(٢) وظيفة الأسطورة ودورها في حياة الفرد والجماعة

تتميز ظاهرة الحياة عن الوسط الطبيعي الذي انبثقت عنه، ويتميز الكائن الحي عن الكائن الجامد، بعددٍ من الخصائص الجذرية التي يمكن تلخيصها بخصيصةٍ واحدة أدعوها السلوك. فبينما تبدو الظواهر الفيزيائية (الطبيعانية) منتظمة في شبكةٍ من القوانين التي ترسم حركتها وعلائقها، فإن الكائن الحي ابتداءً من الأميبيا الوحيدة الخلية يبدي «سلوكًا» مستقلًّا عن القوانين الناظمة للعالم الفيزيائي. وتتوضح استقلالية وحرية هذا السلوك كلما ارتقينا في سلم التطور الطبيعي. فبينما تتحكم الحساسية الحيوية في سلوك الكائن البسيط التركيب، فيما يشبه الفعل وردَّ الفعل الفيزيائي، فإن الكائنات المعقدة التركيب تبدو موجهة أكثر فأكثر «بالوعي» الذي يحكم علاقاتها بوسطها الطبيعي، حيث تتحول الحساسية الحيوية، كلما صعدنا في سلم الارتقاء، إلى شعورٍ واعٍ موجه للسلوك الفردي وللسلوك الجمعي للأنواع الحية. غير أن هذا الشعور الواعي يبقى في أعلى الأشكال الحيوانية ضمن حدود الوعي الانفعالي المباشر الذي لم يتوصل بعد إلى تكوين «الأفكار»، ولكن مع استقلال النوع الإنساني تدريجيًّا عن مملكة الحيوان، ينتقل الوعي من الانفعال المباشر إلى تشكيل الأفكار (المفاهيم)، ويبدو السلوك موجهًا أكثر فأكثر بهذه الأفكار. فهنا تتوسط الفكرة بين الانفعال المباشر والسلوك، ونأخذ بترميز العالم قبل الاستجابة إليه. إن الخرفان الصغيرة تميِّز رائحة الذئب وتفزع لظهوره المفاجئ قبل أن تتكون لديها أية خبرة بهذا الخصوص، أما الإنسان فإنه يستجيب في خوفه لفكرةٍ مسبقةٍ كوَّنها من خلال تأمُّله لوسطه الطبيعي، وتصنيفه لما هو خطرٌ وما هو آمن بالنسبة إليه.

إن تكوين الأفكار هو أول تعبير عن نشاط الترميز الذي يرافق اتساع الوعي وارتقائه؛ فهنا تأخذ الانفعالات بالتحول إلى أفكار. وهذه الأفكار تتوضح وتنتظم كلما اتسع الوعي في مواجهته مع الخارج، وكلما أخذ بتوصيف هذا الخارج وترتيبه في كلٍّ مستوعب ومفهوم. ثم جاءت الخطوة الحاسمة الثانية عندما انتقل الإنسان إلى ابتكار معادل موضوعي لأفكاره من خلال الكلمات، مع تطويره للغة البدائية الأولى. فبعد تكوين «فكرة» أو «مفهوم» عن الشجرة، مثلًا، تختزل عددًا لا يُحصَى من المعطيات الحسية المنعزلة بعضها عن بعض، تأتي كلمة «الشجرة» كمعادلةٍ لهذه الفكرة، وتعمل على موضعتها في الخارج، لتقوم مقام كل الصور التي كوَّناها لأنفسنا عن الأشجار التي واجهت مدركاتنا الحسية؛ وبذلك يتم الانتقال من الترميز الذاتي، وهو صياغة الأفكار، إلى الترميز الموضوعي، وهو تثبيت هذه الأفكار في الخارج من خلال الكلمات، وموضعتها هنالك.

لقد كانت اللغة أول أشكال الترميز الموضوعي التي ابتكرها الإنسان، واكتشف معها مقدرته الهائلة على استيعاب ما حوله من خلال تكوين المفاهيم، ثم موضعتها في الخارج عن طريق الكلمات، والاستناد إلى هذه الكلمات بعد ذلك من أجل خلق مستوًى آخر من المفاهيم أعلى من سابقه، وهكذا في سلسلةٍ متصاعدةٍ رافقت ارتقاءه وتقدمه.

وبعد اللغة توصل الإنسان إلى اكتشاف شكلٍ آخر من أشكال الترميز الموضوعي الذي يعمل على تثبيت أفكاره في الخارج، هو الفن البصري. كما اكتشف مقدرته الكبيرة على التعامل مع الكلمات واستخدامها في مجالات غير مباشرة وغير نفعية. وهذا ما قاده إلى إنتاج الشعر والأسطورة؛ أقنومان في نظامٍ واحدٍ، عمل من خلاله على تحويل وموضعة تجربته الانفعالية مع الكون والنفس الداخلية. والإنسان في ترميزه الأسطوري لهذه التجربة، لا يلجأ إلى التحليل والتعليل الخطي المنظم، بل إلى إنتاج بنية أدبية تحاول من خلال تمثيلاتها وصورها الحركية إعادة إنتاج العالم على مستوى الرمز، وذلك في وحداتٍ رمزية تعمل على اختزاله ثم تقديمه مجددًا إلى الوعي.

وفي الحقيقة، فإن كلًّا من الفلسفة والعلم، اللذَين وُلدا من رحم الأسطورة، يقوم بالمهمة نفسها؛ أي اختزال تجربتنا مع العالم وتقديمه إلى الوعي وقد تم تفسيره وترتيبه، ولكن بينما يلجأ العلم والفلسفة إلى العقل التحليلي الذي يجزِّئ العالم ثم يُعيد تركيبه من أجل فهمه، معتمدًا في ذلك على الاختبار والبرهان (العقلي عند الفلسفة والتجريبي عند العلم)، فإن الأسطورة تضع الإنسان بكليته في مواجهة العالم وبجميع مَلَكاته العقلية والحدسية، والشعورية واللاشعورية، وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل تقديم رؤية متكاملة لهذا العالم، ذات طابع كلَّاني يعادل تجربة الإنسان الكلَّانية وغير المتجزئة معه.

من هنا، فإن الأسطورة، في المجتمعات القديمة والمجتمعات التقليدية، تلعب الدور الذي تلعبه الميتافيزيقيا في الثقافات المتطورة التي أعلت من شأن الفلسفة. وهي رغم عدم عنايتها بتكوين المفاهيم والمصطلحات التي اشتهرت بها الميتافيزيقا (وبقية موضوعات الفلسفة)؛ فإنها تدور حول هذه المفاهيم والمصطلحات نفسها، وتعالجها على طريقتها متوسلةً بالرمز ومستنفدةً كل حيوية القص والصور الحسية، ومستكملةً ذلك كله بالأفعال الطقسية ذات المعنى والمؤدى العميق.

إن كلًّا من الأسطورة والفلسفة والعلم يستجيب على طريقته لمطلب «النظام»؛ أي لمطلب الإنسان في أن يعيش ضمن عالم مفهوم ومرتب، وأن يتغلب على حالة الفوضى الخارجية التي تتبدَّى للوعي في مواجهته الأولى مع الطبيعة. فالفلسفة تنتج نظامًا مترابطًا من المفاهيم التجريدية يَدَّعي تفسير العالم؛ والعلم يخلق نظامًا من المبادئ والقوانين التي يعتمد بعضها على بعض، وتنتهي إلى ترميز العالم في بنًى رياضية عالية التجريد. وفي مقابل هرمية نظام المفاهيم الفلسفي وهرمية نظام القوانين الرياضي العلمي، فإن الأسطورة تعمد من جانبها إلى خلق نظامها الخاص، هو نظام قوامه الآلهة والقوى الماورائية التي يعتمد بعضها على بعضٍ أيضًا، في هرميةٍ متسقة للأسباب والنتائج. وهي إذ تؤنسن الكون حين تبث فيه عنصر الإرادات الفاعلة والعواطف المتباينة، وترى في كلٍّ ظاهرة موضوعية نتاج إرادة أو عاطفة ما، فإنها تصنع صورةً لكونٍ حي لا يقوم على مبادئ ميكانيكية متبادلة التأثير، بل على إراداتٍ وعواطف تتبدَّى في شكلٍ حركي. والأسطورة في سعيها لخلق هذه الصورة، تفتح خزانًا لا ينضب مَعينه من وسائل الترميز، كما تفتح البوابات على مصاريعها بين الوعي واللاوعي، في تجربةٍ كلَّانية مع العالم.

من هنا ينبع سلطان الأسطورة وسطوتها على النفس، حتى في دولة العلم العالمية التي نعيشها اليوم. ذلك أن الأسطورة تعطينا ذلك الإحساس بالوحدة؛ الوحدة بين المنظور والغيبي، بين الحي والجامد، بين الإنسان وبقية مظاهر الحياة. والنظام الذي تخلقه الأسطورة فيما حولها، ليس نظام العقل المتعالي الذي يجعل نفسه خارج العالم، ثم يفسره عن بُعد وكأنه شيءٌ غريب عنه، بل هو نظام الإنسان المتعدد الأبعاد الذي لا يستطيع أن يرى نفسه خارج العالم الذي يعمل على تفسيره، ويدرك بطريقةٍ ما أن المفسِّر والمفسَّر وجهان لعملةٍ واحدةٍ. إن التمييز الذي يصنعه العقل بين العالم المُدرَك والإنسان، ما يلبث أن يذوب من خلال الأسطورة التي تعيد الربط بين طرفَي الوجود: الإنسان والمادة/الوعي والكون، وتكشف أمامنا تلك الروابط الجامعة لكل ما يتبدَّى في الوعي. من هنا، فإن ما يفرق متلقي الأسطورة في القِدم عن دارس نظامٍ فلسفي أو نظرية علمية في العصر الحديث، هو أن متلقي الأسطورة لا يشعر بأنه قد أضاف إلى معارفه شيئًا جديدًا، وإنما قد غدا أكثر توافقًا وانسجامًا مع نفسه ومع العالم. ذلك أن ما تنقله الأسطورة من معانٍ لا يشبه الوقائع أو المعلومات الدقيقة، إنه إيحاءٌ لا إملاء، وإشارةٌ وتضمين لا تعليم وشرح وتلقين.

وتعتمد الأسطورة في تقنياتها هذه على استخدام الظلال السحرية للكلمات؛ فالكلمات في أية لغة ذات وجهَين، وجه دلالي يرتبط بالمعاني المباشرة للمسميات، ووجه آخر سحري متلون بظلالٍ متدرجة بين الخفاء والوضوح، قادرة على الإيحاء بمعانٍ غير مباشرة واستثارة مشاعر وأهواء متباينة؛ فكلمة شمس، على سبيل المثال القريب، تدل على ذلك الجِرْم السماوي المضيء، ولكنها في الوقت نفسه تعكس في النفس معاني أخرى: فهي الوضوح وهي الانتظام وهي الصحو والعقل وهي الحقيقة، إلى آخر ما هنالك من ظلالٍ لغويةٍ مرتبطة بها. وبالمقابل فإن القمر هو الأسرار، وهو التلون والتحول والغموض والعواطف الجياشة … إلخ.

لقد استفاد الشعر من هذه الخصيصة السحرية للغة، ومن تلك الصيغ السحرية المتوالدة التي يمكن للغة أن تعبر بها. ومن هنا يأتي ذلك الطابع البنوي للغة الشعرية؛ فالشعر هو السليل المباشر للأسطورة وابنها الشرعي، وقد شق لنفسه طريقًا مستقلًّا بعد أن أتقن عن الأسطورة ذلك التناوب بين التصريح والتلميح، بين الدلالة والإشارة، بين المقولة والشطحة؛ وبعد أن أتقن عنها أيضًا كيف للغة السحرية أن تقول دون أن تقول، وأن تشبعك بالمعنى دون أن تقدم معنًى محددًا ودقيقًا؛ وذلك من خلال رسالة كلَّانية غير تفصيلية. من هنا نستطيع فهم السبب الكامن وراء هجوم الفلسفة على الشعر في بداية عهدها؛ فقد رأى أفلاطون في كتابه «الجمهورية» ضرورة استبعاد الشعراء من الجمهورية الفاضلة التي تقوم على العقل؛ لأن السماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة.

وقد استطاعت الفلسفة التوصل إلى تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة بعد صراعٍ مريرٍ مع الأسطورة. ومع ذلك، فإن فلاسفة الإغريق الذين تصدَّوا لإقامة نظم فلسفية عقلانية على أشلاء الأسطورة، لم ينجوا تمامًا من سحر البيان الأسطوري. لقد ركز أفلاطون بشكلٍ خاصٍّ على أن الخبرة بالقدسي لا يمكن اكتسابها من خلال نشوة صوفية يخلقها الطقس، ولا من خلال رؤية ميثولوجية تقدمها الأسطورة. وهو إذ يدعو ذلك الوجه القدسي للوجود بعالم المُثل، ويرى فيه الخير الأسمى، فإنه يدعو إلى السعي لاكتساب أعلى وأسمى معرفة، وهي معرفة الخير، عن طريق العقل الصاحي الذي يبدأ بمعرفة الجزئيات وترابطها، صعودًا نحو مبادئها وعللها الأولى. هذا الطريق الطويل يبدأ عنده بالرياضيات فالهندسة فالفلك، في هرميةٍ معرفية متصاعدة، ولكن أفلاطون رغم محاربته للنزعة غير العقلانية في النفس الإنسانية، والتي يعمد الشعر والأسطورة على إرضائها. ورغم محاربته للشعر باعتباره مركبة للأسطورة، وبما هو اكتشاف للخواص السحرية للغة، فإنه قد عمد، خارج كتاب الجمهورية، إلى تأليف أساطير من صنعه، مثل أسطورة أسرى الكهف وأسطورة اختيار النفس لمصيرها وأسطورة الحساب بعد الموت؛ وذلك لغاية شرح وتوصيل أفكاره المجردة، ولعلمه بما للأسطورة من سلطانٍ على النفوس ومن مقدرةٍ على تثبيت الأفكار والمعتقدات. كما أنه قد وافق على صناعة أساطير يجري تلقينها للصغار وفق خطةٍ مدروسةٍ، من شأنها تدريب هؤلاء على تلمُّس فكرة الخير الكامنة وراء العالم. على أن مثل هذه الأساطير التي يصنعها شخصٌ بعينه وفق خطة مدروسة، تفتقد إلى خصيصة النمو التلقائي التي تميز الأسطورة، وتعبيرها عن تجربة جمعية مشتركة. ومثل هذه المحاولات تقدم لنا مثالًا شديد الوضوح عن صلة المعتقدات بالأساطير وضرورة الثانية للأولى، بسبب النزوع الطبيعي عند الناس نحو البيان والإيمان وعزوفهم عن البرهان.

وقبل أفلاطون بزمنٍ طويل، كان فلاسفة الإغريق الأوائل من أصحاب المدرسة الأيونية، قد تأثروا بشكلٍ خاصٍّ بأساطير ديانة الأسرار الأورفية وبالعديد من تصوراتها الماورائية. وعلى رأس هؤلاء إنكسمندر الذي يقول بعض دارسيه بأنه قد نزع عن الإله الأورفي عباءته الدينية وحوَّله إلى مفهومٍ فلسفي. ونلاحظ بشكلٍ خاص مدى تأثر الفلسفة الفيثاغورية بالأساطير الأورفية، وإلى درجةٍ يصعب معها أحيانًا التفريق بين العناصر الفيثاغورية والعناصر الأورفية، وخصوصًا عندما ننظر إلى الأفكار المتعلقة بتناسخ الأرواح ومبدأ الثواب والعقاب في الحياة الأخرى، وما إليها من الأفكار والمبادئ والتحريمات والرموز المشتركة بين هذَين النظامَين. ويبدو هذا التأثر بأوضح أشكاله في فلسفة إمبيدوقليس، حكيم صقلية والتلميذ النجيب لفيثاغورث، التي يعتبرها العارفون بالأورفية بمثابة نسخة دنيوية عنها.١

هذا الطابع السحري للأسطورة، وأثرها الفعال في توصيل الأفكار المجردة وتثبيت المعتقدات، يفسر لنا تلك الوحدة المصيرية بين الدين والأسطورة، مما سأتعرض له بكثيرٍ من التكثيف والإيجاز فيما يأتي.

إن الدين في قاعه السيكولوجي الأعمق، هو اختبارٌ للقدسي من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصورٍ عقلاني. وهذه التجربة لا تختص بفردٍ دون آخر ولا بفئةٍ دون غيرها، بل يتعرض لها الجميع وإن بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الشدة والوضوح، ويتعاملون معها بدرجاتٍ متفاوتة أيضًا من القبول والاعتراف. غير أن هذه الخبرة الدينية، الفردية من حيث الأساس والمنشأ، لا تبقى حبيسة السيكولوجية الفردية، بل يجري عادةً تحويلها لتصب في تيار عقيدةٍ مؤسسةٍ ومصاغة في قوالب، تنشأ حولها طقوس وأساطير تلعب دور المُرَشِّد والمنظم للخبرة الدينية، وتدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. فهنا تقوم الأسطورة الجمعية بترميز الخبرة الدينية وتعمل على موضعتها في الخارج، ثم تأتي الطقوس لتلعب دور المطهر للانفعالات الدينية العنيفة. عند هذا المستوى تتحول التجربة الانفعالية إلى صورةٍ أو إلى مجموعة صور، ويتبلور المعتقد الديني يدًا بيد مع الأساطير التي تعيد تقديم الانفعال الديني إلى الوعي وقد تحول إلى معتقد.

تنشأ الأسطورة إذن عن المعتقد الديني وتكون بمثابة امتداد طبيعي له؛ فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتثبته في صيغٍ تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال. كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الأسطورة تعمل على تزويد فكرة الألوهية بألوانٍ وظلال حية؛ لأنها ترسم للآلهة صورها التي يتخيلها الناس، وتعطيها أسماءها وصفاتها وألقابها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحدد صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض.

وبما أن الخبرة الدينية ليست في أساسها خبرة عقلية بل انفعالية، فإنها لا تتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلع إليه، وإنما تتطلب معادلًا موضوعيًّا يموضعها في الخارج ويسبغ عليها مشروعيةً ومعقوليةً؛ وذلك من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركة مع الآخرين طالما حافظت على طاقتها الإيحائية العالية. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاد القوى السحرية للغة، وإلى أبعد حدٍّ ممكنٍ، من أجل موضعة خبرة كلَّانية بالقدسي لا ينفع في توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية. وهذا ما يفسر لنا لماذا لم يعمد كهَّان الديانات القديمة، وأصحاب الرسالات الدينية عبر التاريخ، إلى مخاطبة الناس بصيغ البيان. إن الاستماع إلى بضع آياتٍ من أي كتابٍ مقدسٍ (وليكن التاو الصيني أو الأوبانيشاد الهندي أو الزندافيستا الزرادشتي، أو المزامير التوراتية أو الإنجيل أو القرآن الكريم) يُغني المؤمن عن قراءة مئات الصفحات التي تخاطب عقله بالمنطق والبرهان؛ ذلك أن مثل هذه الآيات هي صيغٌ رمزية غير خاضعة للنفي أو الإثبات بالتقصي العلمي أو التحليل الفلسفي، شأنها في ذلك شأن الخبرة الداخلية التي نشأت عنها. من هنا تأتي تلك المناعة التي أظهرها الدين حتى الآن أمام النقد الفلسفي والعلمي، واستمراره فاعلًا ومؤثرًا في الحضارة الإنسانية رغم لا معقولية تعبيراته الرمزية.

إن أي نص فلسفي أو علمي يطرح نظرية لتفسير العالم أو لقطاعٍ محددٍ من هذا العالم، ينبغي أن يصاغ بطريقةٍ يمكن معها اختبار نظريته لإثبات صحتها أو بطلانها؛ وذلك عن طريق البرهان العقلي المنطقي في الفلسفة، أو الاختبار في العلم. وهذا الاختبار يكون أصيلًا بقدر ما يسمح بالإثبات وبالدحض في آنٍ معًا. من هنا فإن قابلية النص الفلسفي أو العلمي للاختبار هي قابليته في الوقت نفسه للإثبات أو للنفي. وإن أي نص غير قابل للدحض من حيث المبدأ هو نصٌّ زائف.٢ من هنا يأتي تحايل بعض النظريات العلمية التي تتستر وراء ستار العلم، وخصوصًا في مجال العلوم الإنسانية، عندما يجري تصميمها بطريقةٍ لا يمكن إثبات زيفها. ولعلنا واجدون في نظريات فرويد في التحليل النفسي خير مثال على ذلك. فعقدة أوديب التي يرى فرويد أنها متمكنة من كل إنسانٍ ذكر، وأنها تنطوي على الرغبة في قتل الأب من أجل الاستئثار بالأم، هي شأن لا يمكن دحضه سواء على المستوى المنطقي أم على المستوى الاختباري التجريبي. فإذا ما قال أحدهم بأنه لم يشعر أبدًا بالرغبة في قتل أبيه والاستئثار بأمه، جاءه رد النظرية المحكمة بأن من الطبيعي أن لا يشعر بذلك لأن هذه الرغبات قد تعرضت لعملية كبت، ولا يمكن الإفصاح عنها إلا عند الرضوخ لعملية تحليل نفسي طويلة.
يسير النص الديني المتسلح بالأسطورة على خُطا هذا النمط نفسه من النظريات الدوغمائية المدعمة، والمصممة بطريقةٍ لا يمكن إثبات زيفها. فلقد خرج الفلاسفة الطبيعيون الأوائل، مثلًا، بنظريةٍ عن العواصف الرعدية مفادها أن مثل هذه الظواهر تنجم عن تصادم جزيئات ثقيلة في السحب.٣ وبالطبع فإن هذه النظرية التي تحمل في طيَّاتها قابلية للإثبات أو للدحض، قد دُحضت بعد التعرف على الكهرباء وأثر الشحنات السالبة والموجبة في تشكيل العواصف الرعدية. أما قول النص الديني المدعم بالأسطورة بأن العواصف الرعدية هي نتاج لغضب الآلهة، فإن مثل هذه النظرية محصن ضد النقض ولا يمكن دحضه بالمنطق الأرسطي أو بالتجربة العملية. وحتى عندما تعترف هذه النظرية الدينية بأن للكهرباء دورًا في إحداث الرعود، فإنها تؤكد في الوقت ذاته أن الكهرباء نفسها ليست إلا أداة في يد الإرادة الإلهية، وأن المسبب الأخير للرعد هو الإله الذي يُسخر خصائص الكهرباء.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن النظرية المفتوحة على الدحض تقدم إرشادات من أجل الممارسة. وهذه الإرشادات إما أن تقودك للتثبُّت من النظرية أو لدحضها. أما النظرية المحصنة ضد النقض فلا تعطيك سوى تعليمات لا يقودك تنفيذها إلى معرفة مدى صحة النظرية من خطئها. وإليكم هذا المثال المبسط عما أقول: لنفرض أن سائلًا سأل عن الطريق إلى الكنيسة، فقال له أحدهم: «استمر مباشرة في هذا الطريق ثم انعطف في الطريق الثاني إلى اليمين وهناك ستجد الكنيسة.» إن مثل هذا القول يحتوي إرشادًا لأن السالك بعد بضع دقائق سوف يعرف نتيجة عمله بهذا الإرشاد؛ فإما أن يجد الكنيسة وإما لا يجدها. لقد وصل صاحبنا إلى الكنيسة فعلًا وهناك سأل الكاهن عن الطريق إلى ملكوت السموات، فقال له: «تبرع بكذا لصندوق الكنيسة وأشعل شمعةً أمام المحراب و… إلخ. وحين تموت فإن روحك تذهب إلى ملكوت السموات» … فدفع الرجل وأشعل شمعةً وفعل كل ما هو مطلوب من مسيحيٍّ مؤمن، ولكن هذه النظرية الثانية لا تقدم الإرشادات للممارسة كما فعلت الأولى عندما دلته على الطريق إلى الكنيسة؛ ذلك أن الموضوع هنا يتعلق أولًا بالرُّوح، وهي ليست مما يمكن التأكد منه بأية طريقةٍ عمليةٍ، وثانيًا لأن ذهاب الروح إلى الملكوت شأنٌ لا يمكن اختباره بالتجربة. من هنا فإن النظرية لا يمكن إثبات زيفها من صحتها. لقد تلقى الرجل في مثالنا هذا تعليمات عليه أن يثق بها دون مساءلة، ولم يتلقَّ إرشادًا؛ لأن الإرشاد من شأنه أن يكشف لك عن صحة ما قيل أو عن خطئه. لقد وُضعت أمامه تفاصيل الفعل ولكن الهدف الذي يتوجب عليه تحقيقه من وراء هذا الفعل يقع خارج المعرفة العملية، ولا يمكن الجزم بإمكانية تحققه أو عدمها.٤

لقد أشرت منذ قليل إلى أن الفلسفة قد استطاعت تحديد مهامها وصياغة مفاهيمها الخاصة انطلاقًا من نقدها للأسطورة، ولكن هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال انتصارًا مؤزرًا للفلسفة على الأسطورة؛ فالأسطورة لم تكن معنية بالنقد الفلسفي ولم يكن الفكر الأسطوري يشعر بالتهديد الحقيقي من قِبَل الفكر الفلسفي، بسبب تلك الخصيصة الأساسية فيه، وأعني بها: امتناعه على الدحض، وسيادته على الجانب الانفعالي غير العقلاني في الإنسان. ففي عقر الدار التي نشأت فيها الفلسفة؛ أي بلاد اليونان، وبعد الفلاسفة الأيونيين الأوائل والسفسطائيين وسقراط وأفلاطون وأرسطو، لم تستمر الديانة الإغريقية التقليدية المتمثلة بعبادات الأسرار، مثل الأسرار الأليوسيسية والأسرار الأورفية، بل إنها ازدادت ازدهارًا وزاد أتباعها بشكلٍ ملحوظ، إضافةً إلى ظهور عبادات أسرار جديدة قدمت من الشرق ودخلت عقر دار الثقافة الإغريقية ومن بعدها الثقافة الرومانية، نذكر منها أسرار سبيل وسيراييس وميترا. من هنا، فإن ما يقال لنا من أن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حدًّا للفكر الديني والميثولوجي، هو قولٌ مشكوكٌ بصحته، ويسير وفق الفرض القائل بأن الدين هو شكلٌ أدنى من النظر العقلي، والفلسفة هي شكله الأعلى.

إننا غالبًا ما نقبل الرأي القائل بأن تاريخ الفكر الإنساني قد تتابع عبر أربع مراحل هي: السحر، فالدين، فالفلسفة، فالعلم التجريبي. وقد تشكَّل هذا الرأي انطلاقًا من فرضية هيجل التي تقول بأن عصرًا ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية. ثم جاء الأنثروبولوجي البريطاني السير جيمس فريزر ليصوغ نظريته المعروفة حول أصل الدين وعلاقته بالسحر عند جذور التحضر البشري، وقدم لنا وجهة نظر محكمة وجذابة بشأن المراحل الأربع لتطور الفكر الإنساني، جعلتها في حكم البدهية التي يسوقها معظم الكتاب دون إخضاعها للنقد المسبق. غير أن نظرةً فاحصةً على مسار الحياة الفكرية للإنسان تُظهر لنا بوضوح أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقٍ عارضٍ ما لبث أن انطفأ أمام الفكر الديني والأسطوري، ثم تراجع الفكر الفلسفي قرونًا عديدةً قبل أن يُبعث مجددًا في العصور الحديثة متوكئًا عصًا عربية أبقت على قبسٍ من الفلسفة متَّقدًا على أطرافٍ ثقافيةٍ دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أو في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها له الفلسفة مع فترة مدها الأولى، فقد بقي أسير التصورات الدينية والأسطورية إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي التي كانت فاتحةً لاستقلال العلم عن الدين وعن الأسطورة، ثم تبع كوبرنيكوس غاليلو، فنيوتن، الذين كان لهم معًا فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث.

يقودنا هذا، إلى طرح عدد من التساؤلات المشروعة: هل دالت دولة الأسطورة تمامًا لصالح دولة العلم الكونية الحديثة؟ وهل انتصرت النزعة العقلانية بعد هذه القرون الطويلة من صراعها مع الأسطورة؟ هل ندرس الأسطورة اليوم باعتبارها ظاهرة ثقافية تمتُّ إلى ماضي الحضارة الإنسانية أو إلى الثقافة التقليدية (التي استمرت قائمةً على هامش الخط الرئيسي لتقدم الحضارة الإنسانية حتى العصر الحديث)؟ وهل لم يبقَ للأسطورة أي أثر محرك في حياتنا الحديثة؟

لقد تراجعت الأسطورة عن مواقعها القديمة كمركزٍ للحياة الفكرية في المجتمعات، وقامت الفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية بالاستيلاء على معظم ميادينها، لا سيما تلك الميادين ذات الموضوعات التي يمكن إخضاع مقولاتها للبرهان والاختبار، ولكنها، بقيت متحصنة في ذلك الموضع القوي الذي لم تستطع دولة العلم والعقل الحديثة دكَّه حتى الآن وهو الدين. وفي تلك المساحة الضيقة من أطروحات الدين بقيت عصيةً على الدحض وعلى الاختبار؛ فالأديان القائمة اليوم في شتى ثقافات العالم ما زالت تحافظ على أساطيرها التقليدية التي حافظت على طاقاتها الإيحائية إلى حدٍّ ما، وذلك رغم نضوب الفكر الأسطوري الذي كان فاعلًا ومؤثرًا في شتى مناحي حياة الثقافات القديمة. ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى قيام اتفاق غير معلن بين الدين والعلم على التعايش وعدم الاعتداء، حيث تُركت الطبيعة بقضِّها وقضيضها إلى المناهج العلمية تعمل فيها تجزئةً ودرسًا وتمحيصًا، وبقي الدين متحصنًا في تلك المواقع التي لا يرغب العلم في الاقتراب منها، أو يعلن عدم مقدرته في الوقت الحاضر على التعامل معها. وهنا تلعب المعتقدات الدينية وأساطيرها دورًا إيجابيًّا وبنَّاءً، باعتبارها وسيلة تواصل فعالة تجمع وتوحد في عالم يجنح نحو التغريب والتفريق.

في ظل هذا الوضع الراهن من المصالحة بين العلم والدين، قد لا يجد عالم الفيزياء غضاضةً في الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح، والذهاب إلى الكنيسة حيث يشعر لدقائق تقع خارج الزمن الفيزيائي، بأن الإله الابن قد تجسَّد في يسوع ووُلد من رحم العذراء في بيت لحم لكي يُقدِّم خلاصًا للبشرية. وقد لا يجد أيضًا عالم مسلم غضاضة في تأدية فريضة الحج والطواف حول الكعبة وتقبيل الحجر الأسود ورجم الشيطان بسبع حصيات. إننا في التعامل مع عالم الظواهر الطبيعية اليوم (وبعد أن اقتنع الدين بحصَّته من القسمة التي فرضتها المصالحة) نستطيع أن نتخلَّى كليًّا عن أي مفهومٍ دينيٍّ والتزام البرهان المنطقي والتجريبي. أما عندما ننتقل من المجال الطبيعاني الخارجي إلى عالم النفس الرحيب، فإن الدين يؤكد حضوره الآن مثلما أكده في الماضي؛ لأن الرموز الدينية تبقى على الدوام تعبيرًا عن وظيفةٍ نفسية غير عقلانية، هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى فإن العلم (وبعد اقتناعه بحصته من القسمة أيضًا) قد قصر دوره على البحث في مظاهر العالم وتسخير قوانينه لمصلحة الإنسان، بينما يتطلع الدين إلى ما وراء مظاهر العالم ويبحث في المعنى والغايات النهائية؛ أي إنه يبدأ من حيث ينتهي العلم. وفي الواقع، فإن العلم عندما يأخذ بتجاوز مظاهر الواقع نحو المعنى والغايات النهائية، فإنه يتخلى عن لغته وينتقل إلى التحدث بما يُشبه الرؤى النبوية؛ ذلك أن المعنى ليس شيئًا كامنًا في صميم المظاهر، بل هو شيءٌ متعلق بالوعي الإنساني ويضاف إلى المظاهر من خارجها؛ فالظواهر فقط «تحدث»، ونحن نعطيها ما نشاء من معنى. العالم «يحدث»، أما معناه فكامنٌ فينا. نحن الجنس الحي الوحيد الواعي الذي يتساءل عن المعنى.

غير أن المشكلة في أديان اليوم، هي تحوُّل الأساطير إلى دوغما تخدم أيديولوجيا جامدة لا تقبل التغيير. ففي مقابل الخلق الدائم والتلقائي للأساطير في الزمن الماضي، صارت الأساطير إلى حالةٍ ثابتةٍ تعكس جملة من المعتقدات التي تحرسها المؤسسة وتعمل على عدم تعريضها للتفسير المنفتح أو التأويل. وهذا ما يهدد بانقطاع التجربة الروحية الداخلية عن تعبيراتها الخارجية، وتحويلها إلى جملةٍ من القناعات الذهنية السطحية، وإلى جملةٍ من الطقوس التي فقدت فحواها ودورها ومعناها. وهنا يتحول الإيمان الطوعي إلى إيمانٍ مفروض، يفتح الباب واسعًا أمام الهرطقة التي تقطع الأفراد عن تجربتهم الروحية وترميهم في صحراء من الخواء النفسي. وكردِّ فعلٍ على هذا الجمود العقائدي تعمل الأسطورة أحيانًا على تجديد نفسها على هامش الدين المؤسساتي، من خلال الخيال الشعبي الخلَّاق الذي يصنع أساطيره دون رقابة القيِّمين على الأساطير التقليدية في المؤسسة الدينية. ومن الأمثلة على ذلك شيوع أساطير شعبية ذات طابع ديني قوي في بلادنا، ونموذجها أساطير الخضر في بلاد الشام والسيد البدوي في مصر، وشيوع خرافات الأولياء الذين حلُّوا محل الآلهة الثانوية في الأساطير القديمة؛ فهذا الولي للشفاء وذلك لإزالة العقم … إلخ. أما في بلاد الغرب. فبعد فقدان مثل هذه الأساطير الشعبية لقوتها الإيحائية، اتجه الكثيرون نحو أديان الشرق الأقصى يبحثون فيها عن أساطيرَ ورموزٍ روحية لم تفقد بعدُ طاقتها الإيحائية، ولم تتحول إلى أيديولوجيا ناجزة جامدة، بل حافظت على صلتها بذلك النبع الداخلي الخلاق الذي يجعلنا في تواصلٍ حرٍّ ودائم مع القدسي.

اليوم، لا توجد أساطير حقيقية فاعلة على نطاقٍ واسع في الحياة الفكرية والروحية والأدبية للثقافات الحديثة، خارج الأديان القائمة التي جعلت من أساطيرها بنًى متحجرة من الماضي البعيد، أشبه بتلك البنى الحجرية التي تركها لنا الأقدمون من أمثال الزقورات الرافدية والأعمدة التدمرية. غير أن الأسطورة لا تمارس تأثيرها فقط من خلال نصوصها المتداولة بين الناس، وإنما من خلال ذلك النزوع الأسطوري الذي يقبع في أعماق النفس متخفيًا خلف آليات التفكير العلمي والفلسفي. ولهذا النزوع وجهٌ إيجابي بنَّاء، وآخر سلبي قد يكون شديد الأذى والتدمير.

في جانبه الإيجابي، يعمل النزوع الأسطوري على التخفيف من سلطان النزعة العقلانية التي تنظر إلى الكون باعتباره آلةً جبارة عمياء، تعمل وفق قوانين أزلية ميكانيكية. فمع مغادرة العصور الوسطى في أوروبا والدخول في العصور الحديثة، أخذ المفهوم القديم عن عالمٍ عضوي حي يتلاشى تدريجيًّا ليحل محله مفهوم عن عالمٍ ميكانيكي آلي لا حياة فيه. وقادت فلسفة ديكارت وفيزياء نيوتن وفلكيات كوبرنيكوس وتلامذته، إلى عكس مسار السعي العلمي وتغيير أهدافه. فبعد أن كان سعي العلم يتجه نحو اكتساب الحكمة وفهم سبل الطبيعة من أجل العيش بوئامٍ معها، تحوَّل سعيه إلى السيطرة على الطبيعة عوضًا عن التكامل معها، وشرع الإنسان في استخدام معارفه العلمية والتقنية من أجل الإخلال بنظام البيئة المستقر منذ القدم. ترافق ذلك مع نظامٍ للقيم المعرفية تم تعميمه على العالم بأسره تقريبًا، حلَّ محله النظم المعرفية التقيدية، التي تنطلق من الإحساس بالوحدة مع الوسط الطبيعي، وبتداخل الظواهر الروحية والمادية.

وهنا يأتي دور النزعة الأسطورية لدى الإنسان، والتي تجد تجسيدها الأكثر إيجابية وحيوية وفعالية من خلال الشعر والفن.

يقوم الشعر والفن التشكيلي بإعادة برقعة الطبيعة بذلك الستار الصوفي الأخاذ، بعد أن نزعت الثورة العلمية عنها قدسيتها وكشفت الأسرار عن كثيرٍ من مجرياتها. ومن هنا ضرورة الفن الذي يعيدنا إلى التأمل في الغايات القائمة ككائناتٍ طبيعانية بالدرجة الأولى، كما يعيدنا إلى التأمل في الغايات القائمة خلف المظاهر الكونية المختلفة، ويرجع إلينا ذلك الحدس الخلاق، والإدراك الباطني المدهش، والرائع، والفائق، و… القدسي. إن الفن الذي لا يصدر عن مثل هذا النزوع الميثولوجي المتأصل في النفس، هو فقط فن الحواسيب الفائقة التي تقوم الآن بعددٍ لا يُحصى من المهام «الإبداعية»، وإلى جانب الشعر والفن التشكيلي هناك فنونٌ أخرى تَمْتَح من المصدر الميثولوجي الدفين ذاته، وعلى رأسها الدراما والسينما. فلقد أخذت الدراما الإغريقية تلعب دورًا هامًّا في حياة الناس في بلاد اليونان، بعد أن تحولت الأساطير اليونانية الكلاسيكية إلى أدبياتٍ دنيوية ونزعت عنها غلالاتها الميثولوجية. وفي العصر الحديث ترافقت نهضة الدراما واستئثارها بعقول الملايين في أوروبا، مع الثورة العلمية في القرن السادس عشر والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وما أحدثته هاتان الثورتان من فراغٍ ميثولوجي داخلي. وربما لهذا السبب اتجهت الدراما الإغريقية في بداية عهدها إلى النضح من الموروث الميثولوجي التقليدي، وقام شكسبير بابتكار مسرحيات ما زالت تحركنا حتى الآن لأنها نابعةٌ عن نزوعٍ ميثولوجي أصيل كان يواجه به إنسان ذلك العصر طغيان النزعة العقلانية، التي تعمل بإصرارٍ على نزع الأسطورة عن كل الموروث القديم أدبيًّا كان أم دينيًّا. أما عن صعود السينما في القرن العشرين وتحريكها مليارات البشر حول المعمورة، فلا يمكن تفسيره إلا بصدور الفن السينمائي عن نزوع ميثولوجي، وسدِّه لحاجاتٍ ميثولوجية أصيلة لدى جماهير الناس في كل مكان، حتى غدت السينما بمثابة الصانع الرئيسي لأساطير القرن العشرين.

وهكذا، فما دامت الأسطورة، باعتبارها ميلًا، تعمل كخميرةٍ لكل أشكال التعبير الفني، وتضع بين أيدينا منظارًا ملونًا يُعيد البهجة والمعنى إلى الحياة، فإن باستطاعتنا الركون إليها واعتبارها مصدرًا إيجابيًّا في إنتاج الثقافة واستهلاكها.

غير أن النزوع الأسطوري، باعتبار طبيعته غير العقلانية، قد يُشكِّل في بعض الأحيان تهديدًا حقيقيًّا على المجتمعات الحديثة في العديد من المجالات. ففي فترات المحن والشدائد التي يمر بها مجتمعٍ ما، تطفو الأسطورة على سطح الوعي وتنبعث النبوءات القديمة من مرقدها لتفسير حقيقة ما يجري، ويأخذ السياسيون وحتى العلماء بالتحدث بما يشبه الأساطير. في مثل هذا الجو غير العقلاني الذي يجتاح الجماهير، قد يجد أكثر أصحاب العقول رجاحةً صعوبةً في مقاومة التوجه إلى مكانٍ ظهر فيه طيف السيدة العذراء، أو الانضمام إلى الآلاف المؤلفة من المتدافعين للحصول على البركة والشفاء من تمثالٍ قيل إنه يذرف الدمع، أو آخر قيل إن قطراتٍ من الدم تتساقط من مواضع المسامير على كفيه وقدميه. وقد تنبعث من أعماق اللاشعور الجمعي رموز ميثولوجية قديمة تجد تجسيدًا لها في ظواهر يسبغ عليها الهوس الجمعي طابعًا إعجازيًّا وبعدًا ماورائيًّا. من ذلك على سبيل المثال ما حدث منذ زمنٍ ليس بالبعيد في بلدةٍ سورية نائية قيل إنه قد ظهر فيها تيس من الماعز يحلب اللبن، وإن لبنه يصنع المعجزات ويشفي الأمراض عن طريق الشرب أو الدهن. وهكذا تم بعث إله الخصب القديم تموز من مرقده، وراح أحد رموزه التقليدية يسرح بين أهل القرن العشرين ويوزِّع بركاته على الناس، وصار المكان مزارًا مقدسًا يتقاطر إليه عشرات الألوف.

وفي صيف عام ١٩٩٦م تجوَّل كاهنٌ كندي في محافظات لبنان وسوريا، معلنًا أنه قادر على شفاء الأمراض بإذن الله وبإيمان الناس. وفي كل بلدةٍ حلَّ فيها تعطَّل نظام الحياة اليومية وترك الجميع بيوتهم ومشاغلهم وتوجهوا إلى مكان إقامة الكاهن؛ إما للشفاء أو لمشاهدة ذلك العرض المدهش. وقد قال لي شهود عيان أثق بهم، إن عددًا لا بأس به من حالات الشفاء قد تمت وبشكلٍ مدهشٍ في ذلك الجو المشحون بالميثولوجيا والإيمان. ولعل من أكثرها لفتًا للنظر أن رجلًا مُقعدًا كان يشق طريقه وسط الحشود المتدافعة على كرسيٍّ ذي عجلات عندما علَق في قلب الخضمِّ البشري دون أن يستطيع تقدمًا ولا تراجعًا، ولكنه ما لبث أن قام عن كرسيه بعد وقتٍ قصيرٍ. لقد نسي جميع هؤلاء المتقاطرين إلى ذلك العرض الميثولوجي أن سيجموند فرويد قد أعلن قبل مائة عام من الآن، واستنادًا إلى تجارب سريرية موثقة، أن كل مرض هستيري ذي منشأٍ نفسيٍّ قابلٌ للشفاء بواسطة الإيحاء عن طريق استنفار القوى الداخلية للإنسان، سواء أكان هذا المرض عمًى أم صممًا أم شللًا. وأيُّ جو قادر على استنهاض القدرات الداخلية للمريض مثل هذا الجو المشحون بإيمان عشرات الألوف أو برغبتهم الحقيقية في الإيمان وفي التصديق؟! ولكن النزوع الميثولوجي في النفس الإنسانية يأبى إلَّا أن يعبر عن نفسه في كلِّ مناسبةٍ تتيحها له شروط هذا العالم الخاوي من الميثولوجيا.

كما يتجلى النزوع الأسطوري في المجتمعات الحديثة فيما نراه من جنوح جماهير الشباب إلى خلق أنصاف آلهة تسكن على الأرض، وتقدم للناس عزاءات صغيرة تعوضها عن جفاف الحياة العصرية وغربة الأفراد بعضهم عن بعض فيها. ولنا في نجوم موسيقى الروك الحديثة خير مثال على نزوع الجماهير إلى خلق مثل هذه الشخصيات، التي تُحيط بها هالةٌ من القداسة جديرة بأي إله شعبي أو قديس أو ولي. إن ما نراه في صالات الروك الهائلة من هوسٍ جمعي، ليُشير فعلًا إلى نشوء «عبادات» دنيوية من حيث الشكل، ولكنها تتمتع بكلِّ ما للعبادات الدينية من فعلٍ وتأثيرٍ، وتصدر عن ذات النوازع الأسطورية المتأصلة في النفس البشرية، والتي جعلت في الماضي الأسطورة ممكنة. يكفي أن تشاهد واحدةً من هذه الحفلات المجنونة على شاشة التلفاز، أو تنخرط إذا أسعفك الحظ بواحدةٍ منها، حتى تقتنع بأن عربدات طقوس الإله ديونيسيوس لم تنقطع قط، وأنها ما زالت تُمارس تحت أسماءٍ جديدة وبأشكالٍ جديدةٍ، وذلك كلما ازدادت وحشة ووحدة الشباب في هذا العالم الغريب، وكلما زادت حاجتهم إلى الشعور بالاتحاد والاندماج. فالإنسان الحديث الذي غالبًا ما يفخر بعلمانيته وعقلانيته هو سليل ذلك الإنسان المتدين القديم صانع الأساطير. وهو إذ يدير ظهره للأساطير التي فقدت لديه كل مقدرة على الإيحاء، إنما يعمل على استبدال أساطير مزيفة وطقوس عابثة بها، قد ترضي ذلك النزوع الأسطوري لديه، ولكنها لا تجعله في انسجامٍ وتلاؤم مع متطلباته الحقيقية. وهذا ما يجعل الجماهير على الدوام عرضة للوقوع في براثن أساطير حديثة مصممة بشكلٍ مدروس من أجل توجيه الجماهير والسيطرة عليها. ويتجلى ذلك بأخطر صورة في مجال السياسة.

إن أخطر الجوانب السلبية للنزوع الأسطوري تتبدَّى في مجال السياسة، وخصوصًا إبان فترات صعود الأنظمة التوتاليتارية. فخلال فترات الاضطراب ومنعطفات التغيير التي قادت إلى صعود هذه الأنظمة، يعمل مفكروها على الإفادة من النزوع الأسطوري بما هو نزوع غير عقلاني، فيعمدون إلى فبركة أساطير مدروسة بمهارةٍ يصنعونها تحت تصرف أساطين الإعلام، من شأنها استقطاب الأحوال الانفعالية عند الجماهير ومصادرة محاكماتها المنطقية لصالح نزعاتها غير العقلانية، ويعتمد هؤلاء على الاستفادة القصوى من ظلال الكلمات ومن الطابع السحري للغة، وينحتون مصطلحات ذات شحنة عاطفية هائلة تحرك الجماهير وتوجهها نحو الغايات المرسومة. يقول الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر:

«لقد بدأ العالم السياسي يشعر منذ عام ١٩٣٣م بالقلق من إعادة تسلح ألمانيا ومن احتمال انفجارها دوليًّا. والواقع أن إعادة تسليح ألمانيا قد بدأ قبل ذلك بسنواتٍ عديدةٍ، وإن لم يكن قد لحظه أحد. إن إعادة التسليح الحقيقية قد حدثت عندما أُعيد إحياء الأساطير. ولم تكن إعادة التسليح العسكري إلَّا عاملًا مساعدًا، ونتيجة ضرورية لإعادة التسليح الذي أحدثته الأساطير السياسية. وأول خطوة اقتضت الضرورة القيام بها هي إحداث تغيير في مهمة اللغة. ولو أني قرأت هذه الأيام كتابًا من الكتب الألمانية التي نُشرت في ذلك الوقت، فإني سأرى أنني لم أعُد قادرًا على فهم اللغة الألمانية. وهذا أمرٌ مذهل؛ فلقد تم صك كلمات جديدة، بل وأصبحت الكلمات القديمة تُستخدم للدلالة على معانٍ جديدةٍ. ويرجع هذا التغيير إلى أن هذه الكلمات بعد أن كانت تُستعمل في أغراض دلالية ووضعية ومنطقية قد أصبح لها الآن دور سحري، قُصد به إحداث آثار معينة لتحريك انفعالات معينة، ولكن البراعة في استعمال الكلمة السحرية ليست كل شيء؛ فلكي تُحدِث الكلمة تأثيرها كاملًا ينبغي أن تضاف إليها طقوس جديدة. وتتميز هذه الطقوس برتابتها وصرامتها وتزمُّتها، كالطقوس التي نراها في المجتمعات البدائية. ولكل طبقةٍ وجنسٍ وجيلٍ من الأجيال الطقوس الخاصة به، فلا أحد يستطيع السير في الطرقات، ولا أحد يستطيع تحية جاره أو صديقه دون اهتمام بأحد الطقوس السياسية. والعواقب المترتبة على هذه الطقوس الجديدة واضحة. فلا شيء يمكن أن يخمد كل قوانا الفَعَّالة وقدراتنا على الحكم والإدراك النقدي، وينزع عنا الشعور بالشخصية والمسئولية الفردية، مثل الأداء التلقائي المطرد للطقوس نفسها.»٥
إن الأيديولوجية النازية التي قادت إلى كارثةٍ على مستوى العالم، قد سيطرت على عقول عشرات الملايين من خلال أساطير رثة، مثل «أسطورة الفوهرر الملهم» و«أسطورة العرق الآري المتفوق»، وما إليها من أساطير تم زرعها بمهارةٍ في مجتمع يفتخر بأنه صانع الفلسفة الحديثة في أوروبا ورائد الفكر العلمي والتكنولوجيا المتفوقة. وقد عمد مفكرو ودعائيو هذه الأيديولوجية منذ البداية إلى نبذ كل ما يمتُّ إلى «البرهان» بصلة، مؤكدين على «البيان» السحري، في كتاباتهم ومنشوراتهم، واستطاعوا خلال فترةٍ وجيزة الولوج من «بوابة اللاعقلانية» المفتوحة دومًا في النفس الإنسانية، فاستولوا على نفوسٍ وعقولٍ أكثر شعوب أوروبا نزوعًا نحو التفكير العقلاني الصارم. يقول أحد مفكري الحركة النازية فيلهلم ستابل: «إن الحركات السياسية التي تلجأ إلى أسلوب الإقناع، هي الحركات التي نالت مكانتها أصلًا بالإقناع. أما النازية فإنها أيديولوجيا بسيطة وتقوم على أفكارٍ أولية لا تحتاج إلى اللجوء للإقناع».٦ وقد أكد هتلر نفسه، وفي أكثر من مقطعٍ في كتابه المشهور «كفاحي»، على ضرورة تفادي الإقناع في التوجه إلى الجماهير والتركيز على مخاطبة العواطف والانفعالات، وتميزت أفكاره الساذجة التي طرحها في هذا الكتاب وفي جميع خطبه الشهيرة، بعدم قابليتها للبرهان على أيِّ صعيد، وابتعادها عن أبسط الوقائع العلمية. ففي شرحه للنظرية النازية في الأجناس يقول: «إن الإنسانية تنقسم إلى ثلاثة أجناس: (١) الجنس الذي صنع الحضارة. (٢) الجنس الذي حافظ عليها وسندها. (٣) الجنس الذي يعمل على تدمير الحضارة. أما الجنس الأول فهو الجنس الآري الصانع الوحيد للحضارة. وأما الجنس الثاني فهم الآسيويون من أمثال اليابانيين والصينيين الذين استمدوا الحضارة من الآريين ولم يكونوا خالقين لها. وأما الجنس الثالث فمثاله اليهود الذين ما فتئوا يهدمون منجزات الحضارة الإنسانية.»٧ ثم يخلص من هذه الأطروحات وأمثالها مما لا يقيم وزنًا لأي منطقٍ وحقيقةٍ تاريخيةٍ أو علميةٍ، إلى القول بضرورة سيادة العنصر الآري وافتتاحه لعصرٍ جديدٍ في تاريخ البشرية.

إن من يسخر من أمثال هذه الأساطير السياسية الحديثة اليوم، عليه أن يتذكر أن هذه الأساطير نفسها قادت ملايين الألمان إلى الموت في بطاح روسيا الثلجية وفي صحارى شمال أفريقيا الموحشة؛ وأن أمثالها جاهز أبدًا للتوالد كلما سنحت لها الفرصة وتهيأت الشروط، فبوابات اللاعقلانية الإنسانية جاهزة في كل لحظة للانفتاح على مصاريعها وتدمير كل ما بناه العقل الإنساني بكدٍّ وأناةٍ. والنزوع الأسطوري في جانبه البنَّاء قد يتحول في أي وقتٍ إلى ارتماءٍ في حضن الشيطان، ويسمح لكل تلك العفاريت والغيلان أن تنطلق من قماقمها المنسية، لتخرج في أشكالٍ عصرية جديدة وتتربع في سدَّة السلطان، وتكرِّس إبليس سيدًا بالفعل لهذا العالم.

إن دراسة الأسطورة وفهمها، من خلال المنظور الذي قدمته في هذا البحث، تتحول إلى دراسةٍ للإنسان ودراسة الماضي، إلى فهمٍ للحاضر واستشرافٍ للمستقبل.

١  Walter Wili, The Orphic Mysteries (in: The Mysteries, edt. by Joseph Campbell, Princeton 1978, pp. 83–85).
٢  أنا مدينٌ بهذه اللفتة إلى الفيلسوف موريس كورنفورث في كتابه:
الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح، ترجمة فاروق عبد القادر، دار الآداب والثقافة، بيروت، ١٩٧٩م، ص١٦.
٣  وهذا ما كان والدي يقوله لي وأنا في السادسة من عمري، رغم أنه كان إنسانًا متعلمًا؛ ربما لأن في هذا التفسير العلمي القديم نوعًا من السهولة في التقبل بالنسبة لعقل طفلٍ صغيرٍ.
٤  المرجع نفسه، ص٩٠-٩١.
٥  إرنست كاسيرر: الأسطورة والدولة، ترجمة أحمد حمدي محمود، القاهرة ١٩٧٥م، ص٣٧٢–٣٧٥.
٦  W. Reich, The Mass Psychology of Fascism, Pelican 1975, p. 68.
٧  Ibid., pp. 110-111.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥