان أُحرق بالنار، فانحل الوثاق عن يديه» (القضاة ١٥: ٩–١٤). نفهم من الحوار الذي دار بين شمشون وجماعة يهوذا في هذا المقطع أن شمشون لم يكن يحارب الفلسطينيين نيابةً عن قومه، بل لما فعلوه به، وأن قومه لم يروا فيه إلا رجل عصاباتٍ متمردًا يجب وضْع حدٍّ لأعماله التي لا تجدي نفعًا بل تجلب لهم المزيد من اضطهاد الأعداء. بعد ذلك، نجد رجل الله هذا، المنذور لتخليص إسرائيل، يقضي لياليه في بيوت العاهرات: «ثم ذهب شمشون إلى غزة ورأى هناك امرأةً زانية فدخل إليها» (القضاة ١٦: ١). إلى أن أوصلته واحدة من الزانيات إلى حتفه، وكان اسمها دليلة. فدفعته إلى يد أعدائه مقابل حفنة من الشيكلات (القضاة ١٦: ٤–٣١).

هذا عن أخلاق قضاة بني إسرائيل. أما عن الأخلاق العامة للإسرائيليين في عصر القضاة، فلدينا حادثةٌ تُظهر عدم تقيد هؤلاء في سلوكهم الجمعي المعلن بأبسط القواعد التي نصَّت عليها الشريعة. تقول الوصية الواردة في سِفر اللاويين (١٨: ٢٣): «ولا تضاجع ذكَرًا مضاجعة امرأة؛ إنه رجس.» وتكملها القاعدة التشريعية في اللاويين (٢٠: ٣١) التي تقر عقوبة مَن يخالف تلك الوصية: «وإذا اضطجع رجل مع ذكرٍ اضطجاع امرأة فقد فعلا، كلاهما، رجسًا. إنهما يُقتلان.» ورغم ذلك فقد كان ذكور سبط بنيامين لوطيين يصطادون المسافرين الأغراب ويعتدون عليهم بالإكراه. وهذا ما تحدثنا عنه قصة الرجل اللاوي وسريته عندما مر في بلدة جبعة التي للبنيامنيين: «وغابت لهم الشمس عند جبعة التي لبنيامين، فمالوا إلى هناك لكي يدخلوا ويبيتوا في جبعة … وإذا برجل شيخ جاء من الحقل عند المساء … فرفع عينيه ورأى الرجل المسافر في ساحة المدينة … وجاء به إلى بيته فغسلوا أرجلهم وأكلوا وشربوا. وفيما هم يطيبون قلوبًا وإذا برجال المدينة أحاطوا بالبيت قارعين الباب، وكلموا الرجل صاحب البيت قائلين أَخرج الرجل الذي دخل بيتك فنعرفه (وكلمة نعرفه بالمصطلح التوراتي تعني نضاجعه). فخرج إليهم الرجل صاحب البيت وقال لهم: لا يا إخوتي لا تفعلوا شرًّا بعدما دخل هذا الرجل بيتي، لا تفعلوا هذه القباحة. هي ذي ابنتي العذراء وسريتي دعوني أخرجهما فأذلوهما (والتعبير هنا يعني أيضًا ضاجعوهما) وافعلوا لهما ما يحسن في أعينكم، وأما هذا الرجل فلا تعملوا به هذا الأمر القبيح. فلم يُرد الرجال أن يسمعوا له. فأمسك الرجل سريته وأخرجها إليهم فعرفوها وتعللوا بها الليل كله إلى الصباح وعند طلوع الفجر أطلقوها. فجاءت المرأة عند إقبال الصباح وسقطت عند الباب حيث سيدها، إلى الضوء. فقام سيدها في الصباح وفتح أبواب البيت وخرج للذهاب في طريقه وإذا بالمرأة سريته ساقطة على باب البيت ويداها على العتبة. فقال لها: قومي نذهب، فلم يكن مجيب، فأخذها على الحمار، وقام الرجل وذهب إلى مكانه ودخل بيته وأخذ السكين وأمسك سريته وقطعها مع عظامها إلى اثنتي عشرة قطعةً وأرسلها إلى جميع تخوم إسرائيل» (القضاة ١٩: ١٤–٣٠).

ننتقل الآن إلى أسفار صموئيل ١ و٢ والملوك الأول، وهي الأسفار التي تقص عن تأسيس مملكة إسرائيل، لنستقصي أخلاق أولئك الملوك الأوائل أو مُسحاء الرب بالتعبير التوراتي.

كان صموئيل آخر قضاة بني إسرائيل. وعندما شاخ ولم يعد قادرًا على متابعة مهام القضاء، جاءه شيوخ إسرائيل وطلبوا منه تعيين ملك عليهم أسوة ببقية الشعوب: «فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولونه لك وملِّك عليهم ملكًا.» ثم دله على الفتى شاؤل وأمره أن يمسحه ملكًا على إسرائيل، ففعل. قاتل شاؤل أعداء بني إسرائيل شرقًا وغربًا وأفلح في كل معاركه (صموئيل الأول: ١٤: ١٤)، ولكن الرب غضب عليه لمخالفته أمره بتحريم شعب العماليق؛ أي إفنائهم عن آخرهم قربانًا للرب: «وقال صموئيل لشاؤل: إياي أرسل الرب لمسحك ملكًا على شعبه إسرائيل. فالآن اسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود … اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا … فضرب شاؤل عماليق، وأمسك بأجاج ملك عماليق حيًّا، وحرم الشعب بحد السيف. وعفا شاؤل والشعب عن أجاج وعن خيار الغنم والبقر والخراف وعن كل الجيد، ولم يرضوا أن يحرِّموها. وكل الأملاك المحتقرة والمهزولة حرَّموها» (صموئيل الأول ١٥: ٣–٩). عند ذلك أمر الرب صموئيل أن يمسح ملكًا آخر بدلًا من شاؤل، ودلَّه على الفتى داود الذي كان حامل أسلحة شاؤل. ففعل صموئيل ذلك سرًّا، وشاؤل لا يعلم (صموئيل الأول: ١٦)، وهنا تبدأ قصة داود.

يعلو شأن داود في عين الجيش والشعب بعد قتله للعملاق الفلسطيني جليات في نزالٍ منفرد، استخدم فيه داود مقلاع الراعي ضد الفارس الفلسطيني المدرع والمدجج بالسلاح؛ الأمر الذي زرع الغيرة في قلب شاؤل فطلب قتل الفتى، ولكن داود يهرب من وجهه ويختبئ. ولما كان شاؤل متقلب المزاج لأن روحًا رديئة قد تملكه بعد أن غضب عليه الرب، فقد كان يرضى عن داود فيعود إليه ثم يطلب قتله ثانيةً فيهرب. وفي أثناء ذلك زوجه بابنته ميكال لقاء مهرٍ مقداره مائة قتيل فلسطيني. فأفلح داود وقدَّم المهر لشاؤل بعد أن ظن شاؤل أن داود مائت لا محالة في مهمته. وأخيرًا يقرر داود الانفصال نهائيًّا عن شاؤل، فيُودع أهله عند ملك موآب ثم يلجأ إلى الفلسطينيين أعداء قومه، ومعه مئات من أتباعه الذين انشقُّوا عن الملك شاؤل. دخل داود على أخيش ملك مدينة جت ورأس التحالف الفلسطيني، فاستقبله أحسن استقبالٍ وأسكنه وجماعته في بلدة صقلع القريبة. ومن هناك تابع داود شن غزواته ولكن لصالح الفلسطينيين هذه المرة، وتحوَّل إلى زعيم مرتزقة تعيث الفساد في أراضي خصوم ملك جت وحلفائه (صموئيل الأول ١٦–٢٧). وعندما جمع الفلسطينيون جيوشهم وتوجهوا للمعركة الفاصلة التي قُتل فيها شاؤل وأولاده، صعد إليهم داود وعرض عليهم أن يسير برجاله معهم لقتال بني جلدته، فوافق أخيش ملك جت. أما بقية أقطاب الفلسطينيين السائرين معه فرفضوا خوفًا من انقلاب داود عليهم (صموئيل الأول ٢٩). ولما جاءه خبر موت شاؤل: «أصعد داود رجاله الذين معه كل واحد وبيته وسكنوا في مدن حبرون. وأتى رجال يهوذا ومسحوا داود ملكًا على بيت يهوذا» (صموئيل الثاني ٢: ٣-٤). وبعد حرب طويلة مع القبائل الشمالية التي صارت الآن تُدعى إسرائيل تمييزًا لها عن يهوذا، وموت ملك إسرائيل أشبوشيت بن شاؤل: «جاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك في حبرون. فقطع الملك داود معهم عهدًا في حبرون أمام الرب ومسحوا داود ملكًا على إسرائيل» (صموئيل الثاني ٥: ٣). هذه كانت سلوكيات داود في فتوته وشبابه فكيف كانت بعد أن صار ملكًا ووحَّد جميع القبال في المملكة الموحدة المزعومة، وكيف كانت أخلاق أهل بيته؟

عندما كانت جيوش المملكة تحاصر مدينة ربة عمون في شرقي الأردن، تحت قيادة يوآب القائد الأعلى لداود، كان الملك في أورشليم مستسلمًا لحياة الرغد بين العديد من زوجاته. وفي إحدى الأمسيات كان داود يتمشَّى على سطح بيته فرأى امرأةً جميلة تستحم في البيت المقابل، فراقت له فسأل عنها فقيل له إنها بتشيع امرأة أوريا الحثي، وكان أوريا جنديًّا يحارب في الجيش الذي يحاصر مدينة العمونيين. فأرسل داود رسلًا وأخذها فدخلت عليه واضطجع معها ثم أعادها إلى بيتها (صموئيل الثاني ١١: ١–٤). وبذلك ينتهك مسيح الرب داود الوصية الخامسة من الوصايا العشر: لا تزنِ. كما أنه يدير ظهرًا للبند التشريعي الوارد في سِفر التثنية: «إذا وجد رجل مضطجعًا مع امرأة زوجة بعل، يُقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل» (التثنية ٢٢: ٢٢). وعندما حبلت المرأة من داود أرسلت وأخبرته. فكتب داود إلى قائد يوآب أن يبعث إليه بأوريا. وعندما مثُل أوريا بين يديه سأله عن أحوال الجيش وسير العمليات القتالية، ثم طلب إليه أن يذهب إلى بيته ليغتسل ويستريح. فخرج أوريا وجلس عند باب بيت الملك ونام هناك مع الحرس بدل أن يذهب إلى بيته. وفي الصباح عندما علم داود بالأمر سأل أوريا عن سبب مكوثه على الباب. فقال له بأنه لا يستطيع أن ينام مرتاحًا في فراشه بينما رفاقه وقادتهم يفترشون الأرض وينامون تحت الخيام. فماذا كانت مكافأة داود لهذا الجندي المخلص الغيور؟ لقد دعاه في المساء إلى مائدة عامرة فأكل وشرب معه، وفي اليوم التالي أطلقه إلى القائد يوآب وبيده رسالة تقول: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت … فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له امرأةً وولدت له ابنًا» (صموئيل الثاني: الإصحاح الحادي عشر). وبذلك خالف داود الوصية الرابعة من الوصايا العشر: لا تقتل. كما خالف بسلوكه المشين هذا أبسط نوازع الخُلق والضمير التي لا تتطلب وصايا سماوية تُذكِّر بها.

أما عن أخلاق بيت داود فنجد نموذجًا عنها في حادثتين، الأولى حادثة سِفاح بيت ابن داود المدعو أمنون وأخته غير الشقيقة المدعوة تامار. والحادثة الثانية تمرد أبشالوم بن داود ومحاولته قتل أبيه للاستئثار بالسلطة.

اشتهي أمنون أخته تامار ولم يجد إلى وصالها سبيلًا، وأسقمه حب أخته حتى هزل ومرض. فجاءه ابن عمٍّ له يُدعى بوناداب، ويصفه النص التوارتي بأنه رجل حكيم جدًّا، فصمم له حيلة توصل أخته إلى مضجعه: «وكان يوناداب رجلًا حكيمًا جدًّا. فقال له: لماذا يابن الملك أنت ضعيف هكذا، أما تخبرني؟ فقال له أمنون: إني أحب أخت أبشالوم أخي. فقال يوناداب اضطجع في سريرك وتمارض، وإذا جاء أبوك ليراك فقل له دع تامار أختي فتأتي وتطعمني خبزًا وتعمل أمامي طعامًا فآكل من يدها. فاضطجع أمنون وتمارض … إلخ.» وتسير الخطة كما يشتهي أمنون، فتأتي تامار إلى سريره فيمسك بها ويعتدي عليها: «فجعلت تامار رمادًا على رأسها ومزقت الثوب الملون الذي عليها ووضعت يدها على رأسها وكانت تذهب صارخةً. فقال لها أبشالوم أخوها هل كان أمنون أخوك معك؟ فالآن يا أختي اسكتي. أخوك هو» (صموئيل الثاني ١٣: ١–٢٠).

وبذلك انتهك ابن مسيح الرب القاعدة التشريعية الواردة في سِفر اللاويين: «وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتها ورأت هي عورته، ذلك عارٌ. يُقطَّعان أمام أعين بني شعبهما» (اللاويين ٢٠: ١٧). أما داود، فبدلًا من أن يحترم شريعة الرب ويقيم الحد على ابنه فقد تغاضى عن إثمه ولم يحرك ساكنًا: «ولما سمع داود بجميع هذه الأمور اغتاظ جدًّا. ولم يكلم أمنون بخيرٍ أو بشرٍّ» (صموئيل الثاني ١٣: ٢١). أما أبشالوم أخو تامار فقد كتم الشر في نفسه مؤقتًا وراح يتربص بأخيه أمنون ليقتله. وبعد مدة دعا أبشالوم إخوته أولاد داود إلى وليمةٍ وبينهم أمنون، وأوصى غلمانه أن يضربوا أمنون بحد السيف بعد أن تلعب الخمرة برأسه: «ففعل غلمان أبشالوم بأمنون كما أمر، فقام جميع بني الملك وركبوا كل واحد على بغله وهربوا» (صموئيل الثاني ١٣: ٢٣–٢٩). أما أبشالوم فقد توارى عن الأنظار ريثما يتعزى داود عن ابنه القتيل.

وكان أبشالوم صاحب مطامح؛ فصار يستميل الناس إليه ويجلس للقضاء بينهم قبل وصولهم إلى باب الملك، فأحبه الشعب ومالوا إليه. وعندما أحس أن الوقت قد حان للانقلاب على أبيه أقام في حبرون وأعلن نفسه ملكًا. فخاف داود وقال «لجميع عبيده الذين معه في أورشليم: قوموا بنا نهرب لأنه ليس لنا نجاةٌ من وجه أبشالوم، وأسرعوا للذهاب لئلا يبادرنا ويدركنا ويُنزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف. فخرج الملك وجميع بيته وراءه، وترك الملك عشر نساء سراري لحفظ البيت» (صموئيل الثاني ١٥: ١–١٦). وكان داود يمشي حافيًا وهو يبكي وجميع مَن معه كذلك، حتى وصل نهر الأردن فعبروه إلى الجهة الأخرى وعسكروا هناك. أما أبشالوم فقد دخل أورشليم ونام مع سراري أبيه ليقطع آخر حبل مودةٍ بينهما، ويعرف كل مَن سانده في تمرده أن الكراهية بينهما لن تزول فتقوى قلوبهم على المُضي معه. وبعد ذلك جمع جيشه وتعقَّب داود أباه لكي يقتله، وعبر الأردن حيث عسكر في جلعاد. وهنا وجد داود أن المواجهة قد غدت محتومةً فتجهز للحرب وقسَّم جيشه إلى ثلاث فرق وعيَّن على كل فرقة قائدًا. وكان القتال في وعر أفرايم فانكسر هناك جيش أبشالوم. وفيما أبشالوم يحاول الفرار علق بأغصان شجرة بطم، فمال إليه يوآب قائد داود وضربه بثلاثة سهامٍ فمات. (صموئيل الثاني: ١٥: ١٨).

أما سليمان بن داود الملقب بالحكيم، والذي يقول عنه النص: «وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر» (الملوك الأول ٤: ٣٠–٣٤). والذي قال له الرب: «أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميزًا، حتى أنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظير» (الملوك الأول ١٣: ٣). فقد كان أول عمل قام به بعد مسحه ملكًا هو قتل أخيه أدونيا الذي كان يُعد نفسه لخلافة داود، وقتل قائد جيوش داود المخلص يوآب الذي وقف إلى جانب أدونيا. فلقد بدا أدونيا يدعو لنفسه عندما أقعدت الشيخوخة داود عن ممارسة مهام الحكم فراح يتدفأ في أحضان العذارى من برداء الشيخوخة: «وشاخ الملك داود وتقدَّم في الأيام. وكانوا يدثرونه بالثياب فلم يدفأ. فقال له عبيده: لتفتشوا لسيدنا الملك عن فتاة عذراء لتقف أمام الملك وتكون له حاضنة. ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك. ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل فوجدوا أبيشج الشونمية، فجاءوا بها إلى الملك وكانت الفتاة جميلة جدًّا، فكانت حاضنةً للملك» (الملوك الأول ١: ١–٤).

ولما كان أدونيا أحق أولاد داود بالخلافة فقد غضَّ أبوه الطرف عن نشاطاته، فأعد لنفسه عجلات وفرسانًا وخمسين رجلًا يجرون أمامه كلما خرج، وأعانه في ذلك أبيثار الكاهن ويوآب القائد، ولكن بتشبع آخر زوجات داود وأكثرهن قربًا إلى قلبه دخلت على الملك وهو معتكفٌ مع الفتاة العذراء التي تدفئه، ومعها ناتان النبي، وانتزعت منه اعترافًا بتمليك سليمان ابنها خلفًا له. في ذلك الوقت كان أدونيا يقيم وليمة لأنصاره فسمعوا صوت أبواق وضجيج وهتاف، وجاء مَن يخبرهم بأن سليمان قد مَلك. فلم يقاوم أدونيا مشيئة أبيه ولم يخاصم أخاه، بل انطلق لفوره إلى خيمة الرب وتمسك بقرون المعبد اتقاءً من بطش أخيه، وأرسل إلى سليمان أن يحلف له بأنه لا يمسه بسوء. فأرسل سليمان فأنزلوه عن المذبح فأتى وسجد أمامه، فقال له: اذهب إلى بيتك (الملوك الأول ١: ٦–٢٣)، ولكن سليمان كان ينتظر موت أبيه ليتسنَّى له البطش بأخيه. وعندما مات داود، أرسل سليمان قائده بنياهو بن يهوداع لقتل أدونيا، فجاء إليه في بيته وضربه بالسيف فمات. ولما سمع يوآب بالخبر التجأ إلى خيمة الرب وتمسك بقرون المذبح: «فأرسل سليمان بنياهو قائلًا: اذهب ابطش به. فدخل بنياهو إلى خيمة الرب وقال له: هكذا يقول الملك اخرج. فقال: كلا ولكنني هنا أموت. فردَّ بنياهو الجواب على الملك. فقال له الملك: افعل كما تكلم وابطش به وادفنه … فصعد بنياهو وضرب يوآب بالسيف وهو في خيمة الرب متمسكًا بقرون المذبح» (الملوك الأول ٢: ٢٨–٣٤).

بعد ذلك يستسلم سليمان لحياة اللهو والترف وينسى إلهه الذي بنى له الهيكل في أروشليم: «وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم وهم لا يدخلون إليكم … وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري. فأمالت نساؤه قلبه وراء آلهة أخرى. فذهب سليمان وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه» (الملوك الأول ١١: ٤–٨). ولهذا مزَّق الرب مملكته بعد وفاته فانقسمت إلى مملكتين متناحرتين، هما مملكة إسرائيل بأسباطها العشرة ومملكة يهوذا التي تبعها سبط يهوذا وسبط بنيامين.

خاتمة

لقد استعرضنا فيما سبق جانبًا من سير حياة وسلوك أهم الشخصيات التي دارت حولها أحداث الرواية التوراتية، وصولًا إلى ذروتها في تشكيل المملكة الموحدة لكل إسرائيل. وذلك لغرض الكشف عن المعايير الخُلقية التي كانت تحرك سلوك هذه الشخصيات، ومن ورائها سلوك أتباعها الذين كانوا يرون في قادتهم الروحيين والسياسيين القدوة التي يجب احتذاؤها. ذلك أن الأخلاق في مجتمعٍ ما ليست وصايا مطبوعة على الورق، بل هي سلوكٌ عملي وعلاقات متبادلة. والمؤمن الذي يرى في التوراة وحيًا من الرب لا ينظر كثيرًا إلى الوصايا النظرية، بل إلى تلك الوصايا بالطريقة التي فهِمها أُولو الأمر من مختاري الرب وطبقوها في سلوكهم اليومي.

١  لقد عالجت هذا الموضوع بإفاضة وتفصيل في مؤلفي: آرام دمشق وإسرائيل، في التاريخ والتاريخ التوراتي. ويمكن لمَن يود التوسع في المسألة الرجوع إليه.
٢  إن دويلة إسرائيل التي صارت معروفة لنا الآن تاريخيًّا وآثاريًّا، أكثر من أي وقت مضى، هي غير إسرائيل التوراتية. لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة، راجع البحث الأخير من هذا الكتاب. ولمَن يود التوسع أكثر، مراجعة مؤلفي المذكور آرام دمشق وإسرائيل.
٣  لقد أوضحنا من خلال دراسة الوثائق الكتابية في الفصل الثامن من هذا الكتاب تحت عنوان: مقدمات التوحيد وأن هذه المقدمات لا تنتمي إلى التوراة وإنما إلى ثقافة الشرق القديم.
٤  انظر النص الكامل ومراجعه في مؤلفي: جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة، الفصل ٣، ما بين الأقواس في السطر الرابع أعلاه تالف. وقد ملأتها اجتهادًا.
٥  انظر المرجع السابق، اللوح الحادي عشر من الملحمة البابلية.
٦  أنيس فريحة: أوغاريت، دار النهار، بيروت، ١٩٨٠م.
٧  على أبو عساف: نصوص أوغاريت وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٨٨م، ص٩٦-٩٧، أنبيس فريحة: أوغاريت: دار النهار، بيروت، ١٩٨٠م، ص١١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥