(٣) الأسطورة والمعنى

لقد قلنا في البحث السابق بأن الأسطورة هي ناتجٌ انفعالي غير عقلاني؛ أي إنها تصدر عن حالةٍ انفعاليةٍ تتخطى العقل التحليلي، لتنتج صورًا ذهنيةً مباشرة تعكس تلك العلاقة الكلَّانية بين الذات/الوعي، والعالم/المادة؛ إلا أن الأسطورة ليست انفعالًا صرفًا لأنها توسط الأفكار في محاولتها للتعبير عن ذلك الانفعال وموضعته في الخارج. فهي والحالة هذه نشاطٌ يصدر عن ذهنيةٍ لم تتعلم بعدُ كيفية تجزئة موضوع معرفتها وتحليله ثم إعادة تركيبه. إنها نوعٌ من الحدس بالكليات يموضع معرفته الكلية في صورٍ ومشاهدَ وشخصياتٍ مفعمة برموزٍ ذات دلالات، بعضها يتصل بعالم الشعور وبعضها يتصل بعالم اللاشعور. من هنا فإنها لا تُشكل «معرفة» بالمعنى الدقيق للكلمة. فكيف نستطيع اليوم اختراق هذه البنية الرمزية المعقدة من أجل الوصول إلى رسائلها الضمنية؟ وكيف يستطيع العقل الحديث التفاعل مع هذه التركة الثقافية الغريبة عنه كل الغرابة؟

إننا أمام مشكلة تتعلق بالتفسير. فنحن رغم إحساسنا اليوم بسطوة الأسطورة ونفاذها إلى أعماقنا لتودع رسالة ما هناك؛ إلا أننا غالبًا ما نضيع عن فهم هذه الرسالة وإعادة صياغتها بطريقةٍ خطيةٍ تنتقل من المقدمات إلى نتائجها. أما لبُّ هذه المشكلة فهو أننا لا نستطيع تجاوز ذلك الناظم الأساسي للعقل الحديث، وأعني به ناظم «البرهان». فلقد أعادت الفلسفة الإغريقية والفلسفة العربية من بعدها، تشكيل العمليات العقلية للإنسان المتحضر وفق قواعد البرهان العقلي. ثم تابعت العلوم المختلفة التي استقلت عن الفلسفة هذه المهمة، فنشأ البرهان الرياضي والبرهان التجريبي بصوره وأشكاله جميعها، مما قادنا إلى عصر المعلوماتية الراهن. وبما أن البرهان مرتبط عضويًّا بعملية التحليل والتفكيك، وبالإدراك المجزأ لموضوع معرفته، فإنه أكثر ما يمكن بعدًا عن «المنطق» الأسطوري الذي يحدس ولا يحلل، ولا يرى في الجزء إلا صورة عن الكل، وينظر إلى «البرهان» كشأنٍ متضمن في عملية «البيان».

إلى جانب هذا الانفصال النوعي بين العقل الحديث والعقل الميثولوجي، وهو انفصالٌ يشعر به دارسو الثقافات التقليدية الحديثة، هنالك انفصالٌ من نوعٍ آخر يشعر به دارسو الثقافات القديمة، هو انفصال القِدم والانقطاع. إن العالم القديم الذي أنتج الأساطير، وكانت بالنسبة إليه وسيلة تلاؤم وتوازن مع وسطه الفكري الداخلي ووسطه الخارجي، هو عالمٌ بعيدٌ عنا زمنيًّا، والعديد من حضاراته المنطوية في الزمن السابق قد ظهر أمامنا من تحت الآكام، ولم نكن نعرف عنه شيئًا ولا أسلافنا القدماء من قبلنا. فهذه الحضارات موغلة في القِدم من جهة ومنقطعة عنا من جهةٍ أخرى. ولتوضيح مسالة الفرق بين القِدم والانقطاع أقول بأن عصر الخلافة الأموية هو عصرٌ بعيدٌ عنا كل البُعد ولكنه غير منقطع. فنحن متصلون بسلسلةٍ لم تنقطع واحدة من حلقاتها أبدًا، ولم يأتِ في سياق الزمن الواصل بيننا وبينه وقت نسي فيه ناسه خلفاء بني أمية أو أشعار وأخبار ذلك العصر. أما حضارة سومر، ومثلها إيبلا؛ فقد ظهرت لنا دفعة واحدة ولم نكن نعرف عنها شيئًا البتة قبل بضعة عقود من الزمان، ولم يكن الأقدمون منا يعرفون عنها أيضًا؛ فهي بعيدةٌ ومنقطعةٌ في آنٍ معًا.

ومما يزيد مسألة البعد والانقطاع تعقيدًا، أن الحضارات التي صنعت الأساطير لم تكن تنتظم في زمانٍ ثقافيٍّ متصل ومتجانس، بل إنها تعاني أيضًا من مشكلة التباعد الزمني، والانقطاع بعضها عن بعضٍ في أحيانٍ كثيرة؛ فالحضارة الآشورية، مثلًا، بعيدة عن الحضارة السومرية بُعد الحضارة الآشورية عنا. لقد كان الآشوريون ورثة ثلاثة آلاف عامٍ من حضارة وادي الرافدين. ومع ذلك فلم يكن بينهم متعلمٌ واحدٌ يعرف عن الثقافة السومرية وتاريخها وملوكها، ولم تكن النصوص السومرية القليلة الموجودة في مكتبة آشور بانيبال إلا نسخًا عن أصولٍ قديمة لا يعرف أحدٌ عن أصلها وفصلها.

على أننا نجد بعض العزاء في أن المتأخرين من مفكري العالم القديم، لم يكونوا في وضعٍ أفضل منا عندما حاولوا تأمل عالم الأسطورة، إبان الفترات الأخيرة من تاريخ الشرق القديم، بعدما اقتحمت عليه الثقافة الإغريقية وأحدثت تغييرات عميقة في بنية وأساليب التفكير المشرقي. وهذه نقطةٌ حساسة تتطلب بعض التوضيح بالأمثلة التي أُورد أبرزها فيما يلي:

(١) برغوشا وأسطورة التكوين البابلية

في القرن الثالث قبل الميلاد، عاش كاهنٌ بابلي اسمه برغوشا، وضع العديد من المؤلفات باللغة اليونانية، وعُرِف باسمه اليوناني بيروسوس. ومن أهم مؤلفات هذا الكاهن كتابٌ ضخم عن تاريخ بابل وحضارتها، جمع فيه كل ما وصل إليه علمه من أخبارٍ تواترت إليه عن حضارة شعبه، ولكن هذا الكتاب الهام ضاع، وبقيت منه شذرات في بعض مؤلفات الكُتَّاب الكلاسيكيين، بينها هذه الشذرة التي يتحدث فيها عن أسطورة التكوين البابلية فيقول:

«في البدء، لم يكن سوى الظلام والمياه، ثم ظهرت إلى الوجود مخلوقات عجيبة التكوين: رجالٌ ذوو أجنحة ولهم وجهان بدل الواحد؛ وآخرون ذوو أجسامٍ بشريةٍ ولكن برأسين، رأس لامرأةٍ ورأس لرجل، وكانت أعضاؤها الجنسية مذكرة ومؤنثة معًا؛ وغيرهم لهم سيقان الماعز وقرونها، أو حوافر الخيل وذيولها. كان هنالك حيوانات شتى استعارت أعضاء بشرية، كما استعارت بعضها من بعض أيضًا. وفوق هؤلاء حكمت امرأة اسمها أموركا، والكلمة في اللغة الكلدانية تعني تامتي أي البحر، ثم جاء مردوخ-بل، فصارع المرأة وشطرها نصفين، فجعل من شطرها الواحد أرضًا ومن شطرها الثاني سماءً، وقبض على المخلوقات العجيبة التي تتبعها جميعًا، وأحل النظام في الكون، ولكن الأرض كانت خربة ومهجورة، فأمر مردوخ بخلق الإنسان من ترابٍ ممزوج بدم إله قتيل، ليملأ الأرض، ثم صنع الحيوانات بأجناسها، وبعد ذلك خلق النجوم والكواكب والشمس والقمر.»١

مما لا شك فيه أن جزءًا لا بأس به من المعلومات المتعلقة بالمعتقدات البابلية القديمة عن أصل الكون والآلهة قد وصل إلى برغوشا، ولكن الأمر المؤكد هو أن نص أسطورة التكوين البابلية الأساسي، الذي بين أيدينا اليوم، والذي تحدرت منه هذه الشذرات التي أوردها، لم يكن متوفرًا بين يديه. فرغم اتفاق رواية برغوشا في كثيرٍ من نقاطها مع الأسطورة الأصلية؛ إلا أن الاختلاف بينها واضحٌ في كثيرٍ من الأحداث الرئيسية وترتيبها، وفي اختزال بعضها وغياب بعضها الآخر تمامًا. والأهم من ذلك أن نص برغوشا قد قصَّر عن نقل جو الأسطورة ومراميها الأصلية، وهو يبدو لنا اليوم أشبه بتقريرٍ صحفيٍّ لمراسلٍ غير متخصص يتحدث عن لوحٍ أثري تم اكتشافه حديثًا. إنه صورةٌ عن فترة النزع الأخير لعالم الديانات المشرقية القديمة، بعد جفاف روحها وانقطاع أصولها.

ولنقارن الآن نص برغوشا ببعض مقاطع الإينوما إيليش؛ أسطورة التكوين البابلية، التي يرجع نصها إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، لنلاحظ الفرق بين النص النثري التقريري والنص الأسطوري.

برغوشا : في البدء، لم يكن سوى الظلام والمياه.
الإينوما إيليش :
عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض،
لم يكن من الآلهة سوى أبسو، أبيهم،
وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعًا،
يمزجون أمواههم معًا.٢
برغوشا : ثم ظهرت إلى الوجود مخلوقاتٌ عجيبة التكوين، رجالٌ ذوو أجنحة … إلخ.
الإينوما إيليش :
الأم تعامة، خالقة الأشياء جميعًا،
أتت بأسلحةٍ لا تقاوم، أفاع هائلة،
حادة أسنانها، مريعة أنيابها،
مُلئت أجسادها بالسُّم بدل الدماء،
أتت بتنانين ضارية تبعث الهلع،
توَّجتها بهالةٍ من الرعب وألبستها جلال الآلهة،
يموت الناظر إليها فرقًا.
خلقت الأفعى الخبيثة، والتنين، وأبا الهول،
الأسد الجبار، والكلب المسعور، والإنسان العقرب،
عفاريت العاصفة، والذبابة العملاقة، والبيسون،
أحد عشر نوعًا من الوحوش أظهرت إلى الوجود … إلخ.
برغوشا : ثم جاء مردوخ بل وصارع المرأة.
الإينوما إيليش :
رفع الهراوة أمسكها بيمينه،
وربط القوس والجعبة إلى جنبه،
ثم أرسل البرق أمامه،
وملأ جسمه بالشعلة اللاهبة.
صنع شبكةً يحيط بها تعامة،
وصرَّف الرياح تمسك بأطرافها؛
ريح الجنوب وريح الشمال، وريح الشرق وريح العاصفة.
خلق الأمهيلو الرياح الشيطانية، وخلق الإعصار،
الرياع الرباعية والرياح السباعية والزوابع والرياح الداهمة.
ثم أفلت الرياح التي خلق،
فهبَّت من ورائه وهاجت في إثره،
وقد حفَّت به الآلهة، حفَّت به الآلهة،
تدافعت حوله الآلهة، تدافع آباؤه الآلهة،
(وعند اللقاء في أرض المعركة):
تلت تعامة تعويذتها وألقتها عليه مرارًا وتكرارًا،
فنشر الرب شبكته واحتواها في داخلها،
وفي وجهها أفلت الرياح التي تصطخب وراءه،
وعندما فتحت فمها لابتلاعه،
دفع في حلقها الرياح الشيطانية فلم تستطع إطباقًا،
وامتلأ جوفها بالهواء العاصف.
ثم أطلق الرب من سهامه واحدًا فمزق أعماقها.
فلما تهاوت أمامه أجهز على حياتها،
وبهراوته العتية فصل رأسها،
وقطع شرايين دمائها،
التي بعثرتها ريح الشمال إلى الأماكن المجهولة.
برغوشا :
وشطرها إلى شطرين جاعلًا من شطرها الواحد أرضًا،
ومن شطرها الثاني سماءً.
الإينوما إيليش :
ثم اتكأ الرب يتفحص جثتها المسجَّاة،
ليصنع من جسدها أشياء رائعة،
شقَّها فانفتحت كما الصَّدفة.
رفع نصفها الأول وشكَّل منه السماء سقفًا،
وضع تحته العوارض وأقام الحرس،
ثم جال أنحاء السماء فاحصًا أرجاءها،
استقام في مقابل الأبسو (بحر المياه العذبة)،
قاس الرب أبعاد الأبسو،
وأقام لنفسه نظيرًا له، بناءً هائلًا أسماه عيشارا (الأرض).
أخذ من لُعاب تعامة،
فخلق الغيوم وحمَّلها بالمطر الغزير،
وخلق من لعابها أيضًا ضبابًا.
ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالًا،
وفجَّر في أعماقها مياهًا،
فاندفع من عينيها نهرَا دجلة والفرات،
… إلخ.
ثم نزع شبكته تمامًا،
وقد تحوَّلت إلى سماءٍ وأرض.

تعطينا هذه المقارنة السريعة صورةً حيةً عن الإينوما إيليش، أسطورة أساطير الثقافة الرافدية، ويقدم لنا مثالًا عن سلطان الأسطورة الحقيقية الذي ينبع من سحر البيان لا من حبكة البرهان، وأسلوبها المسيطر الذي لا يخاطب العقل بل الوجدان. وذلك في مقابل النص الآخر الذي نزع عن الأسطورة غلالتها الميثولوجية وقدمها كمادةٍ معلوماتية باهتة، تُروى بأسلوبٍ موضوعي ومن موضعٍ مفارق.

(٢) فيلو الجبيلي وأسطورة التكوين الفينيقية

كما قام بيروسوس البابلي بوضع مؤلف عن تاريخ البابليين في القرن الثالث قبل الميلاد، كذلك فعل المفكر السوري فيلو الجبيلي في القرن الأول بعد الميلاد، عندما وضع مؤلفًا عن تاريخ الفينيقيين وحضارتهم. ومن المؤسف أن كتاب فيلو هذا قد ضاع كما ضاع كتاب بيروسوس من قبله، ولم يبقَ منه سوى شذراتٍ قليلة أوردها مؤلفون آخرون في كتبهم. في إحدى هذه الشذرات يروي فيلو عن أسطورة التكوين الفينيقية فيقول:

«في البدء، لم يكن هناك سوى هواء عاصف وخواء مظلم. ثم إن هذا الهواء وقع في حب مبادئه الخاصة وتمازج. ذلك التمازج دُعي الرغبة، وهي مبدأ خلق جميع الأشياء. ولم يكن للهواء معرفة بما فعل. وقد نشأ عن تمازج الهواء: موت؛ الذي كان عبارة عن كتلةٍ من الطين، أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة. وهو بذرة الخلق وأصل الأشياء، ثم استضاء الهواء بالتهاب اليابسة والبحر، وسُيِّرت الرياح والغيوم، وهطل المطر على الأرض مدرارًا. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتتصادم في الجو، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت ذوات الحياة مذعورة، وراحت تنتقل على اليابسة وفي البحر، ذكورًا وإناثًا … إلخ.»٣

يتضح من هذا النص الذي يشكل مطلع نظرية التكوين الفينيقية المنسوبة إلى فيلو، أن هذا الكاتب كان يحاول استجلاء طبيعة الفكر الأسطوري الكنعاني القديم، استنادًا إلى معلوماتٍ مبعثرة جمعها في قالبٍ تفوح منه رائحة الفكر الفلسفي اليوناني. وهو في سعيه لإضفاء المصداقية على نصه، اخترع شخصية دينية قديمة دعاها سانخونياتن، لم يذكرها أحدٌ قبله، ثم ادعى أنه قد نقل معلوماته عن هذه الشخصية. وفي الحقيقة، فإن ما وصلنا من معلوماتٍ مباشرةٍ عن الميثولوجيا الكنعانية، سواء في نصوص أوغاريت أم في نصوصٍ فينيقية متفرقة، يلقي ظلالًا من الشك على نظرية التكوين المنسوبة لقدماء الفينيقيين هذه، وعلى معلومات فيلو والمواقف الفكرية التي يصدر عنها. لقد عاش هذا المفكر في بيئة مُشبعة بالثقافة الهلينستية، وفي زمنٍ كانت الأسطورة فيه تتلقى أوجع ضربات الفلسفة الإغريقية، فلم يستطع أن ينظر إلى الأسطورة إلا بمنظار الفلسفة، وجاء عمله بمثابة مساهمة أخرى في الحرب المعلنة من الفلسفة على الميثولوجيا.

هذا الحديث عن اليونان يقودنا إلى ما أدعوه بالمشكلة الإغريقية في دراسة الأسطورة.

(٣) المشكلة الإغريقية

تُبدي الثقافة الإغريقية انقطاعاتٍ حادة في مسيرتها لم تعرف مثلها ثقافات الشرق القديم. فلقد رأينا منذ قليل كيف أن كاهنًا بابليًّا من القرن الثالث قبل الميلاد كان قادرًا على جمع وتحقيق معلوماتٍ عن تاريخ وثقافة بابل، ترجع إلى ما قبل عصره بحوالي ألف وخمسمائة عام. أما إغريق القرن السابع قبل الميلاد، وهو القرن الذي وعى فيه الإغريق أنفسهم تاريخيًّا، فلم يعرفوا عن ماضيهم القديم ما يتجاوز حدود الحروب الطروادية (أي أواخر القرن الثالث عشر ق.م.)، التي كانوا يعتبرونها بداية لتأسيس الحضارة الإغريقية، وينظرون إليها كماضٍ مغرقٍ في القِدم رغم قربها النسبي إليهم، ولكننا نعرف اليوم بشكلٍ شبه مؤكد أن اللغة اليونانية قد دخلت أرض اليونان القارية في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، مع فاتحين ينتمون إلى الجماعات المدعوة بالهندو أوروبية، وأن دخول هذه الجماعات كان بداية مرحلة حضارية جديدة في أرض اليونان. وهذا يعني أن حوالي ألف عام من تاريخ الثقافة اليونانية كان مجهولًا تمامًا لدى إغريق القرن السابع قبل الميلاد.

ويتجلى انقطاع الثقافة الإغريقية عن ماضيها بشكلٍ واضح، في مجال الأساطير والمعتقدات الدينية. يقول هيردوتس المؤرخ اليوناني المتوفى عام ٤٢٥ق.م. إن هزيود وهوميروس اللذَين عاشا قبله بأربعمائة سنة، هما اللذان رسما للإغريق أساطيرهم وصور آلهتهم.٤ وهذا القول الذي أُخذ على علاته زمنًا طويلًا لا يعكس بالطبع حقيقة الأمر، ويُعطي صورةً عن جهل الإغريق بأصول ديانتهم وأساطيرهم. فكل ما كانوا يعرفونه أيام هيرودوتس لم يكن يتعدَّى في قِدمه روايات هذَين المؤلفَين، اللذَين جمعا ونسَّقا وأعادا صياغة التقاليد التي تواترت إليهما منذ القِدم. والمشكلة التي تواجهنا اليوم في دراسة الميثولوجيا الإغريقية، هي أننا رغم معرفتنا الأكيدة بأن هيزيود وهوميروس قد قدَّما لنا النسخة الأخيرة المنقحة عن التقاليد الميثولوجية الأقدم، إلَّا أننا لا نستطيع اختراقها وصولًا إلى الأشكال الأصلية، كما فعلنا بخصوص أعمال فيلو الجبيلي وبرغوشا. والسبب في ذلك راجعٌ إلى عدم توفر نصوص أدبية وأسطورية من الفترات السابقة للقرن الثامن قبل الميلاد. ونحن مضطرون هنا إلى الاعتماد على صياغةٍ أدبيةٍ للميثولوجيا الإغريقية عبثت بها يد محرريها بشكلٍ حاذق. هذه الصياغة الأدبية التي ابتدأها هوميروس وهزيود، ثم تابعها فيما بعد عدد من المؤلفين الكلاسيكيين، تمثل انتصار العمل الأدبي على المعتقد الديني، على حد قول مؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد.٥ فنحن لا نملك أسطورة يونانية نُقلت إلينا في سياقها الديني الشعائري، وإنما من خلال وثائق أدبية منمَّقة منقطعة عن خبراتها الدينية الأصلية؛ أي من خلال ميثولوجيا مجردة من القدسية ومنزوعة عنها صفة الأسطرة. وفيما عدا ميثولوجيات ديانات الأسرار التي نجت من التصرف الأدبي بسبب الطابع المغلق لتلك الديانات، فإني أرى أن معظم التفسيرات التي جهد الميثولوجيون المحدثون في استنباطها للأساطير الكلاسيكية تشكل جهدًا ضائعًا بحق؛ لأنها لم تكن تتعامل مع أساطير أصلية بل مع نُسخ أدبية لا يربطها بالأصول سوى أوهى الروابط. ثم إني أنطلق من هذه المقدمة، التي أطرحها بكلِّ ثقةٍ علميةٍ، إلى القول بأن أي دراسةٍ للميثولوجيا الإغريقية يجب أن تنظر إلى ذلك الركام الأدبي كمصدرٍ ثانوي ومشكوك به وخاضع للنقد، وتلتفت إلى الميثولوجيات الشعبية الخاصة بديانات الأسرار في الثقافة الكلاسيكية؛ لأنها الميثولوجيات الوحيدة التي تمثل بحقٍّ ما بقي من الميثولوجيا اليونانية الأصلية.

نعود الآن إلى معالجة مسألة «التفسير»، وإلى تساؤلنا الأساسي المتعلق بكيفية تعامل العقل الحديث مع تلك التركة الثقافية الغريبة عنا كل الغرابة.

(٤) الأسطورة بين البسيط والمستغلق

من خلال الأفكار التمهيدية التي سقتها أعلاه، قمت بإلقاء الضوء على عقبتين رئيسيتين نواجههما في فهمنا وتفسيرنا للأسطورة: العقبة الأولى ذاتية وتتعلق باختلاف آليات تفكيرنا اليوم عن آليات تفكير الإنسان القديم. والثانية موضوعية وتتعلق بالبعد الزمني والانقطاع عن تلك الثقافات التي أنتجت الأساطير، ولكننا رغم العقبات مطالبون بفهم وتفسير هذه التركة الميثولوجية الغنية؛ لأننا لا نستطيع أن نبقي على هذا المصدر الهام من مصادر الثقافة الإنسانية في دائرة الظل، ولا أن نقول مع البعض بأن الأسطورة ليست إلا نتاج طفولة العقل الإنساني القاصر في مرحلةٍ من مراحل تطوره، وأنها تفتقر إلى أية قيمة إيجابية أو مغزى؛ لأننا نكون بذلك قد حكمنا على الحضارات الكبرى الغابرة بأنها لم تكن سوى أقنعة للغباء البدائي.

غالبًا ما يبدأ دارسو الميثولوجيا باستعراض ونقد المدارس الرئيسية التي نشأت منذ أواسط القرن التاسع عشر، من طبيعانية وبراجماتية وسيكولوجية وبنيوية وما إليها، لينتهوا إلى الوقوف إلى جانبٍ واحدٍ منها، أو التأسيس لنظريةٍ جديدة ينطلقون منها. وهذا ما لن أفعله هنا؛ لأن منهجي الخاص هو منهج تجريبي لا يقوم على نظريةٍ بعينها تدَّعي الشمول والإطلاق، بل على النظر إلى كل نسقٍ ميثولوجي على حدة، وإلى خصوصية كل أسطورةٍ ضمن هذا النسق الميثولوجي الذي تنتمي إليه. ولسوف ألجأ فيما يأتي إلى عرض هذا المنهج التجريبي من خلال تقديم ثلاثة نماذج من الأساطير، تتدرج في تركيبها من البسيط إلى المعقد إلى المستغلق، ثم أُجري مع القارئ محاولاتٍ في الفهم والتفسير؛ لنستكشف معًا كيف تتدرج الأسطورة في إسلام قيادها لنا، ونختبر مدى فعالية أدواتنا في التعامل معها. ونماذجنا هذه مستمدة جميعًا من ميثولوجيا الشرق القديم.

(٤-١) النموذج البسيط

هلاك مدينة أور

يبدأ هذا النص السومري ببكائية للإلهة ننجال؛ إلهة مدينة أور، تندب فيها مدينتها التي اتخذ الآلهة قرارًا سماويًّا بتدميرها، أقتطفُ من مطلعها الأسطر الآتية:

اليوم الذي كنت أخشى، يوم العاصفة،
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب عليَّ وقُدِّر.
هبط عليَّ مثقلًا بالدمع.
يوم العاصفة ذاك، قد كُتب عليَّ وقُدر،
هبط عليَّ مثقلًا بالدمع، هبط عليَّ أنا الملكة.
اليوم الذي كنت أرتعد منه، يوم العاصفة،
هبط عليَّ مثقلًا بالدمع.
جفا الرقاد وسادتي والأحلام؛
لأن الأسى المر قد قُدر على أرضي وشعبي.
سعيت إلى شعبي كما البقرة إلى عجلها،
فلم أستطع نشله من الطين؛
لأن الحزن والأسى قد قُدرا عليها،
ستدمر أور فوق أساساتها،
ستفنى أور في مكانها،
حتى لو نشرت جناحي وطرت إليها.٦

بعد المرثية الطويلة التي يفتتح بها النص، نجد الإلهة ننجال تسعى يائسةً لدفع الكارثة عن مدينتها، وتستجدي مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار الحاسم:

ثم توجهتُ بتصميم إلى المجمع قبل انفضاضه،
بينما كان آلهة الأنوناكي٧ جلوسًا يتعاهدون،
جرجرت قدميَّ، فتحتُ ذراعيَّ،
ذرفتُ الدموع أمام آن،
بكيتُ بحرقةٍ أمام إنليل،
قلت لهما: عسى أور لا تُدمر،
عسى مدينتي أور لا تُدمر. قلت لهما،
ولكن آن لم يعطِ دعائي أذنًا،
وإنليل لم يثلج صدري بكلمة،
بل أصدرا الأوامر بهلاك المدينة،
أصدرا الأمر بهلاك أور،
وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.

وهكذا يصدر القرار من مجمع الآلهة بدمار المدينة وهلاك أهلها، ويعهد مجمع الآلهة إلى إنليل، رب العاصفة، بتنفيذ القرار. وقبل أن يتحرك إنليل لأداء مهمته، يقوم إله القمر نانا، المعبود في أور، بمحاولةٍ أخيرةٍ من جانبه للدفاع عن المدينة، ويبتهل إلى إنليل بدعاءٍ طويلٍ نقتطف منه بعض أبياته:

أي أبي إنليل الذي أنجبني،
أي ذنب جنَته مدينتي حتى أدرت وجهك عنها؟
أي أبي إنليل الذي أنجبني،
انشل مدينتي من وحشتها، ضمها إليك ثانية،
انشل معبدي من عزلته، ضمه إليك ثانية،
دع اسمك يعلو في أور مجددًا،
دع أهلها يرتعون في حماك مثلما كانوا،
ولكن إنليل يجيبه بعد أن استمع إليه مطولًا، بأن قرار الآلهة لا رجعة عنه، وأن البشر لم يعطوا ميثاقًا باستمرار الأحوال وراحة البال. لم تقترف أور ذنبًا ولكن قد حمَّ عليها القضاء،
أجاب إنليل ابنه قائلًا:
قلب المدينة يبكي، وناي القصب فيها ينوح،
شعبها يقضي يومه في العويل والصراخ،
أي نانا، أيها النبيل، عد لشأنك،
فإنك لن تقايض بالدمع شيئًا،
حكمُنا لا مبدل لكلماته، حكم المجمع،
لقد مُنحت أور سلطانًا ولكنها لم تُمنح دوامًا،
منذ القِدم، منذ أن أُرسيت البلاد إلى يومها هذا،
من رأى منكم مُلكًا باقيًا؟!
كذا فسلطان أور قد اجتُث وولَّى،
أما أنت يا نانا، فدع الهمَّ عنك واهجر البلد.

بعد ذلك يشرع إنليل في مهمته مستخدمًا العاصفة، سلاحها التقليدي الرهيب، وذلك في مقطعٍ وصفي طويل يثير في النفس الرهبة والشفقة. وعندما يرفع إنليل غضبه عن المدينة كانت قد تحوَّلت أنقاضًا:

جثث البشر مثل كسرات الجِرار،
كانت تملأ الطرقات،
الجدران المتينة قد تهاوت،
والبوابات العالية والمسالك،
قد تكدَّست فيها الجثث،
في الشوارع العريضة التي شهدت الأعياد،
وفي المَرابع الطلقة التي حفلت بالراقصين،
تراكمت أجساد الموتى،
وملأ دم البلاد آبارها.
يعتبر هذا النص واحدًا من عيون الأدب المشرقي القديم. وهو يتألف من حوالي الأربعمائة بيت شعري مفعمة بالعاطفة القوية الدافقة والصور المؤثرة المعبرة.٨ أما الحادثة التاريخية التي يمكن أن تكون أساسًا لأحداث هذه الأسطورة، فهي الهجوم الكاسح الذي قام به العيلاميون على مدينة أور حوالي ٢٠٠٠ق.م.، فحاصروها مدةً ثم افتتحوها واستباحوها بضعة أيام. لكن الأسطورة لا تنظر إلى هذه الواقعة في سياقها الزمني وفي دلالاتها التاريخية، بل تنتقل بالحدث إلى المستوى الميثولوجي، وتعالجه على هذا الأساس، فتسخره من أجل تقديم الأمثولة والعبرة، شأنها في ذلك شأن بقية الأدبيات الدينية المشرقية اللاحقة. إن رسالة الأسطورة هنا واضحة كل الوضوح، وهي تقول لنا إن عالم الإنسان قائمٌ على الصيرورة والتبدل الدائم، والإنسان لا يكاد يطمئن إلى ثبات وديمومة رغده، حتى يحمَّ عليه قضاء الآلهة بغتةً وهو غارقٌ في لهوه ومتع حياته اليومية التي أمن إلى استمرارها. والدول والممالك لا تقوم وتزدهر فتصل أوج عزِّها حتى تأتيَ ساعة انحسارها. ومدينة أور لم ترتكب ذنبًا واضحًا ولكنها أمِنت إلى رغدها وطيبات رزقها ودوام مجدها. ويلخص النص رسالته هذه بكل وضوح في الأبيات التي تقول:
لقد مُنحت أور سلطانًا ولكنها لم تُمنح دوامًا،
منذ القدم منذ أن أُرسيت البلاد إلى يومها هذا،
من رأى منكم مُلكًا باقيًا؟!
كذا فسلطان أور قد اجتُث وولى.

مثل هذه الرسالة الواضحة يقدمها لنا مقطع جميل من ملحمة جلجامش، حيث يقول أوتنابشتيم لجلجامش في اللوح الحادي عشر، العمود السادس:

هل نشيد بيوتًا لا يدركها الفنا؟
وهل نعقد ميثاقًا لا يصيبه البِلى؟
وهل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى دهرًا؟
وهل ينزرع الحقد في الأرض دوامًا؟
هل يرتفع النهر ليأتي بالفيض أبدًا؟
وهل يترك اليعسوب شرنقته،
ليدير وجهه للشمس طوالًا؟
فمنذ القدم لا تظهر الأمور ثباتًا،
النائم للميت توأم،
ألا تفشي صورة الموت كليهما؟
ألا يتساوى الأمير والفقير في حضرة الردى؟٩

إن فكرة القضاء والقدر هي فكرةٌ راسخةٌ في الأدبيات الدينية المشرقية؛ فالقضاء يحمُّ على المدن المزدهرة وعلى الأفراد وهم في قمة مجدهم وعزهم. وما على الإنسان إلا أن يقبل بالإرادة الإلهية سواء أكانت مقاصدها واضحة أم خافية. فها هو إبراهيم في سفر التكوين من العهد القديم، يشفع لمدينتَي سدوم وعمورة أمام الرب بعد أن اتخذ قرارًا بتدميرها، كما شفع الإله نانا لمدينة أور أمام إنليل: «فتقدم إبراهيم وقال: أفتُهلك البارَّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارًّا في المدينة، أفتُهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارًّا الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر.» ولكن شفاعة إبراهيم تُخفق كما أخفقت شفاعة نانا: «وإذا أشرقت الشمس على الأرض، دخل لوط إلى صوغر، فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن وجميع سكان المدن ونبات الأرض» (التكوين: ١٨). وإذا كان إثم المدن في أسطورة سدوم وعمورة ذريعة لإنفاذ القضاء، فإن مثل هذا الإثم يُتخذ ذريعةً ظاهريةً عندما لا يتناسب العقاب مع فداحة الإثم. ففي سفر صموئيل الثاني يقرر الرب إهلاك الشعب لسببٍ مجهولٍ، فيدفع داود لارتكاب خطيئة من شأنها تعريض الشعب بأكمله لإبادةٍ شاملة: «وعاد فحميَ غضب الرب على إسرائيل، فأهاج عليهم داود قائلًا له: امضِ وأحصِ إسرائيل ويهوذا. فقال الملك لرئيس الجيش الذي عنده: طُف في جميع أسباط إسرائيل وعدُّوا الشعب فأعلم عدد الشعب.» وبعد الانتهاء من عملية الإحصاء، تُحدِّث داود نفسه بأنه قد أخطأ، فيستغفر ربه معترفًا بذنبه، ولكن الرب لا يلتفت إلى توبته: «فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد. فمات من الشعب سبعون ألف رجل … فكلم داود الرب وقال: هنا أنا أخطأت، وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» (صموئيل الثاني: ٢٤).

وفي القرآن الكريم لدينا العديد من الأمثلة والمواعظ عن هلاك المدن الآثمة: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِن سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (هود: ٨٢-٨٣)، وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا (هود: ٩٤-٩٥)، ولكن أحكام المشيئة الإلهية قد تكون خافية عن أفهام البشر، ويحمُّ القضاء على جماعةٍ دون سببٍ واضح: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (الإسراء: ١٦). فهنا، وعلى العكس من بقية القصص القرآني المتعلق بدمار المدن الآثمة، نجد أن الدمار قد حلَّ على مدينةٍ لم تأثم، بل لقد أثم مترفوها بتوجيهٍ من الرب فحق عليها القول؛ لأن على الإنسان ألا يركن إلى دوام منجزاته وهناءة عيشه، وأن يُسلم بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. وتدور الآية التالية حول الفكرة نفسها: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * أَأَمِنْتُم مَن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُم مَن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (المُلك: ١٥–١٧).

وحول الاطمئنان إلى دوام منجزات الإنسان وهناءة عيشه، بدل الركون إلى لطف الخالق والتسليم بقضائه، لدينا في القرآن الكريم أيضًا أمثولة ذات مغزًى كبيرٍ حول قانون التغير الدائم: وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُدِدتٌّ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًاوَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (الكهف: ٣٢–٤٣).

أنتقل الآن من هذا النوع البسيط من النصوص الذي تسير أحداثه في اتجاهٍ خطيٍّ واحد، إلى النوع المركب الذي تسير أحداثه في أكثر من اتجاه، وتتقاطع ضمن بنية أكثر تعقيدًا من بنية النوع الأول.

(٤-٢) النموذج المركب

إيتانا والنسر

وصلَنا أقدم نص لهذه الأسطورة من العصر البابلي القديم (٢٠٠٠– ١٦٠٠ق.م.).

وذلك من الموقع سوسة عاصمة عيلام. كما وصلَنا نصٌّ آخر من العصر الآشوري الوسيط (١٦٠٠–١٠٠٠ق.م.)، ونصٌّ ثالث من مكتبة آشور بانيبال بنينوى يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، هو أكمل هذه النصوص وأكثرها وضوحًا. ورغم وجود بعض الاختلافات البسيطة بين هذه النصوص الثلاثة إلا أن الأحداث الرئيسية للقصة واحدة، ويكاد التطابق يكون حرفيًّا بينها عند كثيرٍ من السطور والمقاطع. وسوف أقدم فيما يأتي ملخصًا للأسطورة اعتمادًا على ترجمة ستيفاني دالي الجديدة لنسخة نينوى، في كتابها الصادر عن أوكسفورد عام ١٩٨٩م.١٠

تدور أحداث هذه القصة في الأزمان الأولى عندما كان الآلهة يخلقون الجهات الأربع، ويضعون مخططًا لبناء أول مدينة للبشر هي مدينة كيش. فبعد أن انتهوا من أعمال الخلق والتنظيم أسسوا منصب الملوكية، وراحوا يبحثون عن شخصٍ مناسبٍ ينصِّبونه ملكًا على المدينة، ليكون حاكمًا صالحًا للناس، فوقع اختيارهم أخيرًا على إيتانا:

الآلهة الكبار، آلهة الإيجيجي صمموا مدينة.
آلهة الإيجيجي وضعوا لها الأساسات.
آلهة الأنوناكي صمموا مدينة كيش.
آلهة الأنونانكي وضعوا لها الأساسات.
آلهة الإيجيجي صنعوا لها قوالب الآجُرِّ.
(أسطر مشوهة) …
الآلهة الكبار الذين يقدِّرون المصائر،
جلسوا، تشاوروا في أمور البلاد،
بينما كانوا يخلقون جهات العالم الأربع ويصيغون شكلها.
(أسطر مشوهة) …
لم يكونوا قد أقاموا ملكًا على الناس قاطبة،
ولم يكن التاج وعصابة الرأس، حينئذٍ، قد أوثقا معًا.١١
كانت عشتار في ذلك الوقت تبحث عن راعٍ،
كانت تبحث هنا وهناك عن ملك.
وإنليل يبحث عن منصة عرش لإيتانا،
الشاب الذي كانت عشتار لا تني تبحث عنه.

وهكذا وقع اختيار الآلهة على إيتانا ليكون أول ملك أقيم لحكم الناس، وتنتهي مقدمة النص. بعد ذلك ندخل إلى متن الأسطورة الذي يتألف من جزأين، أو قصتين، تم الربط بينهما عند مفصلٍ معينٍ في سبر الأحداث، لسببٍ يبدو غير واضح من الوهلة الأولى. فبعد صعود إيتانا على العرش في كيش، نمت شجرةٌ عملاقة وارفة الظلال، وجاءت إليها حيةٌ فاتخذت من قاعدتها وكرًا لها ولصغارها، ثم حط على قمتها نسرٌ فصنع له ولفراخه عشًّا، وقد تعاهد الاثنان على العيش بسلامٍ وعلى اقتسام الطعام فيما بينهما؛ فإذا اصطاد النسر فريسة جاء بها إلى المكان وترك الحية وصغارها يقتسمونها معه، وإذا اصطادت الحية فريسةً جاءت بها أيضًا وتركت النسر وفراخه يقتسمونها معًا. ثم وثَّق الطرفان عهدهما هذا بالقسم أمام الإله شَمَش؛ إله الحق والعدالة، على احترام الاتفاق وعدم النكوث بالعهد. سارت الأمور سيرًا حسنًا، واحترم كلٌّ من الحية والنسر اتفاقهما، إلى أن كبر فراخ النسر ولم يعودوا بحاجةٍ إلى رعاية، عندئذٍ أضمر النسر في قلبه شرًّا وراح يتحيَّن الفُرص لأكل صغار الحية:

عندما كبر فراخ النسر وشبُّوا،
أضمر النسر مكيدةً شريرةً في قلبه.

ثم تحدث إلى فراخه قائلًا:

إني لآكلٌ صغار الحية.
سيشتعل غضبها عليَّ بالتأكيد،
ولكني سوف أطير عاليًا وأختبئ في الأجواء،
ثم أهبط إلى أعلى الشجرة فقط لأخطف من ثمرها.

فقال له فرخ مزغب كثير الحكمة، قال لأبيه:

لا تفعل ذلك يا أبي؛ لأن شبكة شَمَش سوف تُمسك بك.

ولكن النسر لم يستمع لنصيحة ابنه الحكيم، وبينما كانت الحية غائبة عن وكرها نقض النسر عهده وانقضَّ فأكل صغارها ثم هرب. وعندما عادت الحية بصيدها واكتشفت ما فعله النسر، بكت وذرفت دموعها أمام الإله شَمَش ضارعة إليه أن يثأر لها من النسر، استجاب شَمَش لدعاء الحية ورسم لها خطةً تُوقع بالنسر. سيدفع إليها ثورًا مقيدًا في الفلاة، عليها أن تقتله وتختبئ في أحشائه، وعندما تحط طيور السماء لتأكل من الجيفة سيأتي النسر بينها أيضًا، وعندئذٍ عليها أن تنبري له وتقبض عليه فتنتزع مخالبه وتنتف ريش أجنحته، ثم ترميه في حفرةٍ عميقةٍ ليموت هناك من الجوع والعطش. تسير الخطة بنجاحٍ، وتأتي الطيور لتأكل، ويهمُّ النسر أن يحط معها ليأكل أيضًا، ولكن فرخه الحكيم يحذره من احتمال كمون الحية في بطن الثور لتثأر لصغارها منه. تردد النسر قليلًا ثم أقدم، عندئذٍ انقضَّت عليه الحية من مكمنها فاقتلعت مخالبه ونتفت ريشه، ثم ألقته في الحفرة العميقة غير آبهة لتوسلاته، ومضت تاركة إياه لمصيره. راح النسر يتضرع في كل يومٍ إلى شَمَش علَّه ينقذه من ورطته، فقال له شَمَش:

إنك مخلوقٌ مؤذٍ وشرير، وقد أحزنت قلبي.
لقد ارتكبت فعلًا مرذولًا من قِبَل الآلهة، لا يقبل الصفح.
ها أنت تموت، ولكني لن أقترب منك،
بل سأقيِّض لك رجلًا، فاطلب منه عونًا.

هنا تنتهي القصة الأولى وتبدأ القصة الثانية التي تعود بنا إلى إيتانا الصالح؛ فإيتانا عاقر، وقد شارف على الشيخوخة دون أن يُرزق بغلامٍ يخلفه على العرش، وهو يصلي في كل يوم ويقدم قرابينه إلى الآلهة من أحسن مواشيه؛ علَّها تنظر إليه بعين العطف وترفع عنه لعنة العقم. ثم يعلم عن نبتةٍ مزروعةٍ في السماء تشفي من العقم، فيدعو الإله شَمَش أن يجعل هذه النبتة في متناول يده. يستجيب له الإله ويدله على مكان النسر الحبيس، فيحرره ويشفيه لقاء أن يطير به إلى السموات العلا، لجلب نبتة الإخصاب التي تتعهدها هناك عشتار بالرعاية والسقاية. يأتي إيتانا إلى حفرة النسر ويخبره بمشيئة شَمَش، ثم يعمل على شفائه وتعويده على الطيران مجددًا. وعندما يتعافى النسر يرتقي إيتانا ظهره فينطلق به صعدًا في طبقات الجو العليا، حتى تبدو الأرض وكأنها بستان صغير ويبدو البحر الواسع وكأنه قدر ماء، ولكن قوى النسر تخور ويعترف بعجزه عن المضيِّ قُدمًا أبعد من ذلك، ثم يهوي عائدًا إلى الأرض. لدى رجوعه إلى كيش يرى إيتانا أحلامًا غريبة عن رحلةٍ ثانيةٍ إلى السماء، منها الحلم التالي الذي قصَّه على صديقه النسر:

رأيت أننا نمضي عبر بوابة آنو وإنليل وإيا،
هناك ركعنا معًا، أنا وأنت.
ثم رأيت أننا نمضي معًا، أنا وأنت.
عبر بوابة سن وشَمَش وأدد وعشتار.
هناك ركعنا، أنا وأنت.
رأيت بيتًا فيه نافذة غير موصدة.
دفعتها، فانفتحت وولجت إليها،
فرأيت هناك فتاة مليحة الوجه مزينة بتاج.
وهناك عرش منصوب (…)،
وتحت العرش أسُود رابضة مزمجرة.
فلما ظهرتُ لها قفزت نحوي.
عند ذلك أفقت من نومي مذعورًا.

يرى النسر في حلم إيتانا بشارةً بنجاح محاولة ثانية لهما في ارتقاء السماء، فيقرران التحليق مجددًا. تنجح المحاولة ويصل النسر بإيتانا إلى سماء آنو، حيث يدخلان بوابة آنو وإنليل وإيا، فيسجدان هناك ثم يجتازانها إلى بوابة سن وشَمَش وأدد وعشتار، فيسجدان هناك ثم يفتح إيتانا البوابة ويدخلان، وهنا ينكسر الرقيم وتتوقف القصة، ولكن من المؤكد أن الجزء المفقود يقص عن كيفية حصول إيتانا على نبتة الإخصاب والعودة بها إلى الأرض؛ لأننا نعرف من وثيقة ثِبْت ملوك سومر، أن الملك إيتانا كان أول ملك على كيش بعد الطوفان، وأنه الذي أسس لسلالة كيش الأولى، وأن وريثه على العرش كان ابنه المدعو بالح.

إن لدينا من الأسباب ما يرجح انتماء هذه الأسطورة إلى مطلع عصر السلالات في منطقة سومر (حوالي ٢٦٠٠ق.م.)، فرغم أن أقدم نص لها، وهو النص البابلي القديم، يرجع إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد؛ إلا أن العثور على عددٍ من الأختام الأسطوانية التي ترجع إلى العصر الصارغوني (حوالي ٢٣٠٠ق.م.)، والتي نرى عليها مشهدًا يمثل صعود إنسان ما إلى السماء على ظهر نسر، يؤكد لنا أن أسطورة إيتانا كانت معروفة خلال أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وأن جذورها تضرب أبعد من ذلك في عصر السلالات الأولى، وإلى زمنٍ قريبٍ من صعود أسرة كيش الأولى، أول وأقوى الأسر الحاكمة في سومر، والتي كان ملوكها ينتمون إلى الذخيرة السكانية السامية لا السومرية، على ما تدل عليه أسماؤهم، ولكن ما معنى هذه الأسطورة؟ وأية رسالة تحمل لنا؟

رغم الحيرة التي يسببها لنا احتواء الأسطورة على قصتين غير متجانستين، إلَّا أن رسالتها واضحةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ؛ ذلك أن الهاجس الرئيسي هنا هو التأسيس لأصل مؤسسة الملكية التي «هبطت من السماء»، على حد تعبير النص البابلي القديم. فأسطورتنا هي أسطورة أصول، وتنتمي إلى تلك الزمرة من أساطير الأصول التي تهدف إلى تسويغ المؤسسات الاجتماعية القائمة وتجذيرها في البدايات الميثولوجية الأولى، من أجل إسباغ طابع القداسة عليها. فمطلع النص يعود بنا إلى الأزمان الميثولوجية البدئية، عندما كانت الآلهة تضع اللمسات الأخيرة على الكون الذي خرج لتوِّه من رحم الهيولى البدئية. فكانت مؤسسة الملكية أول ما التفتت إليه بعد أن انتهت من هندسة «المكان»، وشكلت جهات العالم الأربع ووضعت مخطط أول مدينة للإنسان وأرست لها الأساسات. وبعد أن خلقت الآلهة منصب الملك وحددت له شاراته ورموزه، راحت تبحث عن رجلٍ يشغل ذلك المنصب فوجدته في إيتانا الصالح. تنتقل الأسطورة بعد ذلك إلى تجذير مؤسسة الملكية الوراثية أيضًا في الزمن الميثولوجي؛ فهذه قد هبطت أيضًا من السماء عن طريق نبتة الإخصاب التي جلبها إيتانا من هناك فوهبته ولدًا ووريثًا على العرش.

ولكن ما معنى قصة الحية والنسر؟ ولماذا جُعلت بمثابة مدخلٍ إلى المتن الأساسي للأسطورة؟ إن القراءة الأولى للنص تغرينا بالنظر إلى قصة الحية والنسر على أنها مجرد حكاية، ذات طابعٍ تشويقيٍّ تم إدماجها في السياق العام للقصة الرئيسية لأغراضٍ أدبية محضة؛ إلا أن التلازم الطويل بين القصتين في جميع النصوص التي وصلتنا للأسطورة، وعبر أكثر من ألف عام، يدفعنا إلى استبعاد هذا التفسير القريب والبحث عن تفسيرٍ آخر.

إن مفتاح الولوج إلى سر العلاقة بين القصتين، هو التساؤل المشروع الذي يخطر بالبال عقب قراءة النص وهو: لماذا كان على النسر أن يمر بتجربته الأليمة تلك قبل أن يصعد بإيتانا إلى السماء؟ ألم يكن بمستطاع الإله شَمَش أن يوكل لهذا النسر نفسه أو لغيره مهمة الصعود، دون أن يكون قد تعرَّض لتلك الأحداث التي أودت به إلى أعماق الحفرة حيث وجده إيتانا؟ إن الجواب على التساؤل متضمَّن في بنية النص نفسه الذي يقول لنا صراحة، ومن خلال توكيده على الربط العضوي بين القصتين، إنه كان على النسر أن يمر بتجربته مع الأفعى قبل أن يكون قادرًا على التحليق في طلب نبتة الإخصاب. فهذه التجربة هي التي أهَّلته وجعلت منه نسرًا مختلفًا عن بقية النسور. فما الذي تضمَّنته التجربة مع الحية، وأية قوى استثنائية أكسبته إياها؟

تتضمن التجربة مع الحية حدثين مهمين قادا إلى حدثٍ ثالث هو مركز القصة بكاملها. ويمكن تصوير هذه الأحداث الثلاثة وفق المخطط الآتي:

وإني أرى في الحدثين الأولين مرحلتين في طقس عبور وتعدية (Initiation) في المرحلة الأولى يأكل النسر صغار الحية، وفي المرحلة الثانية يلقى في قاع حفرة أو بئر عميقة في باطن الأرض. فأما أكل صغار الحية فهو إجراءٌ طقسي يؤدي إلى إكساب النسر قوًى تتعلق بالإخصاب؛ لأن الحية هي رمز للخصوبة في ثقافات الشرق القديم ورمز للشفاء أيضًا. أما الهبوط إلى قاع البئر المظلم فهو إجراءٌ طقسي مشابه من حيث الغاية. فلقد كان على النسر أن يموت رمزيًّا في باطن الأرض-الأم؛ لكي يُبعث من جديد معافًى ومزودًا بقوًى تتعلق أيضًا بالإخصاب زودته بها ننخرساج، الأرض. أما الشجرة التي كانت مسرح الصراع بين النسر والحية، فتُمثل مبدأ الحياة الذي قوامه قطبان: الموجب والسالب؛ المبدأ الذكري والمبدأ الأنثوي. وهنا يتجسد المبدأ الذكري في النسر الذي يسكن قمة الشجرة ويطير في السماء، وتجسِّد الحية المبدأ الأنثوي الملتصق بالأرض. وما الصراع بين النسر والحية إلا تمثيلٌ للتناقض بين المبدأين. لقد هبط النسر أولًا من القمة إلى الأرض حيث جحر الحية، ثم هبط أعمق من ذلك في غياهب البئر حيث رحم الأرض، لينطلق بعد ذلك في طلب النبتة التي تتعهدها بالرعاية عشتار إلهة الخصوبة الكونية. هذا المغزى السِّرَّاني لعلاقة النسر بالحية يفسر لنا عدم جدِّية العقاب الذي تعرَّض له النسر، ومسارعة الإله شَمَش إلى العفو عنه ليوكل إليه المهمة التي صار الآن صالحًا لها، بعد أن تحوَّل من خلال الطقس الذي مر به، من نسرٍ عاديٍّ إلى نسرٍ قادر على إتمام مهام لا يقدر عليها غيره.
ولإلقاء مزيدٍ من الضوء على التفسير الذي أتقدم به هنا، سوف أستعرض فيما يأتي عددًا من التصورات الأسطورية الموازية والمستمدة من الميثولوجيا المقارنة. ففي ميثولوجيا الشعوب في أوروبا الشمالية هناك شجرةٌ كونية عملاقة يتموضع عليها عالم الآلهة وعالم البشر وعالم العمالقة وعالم الموتى. فهي تمد رأسها إلى الأعلى نحو عالم الآلهة وتضرب جذورها في العالم الأسفل عالم الموتى. ونجد هذا التصور نفسه في ميثولوجيا شمال ووسط آسيا، وفي ميثولوجيا معظم الثقافات الشامانية. ففي الأساطير الفنلندية، تقوم هذه الشجرة باعتبارها مركزًا للكون وتعمل على ربط أجزائه وأقاليمه المختلفة، على أوراقها يتغذى الآلهة وبين أغصانها تولد الأرواح. ومن خلال تجديد حياتها تلقائيًّا، فإنها تعمل على تجديد حياة الكون وعوالمه، وتقدم في الوقت نفسه للإنسان وسائل تحقيق الخلود. وتمثل التقاليد الشامانية شجرة الحياة هذه على هيئة جذع حُفرت عليه درجات سلَّم، تُعين الشامان على الارتقاء نحو العوالم العليا في رحلته الوجدية، حيث يعبر سلسلة السموات وصولًا إلى السماء العليا حيث يقيم الآلهة. وفي أحيانٍ كثيرة نجد أن شجرة الكون أو الحياة هذه، مسكونة من قِبل الكائنات نفسها التي وجدناها في أسطورة إيتانا والنسر. ففي بورنيو الجنوبية يجري تمثيل الشجرة الكونية وقد سكنت الحية عند قاعدتها وسكن النسر في قمَّتها. وتقول الأسطورة إن الصراع بينهما يقود إلى تدمير الشجرة، ولكنها تنبعث جديدة مرةً أخرى. وفي الميثولوجيا التيوتونية هنالك سنجاب ينقل الرسائل العدوانية بين النسر الذي يقيم في قمة الشجرة والحية التي تسكن في قاعدتها.١٢

(٤-٣) النموذج المعقد

أسطورة خصاء آنو

أسطورة خصاء آنو هي نصٌّ حواري يعود إلى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. والحوريون هم شعب يتعلم لغة خاصة لا تنتمي إلى عائلة اللغات السامية ولا إلى عائلة اللغات الهندو أوروبية. وقد بدءوا بالتسرب التدريجي من الشمال إلى مناطق الجزيرة السورية خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، واستطاعوا تكوين عدد من المدن القوية فيها. وقد شكَّل هؤلاء الحوريون القاعدة السكانية العريضة التي قامت عليها مملكة ميتاني القوية بقيادة شرائح عسكرية ذات أصول هندو–أوروبية، اختلطت بالحوريين وجمعتهم في مملكةٍ واحدة. سيطرت مملكة ميتاني على مناطق حوض الخابور الأعلى في سوريا، وبلغت أوج قوتها إبان القرن الخامس عشر قبل الميلاد، حيث استطاعت إخضاع معظم مناطق الجزيرة العليا وسوريا الشمالية والوسطى، وصارت القوة الثالثة في المنطقة إلى جانب مملكة الحثيين في الأناضول ومملكة مصر في الجنوب. تقول الأسطورة:١٣
«في الأزمان القديمة، ألالوس (= إيل) كان ملكًا في السماء. وطيلة مدة جلوسه على عرش السماء، كان آنوس (= آنو) الأول بين الآلهة، يقف بين يدي ألالوس ويركع عند قدميه ويقدم له كأس الشراب. مضت تسع سنوات وألالوس ملك في السماء. ولكن في السنة التاسعة، قام آنوس فنازع ألالوس السيادة وقهره في المعركة، فهرب من وجهه وهبط إلى الأرض المظلمة، ثم صعد آنوس إلى العرش. طيلة مدة جلوسه على العرش كان كوماربي الجبار يقدم له الطعام ويركع عند قدميه ويقدم له كأس الشراب. مضت تسع سنوات وآنوس ملك في السماء، ولكن في السنة التاسعة قام كوماربي فنازع آنوس السيادة وقاتله مثلما قاتل آنوس ألالوس. وعندما لم يستطع آنوس الصمود أمام كوماربي انتزع نفسه من بين يديه وهرب، وكطيرٍ حلق في السماء. اندفع وراءه كوماربي فأمسك بقدميه وجرَّه من هناك ثم عض على قضيبه فانسال سائله المخصب إلى بطن كوماربي. عندما ابتلع كوماربي مَني آنوس واستقر في جوفه،١٤ استدار آنوس نحو كوماربي مبتهجًا ضاحكًا وقال له: ها أنت سعيد لما أخذته في جوفك، ولكن سعادتك لن تطول؛ لأني زرعت في داخلك وزرًا ثقيلًا. لقد جعلتك تحبل بإله العاصفة النبيل، كما جعلتك تحبل بنهر دجلة الذي لن تطيق حمله، وأيضًا بتاسميشو النبيل (وزير إله العاصفة). ثلاثة آلهة مخيفة زرعت بذورها في بطنك. فامضِ الآن وانطح رأسك بصخور جبالك. لما انتهى آنوس من كلامه تابع طريقه نحو السماء واختبأ هناك. عند ذلك بصق كوماربي بعض المادة التي ابتلعها على الأرض فولد منها تاسميشو ونهر دجلة.»

أما كوماربي فقد مضى إلى مدينة نيبور السومرية ليطلبَ مشورة إيَّا؛ إله الحكمة الرافدي، ولكن النص مُشوَّه في هذا الموضع ولا ندري ما الذي دار بين الطرفين. ثم نرى كوماربي، ما زال في نيبور يَعُدُّ الأشهر المتبقية لمدة الحمل، والجنين في بطنه ينمو، إلى أن اكتمل وجاءت ساعة المخاض. ولما لم يكن كوماربي مجهزًا كما النساء لأداء ولادةٍ طبيعية فإنَّ آلام المخاض تشتد عليه، وإله العاصفة في بطن أبيه لا يجد طريقةً للخروج بسلام. وهنا يتدخل الإله المخلوع آنوس لمساعدة إله العاصفة؛ لأنَّه يعوِّل عليه في الانتقام من كوماربي. وتبدأ مشاورة بين آنوس وبين إله العاصفة الحبيس في الداخل، حول الطريقة التي يمكن بواسطتها حلُّ المعضلة، ويجري بحث كل الاحتمالات الممكنة في أفضلية المنفذ الذي لا يمكن لإله العاصفة شق طريقه عبره. ويبدو أن اختيار المنفذ كان أمرًا في غاية الصعوبة؛ لأن الخروج من إحدى الفتحات، كما نفهم من شذرات الموضوع المشوه في الحوار، سوف يتسبَّب في تعطيل عمل العضو أو الحاسة المقابلة عند إله العاصفة عقب ولادته؛ فالخروج من عين كوماربي سوف يُسبب له العمى، والخروج من الأُذن سوف يصيبه بالصمم. وهكذا تم استبعاد جميع المنافذ العليا بما فيها جدار الرأس؛ لأن الخروج من الرأس سوف يبلبل عقل إله العاصفة. بعد ذلك يتم بحث احتمالات المنافذ السفلى، فيقترح إله العاصفة أن يقوم بشق مؤخرة كوماربي والنفاذ عبرها، ولكن آنوس يستبعد هذا الإجراء ويحذره من مخاطر، غير واضحة في السطر المشوه، ثم يجري اقتراح الخروج من مكانٍ يدعوه النص «بالموضع الحسن» دون تعيين اسمه. وبما أنه لم يبقَ من المنافذ السفلى سوى السرة والقضيب، فإن هذا الموضع الحسن ينطبق على واحدٍ منهما ولا شك. تشتد الآلام على كوماربي فيأتي إلى حضرة الإله إيا، ويتهاوى أمامه من الألم وهو يصرخ كالمجنون: أخرِجوا إليَّ ابني، أعطوني ابني لأبتلعه. يرسل إيا في طلب مجموعة من السحرة لأداء طقوس تُعين كوماربي على الوضع، فيأتي السحرة فيمددون الإله ثم يقدمون القرابين ويقرءون التعاويذ، ويعملون جهدهم في الحفاظ على شرج كوماربي من اقتحام ابنه له. يقوم إله العاصفة بمحاولةٍ أخيرة للخروج من مؤخرة كوماربي ولكنه يخفق. عند ذلك يتجه نحو الموضع الحسن وينبثق من هناك إلهًا متكمل القوة والرجولة (يلي ذلك فجوة في النص). أمَّا ما تبقى من الشذرات فنفهم منها أن آنوس المخلوع قد ساعد إله العاصفة على خلع أبيه والاستيلاء على عرش السماء.

وفيما يتعلق بالموضع الحسن الذي خرج منه إله، يرجِّح بعض دارسي هذه الأسطورة، ومنهم G. S. Kirk من جامعة كامبريدج،١٥ أن يكون المعني به هو القضيب؛ وذلك لسببين: فالقضيب هو العضو المقابل لعضو الولادة عند المرأة؛ وهذا ما يجعله أكثر ملاءمةً لتقليد العملية عند الرجل. كما أن القضيب باعتبار دوره في عملية الإخصاب هو الوحيد الذي يحسن اقترانه بإله العاصفة بما هو إلهٌ للخصب أيضًا.١٦ غير أني أرجح أن يكون العضو المعني هو السُّرة؛ لأننا نفهم من الحوار بين آنوس وإله العاصفة أن الخروج من أي موضعٍ في جسم كوماربي سيسبب العطب في العضو المقابل عند إله العاصفة. من هنا فإن من الأجدر أن يكون القضيب هو أكثر الأعضاء استبعادًا؛ لأنه ما الذي يجنيه إله الخصب من اقترانه بالقضيب إذا كان هو نفسه فاقدًا لوظيفة القضيب؟

والآن، ما الذي يعنيه هذا النص ذو البِنية المعقدة المتراكبة؟ لماذا وقعت تلك الانقلابات المتوالية في السماء؟ لماذا عض كوماربي قضيب أبيه وابتلع سائله المخصب؟ ولماذا كان على إله العاصفة أن ينمو في بطن أبيه من دون أم؟

من الأدوات القوية التي تعيننا على التعامل مع النص الأسطوري المفرد، إرجاعه إلى النسق الميثولوجي الذي ينتمي إليه؛ لأن هذا النص إنما يكتسب معناه ومغزاه من خلال موقعه في ميثولوجيا الثقافة التي أنتجته، ومن خلال ترابطاته مع الأساطير الأخرى التي تنتظم وإياه في نسقٍ واحد؛ وذلك مثلما تكتسب الكلمة المفردة معناها ومغزاها من موقعها في سياق الجملة المفيدة. يضاف إلى ذلك ضرورة تحديد الزمرة التي تنتمي إليها الأسطورة ضمن النسق الميثولوجي ذاته، وذلك كأن تكون أسطورة أصول وتكوين أو أسطورة خصب أو أسطورة طقسية من نوعٍ خاص … إلخ. وهذا التحديد يعتمد على معاينتنا المبدئية للشكل في ضوء معارفنا السابقة والخبرة المكتسبة في هذا الميدان.

وبتعبيرٍ آخر، فإنه من غير المجدي في المرحلة الأولى من الإقبال على النص، تفسير أسطورة مصرية مثلًا عن طريق المقارنة مع أسطورةٍ إغريقية، أو النظر إلى أسطورةٍ أفريقية على ضوء الميثولوجيا البابلية، بل لا بدَّ أولًا من النظر إلى الأسطورة في ترابطاتها المحلية ضمن نسقها وضمن زمرتها. فإذا أتممنا هذه المهمة المبدئية استطعنا بعدها الانطلاق إلى إجراء المقارنات البعيدة منها والقريبة، ولكن ضمن نظامٍ صارم في الوقت ذاته، يبتعد بنا عن تلمُّس المشابهات السطحية التي تقود إلى نتائجَ متسرعة، ويُبقي على فهمنا لأية أسطورة نتخذها لغاية المقارنة، ضمن بيئتها والثقافة التي أنتجتها. إن مثل هذا المنهج الصارم في المقارنة يجب أن يحلَّ محل المنهج القديم الذي اختطَّه السير جميس فريزر في موسوعته المعروفة: الغصن الذهبي The Golden Bough، في أوائل هذا القرن، ومارس تأثيرًا على سلسلةٍ من الباحثين في الأنثروبولوجيا النظرية والميثولوجيا، كان أولهم روبرت بريفو Robert Briffault في كتابه The Mothers، وآخره جوزيف كامبل في ثلاثيته The Masks of God حيث يتم تقديم الفكرة الأسطورية ثم إتباعها بحشدٍ من الأمثلة الموضحة المستمدة من ثقافاتٍ متباعدة، والمنتزعة من سياقاتها وترابطاتها المحلية.

وفيما يتعلق بنصِّ خصاء آنوس الذي بين أيدينا، فإننا لا نستطيع أن ندرسه على الخلفية الثقافية الحورية؛ وذلك لندرة النصوص الحورية، وخصوصًا الأدبية والأسطورية منها. فنحن لا نملك حتى الآن سوى نصَّينِ ميثولوجيين حوريين مكتوبين باللغة الحثية. من هنا لا بدَّ لنا من اللجوء إلى ربط نصنا بأكثر الأنساق الميثولوجية قربًا إليه، وهو النسق الأكادي/البابلي. فلقد تجاور الحوريون مع سكان وادي الرافدين، ومارست الثقافة الأكادية على الحوريين تأثيرًا أكبر من تأثير الثقافة السورية. يدلنا على ذلك استخدام اللغة الأكادية في كتابة معظم الوثائق الحورية/الميتانية، وتداخل بانثيون الآلهة الحورية مع بانثيون الآلهة البابلية.

ومن ناحيةٍ ثانية، فإن الصلة الوثيقة بين الجماعات الحورية والجماعات الهندو أوروبية التي وفدت إلى مناطق الحوريين، بعد قدوم هؤلاء بفترةٍ قصيرة، وشكلت طبقةً حاكمة في مملكة ميتاني التي كان الحوريون قاعدتها السكانية، تدفعنا إلى البحث عن روابطَ ثقافية حورية-هندو أوروبية يمكن لها أن تضيء جوانب من موضوعنا، وإلى أخذ نسقين ميثولوجيين هندو أوروبيين بعين الاعتبار، هما النسق الحثي والنسق الإغريقي. فلقد شهد النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد عددًا من التحركات والهجرات لجماعاتٍ رعوية محاربة تتكلم بلغاتٍ هندو أوروبية. فإلى آسيا الصغرى توجهت الجماعات التي عُرفت تاريخيًّا باسم الحثيين، وإلى مناطق الشمال السوري توجهت الجماعات التي عُرفت باسم الميتانيين، وإلى أرض اليونان القارية توجهت الجماعات التي حملت إليها اللغة الإغريقية. ويغلب الظن أن الحوريين والميتانيين والحثيين والإغريق كانوا يتشاركون مناطق السكن نفسها، قبل أن يبدءوا تحركاتهم الكبرى.

هذا عن النسق. وأما عن الزمرة التي تنتمي إليها أسطورة خصاء آنوس، فإن النص لا يُخفي لأول وهلةٍ شبهه من حيث البنية العامة بأساطير التكوين في كلٍّ من بابل واليونان، ولكننا لا نعثر على ما يشبهه في الميثولوجيا الحثية؛ لأن ما نعرفه حتى الآن عن الميثولوجيا الحثية لا يحتوي على نصٍّ متكامل في الأصول والتكوين. من هنا فإن مقارنة أسطورة خصاء آنو بأساطير التكوين البابلية والإغريقية، سوف تقدم لنا الإضاءات اللازمة على النص.

تقوم أسطورة التكوين البابلية على عنصر الصراع بين أجيال الآلهة. وهذا الصراع يعكس ثلاثة عصور متتابعة تؤدي في النهاية إلى استتباب نظام الكون بعد خروجه من رحم العماء. ففي البدء كان العماء المائي ممثلًا بثلاثة آلهة هي تعامة؛ الماء المالح والأم الأولى، وأبسو؛ الماء الحلو والزوج الأول، وممو؛ الذي ينتج عنهما والذي نرجِّح أن يكون الضباب المنتشر فوقهما. ثم أخذت هذه الآلهة البدئية تتكاثر؛ فنشأ عنهما أولًا الثنائي لهمو ولهامو (اللذان يمثلان في تفسير المدرسة الطبيعانية الطمي والرواسب المائية)، وعن هذَين نشأ الثنائي أنشار وكيشار (اللذان يمثلان في تفسير المدرسة الطبيعانية الجانب السماوي والجانب الأرضي من خط الأفق)،١٧ ثم أنجب أنشار وكيشار بكرهما آنو، وأنجب آنو ابنه إيا الذي كان واسع الحكمة شديد الدهاء والذكاء وأكثر قوة وعتيًّا من آبائه. وقد كان هذا الجيل الثاني من الآلهة في حالة حركة دائبة، يصخبون في جوف تعامة ويسببون الأرق والإزعاج للآلهة القديمة، حتى فكرت بإفنائهم والتخلص من ضجيجهم لتعود إلى حال السكون الأولى. وبعد تشاورٍ في الأمر قرَّر أبسو شن حملة على الجيل الثاني، ووقف إلى جانبه ممو، أما تعامة فآثرت الحياد لعدم رغبتها في قتل أبنائها. فبادر الجيل الثاني إلى تعيين إيا قائدًا عليهم. وعندما التقى الجمعان قام إيا بإلقاء تعويذته السحرية على أبسو فشُلَّت حركته، ثم عمد إليه فقتله وأسر وزيره ممو. وفوق أبسو؛ الماء العذب، أقام إيا مسكنه وعاش فيه مع زوجته دومكينا. وفي بيت الأقدار هذا، كما يصفه النص، وُلد مردوخ بكر إيا ودمكينا والذي يصفه النص بقوله: «تخلب الألباب قامته، تلمع كالبرق عيناه، ويخطو بعنفوانٍ ورجولة. بفنٍّ بديع تشكلت أعضاؤه، لا تدركه الأفهام ولا يحيط به خيال.»
ابتهج الآلهة بمقدم مردوخ وأعلوه فوقهم جميعًا. خلق آنو الرياح الأربع وسلَّمها إليه، فراح مردوخ يصرف الرياح ويحدِث فيها الأمواج التي اضطربت لها تعامة، فصارت قلقلةً حائرة تحوم على غير هدًى، والآلهة البدئية الأخرى نسيت الراحة في خضم العاصفة الهائجة، فجاءت إلى تعامة تحرضها على القتال والانتقام لزوجها القتيل. خلقت تعامة أحد عشر نوعًا من الوحوش المخيفة وجهزت جيشًا وضعت على رأسه الإله كينغو، وتهيأت لشن المعركة. أما الإلهة الشابة من الجيل الثالث فقد لجأت إلى مردوخ وأسلمته القيادة بعد أن تنصَّل منها أفراد الجيل الثاني. لما التقى الجمعان اضطربت صفوف جيش تعامة لمرأى مردوخ وخارت قواهم، فتقدَّم مردوخ واشتبك مع تعامة في معركةٍ منفردة. رمى عليها شبكته التي تحملها الرياح الأربع، ثم أفلت في جوفها الرياح الشيطانية فتهاوت عند قدميه. عند ذلك عمد إلى قتلها ثم شقها إلى نصفين صنع من واحدهما السماء ورفعها إلى الأعلى، وأرسى الآخر فصنع منه الأرض. ثم التفت بعد ذلك إلى صنع بقية أجزاء الكون وتنظيمه. وأخيرًا صنع الإنسان من ترابٍ ممزوج بدم الإله كينغو الذي جرى إعدامه. وكان هذا آخر عمل مبدع قام به؛١٨ معه ابتدأت سيادة الجيل الثالث من الآلهة على الكون.

رغم عدمت تشابه الأحداث في الأسطورتين البابلية والحورية، واختلافهما في التفاصيل؛ إلا أنهما تقومان على فكرةٍ أساسية واحدة هي فكرة الصراع بين أجيال الآلهة. ففي الأسطورة البابلية تتتابع ثلاثة أجيال من الآلهة هي جيل أبسو فجيل إيا فجيل مردوخ. وهذا التتابع هو تمثيلٌ رمزي لكيفية خروج الكون من مرحلة العماء الذي لا شكل له، إلى مرحلة التشكيل والتكون، فمرحلة التنظيم. وفي الأسطورة الحورية تتتابع أربعة أجيال: هي جيل الألوس، فجيل آنوس، فجيل كوماربي، فجيل إله العاصفة. وتفيدنا مقارنة الأسطورتين في فهْم مغزى الصراع الذي يدور بين أجيال الآلهة في الأسطورة الحورية. فهذا الصراع ليس سياسيًّا يهدف إلى السيطرة على عرش السماء، وإنما هو أيضًا نوعٌ من التمثيل الرمزي لمرحلة تنظيم العالَم في التصورات الحورية. ورغم الشكل المختزل للأسطورة الحورية وعدم احتوائها على تفاصيل مشابهة لتفاصيل الأسطورة البابلية، فإنها يجب أن تُدرس وتُفهم على هذا الأساس.

وتقدم لنا أسطورة التكوين الإغريقية من جانبها نموذجًا أقرب من حيث البنية والأحداث إلى الأسطورة الحورية. يقول هزيود في كتابه أصول الآلهة: «في البداية لم يكن سوى العماء المائي المظلم المتسع بلا حدود. من هذا العماء ظهرت جَيا؛ الأرض الراسخة الأثداء، وبعدها ظهر إيروس؛ الحب الذي دخلت قدرته في صلب الأشياء والكائنات جميعًا. كما وُلد من العماء أريبوس؛ الهاوية المظلمة، ووُلد الليل، ومنهما وُلد الأثير والنهار. ثم إن جَيا؛ أول الآلهة، خلقت الجبال العالية والبحر الواسع بأمواجه المتناغمة، وأنجبت دون زوجٍ بكرها أورانوس؛ السماء المتوجة بالنجوم، فغطاها من جهاتها جميعها وتزوجته. وعند قران الأرض والسماء ظهر الآلهة التيتان؛ إلا أن هؤلاء لم يروا النور لأن أورانوس كان يبقي على أولاده سجناء في أعماق أمهم الأرض غير عابئ بتوسلاتها. وعندما ولدت جيا كرونوس، اتفقت معه على التخلص من أبيه وتحرير إخوته. كمَنَ كرونوش عند فوهة رحم الأرض ومعه منجلٌ حادٌّ زوَّدته به أمه. وعندما أقبل أورانوس لمضاجعة زوجته مساء، انبرى له كرونوس وخصاه بالمنجل ثم رمى بأعضائه التناسلية بعيدًا. سالت الدماء من الجرح النازف وسقطت على التربة فوُلدت منها الإيرينيات ربات الانتقام، والعمالقة، وحوريات الدردار. أما الأعضاء المفصولة فقد وقعت في البحر وتسربت منها المادة المخصبة فصارت زبد البحر الذي تمخَّض وأنجب أفروديت؛ وبذلك ينتهي عصر أورانوس ليبدأ عصر كرونوس.

تزوَّج كرونوس من أخته رحيا التي خرجت من باطن الأرض مع بقية الآلهة التيتان، ولكن سلوك كرونوس حيال أولاده لم يكن بأفضل من سلوك أبيه. فبعد صعوده إلى سُدة السلطان أخذ يبتلع أولاده من رحيا حال ولادتهم، خوفًا من منازعة أحدهم له مثلما فعل هو بوالده. وهكذا كبر وترعرع الجيل الثاني من الآلهة في جوف أبيهم كما كبر وترعرع الجيل الأول في جوف أمهم. وعندما ولدت رحيا آخر أبنائها زيوس كانت عازمةً على الاحتفاظ به، فدفعت إلى كرونوس حجرًا ملفوفًا في قماط فابتلعه معتقدًا أنه المولود الجديد. أما زيوس فقد أخفته أمه في جزيرة كريت وعهدت به إلى الحوريتين إدراستيا وإيدا ابنتَي ملك الجزيرة. وعندما كبر صمم زيوس على العودة والانتقام من أبيه. وهناك أجبره على أخذ شراب جهَّزته الإلهة ميتيس، وسبَّب له الإقياء الذي ساعد إخوة زيوس على الخروج من جوف أبيهم، ثم نفاه إلى أقاصي الأرض حيث أقام هناك بعيدًا عن مشكلات العالَم.»١٩

تكشف هذه الأسطورة الإغريقية عن تشابه في البنية العامة، وفي العناصر الرئيسية مع الأسطورة الحورية، على ما تُبينه المقارنة الآتية:

  • (١)

    جَيا أول الآلهة تنجب أورانوس/السماء، وتتزوجه.

    – ألالوس أول الآلهة وأبوهم ينجب آنوس/السماء الذي يخدمه طيلة تسع سنوات.

  • (٢)

    أورانوس يسود على الكون ويسجن أولاده في باطن الأرض جيا، وبينهم كرونوس آخر مواليد جيا.

    – يتمرد آنوس على ألالوس فيقصيه عن العرش ويحكم بدلًا عنه.

  • (٣)

    يتمرد كرونوس على أبيه ويخصيه بمنجلٍ حادٍّ عندما أقبل لمضاجعة أمه.

    – يتمرد كوماربي على أبيه ويعض على قضيبه بأسنانه.

  • (٤)

    ينسكب دم الجرح من أورانوس وينسكب على الأرض وينتج عن تلاقح الدم والتربة العمالقة وآلهة أخرى.

    – يبتلع كوماربي سائل أبيه، ثم يبصق منه على الأرض فينتج عن تلاقح الأرض والسائل إلهانِ. أما بقية المادة فتنزل إلى بطن كوماربي وتنتج بذورها إله العاصفة، الذي ينمو في بطن أبيه.

  • (٥)

    كرونوس يسود ويبتلع أولاده، كما يبتلع زيوس رمزيًّا عن طريق ابتلاعه الحجر ملفوفًا في قماط، بينما يشب زيوس في مخبئه حتى بلوغه سن الرشد.

    – كوماربي يسود وإله العاصفة ينمو في بطنه حتى يبلغ الرشد في وقت المخاض.

  • (٦)

    يتشاور إله العاصفة مع آنوس حول أفضل طريقة للخروج من بطن كوماربي.

    – تتعاون الإلهة ميتيس مع زيوس بإعدادها شرابًا مقيئًا يساعد الآلهة الحبيسة على الخروج من فم كرونوس، بما فيهم الحجر الذي ابتلعه على أنه زيوس نفسه.

  • (٧)

    كرونوس يتقيأ أولاده بالإكراه وزيوس يقهره وينفيه. زيوس يسود.

    – إله العاصفة يخرج بالقوة وبعون تعاويذ إيا السحرية فيقهر أباه وينفيه. إله العاصفة يسود.

نلاحظ من هذه المقارنة مدى تشابه الأسطورتين في البنية العامة وتوافق عناصرهما الرئيسية. ورغم أن زيوس في الأسطورة الإغريقية قد نجا من الابتلاع نتيجة حيلة دبرتها أمه؛ إلا أني أرجح أن ابتلاع الحجر هو عنصرٌ مستحدث على الشكل الأصلي للأسطورة، وأنها كانت تتضمن في الأصل قيام كرونوس بابتلاع زيوس، ثم خروج هذا على رأس إخوته بطريقةٍ ما؛ ذلك أن خدعة جيا تبدو لي فكرة مستمدة من الفولكلور الشعبي، وواهية الصلة بالأفكار الميثولوجية الأصيلة.

وكما قلنا عند مقارنتنا مع الأسطورة البابلية، فإن الأسلوب المختزل للنص الحوري، وخلوه من التفاصيل التي يمكن أن تضيء لنا ماهية كل عصر من العصور المتتابعة، وما يقابله من التحولات الكونية التي قاد تسلسلها إلى تنظيم الكون، يخفي طابعه العام كنصٍّ في أصول العالم وتنظيمه. إلا أن البنية المشتركة بين النص الحوري والنص الإغريقي يجب أن توجه أنظارنا إلى رؤيته في الإطار العام لأساطير الأصول وتنظيم العالم، ودراسته على هذا الأساس.

غير أن الأسطورة الحقيقية لا تسلِّم نفسها لمستوى واحد من التفسير لأنها تقوم في الأصل على عدة مستويات من الطرح الزمني؛ الأمر الذي يفرض علينا بالمقابل أن نعمد إلى حفرياتٍ تخترق المستوى الأول للتفسير لتصل إلى المستويات التحتية للطرح الأسطوري. وفي حالة أسطورتنا المركبة هذه، فإن تفسيرنا المبدئي لا يعطي كل عناصر الأسطورة حقها من التوضيح. فصراع الأجيال يمكن أن يجري دونما حاجة إلى ابتلاع الأولاد في الأسطورة الإغريقية وإقامتهم في بطن أبيهم إلى بلوغ سن الرشد، وأيضًا دونما حاجة إلى حبَلٍ ذكَري وولادة غير طبيعية في الأسطورة الحزينة. فكيف نفسر هذه العناصر في الأسطورتين؟

إنَّني لا أستطيع تلمُّس أي معنًى لهذه العناصر الغريبة في الأسطورتين إلا من خلال صراع الثقافة الأمومية القديمة مع الثقافة الذكرية البطريركية الجديدة، ومنعكسات هذا الصراع في الميثولوجيا. والفكرة التي تقوم عليها هذه العناصر هي فكرة الحَمْل الذكري التي نستطيع التعرف عليها في أكثر من أسطورةٍ إغريقية.

إن عنصر ابتلاع السائل المنوي والحمل بإله العاصفة في الأسطورة الحورية، يعادل من حيث القيمة الرمزية عنصر ابتلاع الأولاد في الأسطورة الإغريقية. وكلَّا هذَين العنصرَين يخدم فكرة الحمل الذكري. وهي بقية ميثولوجية من بقايا الصراع الكبير بين الميثولوجيا الذكرية والميثولوجيا الأمومية، والذي عكس ذلك الصراع الاجتماعي الحاسم عند مطالع التاريخ، عندما كانت المجتمعات الإنسانية تنتقل من الثقافة القروية إلى الثقافة المدنية.٢٠ فالإله الذَّكر في الأساطير التي تقوم على هذه الفكرة، يدَّعي لنفسه أهم وظيفة من وظائف الأنثى، ويثبت أنه قادرٌ على الحمل أيضًا. وغالبًا ما يكون هذا الحمل حملًا من الدرجة الثانية؛ أي إن المولود الإلهي الجديد يدخل في جسد الأب بعد خروجه من رحم الأم، حيث يقيم فترةً كافية تطهره من آثار الأمومة وتقطع روابطه بكل ما تمثله الأم من قيمٍ أنثوية. لقد عاش الآلهة التيتان من أولاد الأرض جيا في رحم أمهم وترعرعوا هناك في فترة حملٍ طويلة استمرت حتى شبُّوا عن الطوق. وهؤلاء التيتان هم آلهة الثقافة الأصلية في بلاد اليونان قبل قدوم القبائل الهندو أوروبية إليها. أما الآلهة الأوليمبيون من إخوة زيوس، وهم الآلهة الحقيقيون للقبائل الإغريقية الهندو أوروبية ذات التقاليد البطريركية؛ فقد خرجوا من رحم الأم رُضَّعًا ليكبروا ويشبوا عن الطوق في جوف أبيهم. وإذا كانت الأم قد أعطتهم الحياة البيولوجية، فإن الأب هو الذي وهبهم الحياة الثقافية.

ولدينا أسطورتان إغريقيتان أخريان تقومان على عنصر الحمل الثاني الذكري؛ هما أسطورة مولد ديونيسيوس وأسطورة مولد أثينا. في أسطورة مولد ديونيسيوس تطلب سيملي من زوجها زيوس أن يظهر لها في هيئته الأصلية كإلهٍ للصواعق والبروق، وعندما يفعل ذلك تموت سيملي هلعًا من المنظر المخيف وتهبط إلى العالم الأسفل وهي حاملة بديونيسيوس. يستطيع زيوس إنقاذ الجنين من بطن أمه ولكن قبل اكتمال نموه، ثم يعمد إلى شق فخذه ويودِع الجنين هناك ويخيط الشق عليه. يُكمل الجنين ما تبقَّى له من شهور الحمل، ثم يخرج إلى الحياة في ولادةٍ ثانية بعد أن أمضى قِسمًا من أشهر الحمل في رحم أمه وقسمًا آخر في فخذ أبيه. أما في أسطورة مولد أثينا، فإن زيوس يقوم بابتلاع ميتيس أولى زوجاته؛ الإلهة الفائقة الحكمة، وذلك إثر نبوءة حذَّرته من أنها حاملٌ بمولودٍ سوف يتحدى سلطانه. تُكمل ميتيس فترة حملها في جوف زيوس ثم تلد الإلهة أثينا التي صعدت إلى رأس أبيها تحاول الخروج دون جدوى. انتاب زيوس صداعٌ أليم بسبب اضطراب أثينا في رأسه، وهنا تطوع الإله الحداد هيفيستوس لحل المشكلة وعمد إلى شج رأس زيوس بفأس، ومن الجرح العميق خرجت أثينا في عدة الحرب الكاملة.

ولرُبَّ سائلٍ يسألنا هنا: كيف ينطبق تفسيرنا لفكرة الحمل الثاني على الإلهة أثينا وهي امرأته؟ ولتوضيح هذه النقطة يجب أن ننظر إلى شخصية أثينا كما رسمتها الميثولوجيا الإغريقية. فأثينا هي ربَّة الحرب وربَّة الذكاء والحصافة، وحارسة المدن الحصينة، وحامية البنائين والنحاتين وأصحاب الحرف. لم تتزوج ولم يخفق قلبها بحب أحدٍ بل حافظت على عذريتها ولم يقربها رجل. تُمثلها الأعمال الفنية دائمًا في عدة الحرب الكاملة.٢١ فأثينا والحالة هذه أقرب لأن تكون فكرة مجردة منها لإلهة محددة مشخصة. إنها الأفكار التي تصدر عن عقل الرجل، والذكاء البرجماتي الذي يصنع بواسطته تقاليد المدنية. إن الرجل يحبل ويلد أيضًا كما المرأة ولكنه يلد الأفكار التي تصدر عن رأسه كما صدرت أثينا عن رأس أبيها. إنه الحمل على المستوى الثقافي الذي يعادل حمل المرأة على المستوى البيولوجي الطبيعاني. من هنا قامت هذه الأسطورة البطريركية بتكريس «الفكرة» كمولود ذكري، يتكون في جوف الرجل ثم يخرج من رأسه بعد أن تطهر من آثار الأمومة وتنقى من شوائبها. لقد ذهب عالِم النفس المعروف سيجموند فرويد إلى القول بأن الأنثى في المجتمع الذكوري تملك في لاشعورها حسدًا للذكر من امتلاكه للقضيب، ولكن يبدو أن الرجل كان يملك من لاوعيه حسدًا للمرأة بسبب مقدرتها على توليد الحياة بالحمل والإنجاب، وذلك قبل أن يوطد سيطرة قيمة الذكرية في مجال المجتمع والسياسة. فكان عليه أن يُثبت من خلال الأسطورة مماثلته لها في هذه الوظيفة الأساسية.
ولعلنا واجدون في طقوس العبور التي يخضع لها الفتيان في بعض الثقافات التقليدية، ما يوضح الخلفية الثقافية التي يقوم عليها عنصر الحمل الذكري، بما هو تطهير المولود من آثار الحمل الأمومي، وهو العنصر الميثولوجي الذي وصل أعلى درجات التطرف في أسطورة خصاء آنوس الحورية، عندما حمل كوماربي مباشرة من قضيب أبيه، فنما في بطنه إله العاصفة في غنًى عن الحمل الأوَّلي في رحم امرأة. فلدى العديد من القبائل البدائية،٢٢ يُترك الأطفال الذكور في عُهدة أمهاتهم منذ الولادة إلى سن البلوغ. ثم يخضع الفتى الذي قارب سن البلوغ إلى طقس تطهيري رمزي، يخلصه من شوائب الفترة التي قضاها في رعاية أمه وفي بيئةٍ نسائيةٍ بحتة، ويهيئه للانضمام إلى عالَم الرجال. وهنا يأتي ممثلون عن رجال القبيلة فينتزعون الفتى من بيت أمه ويعزلونه في كوخٍ خارج القرية، حيث يخضع لأنواعٍ مختلفة من التابو المتصل بعالَم النساء. وبين الحين والآخر يعود الرجال إليه فيؤدون حوله طقوسًا خاصة تساعده على الولادة الجديدة من عالَم النساء إلى عالَم الرجال. وأخيرًا يخرج من معتكفه ليغدو عضوًا كاملًا في جماعة الذكور البالغين. وفي أول خروج له من عزلته غالبًا ما تتضمن الإجراءات الطقسية قيام الفتى بتأدية حركاتٍ رمزية أمام أمه من شأنها الإيحاء بانقطاعه نهائيًّا عنها وازدرائه للعالَم النسائي.

نأتي الآن إلى النوع الرابع من الأساطير، وهو النوع الذي يستعصي على التفسير، ولا نستطيع حياله إلا الخروج بافتراضاتٍ تبقى أفضل من «الفوز من الغنيمة بالإياب»، على حد قول المثل المعروف.

(٤-٤) النموذج المستغلق

أسطورة إنكي وننخرساج

البطلان الرئيسيان في هذه الأسطورة السومرية التي أُلخصها هنا، هما: إنكي إله الماء العذب والحكمة، وننخرساج الأم/الأرض. عاش إنكي وننخرساج عند مطلع الأزمان في أرض دلمون؛ الجنة النقية الطاهرة التي لا يعرف ساكنوها الألم والمرض والشيخوخة، ولا يعتدي فيها مخلوقٌ على آخر، ولكن الأرض كانت قاحلةً، فطلبت ننخرساج من زوجها إنكي أن يُجري الماء في الجزيرة، ففعل ذلك بمعونة إله الشمس وإله القمر، فاخضرَّت الأرض وارتوى الزرع. ثم أخرج إنكي قضيبه وروى الأخاديد في الأرض وغمر حقول القصب، وأمر رسوله وتابِعه إيسموند، بألا يسمح لأحد أن يقترب من السبخات المائية. بعد ذلك ضاجع إنكي زوجته فحملت منه، وبعد تسعة أيام يعادل كلٌّ منها شهرًا كاملًا أنجبت الفتاة ننمو، التي ترعرعت بسرعةٍ إلى طور الصبا. وبينما كانت الفتاة تتجول عند السبخات المائية رآها إنكي، فقطع بمركبه إلى الضفة الأخرى وضاجعها هناك. حملت ننمو من أبيها، وبعد تسعة أيام يعادل كلٌّ منها شهرًا كاملًا أنجبت الفتاة ننكورا. وبينما كانت ننكورا تتجول في السبخات المحظورة جاءها إنكي وضاجعها فحملت منه، وبعد تسعة أيام يعادل كلٌّ منها تسعة أشهر وضعت الفتاة أتو. وقبل أن يعمد إنكي إلى إغواء البنت الجديدة، تقول لها ننخرساج بألا تستسلم له قبل أن يأتيها بأنواعٍ معينة من الخضار والثمار من الأراضي الصحراوية البعيدة، بينها العنب والخيار. ويبدو أنها كانت تعتقد بعدم قدرة إنكي على استنبات تلك المناطق، ولكن إنكي يفيض بمائِه على الأراضي البعيدة ويرويها، ويقوم بستانيٌّ لا نعرف هويته برعاية النباتات حتى تكبر وتنمو فيأتي بها إلى إنكي. يقدم إنكي النباتات إلى أتو فتستسلم له، ولكن ننخرساج تسرع إليهما وتنتزع بذور إنكي من بين ساقَي الفتاة. لا ندري ماذا فعلت ننخرساج ببذور إنكي؛ لأن النص ينتقل مباشرةً من انتزاع البذور إلى القول بأن ثمانية أنواع من النباتات قد وُلدت منها. نمَت النباتات وكبرت. وبينما إنكي يتجول مع تابعه إيسموند، وقع بصره على النباتات الغريبة فسأله عن أسمائها، وكان كلما ذُكر له اسم واحدة منها اقتلعها له فأكلها، وذلك «ليعرف أسماءها ويقدر مصائرها»، على حد قول النص، وهكذا حتى أتى عليها جميعًا. تثور ننخرساج لفعلة إنكي وتلعنه قائلةً: إلى آخر أيامك لن أنظر إليك بعين الحياة. ثم تختفي.

يقع إنكي مريضًا إثر لعنة ننخرساج، وتستوطن في جسده ثماني عللٍ بعدد النباتات التي أكلها. يؤدي مرض إنكي إله الماء إلى قحط يعمُّ الأرض، فيجزع الآلهة ويبحثون عن ننخرساج يلتمسونها أن ترفع لعنتها عن إنكي فلا يجدونها. وأخيرًا يتطوع الثعلب للبحث عنها فيجدها. وعندما تحضر إلى مجمع الآلهة يمسكون بأطراف عباءتها ويرجونها أن ترفع لعنتها عن إنكي فتستجيب. تعمد ننخرساج إلى وضع إنكي في فرجها ثم تسأله عن الذي يؤلمه:

ننخرساج أجلست إنكي في فرجها:

– ما الذي يوجعك يا أخي؟
– إن … يوجعني.
– لقد استولدت لك الإلهة أيو.
– ما الذي يوجعك يا أخي؟
– إن فكي يوجعني.
– لقد استولدت لك الإلهة ننتولا.
– ما الذي يوجعك يا أخي؟
– إن أسناني تؤلمني.
– لقد استولدت لك الإلهة ننسوتوز.
– ما الذي يوجعك يا أخي؟
– إن فمي يؤلمني.
– لقد استولدت لك الإلهة ننكاسي.
وتستمر هذه الحوارية حتى تستولد ننخرساج ثماني إلهات للشفاء بعدد أوجاع الإله إنكي الذي يسترد صحته وعافيته. وتنتهي الأسطورة على هذا النحو.٢٣ ورغم أن النص شديد التكثيف والإيجاز عند هذه النقطة، ولكننا نفهم منه أن ننخرساج تستولد إلهات الشفاء الثماني هذه من بطن إنكي، وأن هذه الإلهات هي النباتات الثماني التي أكلها فتحولت في بطنه إلى كائناتٍ إلهية تحاول الخروج إلى الحياة. وربما لهذا السبب قامت ننخرساج بوضع إنكي في فرجها ليكون قادرًا على إطلاق النباتات من جوفه فيما يشبه الولادة الطبيعية.

يقع هذا النص في حوالي ٢٧٠ سطرًا، هو خالٍ تقريبًا من النقص والتشوهات وواضح الكلمات والصيغ والتعابير، وخالٍ من الإشكاليات اللغوية. ومع ذلك فإن التأمل في معناه يضعنا أمام جدار مصمت لا نافذة فيه ولا باب. فما الذي تقصد أن تقوله هذه السلسلة من الأحداث التي تنتقل بنا من شيفرةٍ إلى أخرى؟ وأيُّ معنًى يكمن خلف هذا النص الذي يتسلسل دونما روابط منطقية، ودونما سببية مقنعة؟

لا شك أن التحليل المتأني يساعدنا على فهْم أجزاءٍ متفرقة من النص، ولكن دون أن نستطيع ربط هذه الأجزاء في النهاية بما يساعدنا على استيعاب الرسالة الإجمالية. من الجوانب الواضحة مثلًا أن الجنة الأولى التي تم زرعها في الأرض إنما نتجت عن اتحاد الماء بتربة الأرض؛ أي زواج إنكي-الماء من ننخرساج-الأرض. فنحن في مطلع النص أمام أسطورةٍ تنتمي إلى ميثولوجيا الأصول والتكوين، وهي تبدأ بوصف كمال البدايات قبل أن يتطرق الفساد إلى مظاهر العالَم ويدخل في نسيج الحياة. كما أننا أمام تأسيسٍ لفكرة صلة العلاقات الجنسية بخصب الأرض، وتبادلها تأثيرًا سحريًّا تعاطفيًّا. فزواج إنكي من ننخرساج يأتي بعد سلسلةٍ من نشاطات إنكي الإخصابية. وهذا الزواج يعمل بدوره على الإيحاء للطبيعة بالإخصاب. وفي نهاية النص نجد أنفسنا أمام جانبٍ إيتيولوجي تسويغي يفسر كيفية ظهور إلهات الشفاء ووظيفتهن في علاج الأمراض. قد تُشعرنا هذه التفسيرات وتشغلنا عن بقية التفاصيل، أو تعطينا مسوغًا لتجاهلها كما تجاهلها الآخرون من دارسي هذه الأسطورة. وهذا ما لن نفعله هنا. فماذا عن قيام إنكي بمضاجعة ابنته ثم حفيدته فابنتها أيضًا؟ ما الذي تمثله هذه الإلهات الثلاث المدعوات ننمو وننكورا وأتو؟ لماذا هرعت ننخرساج ونزعت بذور إنكي من رحم أتو؟ لماذا ابتلع إنكي بناته الثماني وهنَّ النباتات التي نمت من بذوره المنتزَعة من رحم أتو؟

إن استعراض أهم التفسيرات التي قدمت لهذا النص يدلنا على مدى غموضه واستعصائه، وبقاء رسالته خفية على مناهجنا وطرائقنا في التفكير.

في كتابه الصادر عام ١٩٦٣م تحت عنوان «السومريون»، لم يضف الباحث المرموق في السومريات صموئيل نوح كريمر أي جديد في تفسير هذه الأسطورة، على ما قدَّمه عام ١٩٤٣م في كتابه الميثولوجيا السومرية. فبدلًا من السعي إلى إلقاء أضواء جديدة على النص، نراه يتابع ويوسع عقد المقارنات بين النص السومري وأسطورة الفردوس التوراتية. فجنة إنكي وننخرساج تشبه في براءتها الأولى جنة آدم وحواء. والمياه التي فجَّرها إنكي لسقي دلمون تشبه النهر الذي جرَّه يهوه في جنة عدن والذي تفرَّع إلى أربعة أنهر. واللعنة التي نزلت على إنكي جرَّاء أكله النباتات الثماني، تشبه اللعنة التي نزلت على آدم جرَّاء أكله من ثمار شجرة المعرفة. ثم يسير كريمر شوطًا أبعد في عقد مثل هذه المقارنات الواهية، عندما يعقد صلةً بين اسم حواء في النص العبري واسم إحدى إلهات الشفاء المدعوة نن-تي، والتي استولدت لشفاء ضلع إنكي. فالاسم بالسومرية يعني سيدة الضلع، حيث المقطع الأول نن يعني سيدة، والثاني تي يعني الضلع. كما أن الاسم في الوقت نفسه يعني سيدة الحياة أو التي تحيي؛ لأن المقطع تي يؤدي أيضًا معنى صنع الحياة؛ وبذلك تشبه هذه الإلهة حواء التي وُلدت من ضلع آدم؛ فهي سيدة الضلع، ويفيد اسمها معنى صنع الحياة في الوقت نفسه.٢٤ ونحن لو سلَّمنا جدلًا بمشروعية مثل هذه المقارنات، فإننا لا نجد فيها ما يلقي ضوءًا على النص السومري. وكريمر نفسه لم يخلص منها إلى نتيجةٍ واضحة. إضافةً إلى أنه قد تفادى تمامًا معظم العناصر الغامضة في النص.
أما ثوركيلد جاكوبسن، الباحث المعروف الآخر في السومريات، فيقدم لنا في كتابه The Treasures of Darkness٢٥ تفسيرًا ذا طابع عمومي يقفز فوق التفاصيل. يرى جاكوبسن أن الأسطورة ترجع في أصولها إلى الألف الرابع قبل الميلاد، حين تأسست في جنوبيِّ وادي الرافدين شبكة من القنوات المائية التي أحدثت انقلابًا اقتصاديًّا كبيرًا، قام على الإفادة القصوى من ماء النهرين الكبيرين. من هنا، فإن العنصر الرئيسي الذي تقوم عليه الأسطورة هو زواج إنكي الذي يمثِّل ماء النهر، من ننخرساج التي تمثل حقول الطمي التي تحف به. فإنكي-الماء، يفيض في جزءٍ من السنة ليروي المناطق اللحقية الممتدة على الضفتين، ثم يعود النهر تدريجيًّا إلى سريره الأصلي تاركًا التربة ننخرساج بعد أن لقَّحها، وأثناء انحساره يكشف عن أرضٍ مخصبة أخرى تنتج بدورها نباتات جديدة هي إلهات النبات الثلاث ننمو وننكورا وأتو. وفي انتظار عودة النهر مرةً أخرى إلى الفيضان، يكون إنكي مريضًا والإلهة ننخرساج التي لعنته مختفية عن الأنظار، وذلك إلى أن يعثر عليها الثعلب وتعود لشفاء المريض.

يتَّبع هذا التفسير، وبدقةٍ متناهية، منهج جاكوبسن الذي يمكن أن ندعوه بمنهج المجاز الطبيعاني، الذي يجعل من ظواهر الطبيعة شخصيات إلهية، ويرى إلى الأسطورة باعتبارها بنية رمزية تقابل نقطة فنقطة جانبًا من العالَم الطبيعاني. ورغم أن تفسيره هنا يبدو جذابًا للوهلة الأولى ومنسجمًا مع روح المنهج المستخدم؛ إلا أننا سرعان ما نتبين أنه قد قفز فوق العديد من التفاصيل المهمة، شأنه في ذلك شأن كريمر. ولسوف أحاول من جانبي تقديم تفسير يطمح إلى شموليةٍ أكثر، ويعمل على الإحاطة بمعظم التفاصيل التي تركها الآخرون، والربط فيما بينها على نحوٍ مقنع، ولكن مع الاعتراف مسبقًا بالتقصير عن بلوغ الأرب.

إن نصًّا على هذا القدر من الغرابة والتعقيد، ذو بنيةٍ متراكبة تتطلب منا أن ننظر إلى مستوياته من زوايا مختلفة، بحيث تعطينا كل زاوية مستوًى للفهم مختلفًا ومكملًا للمستويات الأخرى؛ فالنص كما رأى جاكوبسن بحق، هو نتاج فترة مبكرة من الثقافة السومرية، كانت خلالها مشغولةً بتأسيس البِنى التحتية لنظام ري وإنتاج زراعي دام ألفين من السنين على أقل تقديرٍ. والشخصيتان الرئيسيتان هنا هما الماء والتربة، وما نجم عن علائقهما من مظاهرَ تنتمي إلى عالم الطبيعة والنبات. وهذا هو المستوى الأول لفهم الأسطورة. أما المستوى الثاني فتأمُّلي فلسفي، ومفتاحنا إليه هو الحالة التي كانت عليها أرض دلمون في البدايات الأولى، والحالة التي صارت إليها بعد ذلك، مع النظر إلى سلسلة الأسباب والنتائج التي قادت إلى تبدُّل الأحوال. فأرض دلمون كما يصفها مطلع النص هي: «مكانٌ طاهر، مكانٌ نظيف، مكانٌ مضيء؛ حيث لا يفترس الأسد ولا يفترس الذئب؛ حيث لا يعرف أحدٌ رمد العين ولا أوجاع الرأس؛ حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة والمرأة من العجز؛ حيث لا وجود لمنشدٍ يندب ولا لجوال ينوح.» ولكن ما الذي حلَّ بهذه اليوتوبيا البدئية بعد ذلك؟ لقد هُزت أركانها وتضعضعت أُسسها، فحلَّ الشقاق محل الوئام، والمرض محل الصحة الدائمة، وتنازع الإرادات محل التناغم المطلق والانسجام. وباختصار؛ فنحن هنا أمام سقوط ذريع من عصر البراءة الذي وصفته الميثولوجيا السومرية في نصوصٍ أخرى، منها هذا النص:

في تلك الأيام، لم يكن هناك حيةٌ ولا عقرب ولا ضبع،
لم يكن هناك أسدٌ ولا كلب مسعور ولا ذئب،
لم يكن هناك خوفٌ ولا رعب،
لم يكن للإنسان منافس،
في تلك الأيام كانت شوبور، أرض المشرق،
أرض الوفرة وشرائع العدل،
وسومرة، أرض الجنوب، ذات اللسان الواحد،
أرض الشرائع الملكية،
وأوري، أرض الشمال، الأرض التي يجد فيها كلٌّ حاجته،
ومارتو، أرض الغرب، أرض الدعة والأمان،
وكان العالَم أجمع يعيش في انسجامٍ تام،
وبلسانٍ واحد يسبِّح الكل بحمد الإله إنليل.٢٦

أما عن الأسباب التي قادت إلى هذا السقوط، فنراها في خطيئتين: الأولى: معاكسة الطبيعة، والثانية: الإفراط. فإنكي يهجر زوجته ثم يستنفد قواه في تحويل مياهه من قنواتها ليسقي بها الأراضي البعيدة الصحراوية. أما ننخرساج فترد على أفعاله غير الطبيعية والمفرطة بفعلٍ آخر متطرف وغير طبيعي حين تنزع بذوره من رحم أتو، فيدفعه ذلك إلى أكثر الأفعال تطرفًا وبُعدًا عن الطبيعة حين يلتهم بناته واحدة إثر أخرى. وتكون النتيجة حصول تصدع في بنية العالَم الفردوسي وظهور المرض، وهو علامة الاختلال الأولى في الحياة، وبوابة الموت.

وبما أن المرض يتطلب الدواء والشفاء، فإن الأسطورة تتابع سرد الأحداث التي قادت إلى ظهور الشفاء كنقيضٍ ومعارض للمرض. وهنا لا بدَّ من عكس مسار الأفعال الشاذة وغير الطبيعية التي قادت إلى الاختلال. فإنكي الذي يحمل في بطنه بطريقةٍ شاذة ثماني بناتٍ، يجب أن يدخل في فرج زوجته ليستطيع إنجاب بناته بطريقةٍ أقرب إلى فعل الولادة الطبيعية. وبعد دخوله تقوم باستيلاد البنات واحدة إثر أخرى، وكل واحدة منهن موكلة بخصيصة شفاء مرض من الأمراض التي يعاني منها إنكي.٢٧

وأُحب أن أضيف هنا، أن ولادة إلهات الشفاء تحمل في طياتها جانبًا إيتيولوجيًّا تسويغيًّا، هدفت الأسطورة من ورائه إلى تسويغ الخواص الشفائية التي تتمتع بها بعض النباتات. وما إلهات الشفاء الثماني اللواتي ظهرن إلى الوجود، سوى نباتات خضعت لعملية تحويل رمزي زودتها بخصائصَ سرية، من شأنها مقاومة المرض والدفاع عن الحياة. لقد ابتلع إنكي نباتات عادية وحمل بها في بطنه «لكي يعرف اسمها ويقرر مصائرها»، على حد قول النص، ثم دخل إلى فرج ننخرساج حيث أطلقها إلى الحياة وقد تحولت إلى إلهات شافية وُلدت من أعماق الماء ومن رحم الأرض، بعد عمليةٍ معقدة. وكل نبتة شافية اكتشفها الإنسان بعد ذلك، هي بشكلٍ ما سليلة لإحدى هذه النباتات السحرية البدئية التي ظهرت في الأزمان الأولى. وهذا هو المستوى الثالث لفهم الأسطورة.

ولدينا أخيرًا مستوى رابع هو مستوى سحري طقسي. وإني أرجح أن يكون هذا النص بمثابة تعويذة تساعد على الشفاء من الأمراض. ومفتاحي لهذا التفسير هو الشبه الواضح في البنية بين نصنا هذا ونصوصٍ أخرى دعاها نسَّاخها تعاويذ لشفاء المرض، أورد منها فيما يلي نصين:

النص الأول، هو وثيقةٌ بابلية يذكر كاتبها أنه استنسخها عن وثيقةٍ قديمة، ويصفها بأنها تعويذة لشفاء وجع الأسنان. وهذه ترجمتي للنص:

بعد أن خلق آنو السماء،
وبعد أن خلقت السماء الأرض،
والأرض خلقت الأنهار،
والأنهار خلقت المستنقعات،
والمستنقعات خلقت دودة السوس،
مضى السوس باكيًا إلى شَمَش،

وذرف الدمع في حضرة الإله إيا قائلًا:

«ماذا تعطيني لطعامي،
وماذا تعطيني لشرابي؟»

(فأجابه إيا):

«سأعطيك شجرة التين الناضج،
أو أعطيك شجرة المشمش.»

(فقال السوس):

«بماذا يفيدني شجر التين؟
بماذا يفيدني المشمش؟
دعني أصعد وأتخذ لي مسكنًا،
بين الأسنان وعظام الفك،
حيث أمتص دماء الأسنان،
وأنخر فيها،
عند جذور وعظام الأسنان.»

(يلي ذلك سطرٌ موجه للطبيب المعالج.)

«أدخل الإبرة وأمسك بقدمه (السوس)»،
«لأنك نطقت بهذا أيها السوس، ليسحقك إيا بجبروت يديه.»
– تعويذة ضد وجع الأسنان.
– الطريقة: أحضر بيرة وزيتًا وامزجهما.
– اتلُ التعويذة ثلاث مرات وضع المزيج على الأسنان.٢٨

ولدينا تعويذةٌ بابلية أخرى كانت تُتلى عند النزول في ماء الفرات للحصول على الشفاء. وهذه ترجمتها:

تعويذة أيها النهر، يا مبدع الأشياء كلها،
عندما حفر مجراك الآلهة الكبار،
حفوا ضفافك بكل ما هو حسن وطيب،
وفيك أقام إله الأعماق إيا مسكنه،
ووهبك فيضان الماء الذي لا يقاوم،
كما وهبك الإلهان إيا ومردوخ،
غضبًا ناريًّا وجلالًا وروعًا،
أنت قاضٍ في مشكلات البشر.٢٩
أيها النهر العظيم، أيها النهر المبجل،
يا نهر المقامات المقدسة،
يا مَن بمائك يأتي الشفاء، تقبَّلني،
انتزع ما بجسدي وارمه إلى ضفافك،
ارمه إلى ضفافك (أو) دعه يغور في أعماقك.٣٠

إن البنية العامة لنص إنكي وننخرساج، وبصرف النظر عن تفصيلاته، تتألف من ثلاثة وحدات أساسية هي: (١) عودة إلى الأصول وكمال البدايات. (٢) دخول الفساد إلى الكون وظهور المرض. (٣) ظهور الشفاء. وهذه البنية ذاتها نجدها في تعويذة السوس ووجع الأسنان؛ فالنص يرجع في مطلعه إلى البدايات الأولى عندما خلقت السماء الأرض والأرض خلقت الأنهار … إلخ. ثم يشرح كيفية ظهور مرض الأسنان، وينتهي إلى وصف العلاج الذي يتم بعون الإله إيا (= إنكي)، الذي أنجب إلهات الشفاء في أسطورتنا. كما تنتظم تعويذة النهر وفق بنية مشابهة ولكن باختصارٍ أشد. فهي تعود أيضًا إلى البدايات التي تم عندها إبداع الأشياء كلها، وتنتهي بالاستحمام في النهر الذي يقيم الإله إيا في أعماقه، والذي يصل اللحظة الراهنة للمريض بتلك البدايات الكاملة الأولى.

إن المواقف الفكرية التي تقوم وراء هذا النوع من الطقس السحري المرافق للعلاج الطبي، تنطلق من اعتقاد الإنسان القديم بأن المرض كعلامةٍ من علامات الاختلال في الطبيعة، يمكن شفاؤه عن طريق انتزاع المريض من سياق الزمن الحالي والعودة به إلى الخلف وفي اتجاهٍ معاكس نحو كمال البدايات، عندما لم يكن هناك ألمٌ وشيخوخة وعجز. هذه العودة إلى البدايات تجعل القوى الإلهية الخالقة حاضرةً هنا والآن من أجل مد يد العون إلى المريض. ونحن أمام هذا الطقس المصغَّر يجب أن نتذكر نموذجه الأساسي الأكبر وهو طقوس رأس السنة الجديدة التي تنطلق من المواقف الفكرية نفسها. ففي أعياد رأس السنة يقوم الكهنة في بابل بتلاوة أسطورة التكوين البابلية كاملةً ثم يجري تمثيلها دراميًّا؛ وذلك من أجل تجديد العالَم الذي بلي في السنة الماضية، وإعطائه دفعةً خلَّاقة جديدة في سنةٍ أخرى قادمة، عن طريق استحضار القوى الإلهية التي أبدعت الكون في الأزمان الأولى. والمعنى العميق للطقس هنا، لا يتصل بإحياء ذكرى تلك الأحداث الميثولوجية العظمى، أحداث الأصول والبدايات والتكوين، بل بتكرارها وجعلنا معاصرين لها، فنستمد منها القوة على التجديد والاستمرار وتصحيح علامات الاختلال في حياة الإنسان.٣١

وفي الثقافات التقليدية، نعثر على ممارسةٍ طقسية تقوم على المواقف الفكرية نفسها من مسألة الأصول والبدايات، والقوة الشفائية التي يتضمنها استحضار زمن الأصول. ففي أستراليا تروي قبيلة الكاليولا كيف جرح العجوز فينامون نفسه جرحًا بليغًا في أثناء انشغاله بصنع قارب. عندئذٍ عمد إلى تلاوة التعاويذ التي تسترجع أزمان الأصول، فتلا نشأة الحادثة التي أدت إلى جرحه، ولكنه لم يتذكر الكلمات التي تحكي قصة أصل الحديد، وهي الكلمات التي يمكنها أن تشفي الجرح الذي أحدثته الأداة الحديدية الحادة. ثم بعد أن التمس العون من سحرةٍ آخرين صاح فينامون: الآن تذكرت أصل الحديد، ثم بدأ يتلو التعويذة الآتية:

الهواء هو الأول بين الأمهات.
الماء بكر الإخوة والنار ثانيهم،
والحديد أصغر الثلاثة سنًّا.
إن أوكو، الخالق العظيم،
فصل الأرض عن الماء وأطلع الشمس في الأقاليم،
لكن الحديد لم يكن قد وُلد بعدُ.
وهكذا وُلدت الحوريات الثلاث،
اللائي صرن أمهات الحديد.٣٢
والفكرة وراء هذه القصة هي أن العلاج لا يؤتي مفعوله إلا إذا عُرف أصل المرض وأصل الدواء. وهذه فكرةٌ شائعة لدى العديد من الثقافات التقليدية. فكل تلاوة سحرية يجب أن تتقدمها تعويذة تحكي أصل الدواء المستعمل. وهم يقولون صراحة في مطلع أناشيدهم الطقسية هذه، إنه إذا لم يُروَ عن أصل الدواء لا يصح أن يُستعمل. وهنا تبدأ التعويذة بالعودة إلى زمن الأصول وكيف قامت المرأة الأولى بزراعة النبتة الشافية … إلخ.٣٣
ولدى جماعة البهيل (Bhils) البدائية في الهند، هناك طقسٌ للشفاء يقوم بموجبه ساحر القبيلة بتطهير المكان المحيط بمرقد المريض، ثم يعمد إلى رسم دائرة المندالا، وهي دائرة ذات خصائص سحرية ترمز إلى الكون في تمامه. ورغم أن التعاويذ التي تُتلى في هذه المناسبة لا تشير صراحةً إلى خلق العالم؛ إلا أن دائرة المندالا المرسومة بطحين الذرة قرب المريض تنوب مناب تلاوة الأسطورة، وتؤدي غرضًا شفائيًّا بجعلها المريض يعاصر رمزيًّا عملية الخلق، ويمتلئ بتلك القوى البدائية الهائلة التي جعلت الخلق ممكنًا في الأزمان البدئية.
ولدى جماعة الناهاو الهندية أيضًا، هناك طقسٌ للشفاء يتألف من سرد أسطورة التكوين الأصلية، يعقبها سرد لأساطير الأصول الفرعية، ثم تنفيذ رسوم على الأرض ترمز إلى مراحل الخلق والتاريخ الميثولوجي للإله. ولدى جماعة الناخي في الصين قُرب التيبت عددٌ من التعاويذ الطقسية ذات الغرض الشفائي. وهي تبدأ من ولادة الكون ثم ظهور المرض ثم الأدوية الشافية. تبدأ إحدى التراتيل بالمطلع الآتي: «عندما في البدء لم تكن السموات والأرض والشمس قد ظهرت، والنباتات والقمر والنجوم أيضًا، عندما لم يكن شيء مما كان بعد ذلك.» يلي ذلك قصة خلق العالم وولادة الشياطين ثم ظهور المرض، فظهور الشامان الأول الذي جلب معه الأدوية الشافية. وتبدأ أنشودة طقسية أخرى على النحو الآتي: «في الوقت الذي ظهرت فيه السماء وظهرت النجوم والشمس والقمر، وظهرت الأرض والنباتات … إلخ.» وبعد الانتهاء من سرد تفاصيل الخلق، تأتي الأنشودة إلى سرد قصةٍ طويلة عن أصل الأدوية وكيف صارت في حوزة الأرواح الشريرة، ثم تسرد قصة ميلاد الشامان الأول وكيف صار إلى وظيفته هذه وكيف جعل الأدوية متاحة للجميع. ففي أحد الأيام رجع الشامان إلى بيته ليجد أبويه ميتين، فعزم على الذهاب بحثًا عن دواءٍ يمنع الموت. بعد مخاطرَ ومغامراتٍ كثيرة وصل إلى مواطن رئيس الأرواح وسرق الأدوية العجيبة التي يحتفظ بها. وبينما هو هاربٌ من المطاردة وقع على الأرض فتناثرت الأدوية على التربة ونبتت منها أعشاب الشفاء.٣٤ وفي ثقافتنا الشعبية الإسلامية تتمتع قراءة المولد النبوي بقوة الأصول. فنحن عندما نستعيد قصة ميلاد الرسول إنما نستحضر من جديدٍ قوًى فائقةً مقدسة، ونستشعر وجودها بيننا لتعيننا على الأمر الذي من أجله يُقرأ المولد، شفاءً كان أم دفعًا لبلاءٍ أم استجلابًا للبركات.

أخيرًا، وقبل نهاية المطاف، لديَّ استطرادٌ قصير حول دخول إنكي في فرج ننخرساج، ثم خروجه منه في ولادةٍ جديدة مع نباتات الشفاء. لقد تجاهل السيد كريمر في ترجمته للنص السومري هذا العنصر تمامًا، عندما ترجم السطر المعني على الوجه الآتي: «ثم قامت ننخرساج بوضع إنكي قرب فرجها.» وللأمانة العلمية فقد أشار في الحاشية إلى أن التعبير في السومرية يشير إلى أنها قد وضعته في فرجها. وإننا نرى هنا، أن عنصر الدخول في جوف ننخرساج-الأرض، هو عنصرٌ مكملٌ للرجوع إلى البدايات والأصول؛ ذلك أن فكرة العودة إلى الرحم تحمل في حد ذاتها نوعًا من الرجوع إلى الخلف؛ خصوصًا إذا تعلَّق الأمر بالرجوع إلى رحم الأرض، خالقة الجنس البشري في الميثولوجيا المشرقية، وأم الآلهة جميعًا في التصورات الميثولوجية المبكرة. نقرأ في نصٍّ بابلي عن خلق الإنسان، حيث لُقبت ننخرساج (التي تظهر هنا باسمها الآخر مامي) بالرحم الأم:

أنتِ عون الآلهة، مامي، أيتها الحكيمة،
أنتِ الرحم الأم،
يا خالقة الجنس البشري،
اخلقي الإنسان فيحمل العبء،
ويأخذ عن الآلهة عناء العمل.٣٥

وإذا كان تفسيرنا للأسطورة على أنها نوعٌ من تعويذة الشفاء صحيحًا، فإننا نرجح أن المريض كان يمر بطقسٍ رمزي من شأنه الإيحاء برجوعه إلى رحم الأرض كما رجع إنكي. وهنا نستطيع أن نقارن عنصر دخول إنكي في رحم الأرض في أسطورتنا، بعنصر هبوط النسر إلى رحم الأرض، عندما لبث في قاع البئر مدةً طويلة قبل أن يكون قادرًا على استعادة صحته واكتساب قوًى ذات علاقة بخصائص الإخصاب. كما تضيء لنا المقارنة مع الطقوس الشائعة لدى الثقافات التقليدية وبعض الثقافات الراقية، جوانب هامة من موضوعنا.

لدى العديد من المجتمعات التقليدية، تتضمن طقوس التعدية التي يمر بها الفتيان من أجل العبور بهم من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج، سلسلة من الأفعال الرمزية التي تُحول المرشح للتعدية إلى جنين بغية توليده ثانيةً. فهو يعود إلى الرحم من خلال إقامته في كوخٍ مظلمٍ، أو دفنه في حفرةٍ صغيرة ضمن بقعة مقدسة، متواحدة مع رحم الأرض-الأم. وهذه الولادة الثانية هي التي تجعل من الفتى عضوًا مسئولًا في مجتمعه. هذه الخصيصة التجديدية للعودة إلى الرحم تُستخدم أيضًا في الشفاء. ففي الهند، ما زال الطب التقليدي إلى يومنا هذا، يقوم بشفاء المرض وتجديد شباب الشيوخ عن طريق دفنهم في حفرةٍ داخل الأرض لها هيئة الرحم. وفي الصين، يتمتع طقس العودة إلى الأصول بتأثيرٍ شفائي كبير، حيث يولي المذهب التاوي هناك أهمية كبيرة لتمرين يُدعى التنفس الجنيني. وتتم ممارسة هذا التمرين بالتنفس ضمن دائرة مغلقة كما يفعل الجنين، ومحاكاة دوران الدم وحركة الأنفاس من الأم إلى الطفل وبالعكس. وتقول المقدمات النظرية لهذا الطقس، إنه بالعودة إلى الأساس وبالعودة إلى الأصل نطرد الشيخوخة ونعود إلى الحالة الجنينية.٣٦

بعد هذه الوقفة المطولة عند هذا النص نتساءل: هل استطعنا الولوج إلى الأسطورة وتلقي رسالتها، أم بقينا نراوح مع بقية المفسرين عند العتبة؟ أترك الجواب للقارئ الذي أتعبته معي، والذي ربما كان يظن أن قراءة الميثولوجيا هي نوعٌ من الاسترخاء الذهني والإصغاء إلى عجائب الحكايا الممتعة، وأنتقل إلى تقديم نصٍّ آخر ينتمي إلى النوع المستغلق رغم بساطة بنيته وجاذبية أحداثه.

إنانا وشجرة الحلبو

يبتدئ هذا النص السومري الحيوي، والمؤثر بأسلوبه وإيقاعه الشعري الداخلي، بمقدمةٍ في التكوين وخلق العالم.

في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى،
في الليالي الأولى، في مطلع الليالي الأولى،
في الأيام الأولى، عندما جرى خلْق كل ما يلزم،
في الأيام الأولى، عندما جاءت المشيئة بكل ما يلزم،
عندما جرى خبز الخبز في المقامات المقدسة،
عندما جرى أكل الخبز في بيوت البلاد،
عندما تم إبعاد السماء عن الأرض،
عندما تم فصْل الأرض عن السماء،
عندما تم تعيين اسم الإنسان،
عندما اضطلع آنو بالسماء،
عندما حُملت إريشكيجال على العالَم الأسفل غنيمة،
عندما أبحر، عندما أبحر،
عندما أبحر الأب يطلب العالَم الأسفل،
انهمرت على الملك الحجارة الصغيرة،
انهمرت على إنكي الحجارة الكبيرة،
الحجارة الصغيرة التي تُرمى باليد،
والحجارة الكبيرة التي تُقذف بالقصب المهتز،
ملأت قاع المركب، مركب إنكي،
غمرته في انقضاضها كعاصفةٍ داهمة،
هاجم الماء الصاخب مقدمة المركب،
مثل ذئاب مفترسة،
وهاجم الماء الصاخب مؤخرة المركب،
مثل أسود كاسرة.

(إلى هنا وتنتهي المقدمة، لتبدأ الأسطورة بالمطلع التالي):

في تلك الأزمان، شجرة، شجرة حلبو،
زُرعت على ضفة نهر الفرات.٣٧

لقد كبرت شجرة الحلبو (معنى الاسم غامض الدلالة) على شاطئ النهر ترتوي من مائه، إلى أن جاء يوم هبَّت فيه ريح الجنوب بقوةٍ واقتلعت الشجرة فرمتها إلى الماء الذي حملها. وفيما كانت الإلهة إنانا «تهيم على وجهها خائفةً من كلمة الإله آن وكلمة الإله إنليل» على حد التعبير الحرفي للنص، وقع بصرها على الشجرة فأعجبتها وانتشلتها عائدةً إلى بستانها الخصيب حيث غرستها هناك، ثم راحت تعتني بها لكي تصنع من خشبها عرشًا لجلوسها وسريرًا لمضجعها. وبمرور الأيام كبرت الشجرة، ولكنها لم تورق ولم تزهر لأن ثلاثة كائنات غريبة قد احتلتها؛ فقد أوت إلى قاعدة الشجرة حيةٌ هائلة لا يؤثِّر فيها سحرٌ ولا تعويذة، فجعلت لها وكرًا هناك، واتخذ من قمتها طائر الزو مسكنًا له ولصغاره (ويُدعى أيضًا إمدوجد، وهو طائرٌ أسطوري عملاق معروف بعدائه للآلهة). وفي الوسط أقامت ليليث شيطانة القفار. فراحت الفتاة المرحة إنانا تبكي وتذرف الدمع. مضت إنانا إلى أخيها أوتو إله الشمس طالبةً عونه على استرجاع شجرتها، ولكن أوتو لم يهتم بالأمر، فمضت إلى جلجامش ملك أوروك وطلبت عونه فاستجاب لها. وضع جلجامش عليه درعه وحمل فأسه فجاء إلى الشجرة حيث صارع الحية وقتلها بفأسه. ولما رأى الطائر ما حلَّ بالحية فر بصغاره إلى الجبال البعيدة. أما ليليث فقد قوضت بيتها وعادت إلى القفار. عند ذلك عمد جلجامش إلى الشجرة فاجتثها وقدمها إلى إنانا لتصنع منها عرشًا وسريرًا. وبالمقابل فقد كافأته إنانا بأن صنعت له من قاعدة الشجرة بكو، ومن قمة الشجرة مكو، ومعنى هاتَين الكلمتَين غامض؛ غير أن مترجم النص السيد كريمر يرجِّح أن تكون طبلًا وعصا الطبل.

على هذا النحو تنتهي أسطورة إنانا وشجرة الحلبو لتبدأ بعدها أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالَم الأسفل، ويربط عنصر الأداتين الموسيقيتين (البكو والمكو) بين الأسطورتين، بحيث تبدأ أسطورة جلجامش وإنكيدو من استلام جلجامش للأداتين اللتين تسقطان منه بعد قليلٍ من كوةٍ في الأرض إلى العالم الأسفل. وبما أن محرر ملحمة جلجامش البابلية قد تعامل مع الأسطورة الثانية بشكلٍ مستقل عن الأسطورة الأولى، وأدمجها في نهاية قصته حيث شكلت اللوح الحادي عشر والأخير من الملحمة، فإني أرجح أنه قد استند في ذلك إلى تقليدٍ آخر يفصل بين الأسطورتين ويتعامل مع كلٍ منهما على حدة. وهذا ما سوف ألجأ إليه هنا، فأتعامل مع أسطورة إنانا وشجرة الحلبو كنصٍّ مستقل عن أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالَم الأسفل.

لا يأتي استغلاق هذه الأسطورة من بنيتها المركبة، ولا من غرابة حوادثها وتداخلها، أو غموض عقدتها القصصية. فنحن هنا أمام حكاية تبدو بسيطة للوهلة الأولى، وهي تسير في اتجاهٍ خطي واحد وصولًا إلى العقدة التي تتمثل في استيلاء الكائنات الثلاثة على الشجرة. ثم يتم حل العقدة بطريقةٍ مألوفة في عددٍ من الأساطير الرافدية الأخرى، وصولًا إلى النهاية السعيدة وحصول إنانا على بغيتها، كل هذا جعل قارئ هذا النص يتناوله كحدوتةٍ عادية لا تحمل رسالةً مهمة. غير أن أول ما يصرف نظرنا عن بساطة القصة، هو تلك المقدمة في الخَلق والتكوين المؤلفة من جزأين، بأسلوبها الجزل وإيقاعها الموسيقي المؤثر. فكل ما في هذه الافتتاحية الفخمة يهيئنا لتوقع حدوث أمرٍ جلل ما. يضاف إلى ذلك أن الأسطورة الرافدية قد عودتنا على أن استرجاع الأصول والعودة إلى البدايات، هو مقدمة لقول شيء مهم أو الكشف عن سرٍّ من الأسرار. إن كل فعاليات الخلق والتكوين في القسم الأول من المقدمة. وما جرى لإنكي وهو يبحر لمقاومة قوى العالم الأسفل في الجزء الثاني من المقدمة، ينتهي إلى سطرٍ واحد هو بداية القصة: «في تلك الأزمان، شجرة، شجرة حلبو.» الأمر الذي يدل على أن هذه الشجرة وما جرى لها، هي الشأن المركزي، وهي التي من أجلها وُضعت المقدمة، فهل يسعفنا تأمل هذه المقدمة في إلقاء الضوء على أول مستويات هذه الأسطورة.

تمارس الأسطر الثلاثة الأولى من المقدمة تأثيرًا سحريًّا على السامع يساعد على وضعها خارج زمانه اليومي المعتاد، بطريقةٍ تشبه ما تفعله الفكرة الموسيقية الأولى من مقطوعةٍ سيمفونية:

– في الأولى، في مطلع الأيام الأولى،
في الليالي الأولى، في مطلع الليالي الأولى،
في الأيام الأولى، في مطلع الأيام الأولى.

بعد ذلك يأتي النص إلى سرد كيفية ظهور الكون ووضْع أُسس التحضر، وذلك بثلاث صيغ تكرر كل واحدة سابقتها بطريقةٍ مختلفة:

– في الأيام الأولى، عندما جرى خلق كل ما يلزم.
– في الأيام الأولى، عندما جاءت المشيئة بكل ما يلزم.
– عندما جرى خبز الخبز في المقامات المقدسة.

يُجمل النص هنا عملية الخلق بتعبير «كل ما يلزم» وذلك في السطر الأول والثاني، ويشير في السطر الثالث إلى أصول التحضر بتعبير «خبز الخبز»؛ ذلك أن صنع الخبز وأكله هو الذي يميز الإنسان المتحضر عن سلفه الهمجي. وأما الصيغة الثانية فتؤدي المعنى نفسه ولكن مع بعض التوضيح:

– عندما تم إبعاد السماء عن الأرض،
عندما تم فصل الأرض عن السماء،
عندما تم تعيين اسم الإنسان،

إن تعبير «كل ما يلزم» الذي تكرر في السطر الأول والثاني من الصيغة الأولى، يجري تفصيله هنا في السطرين ذاتيهما، حيث نرى كيف تم الخلق بإبعاد السماء عن الأرض وفصْل الأرض عن السماء. أما أصول التحضر فيشار إليها في السطر الثالث بتعبير «تعيين اسم الإنسان». ثم تتابع الصيغة الثالثة لتعطينا مزيدًا من التفاصيل:

– عندما اضطلع آنو بالسماء،
عندما اضطلع إنليل بالأرض،
عندما حُملت إريشكيجال إلى العالَم الأسفل غنيمةً.٣٨

إن الكون الذي أصبح الآن متمايزًا عن الكتلة غير المتمايزة الأولى، قد أُعطي معنًى روحانيًّا، وحلَّت به الآلهة تُديره. فآنو قد اضطلع بشئون السماء في السطر الأول، وإنليل قد اضطلع بشئون الأرض في السطر الثاني. أما السطر الثالث الذي أُفرد في الصيغتين الأوليين للحديث عن الإنسان وأصول التحضر، فإنه يعلمنا هنا عن مصير الإنسان وهو الموت، الذي ظهر عقب تمايز العالم الأسفل عن العالم الأعلى وتخصيصه كمكانٍ لأرواح الموتى، وتعيين إريشكيجال حاكمةً عليه.

بعد ذلك يبتدئ الجزء الثاني من المقدمة، وهو يفيدنا بأن إنكي قد أبحر بمركبه نحو العالم الأسفل، وحصول مواجهةٍ بينه وبين قوى العالم الأسفل لم تُحسم. وينتقل النص بعد ذلك مباشرة إلى القول:

– في تلك الأزمان، شجرة، شجرة حلبو،
زُرعت على ضفة نهر الفرات،
شربت وسُقيت بماء الفرات.

ما الذي تشير إليه تلك المواجهة غير الحاسمة بين إنكي-الماء، والعالم الأسفل؟ إن كل ما أستطيع استنتاجه من هذه المواجهة التي تُركت مفتوحةً، هو أن إنكي باعتباره ممثلًا للقوى التي تدعم الحياة، والعالم الأسفل الذي يفغر فاه لالتهام الحياة، هما تمثيل لقطبين متعارضين ومتعاونين، لا يستوي الوجود الإنساني إلا بتعارضهما وتعاونهما. لقد حاول الماء بعد أن أحيا الأرض بما عليها من الكائنات، أن يشق طريقه نحو العالم الأسفل الأجرد والمظلم والعقيم ليحييه كما أحيا العالم في الأعلى، ولكن تقدمه قد أوقف؛ ولذلك نجد أن الماء العذب يكمن في الأعماق، وعند المستوى الفاصل بين سطح الأرض والعالم الأسفل. ومن هنا يصدر على شكل أنهارٍ وينابيع وآبار، ولكنه لا يستطيع الغوص أكثر من ذلك لأن قوى العقم تقف له بالمرصاد منذ تلك الأزمة الميثولوجية الأولى.

من تلك المواجهة الأولى بين قوى الخصب وقوى العقم، ينتقل النصُّ إلى ظهور شجرة الحلبو التي تمثِّل الحياة الزراعية في شكلها الخامي البدئي الذي لم يخضع بعد إلى تنظيم. ونظرًا لعدم وجود مَن يعتني بالشجرة البرِّية، فقد اقتلعتها ريح الجنوب، وطافت فوق المياه إلى أن انتشلتها إنانا وزرعتها في بستانها. وهنا يجب أن نلاحظ أن النص لا يقدم لنا إنانا في صورة الإلهة المكتملة المسيطرة فعلًا على نفسها المتحكمة في حياتها، بل في صورة الصبية الغضة التي تهيم خائفة من كلمة الإله آن وكلمة الإله إنليل، والتي لم تحصل بعدُ على رموز سلطانها. وهي عندما تقوم بزراعة الشجرة في بستانها وتأخذ في العناية بها، فإنها تأمل أن تعطيها هذه الشجرة أهم رمزين من رموز سلطانها على الخصب والحب، وها هي تفكر بصوتٍ مسموع قائلةً:

متى تصير الشجرة عرشًا مثمرًا أجلس عليه؟
متى تصير الشجرة سريرًا مثمرًا أضطجع عليه؟

على أن انتقال الشجرة من الحالة البرِّية إلى الحالة المؤهلة قد ساعد على نموها، ولكنه لم يساعد على إيراقها وإزهارها؛ لأن ثلاثة كائنات تنتمي إلى قوى العماء والفوضى والموت قد حلَّت فيها. فطائر الزو معروف بمقاومته لقوى النظام التي سادت بعد التكوين، وهو لا يدخر وسعًا في خلخلة نظام الكون كلما سنحت له الفرصة (على ما نعرف من نصوصٍ بابلية لاحقة). أما ليليث، فهي شيطانة جميلة لها أجنحة ومخالب الطير، تنتمي إلى قوى العالم الأسفل وتسكن القفار والخرائب. وأما الأفعى فإنها لا تظهر هنا كوكيلة للخصب بل كوكيلة لقوى الفوضى والدمار. وهي من النوع اللوياتاني الذي يتوجب على إله الخصب قتله قبل أن يسيطر فعلًا على قوى الإخصاب. ومثالها الحية ذات الرءوس السبعة التي صرعتها الإلهة عناة. نقرأ في نصوص بعل وعناة المقطع الآتي:

الآن تريد أن تقتل لوتان، الحية الهاربة،
الآن تريد أن تجهِز على الحية الملتوية،
شالياط العتية ذات الرءوس السبعة،

وفي مقطعٍ آخر:

ألستُ التي قضت على التنين؟
ألستُ التي سحقت الحية الملتوية ذات الرءوس السبعة؟٣٩

لا تستطيع إنانا حيال الموقف الجديد إلا البكاء وذرف الدموع. وعندما يخذلها الإله أوتو، يخف لنجدتها جلجامش ملك أوروك فيقتل الأفعى ويطرد الطائر والشيطانة؛ وبذلك تتخلص الحياة النباتية من تأثير قوى الفوضى وقوى الموت، وتغدو جاهزةً لأن تكون مقرًّا لعرش ألوهة الخصب، وجاهزةً لأن تكون مضجع ألوهة الحب والجنس. وباستلام الإلهة إنانا رموز سيطرتها على هذَين المجالَين، والمتمثلة بالكرسي والمضجع، تدخل الحياة النباتية طور الزراعة المنظمة تحت رعاية إنانا التي تحولت الآن من فتاةٍ خائفةٍ إلى سيدةٍ مكتملة ومسيطرة على الخصب والحب.

يبقى أمامنا عنصرٌ هامٌّ بحاجةٍ إلى إيضاح. لماذا جاءت المعونة من جلجامش ملك أوروك ولم تأتِ من الإله أوتو أو أية شخصية إلهية أخرى؟ وما هو الدور الرمزي الذي يلعبه جلجامش هنا بمساعدته إنانا على استكمال دورها كإلهة للخصب والحب وسيدة على عالم الطبيعة المدجنة؟

لا يوجد أمامنا سوى نافذة واحدة نستطيع الولوج منها إلى رمزية الدور الذي يلعبه ملك أوروك هنا في مساعدته لإنانا الإلهة الرئيسية لمدينة أوروك. وهذه النافذة هي طقوس الزواج المقدس. فبموجب هذه الطقوس المؤسسة منذ عصور ما قبل الأسرات، كان على ملك أوروك أن يلعب دور الإله دوموزي ويتزوج من الإلهة إنانا مرةً في كل عام، فيلتقيان في غرفةٍ معَدَّة لهذا الغرض تقع في أعلى برج المعبد، وأغلب الظن أن كاهنة إنانا العليا كانت تنتظر الملك هناك في غمرة الاحتفالات، فيصعد إليها وينام معها، وأن الاعتقاد السائد كان يذهب إلى أن روح الإلهة تحل في الكاهنة وروح الإله تحل في الملك. ومن لقائهما تنبثق قوة خصب كونية تساعد على دفع دورة الفصول، وإحلال الخصب في الطبيعة وفي الكائنات الحية.

ويبدو أن الأسطورة هنا تجعل من جلجامش أول ملك لأوروك، ومؤسسًا لطقس الزواج المقدس، وليس عونه لإنانا على تأسيس عرشها واستكمال سريرها إلا مقدمة لدوره المقبل كزوجٍ طقسي لها؛ الأمر الذي يرجح أن الأسطورة في نصها الأقدم قد دُونت إبان حكم الملك جلجامش؛ أي فيما بين القرن السادس والعشرين والقرن الخامس والعشرين قبل الميلاد. ومن الممكن أيضًا أن الصيغة الأكثر قِدمًا للأسطورة والتي ترجع إلى ما قبل عصر الأسرات؛ أي إلى الألف الرابع قبل الميلاد، كانت تجعل من دوموزي نفسه بطل الرواية، ثم تم استبدال بديله الطقسي به فيما بعدُ.

خاتمة

لقد حاولنا في الصفحات المحددة لهذا البحث أن نبحث عن «المعنى» في عددٍ من الأساطير المنتقاة من تراث الشرق القديم، وذلك وفق منهجٍ تجريبي لا يلتزم موقفًا مسبقًا أو مدرسة من مدارس التفسير. وكان غرضنا من ذلك أن نُظهر أن للأسطورة «نظامًا» داخليًّا متماسكًا ينطوي على رسالةٍ ما، رغم ما يبدو عليها من تفككٍ ظاهري أحيانًا، لا ينسجم مع مفهومنا الحديث عن «النظام». هذه الرسالة، كانت مفهومة ومستوعَبة من قِبل الإنسان القديم الذي لم يكن بحاجةٍ طبعًا إلى القيام بمثل ما نقوم به، لكي يفهم أساطيره ويستوعب رسائلها. إن أحد الفروق الهامة بين فكرنا الحديث وفكر الإنسان القديم، هو أننا لا نستطيع فهْم ظاهرة ما بكلِّيتها إن لم نعمد إلى تفكيكها ومعرفة أجزائها المستقلة جزءًا جزءًا. وكلما اعتقدنا أننا فهمنا الأجزاء عند مستوًى معين انتقلنا إلى المستوى الأعلى، وهكذا وصولًا إلى الفهم الكلي اعتمادًا على السير الخطي من مرحلةٍ إلى أخرى. وذلك على عكس الإنسان القديم الذي كان ينظر إلى الظاهرة بكليتها، ولا تستمد الأجزاء عنده معناها إلا من الكل. من هنا، فإن «المعنى» الذي نحاول الكشف عنه في الأسطورة باستخدام أدواتنا التحليلية، يبقى ظلًّا باهتًا للمعنى الميثولوجي الخفي في النص.

إن مشكلتنا مع «المعنى» في الأسطورة ناجمٌ عن مفهومنا للمعنى. ولتوضيح هذه النقطة أستعير مثالًا من اللغة؛ فنحن عندما نريد توضيح معنى كلمة من الكلمات، فإننا نورد عددًا آخر من الكلمات أو الجمل المفيدة التي تعمل على تكوين المعنى في الذهن. وهذا ما تفعله المعاجم عادةً عندما تستشيرها بخصوص كلمةٍ ما فتحيلك إلى كلمةٍ أخرى أو كلمات، ثم تُلحقها بجملٍ مركبة. ورغم ذلك، فإن إحساسنا بالكلمة يبقى إحساسًا مباشرًا، وهي تستثير فينا من الانفعالات المختلفة ما لا تستطيع الكلمات المفسرة خلقه. فإذا استشرت القاموس بخصوص كلمة النار مثلًا، لقال لك، اشتعال، حريق، توقد … إلى آخر ما هنالك من مترادفاتٍ تحاول نقل المعنى المطلوب، ولكن حاول في ليلةٍ مظلمة أن توقد في الخلاء نارًا وتلبث ساكنًا أمامها تحدق فيها. عند ذلك فقط يمكن لك أن تعلم سر الكلمة دون وسيط؛ لأنك تكون قد تجاوزت الكلمات والمترادفات ونفذت إلى سر الشيء. وهذا ما يتوجب علينا أن نفعله حيال الأسطورة لننفذ إلى سرها دون وسيط.

إن الأسطورة من حيث شكلها هي وسيطٌ رمزي بموضع الانفعال الداخلي في الخارج، من خلال وسيط رمزي آخر هو الكلمات، ولكننا عندما نأتي إلى التحليل والتفسير فإننا نلجأ إلى وسيطٍ ثالث، إلى جملةٍ أخرى من الكلمات تعمل على شرح الجملة العصبية، في الوقت الذي يتوجب علينا فيه أن نزيح تلك الجملة الأصلية وصولًا إلى الحالة الانفعالية التي أنتجت الأسطورة؛ أي أن نتأمل الأسطورة كما تأملنا النار ونفذنا إلى سرها دون وسيطٍ. وهذه مهمةٌ صعبة تنقلنا من «البحث» إلى ما يشبه «التصوف».

١  Alexander Heidel, The Babylonian Genesis, Phoenix Books, Chicago 1970, pp. 77-78.
٢  من أجل مقاطع الإينوما إيليش؛ انظر ترجمتي الكاملة للنص عن المرجع السابق في مؤلفي: مغامرة العقل الأولى.
٣  L. Delaporte, Phoenician Mythology (in: Larousse Encyclopedia of Mythology, pp. 82-83).
٤  تاريخ هيرودوتس، ترجمة حبيب فندي بسترس، بيروت، ١٨٨٩م، والكتاب من محفوظات المكتبة العمومية بحلب.
٥  ميرسا إلياد: مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق، ١٩٩١م، ص١٤٩.
٦  قمت بترجمة هذه المقاطع عن منتخبات جاكوبسن في كتابه:
Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale, 1976, p. 87 ff.
٧  الأنوناكي: هم آلهة السماء، ويقابلهم الإيجيجي آلهة الأرض، ولكن الكلمة قد تُستعمل للدلالة على جمع الآلهة من النوعين.
٨  هناك ترجمة كاملة للنص قدَّمها كريمر ضمن موسوعة نصوص الشرق القديم:
J. Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, Princeton 1969, pp. 455–463.
٩  انظر ترجمتي الكاملة للملحمة في مؤلفي: جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة، دار علاء الدين، دمشق، ١٩٩٦م.
١٠  Stephanie Dalley, Myths from Mesopotamia, Oxford, 1989.
١١  كان التاج في ذلك الوقت يتألَّف من قبعةٍ محدبة القمة ومن عصابةٍ تلتفُّ حولها عند الجبهة.
١٢  R. E. Davidson, Gods and Myths of Northern Europe, Penguin 1964, pp. 190–194.
١٣  أقدم فيما يأتي ترجمةً كاملةً للقسم الأول من النص، وتلخيصًا للقسم الثاني، منه؛ وذلك لتشوه اللوح الذي يحتوي على بقية النص وعدم وضوح العديد من سطوره. وقد اعتمدت هنا ترجمة A. Goetze في موسوعة J. Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, pp. 120-121.
١٤  من الممكن أن يكون كوماربي، قد ابتلع قضيب آنوس؛ لأن الباحث Goetze لم يكن واضحًا تمامًا في ترجمته لهذه النقطة؛ انظر المرجع نفسه، ص١٢٠، السطر ٢٥.
١٥  G. S. Kirk, Myth: Its Meaning and Functions, Cambridge 1970, p. 216.
١٦  يعتمد كيرك في رأيه هذا على ترجمة غوتز للسطر الذي يعلق فيه كوماربي على الاقتراح المتضمن الخروج من الموضع الحسن، وهو سطرٌ غير واضح بسبب التشوه، وأورده غوتز في المرجع السابق على الوجه الآتي: «إذا خرجت من الموضع الحسن فإن امرأةً سوف …» ويفهم كيرك من هذا، أن العطب لن يصيب الموقع الحسن وهو القضيب بل المرأة التي سيضاجعها إله العاصفة.
١٧  انظر تفسير جاكوبسن في دراسته لأسطورة التكوين البابلية، المرجع رقم ١٩ من هذا البحث.
١٨  انظر النص الكامل في مؤلفي «مغامرة العقل الأولى»، والمرجع رقم ١ من هذا البحث.
١٩  F. Guirand, Greek Mythology (in: Larousse Encyclopedia of Mythology, pp. 87–91).
٢٠  يجب ألا يؤخذ هذا الطرح في إطارٍ زمني وتاريخي دقيق؛ لأن القبائل الرعوية ذات النزعة العسكرية المحاربة تتبنى أيضًا معتقداتٍ وأساطير ذكرية بطريركية.
٢١  Ibid., p. 107.
٢٢  J. E. Harrison, Themis, University Books, New York 1966, pp. 35–38.
٢٣  اعتمدت في هذا الملخص على ترجمة كريمر الكاملة للنص. انظر مساهمة كريمر في موسوعة نصوص الشرق القديم:
J. Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, Princeton, New Jersey 1969, pp. 38–40.
٢٤  S. N. Kramer, The Sumerians, University of Chicago 1963, pp. 148-149.
٢٥  Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale University 1976, p. 113.
٢٦  S. N. Kramer, Sumerian Mythology, Harper and Row, New York 1961, p. 107.
٢٧  أنا مدينٌ هنا بفكرتي عن «الإفراط» و«معاكسة الطبيعة» للباحث ج. س. كيرك. وقد طورت هذه الفكرة بما يخدم تفسيري الخاص. انظر كتابه:
G. S. Kirk, Myth: Its Meaning and Functions, op. cit., pp. 96–98.
٢٨  Alexander Heidel, Babylonian Genesis, op. cit., pp. 72-73.
٢٩  إشارةٌ إلى ما يُدعى بتحكيم النهر المذكور في شريعة حمورابي.
٣٠  Op. cit., p. 75.
٣١  عالج مؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد فكرة العودة إلى كمال البدايات في عددٍ من كُتبه؛ منها ثلاثة مُترجَمة إلى العربية هي: المقدَّس والدنيوي، أسطورة العَود الأبدي، مظاهر الأسطورة. ويمكن لمَن شاء مراجعة واحد منها للتوسع في هذا الموضوع.
٣٢  ميرسيا إلياد: مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد خياطة، دار كنعان، دمشق، ١٩٩١م، ص١٩.
٣٣  المرجع نفسه، ص١٩.
المرجع نفسه، ص٢٧-٢٨.
٣٤  المرجع نفسه، ص٢٨–٣٣.
٣٥  E. A. Speiser, Akkadian Myths (in: J. Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, p. 99).
٣٦  ميرسيا إلياد، المرجع السابق، ص٧٧–٨٠.
٣٧  S. N. Kramer, The Sumerians, University of Chicago 1963, pp. 199–202.
٣٨  في كتابه القديم الصادر عام ١٩٤٨م ترجم كريمر هذا السطر على الوجه الآتي: «أخذ كور الإلهة إريشكيجال غنيمةً له.» واعتقد بأن كلمة كور الواردة هنا والتي تدل على العالم الأسفل، كانت في الأصل تدل على كائنٍ أسطوري يسيطر على العالم الأسفل، وأن هذا الكائن قد اختطف إريشكيجال مثلما اختطف هاديس بيرسفوني في الأسطورة الإغريقية، ولكن كريمر تخلَّى عن فهمه هذا في كتبه اللاحقة. وجاءت ترجمته الأخيرة للسطر على الوجه الذي أثبته أعلاه: «عندما حُملت إريشكيجال إلى العالم الأسفل غنيمةً» دون أن يبين مَن هو الذي حمل إريشكيجال إلى العالم الأسفل. وإني أرجح أن السطر بأسلوبه البلاغي المتحضر جدًّا أراد أن يقول بأن الآلهة قد حملت إريشكيجال إلى العالم الأسفل غنيمة لها؛ أي إن العالم الأسفل كان حصتها من تلك القسمة. وقد تبنيت من جهتي في كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تفسير كريمر القديم. أما هنا فإني أرفض ترجمته القديمة وأشكك بالثانية، مرجحًا التفسير الذي قدمته لتوِّي، والذي يتلاءم مع روح النص وأسلوبه.
٣٩  C. H. Gordon, Ugarit, Norton Library, New York 1967.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥