(١١) السياق التاريخي لنشوء الدين اليهودي١
ينشأ كل دينٍ في سياق تاريخي معين، وتحت شروط تاريخية معينة ثم تأخذ معتقدات هذا الدين وطقوسه وأساطيره بالتطور والتغير والتبدل، إلى أن تكتسب صيغتها الأخيرة التي لا تبدي استجابة للتغيير إلا في حدود الاجتهادات التي تطال المظهر من دون الجوهر. من هنا، فإن فهم أي دينٍ مرتبطٌ إلى هذا الحد أو ذاك بفهم الشروط التاريخية التي أحاطت بولادته ونشأته، وبتطوره. وتغدو هذه المسألة أكثر حيويةً وأهمية في دراستنا للدين اليهودي، وذلك بسبب الصلة الوثيقة التي يعتقدها اللاهوت اليهودي بين هذا الدين وتاريخ شعبٍ معين هو «شعب إسرائيل». وقد صارت هذه الصلة إلى درجة من القوة بحيث لا يستطيع الباحث أن يميز بين الدين والتاريخ، لأن التاريخ هنا لم يعد سوى المسرح الذي تتجلى فيه مقاصد الإرادة الإلهية، من خلال علاقة الرب بشعبه المختار إسرائيل. لهذا السبب، فإن دارس الدين اليهودي يجد نفسه وقد تحوَّل إلى دراسة التاريخ، لأن الرسالة الروحية في كتاب التوراة، كما يقدِّمها محرروه، تتكشَّف عبر فترة زمنية تمتد ما مقداره ١٣٠٠ سنة. ومن خلال شخصيات روحية وسياسية كثيرة، تبدأ بإبراهيم حوالي عام ١٨٠٠ق.م.، وتنتهي بعزرا الكاهن حوالي عام ٥٠٠ق.م.
ولكن، إلى أي حدٍّ تَكتسب الرواية التوراتية مصداقية تاريخية؟ وإلى أي حدٍّ نستطيع الوثوق بالمخطط التاريخي العام لتكشُّف الرسالة الروحية في التوراة كما رسمه لنا محرروه؟ وإلى أي حدٍّ نستطيع عقد صلة حقيقية بين تطور الدين اليهودي وتاريخ شعبٍ معين اسمه إسرائيل؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه عبر هذه الدراسة القصيرة والمكثفة، لنصل أخيرًا إلى الإجابة على السؤال الأساسي المتعلق بالسياق التاريخي الحقيقي لنشوء الدين اليهودي.
حتى وقت قريب، كان الباحثون التوراتيون والمؤرخون على حدٍّ سواء مقتنعين، إلى هذا الحد أو ذاك، بالطابع التاريخي للرواية التوراتية، وبالصلة العضوية بين الديانة اليهودية وتاريخ شعب إسرائيل كما ترسمه هذه الرواية. غير أن المعلومات التاريخية والآثارية التي توفَّرت بين أيدي الباحثين خلال الربع الأخير من القرن العشرين، قد قادت العديد من المؤرخين الجدد في الغرب إلى الفصل بين الصورة التاريخية لإسرائيل القديمة وصورتها التوراتية؛ وبالتالي إلى الفصل بين تشكُّل الديانة اليهودية وذلك التاريخ المفترض لشعب إسرائيل. كما قام بعض هؤلاء المتحررين من سلطة الأيديولوجيا التوراتية بكتابة تاريخ فلسطين وتاريخ إسرائيل القديمة، بمعزلٍ عن النص التوراتي الذي فقد لديهم كل مصداقية تاريخية. وبذلك، فقد بدأ كتاب التوراة يتحول من مصدر رئيسي لكتابة تاريخ فلسطين إلى ناتج من نواتج ذلك التاريخ، وإلى تركة أدبية تتطلب، هي نفسها، التفسير والتعليل.
وفيما بين أقصى يمين الاتجاه المحافظ الذي تمثله مدرسة أولبرايت وأقصى يسار الاتجاه التحرري للمؤرخين الجدد، تندرج مواقف بقية الباحثين؛ فهنالك فريقٌ يرفض الأساس التاريخي للأسفار الخمسة (والتي تتضمن قصص الآباء وقصة الخروج من مصر والإقامة المؤقتة في شرقي الأردن). ويبحث عن التاريخ في الحدث التوراتي ابتداءً من سِفر يشوع وسِفر القضاة، اللذَين يقصان عن الاقتحام العسكري لأرض كنعان من قِبل القبائل الإسرائيلية، واستقرارها بعد ذلك في الأرض المكتسبة. وهنالك فريقٌ يرفض الأساس التاريخي لسِفرَي يشوع والقضاة، ويبحث عن التاريخ في الحدث التوراتي ابتداءً من عصر المملكة الموحدة التي تشكَّلت على يد شاؤل وداود، ثم بلغت عصرها الذهبي أيام الملك سليمان. وهنالك فريقٌ ثالث يرى أنه من غير المجدي البحث عن تاريخية الحدث التوراتي قبل القرن التاسع قبل الميلاد، عندما بدأت أخبار مملكة إسرائيل-السامرة، تظهر لأول مرةٍ في سجلات ملوك آشور. وموقف هذا الفريق الثالث هو الموقف الذي يتفق تمام الاتفاق مع النتائج الأخيرة لعلم الآثار وعلم التاريخ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إسرائيل التاريخية هذه لا تربطها بإسرائيل التوراتية إلَّا أوهى الروابط.
إن تتبُّع القصة التوراتية منذ بداياتها في سِفر التكوين إلى انهيار المملكة الموحدة المفترضة لكل إسرائيل، وانقسامها إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، ومقارنة هذه القصة عند كل مرحلة من مراحلها مع نتائج البحث التاريخي والأركيولوجي في فلسطين والمناطق المجاورة، يُظهر عدم تقاطع الرواية التوراتية في أية نقطة من نقاطها مع تاريخ المنطقة برمتها خلال أكثر من ألف عامٍ. وفي الحقيقة فإن العكس تمامًا هو الصحيح؛ ذلك أن الشواهد الجديدة التي تجمعت لدينا تنفي نفيًا قاطعًا إمكانية ظهور كيان سياسي أو إثني من أي نوع اسمه إسرائيل، قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك عقب بناء مدينة السامرة التي صارت عاصمةً لمنطقة الهضاب المركزية في فلسطين. فهنا يظهر لأول مرةٍ في التاريخ كيانٌ اسمه إسرائيل اشتمل حصرًا على منطقة الهضاب المركزية في الشمال، من دون بقية المناطق الفلسطينية. وقد أخذت الملامح الإثنية لهذا الكيان بالتوضح عقب الاتجاه نحو المركزية السياسية التي بدأت تجمع القرى الزراعية الناشئة حديثًا في منطقة الهضاب، خلال عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.) بعد فترة من الفراغ السكاني دامت بضعة قرون. وقد جاء مستوطنو هذه القرى من مصادر متنوعة لا من مصدرٍ واحد.
إن النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي للأسفار المدعوة بالتاريخية في كتاب التوراة، يُظهر أن محرري التوراة في الفترات المتأخرة إبان العصر الفارسي، لم يكن بين أيديهم معلوماتٌ كافية تتعلق بتلك الفترات الموغلة في القِدم التي يروون عنها، سواء أكانت هذه المعلومات متناقلة شفاهة أو كتابة؛ وذلك من عصر الآباء إلى فترةٍ لا بأس بها من حياة مملكتَي إسرائيل ويهوذا. ففيما عدا مصر التي لم يذكر النص التوراتي اسم فرعونها سواء في سِفر التكوين أم في سِفر الخروج، ولم يورد معلومات يمكن أن تساعد على تبين الحقبة الموازية في التاريخ المصري، فإن النص التوراتي، من سِفر التكوين إلى سِفر الملوك الأول وجزءٍ لا بأس به من سِفر الملوك الثاني، لا يتعرض بالذِّكْر إلا للشعوب والدويلات التي جاورت المناطق الهضبية من فلسطين خلال حياة مملكتَي إسرائيل ويهوذا، وذلك مثل موآب وعمون وآدوم في عبر الأردن، والدويلات الفلستية في المناطق الساحلية. وجميع هذه الدويلات لم تكن قائمةً خلال أحداث عصر الآباء والخروج ودخول كنعان؛ فممالك شرقي الأردن التي قهرها موسى في آخر مراحل ملحمة الخروج، لم تكن موجودةً في ذلك الوقت على ما بيَّنه لنا المسح الأركيولوجي الحديث للمنطقة. وساحل فلسطين الجنوبي المدعو في سِفري التكوين والخروج ويشوع بأرض الفلستيين أو الفلسطينيين، لم يكن قد استقبل أية موجة من موجات شعوب البحر من فلسطينيين وغيرهم.
ومن بين جميع الممالك الفينيقية على الساحل السوري، لم يرد سوى ذِكر مدينة صيدون. أما بقية الممالك التي ازدهرت خلال عصر البرونز الوسيط من أوغاريت إلى صور، فغائبةٌ تمامًا. ومثلها تلك الممالك الكبرى التي قامت في بقية المناطق السورية والرافدية؛ فبابل حمورابي، وماري على الفرات الأوسط، ومملكة ميتاني الكبرى في الشمال السوري والجزيرة العليا، وحلب-يمحاض وآلاخ، في الشمال الغربي من سوريا، وقطنا وقادش في سوريا الوسطى، جميعها غائب عن سير عصر الآباء، الذين كانوا يرتحلون بين الفرات وفلسطين، وكأنما يرتحلون على مسرح خالٍ تمامًا إلَّا من القبائل الرُّحل وآبار المياه في الواحات. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالممالك الحثية الجديدة والممالك الآرامية التي قامت في الشمال السوري وحوض الفرات والخابور ومناطق الغرب السوري، فجميعها غائب عن روايات يشوع والقضاة. كما لا يوجد في هذَين السِّفرَين أي ذِكرٍ لمصر التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، وعدد آخر من المواقع الاستراتيجية المهمة في فلسطين. وفي سِفر الملوك الأول الذي يقصُّ عن المملكة الموحدة لكل إسرائيل، مملكة داود وسليمان، لا يَرد أي ذِكرٍ لمملكة آشور التي كان نفوذها قد تجاوز الفرات ووصل إلى المناطق الغربية من سوريا. كما لا يَرد أي ذِكر للممالك الآرامية الكبرى التي كانت تقارع آشور على الفرات ومناطق عبر الفرات. وبدلًا من ذلك، فإن محرر سِفر الملوك الأول يبتكر ممالك لم يَرد لها ذِكر في التاريخ، ولم تقم الدلائل الأركيولوجية على وجودها، مثل آرام صوبة ومعكة وجيشور وبيت رحوب وغيرها.
هذا وتبيِّن لنا الدراسة النقدية المدققة للأسفار التوراتية، ولنصوص الحملات الآشورية على فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، أن المساحة التي شغلتها كلٌّ من إسرائيل ويهوذا لم تتعدَّ المناطق الهضبية من فلسطين، إلا على شكل مد استعماري متأخر وقصير الأجل، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المستعمرة وضم أراضيها بشكل كامل. وإذا كان كلٌّ منهما قد حقق في منطقته الهضبية نوعًا من التجانس الإثني خلال الفترة غير المديدة لحياته، فإن هذه الإثنية لم تصمد أمام التخريب الشامل للتركيب الإثني لفلسطين نتيجة سياسة الاقتلاع والتهجير الآشورية ثم البابلية، ودخلت جميع مناطق فلسطين العصر الفارسي وقد تغيرت بشكل جذري.
لقد اختلفت مصائر إسرائيل ويهوذا مثلما اختلفت وتباينت أصولهما ونشأتهما؛ فقد دمر الآشوريون السامرة عاصمة إسرائيل حوالي عام ٧٢١ق.م.، وسبَوا أهلها ومعظم سكان الهضاب المركزية إلى آشور وأحلوا محلهم سكانًا جددًا من المناطق المقهورة الأخرى. وعقب ذلك اختفى ذِكر إسرائيل إلى الأبد من التاريخ كدولة، وصارت مناطقها التقليدية تعرف منذ ذلك الوقت باسم مقاطعة السامرة. أما يهوذا فقد عاشت بعد دمار جارتها قرابة قرن ونصف القرن من الزمان؛ بسبب سياسة العمالة لملوك آشور، ثم انتهت بعد فترة قصيرة من زوال آشور وصعود المملكة البابلية الجديدة، عندما قام نبوخذ نصر الكلداني بتدمير أورشليم حوالي عام ٥٨٧ق.م. وسبى الكثير من أهل يهوذا إلى مناطق بابل، وبقوا هناك حتى سقوط العاصمة بابل بيد قورش الفارسي حوالي عام ٥٣٧ق.م.
إضافة إلى تباين أصول يهوذا وإسرائيل واختلاف مصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسًا من القاعدة الدينية التي جمعت أية مملكتين في فلسطين وسوريا الجنوبية، خلال تلك الفترة من حياتهما. لقد ابتكرت قصة الأصول التوراتية كيانًا إثنيًّا اسمه «كل إسرائيل» منذ مرحلة الخروج من مصر، ثم ابتكرت له صيغة سياسية وجدتها في مملكة داوود وسليمان المفترضة. ولكي تكتمل وحدة هذا الكيان، فقد سحب محررو التوراة تصوراتهم الدينية، التي نضجت خلال العصر الفارسي على جميع مراحل قصة الأصول، وجعلوا الإله الواحد الذي بشرت به أسفار الأنبياء المتأخرين، من أمثال إشعيا وإرميا، إلهًا للقبائل الإسرائيلية منذ بداياتها الأولى. فهذا الإله المتأخر صار إلهًا للآباء، وهو الذي أعطى الشريعة لموسى على جبل حوريب، وهو الذي بنى له سليمان هيكلًا في أورشليم. غير أن المسح الأركيولوجي الشامل لمنطقتي إسرائيل ويهوذا ولجميع المراكز السكنية في فلسطين القديمة، من أكبر المدن إلى أصغر القرى، لم يساعدنا على تلمُّس أي أثر للمعتقدات والطقوس التوراتية كما رسمها لنا محررو الكتاب، سواء في شكلها المبكر أم في شكلها المتأخر، وذلك خلال كامل الفترة السابقة على العودة من السبي البابلي وبناء الهيكل الثاني (على ما يدعوه محررو سِفري عزرا ونحميا). فجميع المعابد والمقامات الدينية والتماثيل وشارات الألوهة مما كشفت عنه التنقيبات الأثرية، يشير إلى استمرارية دينية منذ عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد (أي من العصر المدعو بالكنعاني إلى العصر المدعو بالإسرائيلي)، والديانة التي سادت هنا هي ديانة كنعانية تقليدية. أما الإله يهوه الذي تركز حوله المعتقد التوراتي فيما بعدُ، فلم يمكن العثور على كتابات تذكره بالطريقة التي صورته بها أسفار التوراة، ولا على هياكل ومقامات ومذابح مكرسة له.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، وكنتيجة لما تقدَّم طرحه، هو التالي: إذا لم تكن الديانة اليهودية قد نشأت في السياق التاريخي لنشوء وتكوُّن شعب إسرائيل؛ لأن تاريخ هذا الشعب كما تُقدمه أسفار التوراة ليس أكثر من قصة أصول خيالية لا تتمتع بأية مصداقية تاريخية، فمتى إذن، وتحت أية شروط تاريخية وسياسية وفكرية تكونت هذه الديانة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد أولًا من إلقاء نظرة على الحالة العامة لمنطقة الشرق القديم في أعقاب انهيار الإمبراطورية الآشورية.
لم تكن عمليات التهجير الجماعي التي مارسها الآشوريون بمثابة عقاب للشعوب الثائرة على الحكم الآشوري، فقط، وإنما هدفت أيضًا إلى تحقيق حالة من التوازن الإثني والسياسي في المناطق التي يتم ترحيل المسببين إليها، من شأنها خدمة المصالح الآشورية. فكان الآشوريون يمنحون المهجَّرين في مناطقهم الجديدة أراضي خصبة، ويبسطون حماية الدولة عليهم، لكي يغدو هؤلاء بمثابة ممثلين للسلطة الإمبراطورية في هذه المناطق، ويعملون من ثَم على معارضة النزعات التحررية التي يمكن أن تنشأ بين السكان ضد حكامهم. ويبدو أن معظم الجماعات المهجَّرة قد لعبت هذا الدور المرسوم لها، وحتى في المدن الإمبراطورية الكبرى التي شكلوا فيها جيوبًا اجتماعية تعمل على تهدئة القلاقل وتخفف من حدة المعارضة. ورغم أن حكام الإمبراطورية البابلية الجديدة قد تابعوا عمليات السبي والتهجير على نطاق ضيق جدًّا؛ إلا أنهم قد ابتدءوا في الوقت نفسه سياسة إعادة توطين المهجرين السابقين في أراضيهم، ووضعوا النظرية الإعلامية لهذه السياسة، وهي النظرية التي تبناها حكام الإمبراطورية الفارسية فيما بعد، وصارت عماد دعوتهم.
يتخذ هذا النص أهميةً بالغة بين نصوص الإمبراطورية البابلية الجديدة، لأنه مِفتاحٌ لفهم توجُّهٍ جديد في الأيديولوجية الدينية في المنطقة، وجد أوضح تجسيداته بعد ذلك في كتاب التوراة. فنحن هنا أمام ثلاث أفكار رئيسية جديدة هي: (١) فكرة الإله الواحد. (٢) فكرة إعادة بناء هيكل لهذا الإله الواحد. (٣) فكرة العودة وبناء مجتمع جديد يتمركز حول الهيكل وإلهه. فالإمبراطور البابلي يعيد إلى حران المهدمة والمهجورة إلهها القديم التقليدي سن، ولكن ليس إلهًا محليًّا بل إلهًا شموليًّا يجمع إليه سلطات بقية الآلهة ممن تحولوا إلى أتباع معيَّنين من قِبله. وتحمل عملية إحياء عبادة الإله القديم، هنا، كل معاني الخلق الجديد لمعتقد وعبادة وطقس لا تربطها بالماضي سوى أوهى الروابط. وبما أن هذا المعتقد الجديد الذي يدور حول إله قديم في صورة جديدة، يحتاج إلى مجتمع يتلاحم حول الهيكل الذي أُعيد بناؤه في منطقة خلت من سكانها. فقد ساق نابونيد إلى حران جماعاتٍ متفرقةً، بعضهم من سكان حران السابقين وبعضهم الآخر من المهجَّرين من مناطق أخرى، وأعطاهم وطنًا يعملون على بنائه وإلهًا شموليًّا، هو الإله القديم لمنطقة حران وقد غدا الآن ممثلًا للصورة الإلهية في عالم الإمبراطورية البابلية الجديدة.
في هذا السياق التاريخي، والمناخ الفكري، نستطيع أن نفهم الأخبار حول «إعادة بناء هيكل الرب» في أورشليم، وإحياء المجتمع القديم في منطقة يهوذا. إن العائدين إلى أورشليم منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد ليسوا استمرارًا لأولئك المهجَّرين على يد نبوخذ نصر الكلداني. وما بنوه في أورشليم من هيكل ومدينة مهدمة لم يكن استمرارًا للبنية القديمة، بل بنية جديدة تحتضن مجتمعًا جديدًا تم تصميمه وفق التصورات العامة السياسية والأيديولوجية للنظام العالمي الفارسي. وإن قراءة تحليلية متأنية لسِفري عزرا ونحميا، اللذَين يقدمان لنا معظم المادة الإخبارية عن «العودة» و«إعادة البناء» سوف تكشف لنا بقية القصة. وهذه المادة الإخبارية تتفق تمامًا مع بيان قورش والإطار العام للسياسة الفارسية كما أوضحناها.
نقرأ في سِفر عزرا ما يأتي: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس، نبه الرب روح كورش فأطلق نداءً في كل مملكته قائلًا: هكذا قال كورش ملك فارس. جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء. وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم. مَن منكم من كل شعبه، ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا فيبني بيت الرب إله إسرائيل» (عزرا ١: ١–٦).
نلاحظ في هذا النص المطابقة التامة بين إله قورش وإله المجتمع الجديد في أورشليم. كما نلاحظ استعمال لقب إله السماء لأول مرة في التوراة في معرض الإشارة إلى الإله القديم يهوه، الذي لبس الآن لبوسًا جديدًا باعتباره صورة محلية عن الإله الشمولي للإمبراطورية الفارسية المدعو بإله السماء. وقد جاءت شريعة هذا الإله الجديد من فارس أيضًا مع شريعة الملك الفارسي، التي كان يعمل على تطبيقها في مناطق الإمبراطورية المختلفة. وهذا ما نعرفه من موضعٍ آخر من سِفر عزرا حيث نقرأ: «في عهد ارتحشتا ملك فارس (الوريث الثالث لقورش)، عزرا بن سرايا صعد من بابل. وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك ارتحشتا لعزرا الكاهن الكاتب … من ارتحشتا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل. قد صدر مني أمر أن كل مَن أراد في مُلكي من شعب إسرائيل أن يرجع إلى أورشليم فليرجع معك … كل ما أمر به إلى السماء فليُعمل باجتهاد لبيت إله السماء … أما أنت يا عزرا، فحسب حِكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب من جميع مَن يعرف شرائع إلهك، والذي لا يعرفون فعلِّمهم، وكل مَن لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليُقضَ عليه عاجلًا إمَّا بالموت أو بالنفي أو بغرامة الحبس» (عزرا ٧: ١–٢٦).
ولما كانت الجالية الجديدة في أورشليم لا تعرف شيئًا عن مضمون الشريعة، فقد كان على عزرا أن يقرأ «سِفر الشريعة»، كما يسميه نصُّ عزرا ونصُّ نحميا، على مسامع الشعب في احتفالٍ عظيم، ثم يعمد إلى إفهامهم إياه وشرح مضمونه، وبعد ذلك يأخذ عليهم «عهدًا» و«ميثاقًا» بقبوله. نقرأ في سِفر نحميا: «اجتمع كل الشعب كرجلٍ واحد إلى الساحة وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسِفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إله إسرائيل. فأتى عزرا بالشريعة أمام الجماعة … وقرأ بها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء … وبارك الرب الإله العظيم عزرا. وأجاب جميع الشعب آمين آمين … وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليُفهمهم كلام الشريعة» (نحميا ٨: ١–١٣). وبعد ذلك يعطي الشعب عهدًا وميثاقًا بقبولهم للشريعة أمام عزرا الكاهن الكاتب، ونحميا الإداري والسياسي الذي عيَّنه الفُرس واليًا على أورشليم: «ومن أجل ذلك، نحن نقطع ميثاقًا ونكتبه، ورؤساؤنا ولاويونا وكهنتنا يختمون … ودخلوا في قَسمٍ وحَلفٍ أن يسيروا في شريعة الله التي أُعطيت عن يد موسى عبد الله، وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا وأحكامه» (نحميا ٩ و١٠).
إن ما تقوله لنا هذه الفقرات التي سقناها أعلاه، هو أن عزرا قد جاء معه بشريعة، أو بنواة شريعة، جديدة كل الجدة على مجتمع في طور التشكيل. وقد كان الشعب يستمع إلى فقراتها لأول مرةٍ. من هنا فقد كان على عزرا أن يشرح مضمون الشريعة إلى الكهنة واللاويين ورؤساء الشعب، لكي يعمل هؤلاء بدورهم على شرحها للبقية وإفهامهم مضمونها. وبالطبع فإن مثل هذا الشرح يجري أمام نخبة القوم وكهنتهم لا يمكن أن يكون موضوعه شريعة موجودة بين أيدي الشعب، أو بين أيدي النخبة على الأقل، وترقى إلى أيام موسى. أما عن الميثاق الذي أخذه الجالية الجديدة في أورشليم على نفسها بقبول الشريعة، فإنه «العهد الأول» الذي يتم بين إله السماء الجديد في أورشليم على نفسها بقبول الشريعة، فإنه «العهد الأول» الذي يتم بين إله السماء الجديد في هيكل أورشليم وبين شعبه الجديد، وهو أساس فكرة «العهد» بين الرب وشعبه إسرائيل، حيث عمد المحررون على إسقاطه على قصة الأصول التوراتية، وعقدوه من منذ البداية بين إبراهيم وإلهه، ثم جددوه مع بقية الآباء.
لا يعطي سِفرا عزرا ونحميا كثيرًا من التفاصيل حول مضمون الشريعة الجديدة، والفقرات القليلة من هذه الشريعة التي تَرد في سِفر نحميا (راجع نحميا ١٠ على وجه الخصوص) لا تشبه في صياغتها ومضمونها شريعة موسى التي فصَّلتها أسفار الخروج والعدد والتثنية. إلا أننا نستطيع تخمين مصادر وموضوعات شريعة عزرا هذه. فأما الموضوعات فقد تركزت حول المعتقد الديني والطقوس المكملة له، وحول القضايا الإدارية والتنظيمية للبنية المدنية الجديدة، والأحوال الشخصية للأفراد. وقد تم ربط هذه القوانين الناظمة للحياة الدنيوية للجماعة بالمعتقد الديني، لإعطائها تأييدًا مزدوجًا. وأما عن المصادر فمتعددة. فلدينا أولًا الأيديولوجيا الدينية المتعلقة بإله السماء الفارسي أهورا مزدا، الذي سعى ملوك فارس لرفعه إلهًا واحدًا للإمبراطورية، عن طريق مطابقته مع الآلهة المحلية للمقاطعات المحكومة. وثانيًا، لدينا القوانين والتنظيمات الإدارية التي حاولت الإدارة الإمبراطورية من خلالها تنميط أساليب الحُكم والإدارة في الأقاليم التابعة لها. وثالثًا، لدينا التقاليد المحلية المتجذرة من القِدم. وقد ازداد تأثير هذه التقاليد المحلية تدريجيًّا مع توسع الشريعة وتطويرها.
وإذا كانت هذه النواة الأولى للشريعة قد صلحت في البداية لخلقِ الاستقرار في مجتمع أورشليم، فإن عزرا الكاهن، الذي يمكن أن يُدعى بحق أبا اليهودية، قد عمد فيما بعد إلى توسيع هذه النواة وتطويرها بما يتلاءم مع التقاليد القديمة في المنطقة من جهةٍ، ومع مستجدات حياة الجماعة من جهةٍ أخرى. ثم جاء خلفاؤه وتلامذته من بعده، ممن شكلوا الآن كهنوتًا رسميًّا، فتابعوا هذه المهمة، وأخذوا على عاتقهم فوق ذلك ابتكار أصول لهذه الشريعة تجعل منها تقليدًا راسخًا في المنطقة لا أمرًا عارضًا مفروضًا عليها من الخارج. وهكذا ابتدأ العمل في قصة إسرائيل التوراتية. ففي سياق عملية ابتكار تاريخ للشريعة بهدف تأصيلها وتثبيتها، كان لا بدَّ من ابتكار أحداث وشخصيات تحمل هذا التاريخ وتطوره من مرحلة إلى أخرى. فابتدأت القصة التوراتية بشكلها الجنيني، ثم أخذت بالتشعب والتوسع، ونشأت عن جوانب الخط الرئيسي لها قصصٌ متفرقة متنوعة، معظمها مستمدٌّ من التراث المحلي الفلسطيني تم اقتباسه وإدماجه في النسيج العام للرواية. وهكذا أخذت الخرافة تكبر وتتسع، وتستكمل حلقاتها خلال قرنين أو ثلاثة من عودة عزرا بسِفر الشريعة من البلاط الفارسي. ويتم ربط تاريخ اليهودية بتاريخ ما قَبْل اليهودية؛ أي تاريخ إسرائيل ويهوذا، وتتابع قصة الأصول توغلها في الماضي المجهول مما سبقها. ثم كان لا بد من إيقاف هذه العملية عند حدٍّ معين، فعمد كهنة أورشليم أخيرًا إلى جمع هذه الأدبيات، وإعادة صياغتها بشكل موحد وفق إطار أيديولوجي وكرونولوجي يضم التقاليد المتفرقة في نسيجٍ واحد. وبذلك تم إنجاز كِتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية كيانًا ذهنيًّا وأدبيًّا على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي.
إن النتيجة الأخيرة التي يوصلنا إليها كل ما تقدَّم ذِكره، هي أن الديانة اليهودية لم تنشأ وتتطور في فلسطين عبر الفترة المديدة الفاصلة بين مطلع الألف الثاني قبل الميلاد (وهو التاريخ المفترض لابتداء قصص الآباء)، وأواخر الألف الأول قبل الميلاد (وهو زمن تدوين آخر أسفار التوراة وهي أسفار المكابيين)، ولم يكن لهذه الديانة أية صلة بشعبٍ معين اسمه شعب إسرائيل؛ لأن تاريخ هذا الشَّعب كما ترسمه الرواية التوراتية لا يعدو أن يكون فانتازيًّا لا تصلها صلة بالتاريخ الحقيقي للمنطقة. بل لقد نشأت هذه الديانة وتطورت واتخذت شكلها الحالي خلال القرون القليلة السابقة للميلاد.
Yahwe and the Gods of Canaan, London 1968.
Kathleen Kenyon, Archaeology in the Holy Land, Methuen, London 1985.
Biblical Archaeology Review, New York, September-October 1996, pp. 36-37.
ما يلي من تحليلي لهذا النص يستند إلى أفكار ت. ل. تومبسون في كتابه Early History of the Israelite People. انظر بشكل خاص الصفحات ٣٤٦-٣٤٧.