(٣) الأسطورة والمعنى
لقد قلنا في البحث السابق بأن الأسطورة هي ناتجٌ انفعالي غير عقلاني؛ أي إنها تصدر عن حالةٍ انفعاليةٍ تتخطى العقل التحليلي، لتنتج صورًا ذهنيةً مباشرة تعكس تلك العلاقة الكلَّانية بين الذات/الوعي، والعالم/المادة؛ إلا أن الأسطورة ليست انفعالًا صرفًا لأنها توسط الأفكار في محاولتها للتعبير عن ذلك الانفعال وموضعته في الخارج. فهي والحالة هذه نشاطٌ يصدر عن ذهنيةٍ لم تتعلم بعدُ كيفية تجزئة موضوع معرفتها وتحليله ثم إعادة تركيبه. إنها نوعٌ من الحدس بالكليات يموضع معرفته الكلية في صورٍ ومشاهدَ وشخصياتٍ مفعمة برموزٍ ذات دلالات، بعضها يتصل بعالم الشعور وبعضها يتصل بعالم اللاشعور. من هنا فإنها لا تُشكل «معرفة» بالمعنى الدقيق للكلمة. فكيف نستطيع اليوم اختراق هذه البنية الرمزية المعقدة من أجل الوصول إلى رسائلها الضمنية؟ وكيف يستطيع العقل الحديث التفاعل مع هذه التركة الثقافية الغريبة عنه كل الغرابة؟
إننا أمام مشكلة تتعلق بالتفسير. فنحن رغم إحساسنا اليوم بسطوة الأسطورة ونفاذها إلى أعماقنا لتودع رسالة ما هناك؛ إلا أننا غالبًا ما نضيع عن فهم هذه الرسالة وإعادة صياغتها بطريقةٍ خطيةٍ تنتقل من المقدمات إلى نتائجها. أما لبُّ هذه المشكلة فهو أننا لا نستطيع تجاوز ذلك الناظم الأساسي للعقل الحديث، وأعني به ناظم «البرهان». فلقد أعادت الفلسفة الإغريقية والفلسفة العربية من بعدها، تشكيل العمليات العقلية للإنسان المتحضر وفق قواعد البرهان العقلي. ثم تابعت العلوم المختلفة التي استقلت عن الفلسفة هذه المهمة، فنشأ البرهان الرياضي والبرهان التجريبي بصوره وأشكاله جميعها، مما قادنا إلى عصر المعلوماتية الراهن. وبما أن البرهان مرتبط عضويًّا بعملية التحليل والتفكيك، وبالإدراك المجزأ لموضوع معرفته، فإنه أكثر ما يمكن بعدًا عن «المنطق» الأسطوري الذي يحدس ولا يحلل، ولا يرى في الجزء إلا صورة عن الكل، وينظر إلى «البرهان» كشأنٍ متضمن في عملية «البيان».
إلى جانب هذا الانفصال النوعي بين العقل الحديث والعقل الميثولوجي، وهو انفصالٌ يشعر به دارسو الثقافات التقليدية الحديثة، هنالك انفصالٌ من نوعٍ آخر يشعر به دارسو الثقافات القديمة، هو انفصال القِدم والانقطاع. إن العالم القديم الذي أنتج الأساطير، وكانت بالنسبة إليه وسيلة تلاؤم وتوازن مع وسطه الفكري الداخلي ووسطه الخارجي، هو عالمٌ بعيدٌ عنا زمنيًّا، والعديد من حضاراته المنطوية في الزمن السابق قد ظهر أمامنا من تحت الآكام، ولم نكن نعرف عنه شيئًا ولا أسلافنا القدماء من قبلنا. فهذه الحضارات موغلة في القِدم من جهة ومنقطعة عنا من جهةٍ أخرى. ولتوضيح مسالة الفرق بين القِدم والانقطاع أقول بأن عصر الخلافة الأموية هو عصرٌ بعيدٌ عنا كل البُعد ولكنه غير منقطع. فنحن متصلون بسلسلةٍ لم تنقطع واحدة من حلقاتها أبدًا، ولم يأتِ في سياق الزمن الواصل بيننا وبينه وقت نسي فيه ناسه خلفاء بني أمية أو أشعار وأخبار ذلك العصر. أما حضارة سومر، ومثلها إيبلا؛ فقد ظهرت لنا دفعة واحدة ولم نكن نعرف عنها شيئًا البتة قبل بضعة عقود من الزمان، ولم يكن الأقدمون منا يعرفون عنها أيضًا؛ فهي بعيدةٌ ومنقطعةٌ في آنٍ معًا.
ومما يزيد مسألة البعد والانقطاع تعقيدًا، أن الحضارات التي صنعت الأساطير لم تكن تنتظم في زمانٍ ثقافيٍّ متصل ومتجانس، بل إنها تعاني أيضًا من مشكلة التباعد الزمني، والانقطاع بعضها عن بعضٍ في أحيانٍ كثيرة؛ فالحضارة الآشورية، مثلًا، بعيدة عن الحضارة السومرية بُعد الحضارة الآشورية عنا. لقد كان الآشوريون ورثة ثلاثة آلاف عامٍ من حضارة وادي الرافدين. ومع ذلك فلم يكن بينهم متعلمٌ واحدٌ يعرف عن الثقافة السومرية وتاريخها وملوكها، ولم تكن النصوص السومرية القليلة الموجودة في مكتبة آشور بانيبال إلا نسخًا عن أصولٍ قديمة لا يعرف أحدٌ عن أصلها وفصلها.
على أننا نجد بعض العزاء في أن المتأخرين من مفكري العالم القديم، لم يكونوا في وضعٍ أفضل منا عندما حاولوا تأمل عالم الأسطورة، إبان الفترات الأخيرة من تاريخ الشرق القديم، بعدما اقتحمت عليه الثقافة الإغريقية وأحدثت تغييرات عميقة في بنية وأساليب التفكير المشرقي. وهذه نقطةٌ حساسة تتطلب بعض التوضيح بالأمثلة التي أُورد أبرزها فيما يلي:
(١) برغوشا وأسطورة التكوين البابلية
في القرن الثالث قبل الميلاد، عاش كاهنٌ بابلي اسمه برغوشا، وضع العديد من المؤلفات باللغة اليونانية، وعُرِف باسمه اليوناني بيروسوس. ومن أهم مؤلفات هذا الكاهن كتابٌ ضخم عن تاريخ بابل وحضارتها، جمع فيه كل ما وصل إليه علمه من أخبارٍ تواترت إليه عن حضارة شعبه، ولكن هذا الكتاب الهام ضاع، وبقيت منه شذرات في بعض مؤلفات الكُتَّاب الكلاسيكيين، بينها هذه الشذرة التي يتحدث فيها عن أسطورة التكوين البابلية فيقول:
مما لا شك فيه أن جزءًا لا بأس به من المعلومات المتعلقة بالمعتقدات البابلية القديمة عن أصل الكون والآلهة قد وصل إلى برغوشا، ولكن الأمر المؤكد هو أن نص أسطورة التكوين البابلية الأساسي، الذي بين أيدينا اليوم، والذي تحدرت منه هذه الشذرات التي أوردها، لم يكن متوفرًا بين يديه. فرغم اتفاق رواية برغوشا في كثيرٍ من نقاطها مع الأسطورة الأصلية؛ إلا أن الاختلاف بينها واضحٌ في كثيرٍ من الأحداث الرئيسية وترتيبها، وفي اختزال بعضها وغياب بعضها الآخر تمامًا. والأهم من ذلك أن نص برغوشا قد قصَّر عن نقل جو الأسطورة ومراميها الأصلية، وهو يبدو لنا اليوم أشبه بتقريرٍ صحفيٍّ لمراسلٍ غير متخصص يتحدث عن لوحٍ أثري تم اكتشافه حديثًا. إنه صورةٌ عن فترة النزع الأخير لعالم الديانات المشرقية القديمة، بعد جفاف روحها وانقطاع أصولها.
ولنقارن الآن نص برغوشا ببعض مقاطع الإينوما إيليش؛ أسطورة التكوين البابلية، التي يرجع نصها إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، لنلاحظ الفرق بين النص النثري التقريري والنص الأسطوري.
تعطينا هذه المقارنة السريعة صورةً حيةً عن الإينوما إيليش، أسطورة أساطير الثقافة الرافدية، ويقدم لنا مثالًا عن سلطان الأسطورة الحقيقية الذي ينبع من سحر البيان لا من حبكة البرهان، وأسلوبها المسيطر الذي لا يخاطب العقل بل الوجدان. وذلك في مقابل النص الآخر الذي نزع عن الأسطورة غلالتها الميثولوجية وقدمها كمادةٍ معلوماتية باهتة، تُروى بأسلوبٍ موضوعي ومن موضعٍ مفارق.
(٢) فيلو الجبيلي وأسطورة التكوين الفينيقية
كما قام بيروسوس البابلي بوضع مؤلف عن تاريخ البابليين في القرن الثالث قبل الميلاد، كذلك فعل المفكر السوري فيلو الجبيلي في القرن الأول بعد الميلاد، عندما وضع مؤلفًا عن تاريخ الفينيقيين وحضارتهم. ومن المؤسف أن كتاب فيلو هذا قد ضاع كما ضاع كتاب بيروسوس من قبله، ولم يبقَ منه سوى شذراتٍ قليلة أوردها مؤلفون آخرون في كتبهم. في إحدى هذه الشذرات يروي فيلو عن أسطورة التكوين الفينيقية فيقول:
يتضح من هذا النص الذي يشكل مطلع نظرية التكوين الفينيقية المنسوبة إلى فيلو، أن هذا الكاتب كان يحاول استجلاء طبيعة الفكر الأسطوري الكنعاني القديم، استنادًا إلى معلوماتٍ مبعثرة جمعها في قالبٍ تفوح منه رائحة الفكر الفلسفي اليوناني. وهو في سعيه لإضفاء المصداقية على نصه، اخترع شخصية دينية قديمة دعاها سانخونياتن، لم يذكرها أحدٌ قبله، ثم ادعى أنه قد نقل معلوماته عن هذه الشخصية. وفي الحقيقة، فإن ما وصلنا من معلوماتٍ مباشرةٍ عن الميثولوجيا الكنعانية، سواء في نصوص أوغاريت أم في نصوصٍ فينيقية متفرقة، يلقي ظلالًا من الشك على نظرية التكوين المنسوبة لقدماء الفينيقيين هذه، وعلى معلومات فيلو والمواقف الفكرية التي يصدر عنها. لقد عاش هذا المفكر في بيئة مُشبعة بالثقافة الهلينستية، وفي زمنٍ كانت الأسطورة فيه تتلقى أوجع ضربات الفلسفة الإغريقية، فلم يستطع أن ينظر إلى الأسطورة إلا بمنظار الفلسفة، وجاء عمله بمثابة مساهمة أخرى في الحرب المعلنة من الفلسفة على الميثولوجيا.
هذا الحديث عن اليونان يقودنا إلى ما أدعوه بالمشكلة الإغريقية في دراسة الأسطورة.
(٣) المشكلة الإغريقية
تُبدي الثقافة الإغريقية انقطاعاتٍ حادة في مسيرتها لم تعرف مثلها ثقافات الشرق القديم. فلقد رأينا منذ قليل كيف أن كاهنًا بابليًّا من القرن الثالث قبل الميلاد كان قادرًا على جمع وتحقيق معلوماتٍ عن تاريخ وثقافة بابل، ترجع إلى ما قبل عصره بحوالي ألف وخمسمائة عام. أما إغريق القرن السابع قبل الميلاد، وهو القرن الذي وعى فيه الإغريق أنفسهم تاريخيًّا، فلم يعرفوا عن ماضيهم القديم ما يتجاوز حدود الحروب الطروادية (أي أواخر القرن الثالث عشر ق.م.)، التي كانوا يعتبرونها بداية لتأسيس الحضارة الإغريقية، وينظرون إليها كماضٍ مغرقٍ في القِدم رغم قربها النسبي إليهم، ولكننا نعرف اليوم بشكلٍ شبه مؤكد أن اللغة اليونانية قد دخلت أرض اليونان القارية في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، مع فاتحين ينتمون إلى الجماعات المدعوة بالهندو أوروبية، وأن دخول هذه الجماعات كان بداية مرحلة حضارية جديدة في أرض اليونان. وهذا يعني أن حوالي ألف عام من تاريخ الثقافة اليونانية كان مجهولًا تمامًا لدى إغريق القرن السابع قبل الميلاد.
نعود الآن إلى معالجة مسألة «التفسير»، وإلى تساؤلنا الأساسي المتعلق بكيفية تعامل العقل الحديث مع تلك التركة الثقافية الغريبة عنا كل الغرابة.
(٤) الأسطورة بين البسيط والمستغلق
من خلال الأفكار التمهيدية التي سقتها أعلاه، قمت بإلقاء الضوء على عقبتين رئيسيتين نواجههما في فهمنا وتفسيرنا للأسطورة: العقبة الأولى ذاتية وتتعلق باختلاف آليات تفكيرنا اليوم عن آليات تفكير الإنسان القديم. والثانية موضوعية وتتعلق بالبعد الزمني والانقطاع عن تلك الثقافات التي أنتجت الأساطير، ولكننا رغم العقبات مطالبون بفهم وتفسير هذه التركة الميثولوجية الغنية؛ لأننا لا نستطيع أن نبقي على هذا المصدر الهام من مصادر الثقافة الإنسانية في دائرة الظل، ولا أن نقول مع البعض بأن الأسطورة ليست إلا نتاج طفولة العقل الإنساني القاصر في مرحلةٍ من مراحل تطوره، وأنها تفتقر إلى أية قيمة إيجابية أو مغزى؛ لأننا نكون بذلك قد حكمنا على الحضارات الكبرى الغابرة بأنها لم تكن سوى أقنعة للغباء البدائي.
غالبًا ما يبدأ دارسو الميثولوجيا باستعراض ونقد المدارس الرئيسية التي نشأت منذ أواسط القرن التاسع عشر، من طبيعانية وبراجماتية وسيكولوجية وبنيوية وما إليها، لينتهوا إلى الوقوف إلى جانبٍ واحدٍ منها، أو التأسيس لنظريةٍ جديدة ينطلقون منها. وهذا ما لن أفعله هنا؛ لأن منهجي الخاص هو منهج تجريبي لا يقوم على نظريةٍ بعينها تدَّعي الشمول والإطلاق، بل على النظر إلى كل نسقٍ ميثولوجي على حدة، وإلى خصوصية كل أسطورةٍ ضمن هذا النسق الميثولوجي الذي تنتمي إليه. ولسوف ألجأ فيما يأتي إلى عرض هذا المنهج التجريبي من خلال تقديم ثلاثة نماذج من الأساطير، تتدرج في تركيبها من البسيط إلى المعقد إلى المستغلق، ثم أُجري مع القارئ محاولاتٍ في الفهم والتفسير؛ لنستكشف معًا كيف تتدرج الأسطورة في إسلام قيادها لنا، ونختبر مدى فعالية أدواتنا في التعامل معها. ونماذجنا هذه مستمدة جميعًا من ميثولوجيا الشرق القديم.
(٤-١) النموذج البسيط
هلاك مدينة أور
يبدأ هذا النص السومري ببكائية للإلهة ننجال؛ إلهة مدينة أور، تندب فيها مدينتها التي اتخذ الآلهة قرارًا سماويًّا بتدميرها، أقتطفُ من مطلعها الأسطر الآتية:
بعد المرثية الطويلة التي يفتتح بها النص، نجد الإلهة ننجال تسعى يائسةً لدفع الكارثة عن مدينتها، وتستجدي مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار الحاسم:
وهكذا يصدر القرار من مجمع الآلهة بدمار المدينة وهلاك أهلها، ويعهد مجمع الآلهة إلى إنليل، رب العاصفة، بتنفيذ القرار. وقبل أن يتحرك إنليل لأداء مهمته، يقوم إله القمر نانا، المعبود في أور، بمحاولةٍ أخيرةٍ من جانبه للدفاع عن المدينة، ويبتهل إلى إنليل بدعاءٍ طويلٍ نقتطف منه بعض أبياته:
بعد ذلك يشرع إنليل في مهمته مستخدمًا العاصفة، سلاحها التقليدي الرهيب، وذلك في مقطعٍ وصفي طويل يثير في النفس الرهبة والشفقة. وعندما يرفع إنليل غضبه عن المدينة كانت قد تحوَّلت أنقاضًا:
مثل هذه الرسالة الواضحة يقدمها لنا مقطع جميل من ملحمة جلجامش، حيث يقول أوتنابشتيم لجلجامش في اللوح الحادي عشر، العمود السادس:
إن فكرة القضاء والقدر هي فكرةٌ راسخةٌ في الأدبيات الدينية المشرقية؛ فالقضاء يحمُّ على المدن المزدهرة وعلى الأفراد وهم في قمة مجدهم وعزهم. وما على الإنسان إلا أن يقبل بالإرادة الإلهية سواء أكانت مقاصدها واضحة أم خافية. فها هو إبراهيم في سفر التكوين من العهد القديم، يشفع لمدينتَي سدوم وعمورة أمام الرب بعد أن اتخذ قرارًا بتدميرها، كما شفع الإله نانا لمدينة أور أمام إنليل: «فتقدم إبراهيم وقال: أفتُهلك البارَّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارًّا في المدينة، أفتُهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارًّا الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر.» ولكن شفاعة إبراهيم تُخفق كما أخفقت شفاعة نانا: «وإذا أشرقت الشمس على الأرض، دخل لوط إلى صوغر، فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن وجميع سكان المدن ونبات الأرض» (التكوين: ١٨). وإذا كان إثم المدن في أسطورة سدوم وعمورة ذريعة لإنفاذ القضاء، فإن مثل هذا الإثم يُتخذ ذريعةً ظاهريةً عندما لا يتناسب العقاب مع فداحة الإثم. ففي سفر صموئيل الثاني يقرر الرب إهلاك الشعب لسببٍ مجهولٍ، فيدفع داود لارتكاب خطيئة من شأنها تعريض الشعب بأكمله لإبادةٍ شاملة: «وعاد فحميَ غضب الرب على إسرائيل، فأهاج عليهم داود قائلًا له: امضِ وأحصِ إسرائيل ويهوذا. فقال الملك لرئيس الجيش الذي عنده: طُف في جميع أسباط إسرائيل وعدُّوا الشعب فأعلم عدد الشعب.» وبعد الانتهاء من عملية الإحصاء، تُحدِّث داود نفسه بأنه قد أخطأ، فيستغفر ربه معترفًا بذنبه، ولكن الرب لا يلتفت إلى توبته: «فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد. فمات من الشعب سبعون ألف رجل … فكلم داود الرب وقال: هنا أنا أخطأت، وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» (صموئيل الثاني: ٢٤).
وفي القرآن الكريم لدينا العديد من الأمثلة والمواعظ عن هلاك المدن الآثمة: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِن سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (هود: ٨٢-٨٣)، وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا (هود: ٩٤-٩٥)، ولكن أحكام المشيئة الإلهية قد تكون خافية عن أفهام البشر، ويحمُّ القضاء على جماعةٍ دون سببٍ واضح: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (الإسراء: ١٦). فهنا، وعلى العكس من بقية القصص القرآني المتعلق بدمار المدن الآثمة، نجد أن الدمار قد حلَّ على مدينةٍ لم تأثم، بل لقد أثم مترفوها بتوجيهٍ من الرب فحق عليها القول؛ لأن على الإنسان ألا يركن إلى دوام منجزاته وهناءة عيشه، وأن يُسلم بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. وتدور الآية التالية حول الفكرة نفسها: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * أَأَمِنْتُم مَن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُم مَن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (المُلك: ١٥–١٧).
وحول الاطمئنان إلى دوام منجزات الإنسان وهناءة عيشه، بدل الركون إلى لطف الخالق والتسليم بقضائه، لدينا في القرآن الكريم أيضًا أمثولة ذات مغزًى كبيرٍ حول قانون التغير الدائم: وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُدِدتٌّ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا … وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (الكهف: ٣٢–٤٣).
أنتقل الآن من هذا النوع البسيط من النصوص الذي تسير أحداثه في اتجاهٍ خطيٍّ واحد، إلى النوع المركب الذي تسير أحداثه في أكثر من اتجاه، وتتقاطع ضمن بنية أكثر تعقيدًا من بنية النوع الأول.
(٤-٢) النموذج المركب
إيتانا والنسر
وصلَنا أقدم نص لهذه الأسطورة من العصر البابلي القديم (٢٠٠٠– ١٦٠٠ق.م.).
تدور أحداث هذه القصة في الأزمان الأولى عندما كان الآلهة يخلقون الجهات الأربع، ويضعون مخططًا لبناء أول مدينة للبشر هي مدينة كيش. فبعد أن انتهوا من أعمال الخلق والتنظيم أسسوا منصب الملوكية، وراحوا يبحثون عن شخصٍ مناسبٍ ينصِّبونه ملكًا على المدينة، ليكون حاكمًا صالحًا للناس، فوقع اختيارهم أخيرًا على إيتانا:
وهكذا وقع اختيار الآلهة على إيتانا ليكون أول ملك أقيم لحكم الناس، وتنتهي مقدمة النص. بعد ذلك ندخل إلى متن الأسطورة الذي يتألف من جزأين، أو قصتين، تم الربط بينهما عند مفصلٍ معينٍ في سبر الأحداث، لسببٍ يبدو غير واضح من الوهلة الأولى. فبعد صعود إيتانا على العرش في كيش، نمت شجرةٌ عملاقة وارفة الظلال، وجاءت إليها حيةٌ فاتخذت من قاعدتها وكرًا لها ولصغارها، ثم حط على قمتها نسرٌ فصنع له ولفراخه عشًّا، وقد تعاهد الاثنان على العيش بسلامٍ وعلى اقتسام الطعام فيما بينهما؛ فإذا اصطاد النسر فريسة جاء بها إلى المكان وترك الحية وصغارها يقتسمونها معه، وإذا اصطادت الحية فريسةً جاءت بها أيضًا وتركت النسر وفراخه يقتسمونها معًا. ثم وثَّق الطرفان عهدهما هذا بالقسم أمام الإله شَمَش؛ إله الحق والعدالة، على احترام الاتفاق وعدم النكوث بالعهد. سارت الأمور سيرًا حسنًا، واحترم كلٌّ من الحية والنسر اتفاقهما، إلى أن كبر فراخ النسر ولم يعودوا بحاجةٍ إلى رعاية، عندئذٍ أضمر النسر في قلبه شرًّا وراح يتحيَّن الفُرص لأكل صغار الحية:
ثم تحدث إلى فراخه قائلًا:
فقال له فرخ مزغب كثير الحكمة، قال لأبيه:
ولكن النسر لم يستمع لنصيحة ابنه الحكيم، وبينما كانت الحية غائبة عن وكرها نقض النسر عهده وانقضَّ فأكل صغارها ثم هرب. وعندما عادت الحية بصيدها واكتشفت ما فعله النسر، بكت وذرفت دموعها أمام الإله شَمَش ضارعة إليه أن يثأر لها من النسر، استجاب شَمَش لدعاء الحية ورسم لها خطةً تُوقع بالنسر. سيدفع إليها ثورًا مقيدًا في الفلاة، عليها أن تقتله وتختبئ في أحشائه، وعندما تحط طيور السماء لتأكل من الجيفة سيأتي النسر بينها أيضًا، وعندئذٍ عليها أن تنبري له وتقبض عليه فتنتزع مخالبه وتنتف ريش أجنحته، ثم ترميه في حفرةٍ عميقةٍ ليموت هناك من الجوع والعطش. تسير الخطة بنجاحٍ، وتأتي الطيور لتأكل، ويهمُّ النسر أن يحط معها ليأكل أيضًا، ولكن فرخه الحكيم يحذره من احتمال كمون الحية في بطن الثور لتثأر لصغارها منه. تردد النسر قليلًا ثم أقدم، عندئذٍ انقضَّت عليه الحية من مكمنها فاقتلعت مخالبه ونتفت ريشه، ثم ألقته في الحفرة العميقة غير آبهة لتوسلاته، ومضت تاركة إياه لمصيره. راح النسر يتضرع في كل يومٍ إلى شَمَش علَّه ينقذه من ورطته، فقال له شَمَش:
هنا تنتهي القصة الأولى وتبدأ القصة الثانية التي تعود بنا إلى إيتانا الصالح؛ فإيتانا عاقر، وقد شارف على الشيخوخة دون أن يُرزق بغلامٍ يخلفه على العرش، وهو يصلي في كل يوم ويقدم قرابينه إلى الآلهة من أحسن مواشيه؛ علَّها تنظر إليه بعين العطف وترفع عنه لعنة العقم. ثم يعلم عن نبتةٍ مزروعةٍ في السماء تشفي من العقم، فيدعو الإله شَمَش أن يجعل هذه النبتة في متناول يده. يستجيب له الإله ويدله على مكان النسر الحبيس، فيحرره ويشفيه لقاء أن يطير به إلى السموات العلا، لجلب نبتة الإخصاب التي تتعهدها هناك عشتار بالرعاية والسقاية. يأتي إيتانا إلى حفرة النسر ويخبره بمشيئة شَمَش، ثم يعمل على شفائه وتعويده على الطيران مجددًا. وعندما يتعافى النسر يرتقي إيتانا ظهره فينطلق به صعدًا في طبقات الجو العليا، حتى تبدو الأرض وكأنها بستان صغير ويبدو البحر الواسع وكأنه قدر ماء، ولكن قوى النسر تخور ويعترف بعجزه عن المضيِّ قُدمًا أبعد من ذلك، ثم يهوي عائدًا إلى الأرض. لدى رجوعه إلى كيش يرى إيتانا أحلامًا غريبة عن رحلةٍ ثانيةٍ إلى السماء، منها الحلم التالي الذي قصَّه على صديقه النسر:
يرى النسر في حلم إيتانا بشارةً بنجاح محاولة ثانية لهما في ارتقاء السماء، فيقرران التحليق مجددًا. تنجح المحاولة ويصل النسر بإيتانا إلى سماء آنو، حيث يدخلان بوابة آنو وإنليل وإيا، فيسجدان هناك ثم يجتازانها إلى بوابة سن وشَمَش وأدد وعشتار، فيسجدان هناك ثم يفتح إيتانا البوابة ويدخلان، وهنا ينكسر الرقيم وتتوقف القصة، ولكن من المؤكد أن الجزء المفقود يقص عن كيفية حصول إيتانا على نبتة الإخصاب والعودة بها إلى الأرض؛ لأننا نعرف من وثيقة ثِبْت ملوك سومر، أن الملك إيتانا كان أول ملك على كيش بعد الطوفان، وأنه الذي أسس لسلالة كيش الأولى، وأن وريثه على العرش كان ابنه المدعو بالح.
إن لدينا من الأسباب ما يرجح انتماء هذه الأسطورة إلى مطلع عصر السلالات في منطقة سومر (حوالي ٢٦٠٠ق.م.)، فرغم أن أقدم نص لها، وهو النص البابلي القديم، يرجع إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد؛ إلا أن العثور على عددٍ من الأختام الأسطوانية التي ترجع إلى العصر الصارغوني (حوالي ٢٣٠٠ق.م.)، والتي نرى عليها مشهدًا يمثل صعود إنسان ما إلى السماء على ظهر نسر، يؤكد لنا أن أسطورة إيتانا كانت معروفة خلال أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وأن جذورها تضرب أبعد من ذلك في عصر السلالات الأولى، وإلى زمنٍ قريبٍ من صعود أسرة كيش الأولى، أول وأقوى الأسر الحاكمة في سومر، والتي كان ملوكها ينتمون إلى الذخيرة السكانية السامية لا السومرية، على ما تدل عليه أسماؤهم، ولكن ما معنى هذه الأسطورة؟ وأية رسالة تحمل لنا؟
رغم الحيرة التي يسببها لنا احتواء الأسطورة على قصتين غير متجانستين، إلَّا أن رسالتها واضحةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ؛ ذلك أن الهاجس الرئيسي هنا هو التأسيس لأصل مؤسسة الملكية التي «هبطت من السماء»، على حد تعبير النص البابلي القديم. فأسطورتنا هي أسطورة أصول، وتنتمي إلى تلك الزمرة من أساطير الأصول التي تهدف إلى تسويغ المؤسسات الاجتماعية القائمة وتجذيرها في البدايات الميثولوجية الأولى، من أجل إسباغ طابع القداسة عليها. فمطلع النص يعود بنا إلى الأزمان الميثولوجية البدئية، عندما كانت الآلهة تضع اللمسات الأخيرة على الكون الذي خرج لتوِّه من رحم الهيولى البدئية. فكانت مؤسسة الملكية أول ما التفتت إليه بعد أن انتهت من هندسة «المكان»، وشكلت جهات العالم الأربع ووضعت مخطط أول مدينة للإنسان وأرست لها الأساسات. وبعد أن خلقت الآلهة منصب الملك وحددت له شاراته ورموزه، راحت تبحث عن رجلٍ يشغل ذلك المنصب فوجدته في إيتانا الصالح. تنتقل الأسطورة بعد ذلك إلى تجذير مؤسسة الملكية الوراثية أيضًا في الزمن الميثولوجي؛ فهذه قد هبطت أيضًا من السماء عن طريق نبتة الإخصاب التي جلبها إيتانا من هناك فوهبته ولدًا ووريثًا على العرش.
ولكن ما معنى قصة الحية والنسر؟ ولماذا جُعلت بمثابة مدخلٍ إلى المتن الأساسي للأسطورة؟ إن القراءة الأولى للنص تغرينا بالنظر إلى قصة الحية والنسر على أنها مجرد حكاية، ذات طابعٍ تشويقيٍّ تم إدماجها في السياق العام للقصة الرئيسية لأغراضٍ أدبية محضة؛ إلا أن التلازم الطويل بين القصتين في جميع النصوص التي وصلتنا للأسطورة، وعبر أكثر من ألف عام، يدفعنا إلى استبعاد هذا التفسير القريب والبحث عن تفسيرٍ آخر.
إن مفتاح الولوج إلى سر العلاقة بين القصتين، هو التساؤل المشروع الذي يخطر بالبال عقب قراءة النص وهو: لماذا كان على النسر أن يمر بتجربته الأليمة تلك قبل أن يصعد بإيتانا إلى السماء؟ ألم يكن بمستطاع الإله شَمَش أن يوكل لهذا النسر نفسه أو لغيره مهمة الصعود، دون أن يكون قد تعرَّض لتلك الأحداث التي أودت به إلى أعماق الحفرة حيث وجده إيتانا؟ إن الجواب على التساؤل متضمَّن في بنية النص نفسه الذي يقول لنا صراحة، ومن خلال توكيده على الربط العضوي بين القصتين، إنه كان على النسر أن يمر بتجربته مع الأفعى قبل أن يكون قادرًا على التحليق في طلب نبتة الإخصاب. فهذه التجربة هي التي أهَّلته وجعلت منه نسرًا مختلفًا عن بقية النسور. فما الذي تضمَّنته التجربة مع الحية، وأية قوى استثنائية أكسبته إياها؟
تتضمن التجربة مع الحية حدثين مهمين قادا إلى حدثٍ ثالث هو مركز القصة بكاملها. ويمكن تصوير هذه الأحداث الثلاثة وفق المخطط الآتي:

(٤-٣) النموذج المعقد
أسطورة خصاء آنو
أما كوماربي فقد مضى إلى مدينة نيبور السومرية ليطلبَ مشورة إيَّا؛ إله الحكمة الرافدي، ولكن النص مُشوَّه في هذا الموضع ولا ندري ما الذي دار بين الطرفين. ثم نرى كوماربي، ما زال في نيبور يَعُدُّ الأشهر المتبقية لمدة الحمل، والجنين في بطنه ينمو، إلى أن اكتمل وجاءت ساعة المخاض. ولما لم يكن كوماربي مجهزًا كما النساء لأداء ولادةٍ طبيعية فإنَّ آلام المخاض تشتد عليه، وإله العاصفة في بطن أبيه لا يجد طريقةً للخروج بسلام. وهنا يتدخل الإله المخلوع آنوس لمساعدة إله العاصفة؛ لأنَّه يعوِّل عليه في الانتقام من كوماربي. وتبدأ مشاورة بين آنوس وبين إله العاصفة الحبيس في الداخل، حول الطريقة التي يمكن بواسطتها حلُّ المعضلة، ويجري بحث كل الاحتمالات الممكنة في أفضلية المنفذ الذي لا يمكن لإله العاصفة شق طريقه عبره. ويبدو أن اختيار المنفذ كان أمرًا في غاية الصعوبة؛ لأن الخروج من إحدى الفتحات، كما نفهم من شذرات الموضوع المشوه في الحوار، سوف يتسبَّب في تعطيل عمل العضو أو الحاسة المقابلة عند إله العاصفة عقب ولادته؛ فالخروج من عين كوماربي سوف يُسبب له العمى، والخروج من الأُذن سوف يصيبه بالصمم. وهكذا تم استبعاد جميع المنافذ العليا بما فيها جدار الرأس؛ لأن الخروج من الرأس سوف يبلبل عقل إله العاصفة. بعد ذلك يتم بحث احتمالات المنافذ السفلى، فيقترح إله العاصفة أن يقوم بشق مؤخرة كوماربي والنفاذ عبرها، ولكن آنوس يستبعد هذا الإجراء ويحذره من مخاطر، غير واضحة في السطر المشوه، ثم يجري اقتراح الخروج من مكانٍ يدعوه النص «بالموضع الحسن» دون تعيين اسمه. وبما أنه لم يبقَ من المنافذ السفلى سوى السرة والقضيب، فإن هذا الموضع الحسن ينطبق على واحدٍ منهما ولا شك. تشتد الآلام على كوماربي فيأتي إلى حضرة الإله إيا، ويتهاوى أمامه من الألم وهو يصرخ كالمجنون: أخرِجوا إليَّ ابني، أعطوني ابني لأبتلعه. يرسل إيا في طلب مجموعة من السحرة لأداء طقوس تُعين كوماربي على الوضع، فيأتي السحرة فيمددون الإله ثم يقدمون القرابين ويقرءون التعاويذ، ويعملون جهدهم في الحفاظ على شرج كوماربي من اقتحام ابنه له. يقوم إله العاصفة بمحاولةٍ أخيرة للخروج من مؤخرة كوماربي ولكنه يخفق. عند ذلك يتجه نحو الموضع الحسن وينبثق من هناك إلهًا متكمل القوة والرجولة (يلي ذلك فجوة في النص). أمَّا ما تبقى من الشذرات فنفهم منها أن آنوس المخلوع قد ساعد إله العاصفة على خلع أبيه والاستيلاء على عرش السماء.
والآن، ما الذي يعنيه هذا النص ذو البِنية المعقدة المتراكبة؟ لماذا وقعت تلك الانقلابات المتوالية في السماء؟ لماذا عض كوماربي قضيب أبيه وابتلع سائله المخصب؟ ولماذا كان على إله العاصفة أن ينمو في بطن أبيه من دون أم؟
من الأدوات القوية التي تعيننا على التعامل مع النص الأسطوري المفرد، إرجاعه إلى النسق الميثولوجي الذي ينتمي إليه؛ لأن هذا النص إنما يكتسب معناه ومغزاه من خلال موقعه في ميثولوجيا الثقافة التي أنتجته، ومن خلال ترابطاته مع الأساطير الأخرى التي تنتظم وإياه في نسقٍ واحد؛ وذلك مثلما تكتسب الكلمة المفردة معناها ومغزاها من موقعها في سياق الجملة المفيدة. يضاف إلى ذلك ضرورة تحديد الزمرة التي تنتمي إليها الأسطورة ضمن النسق الميثولوجي ذاته، وذلك كأن تكون أسطورة أصول وتكوين أو أسطورة خصب أو أسطورة طقسية من نوعٍ خاص … إلخ. وهذا التحديد يعتمد على معاينتنا المبدئية للشكل في ضوء معارفنا السابقة والخبرة المكتسبة في هذا الميدان.
وفيما يتعلق بنصِّ خصاء آنوس الذي بين أيدينا، فإننا لا نستطيع أن ندرسه على الخلفية الثقافية الحورية؛ وذلك لندرة النصوص الحورية، وخصوصًا الأدبية والأسطورية منها. فنحن لا نملك حتى الآن سوى نصَّينِ ميثولوجيين حوريين مكتوبين باللغة الحثية. من هنا لا بدَّ لنا من اللجوء إلى ربط نصنا بأكثر الأنساق الميثولوجية قربًا إليه، وهو النسق الأكادي/البابلي. فلقد تجاور الحوريون مع سكان وادي الرافدين، ومارست الثقافة الأكادية على الحوريين تأثيرًا أكبر من تأثير الثقافة السورية. يدلنا على ذلك استخدام اللغة الأكادية في كتابة معظم الوثائق الحورية/الميتانية، وتداخل بانثيون الآلهة الحورية مع بانثيون الآلهة البابلية.
ومن ناحيةٍ ثانية، فإن الصلة الوثيقة بين الجماعات الحورية والجماعات الهندو أوروبية التي وفدت إلى مناطق الحوريين، بعد قدوم هؤلاء بفترةٍ قصيرة، وشكلت طبقةً حاكمة في مملكة ميتاني التي كان الحوريون قاعدتها السكانية، تدفعنا إلى البحث عن روابطَ ثقافية حورية-هندو أوروبية يمكن لها أن تضيء جوانب من موضوعنا، وإلى أخذ نسقين ميثولوجيين هندو أوروبيين بعين الاعتبار، هما النسق الحثي والنسق الإغريقي. فلقد شهد النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد عددًا من التحركات والهجرات لجماعاتٍ رعوية محاربة تتكلم بلغاتٍ هندو أوروبية. فإلى آسيا الصغرى توجهت الجماعات التي عُرفت تاريخيًّا باسم الحثيين، وإلى مناطق الشمال السوري توجهت الجماعات التي عُرفت باسم الميتانيين، وإلى أرض اليونان القارية توجهت الجماعات التي حملت إليها اللغة الإغريقية. ويغلب الظن أن الحوريين والميتانيين والحثيين والإغريق كانوا يتشاركون مناطق السكن نفسها، قبل أن يبدءوا تحركاتهم الكبرى.
هذا عن النسق. وأما عن الزمرة التي تنتمي إليها أسطورة خصاء آنوس، فإن النص لا يُخفي لأول وهلةٍ شبهه من حيث البنية العامة بأساطير التكوين في كلٍّ من بابل واليونان، ولكننا لا نعثر على ما يشبهه في الميثولوجيا الحثية؛ لأن ما نعرفه حتى الآن عن الميثولوجيا الحثية لا يحتوي على نصٍّ متكامل في الأصول والتكوين. من هنا فإن مقارنة أسطورة خصاء آنو بأساطير التكوين البابلية والإغريقية، سوف تقدم لنا الإضاءات اللازمة على النص.
رغم عدمت تشابه الأحداث في الأسطورتين البابلية والحورية، واختلافهما في التفاصيل؛ إلا أنهما تقومان على فكرةٍ أساسية واحدة هي فكرة الصراع بين أجيال الآلهة. ففي الأسطورة البابلية تتتابع ثلاثة أجيال من الآلهة هي جيل أبسو فجيل إيا فجيل مردوخ. وهذا التتابع هو تمثيلٌ رمزي لكيفية خروج الكون من مرحلة العماء الذي لا شكل له، إلى مرحلة التشكيل والتكون، فمرحلة التنظيم. وفي الأسطورة الحورية تتتابع أربعة أجيال: هي جيل الألوس، فجيل آنوس، فجيل كوماربي، فجيل إله العاصفة. وتفيدنا مقارنة الأسطورتين في فهْم مغزى الصراع الذي يدور بين أجيال الآلهة في الأسطورة الحورية. فهذا الصراع ليس سياسيًّا يهدف إلى السيطرة على عرش السماء، وإنما هو أيضًا نوعٌ من التمثيل الرمزي لمرحلة تنظيم العالَم في التصورات الحورية. ورغم الشكل المختزل للأسطورة الحورية وعدم احتوائها على تفاصيل مشابهة لتفاصيل الأسطورة البابلية، فإنها يجب أن تُدرس وتُفهم على هذا الأساس.
وتقدم لنا أسطورة التكوين الإغريقية من جانبها نموذجًا أقرب من حيث البنية والأحداث إلى الأسطورة الحورية. يقول هزيود في كتابه أصول الآلهة: «في البداية لم يكن سوى العماء المائي المظلم المتسع بلا حدود. من هذا العماء ظهرت جَيا؛ الأرض الراسخة الأثداء، وبعدها ظهر إيروس؛ الحب الذي دخلت قدرته في صلب الأشياء والكائنات جميعًا. كما وُلد من العماء أريبوس؛ الهاوية المظلمة، ووُلد الليل، ومنهما وُلد الأثير والنهار. ثم إن جَيا؛ أول الآلهة، خلقت الجبال العالية والبحر الواسع بأمواجه المتناغمة، وأنجبت دون زوجٍ بكرها أورانوس؛ السماء المتوجة بالنجوم، فغطاها من جهاتها جميعها وتزوجته. وعند قران الأرض والسماء ظهر الآلهة التيتان؛ إلا أن هؤلاء لم يروا النور لأن أورانوس كان يبقي على أولاده سجناء في أعماق أمهم الأرض غير عابئ بتوسلاتها. وعندما ولدت جيا كرونوس، اتفقت معه على التخلص من أبيه وتحرير إخوته. كمَنَ كرونوش عند فوهة رحم الأرض ومعه منجلٌ حادٌّ زوَّدته به أمه. وعندما أقبل أورانوس لمضاجعة زوجته مساء، انبرى له كرونوس وخصاه بالمنجل ثم رمى بأعضائه التناسلية بعيدًا. سالت الدماء من الجرح النازف وسقطت على التربة فوُلدت منها الإيرينيات ربات الانتقام، والعمالقة، وحوريات الدردار. أما الأعضاء المفصولة فقد وقعت في البحر وتسربت منها المادة المخصبة فصارت زبد البحر الذي تمخَّض وأنجب أفروديت؛ وبذلك ينتهي عصر أورانوس ليبدأ عصر كرونوس.
تكشف هذه الأسطورة الإغريقية عن تشابه في البنية العامة، وفي العناصر الرئيسية مع الأسطورة الحورية، على ما تُبينه المقارنة الآتية:
-
(١)
جَيا أول الآلهة تنجب أورانوس/السماء، وتتزوجه.
– ألالوس أول الآلهة وأبوهم ينجب آنوس/السماء الذي يخدمه طيلة تسع سنوات.
-
(٢)
أورانوس يسود على الكون ويسجن أولاده في باطن الأرض جيا، وبينهم كرونوس آخر مواليد جيا.
– يتمرد آنوس على ألالوس فيقصيه عن العرش ويحكم بدلًا عنه.
-
(٣)
يتمرد كرونوس على أبيه ويخصيه بمنجلٍ حادٍّ عندما أقبل لمضاجعة أمه.
– يتمرد كوماربي على أبيه ويعض على قضيبه بأسنانه.
-
(٤)
ينسكب دم الجرح من أورانوس وينسكب على الأرض وينتج عن تلاقح الدم والتربة العمالقة وآلهة أخرى.
– يبتلع كوماربي سائل أبيه، ثم يبصق منه على الأرض فينتج عن تلاقح الأرض والسائل إلهانِ. أما بقية المادة فتنزل إلى بطن كوماربي وتنتج بذورها إله العاصفة، الذي ينمو في بطن أبيه.
-
(٥)
كرونوس يسود ويبتلع أولاده، كما يبتلع زيوس رمزيًّا عن طريق ابتلاعه الحجر ملفوفًا في قماط، بينما يشب زيوس في مخبئه حتى بلوغه سن الرشد.
– كوماربي يسود وإله العاصفة ينمو في بطنه حتى يبلغ الرشد في وقت المخاض.
-
(٦)
يتشاور إله العاصفة مع آنوس حول أفضل طريقة للخروج من بطن كوماربي.
– تتعاون الإلهة ميتيس مع زيوس بإعدادها شرابًا مقيئًا يساعد الآلهة الحبيسة على الخروج من فم كرونوس، بما فيهم الحجر الذي ابتلعه على أنه زيوس نفسه.
-
(٧)
كرونوس يتقيأ أولاده بالإكراه وزيوس يقهره وينفيه. زيوس يسود.
– إله العاصفة يخرج بالقوة وبعون تعاويذ إيا السحرية فيقهر أباه وينفيه. إله العاصفة يسود.
نلاحظ من هذه المقارنة مدى تشابه الأسطورتين في البنية العامة وتوافق عناصرهما الرئيسية. ورغم أن زيوس في الأسطورة الإغريقية قد نجا من الابتلاع نتيجة حيلة دبرتها أمه؛ إلا أني أرجح أن ابتلاع الحجر هو عنصرٌ مستحدث على الشكل الأصلي للأسطورة، وأنها كانت تتضمن في الأصل قيام كرونوس بابتلاع زيوس، ثم خروج هذا على رأس إخوته بطريقةٍ ما؛ ذلك أن خدعة جيا تبدو لي فكرة مستمدة من الفولكلور الشعبي، وواهية الصلة بالأفكار الميثولوجية الأصيلة.
وكما قلنا عند مقارنتنا مع الأسطورة البابلية، فإن الأسلوب المختزل للنص الحوري، وخلوه من التفاصيل التي يمكن أن تضيء لنا ماهية كل عصر من العصور المتتابعة، وما يقابله من التحولات الكونية التي قاد تسلسلها إلى تنظيم الكون، يخفي طابعه العام كنصٍّ في أصول العالم وتنظيمه. إلا أن البنية المشتركة بين النص الحوري والنص الإغريقي يجب أن توجه أنظارنا إلى رؤيته في الإطار العام لأساطير الأصول وتنظيم العالم، ودراسته على هذا الأساس.
غير أن الأسطورة الحقيقية لا تسلِّم نفسها لمستوى واحد من التفسير لأنها تقوم في الأصل على عدة مستويات من الطرح الزمني؛ الأمر الذي يفرض علينا بالمقابل أن نعمد إلى حفرياتٍ تخترق المستوى الأول للتفسير لتصل إلى المستويات التحتية للطرح الأسطوري. وفي حالة أسطورتنا المركبة هذه، فإن تفسيرنا المبدئي لا يعطي كل عناصر الأسطورة حقها من التوضيح. فصراع الأجيال يمكن أن يجري دونما حاجة إلى ابتلاع الأولاد في الأسطورة الإغريقية وإقامتهم في بطن أبيهم إلى بلوغ سن الرشد، وأيضًا دونما حاجة إلى حبَلٍ ذكَري وولادة غير طبيعية في الأسطورة الحزينة. فكيف نفسر هذه العناصر في الأسطورتين؟
إنَّني لا أستطيع تلمُّس أي معنًى لهذه العناصر الغريبة في الأسطورتين إلا من خلال صراع الثقافة الأمومية القديمة مع الثقافة الذكرية البطريركية الجديدة، ومنعكسات هذا الصراع في الميثولوجيا. والفكرة التي تقوم عليها هذه العناصر هي فكرة الحَمْل الذكري التي نستطيع التعرف عليها في أكثر من أسطورةٍ إغريقية.
ولدينا أسطورتان إغريقيتان أخريان تقومان على عنصر الحمل الثاني الذكري؛ هما أسطورة مولد ديونيسيوس وأسطورة مولد أثينا. في أسطورة مولد ديونيسيوس تطلب سيملي من زوجها زيوس أن يظهر لها في هيئته الأصلية كإلهٍ للصواعق والبروق، وعندما يفعل ذلك تموت سيملي هلعًا من المنظر المخيف وتهبط إلى العالم الأسفل وهي حاملة بديونيسيوس. يستطيع زيوس إنقاذ الجنين من بطن أمه ولكن قبل اكتمال نموه، ثم يعمد إلى شق فخذه ويودِع الجنين هناك ويخيط الشق عليه. يُكمل الجنين ما تبقَّى له من شهور الحمل، ثم يخرج إلى الحياة في ولادةٍ ثانية بعد أن أمضى قِسمًا من أشهر الحمل في رحم أمه وقسمًا آخر في فخذ أبيه. أما في أسطورة مولد أثينا، فإن زيوس يقوم بابتلاع ميتيس أولى زوجاته؛ الإلهة الفائقة الحكمة، وذلك إثر نبوءة حذَّرته من أنها حاملٌ بمولودٍ سوف يتحدى سلطانه. تُكمل ميتيس فترة حملها في جوف زيوس ثم تلد الإلهة أثينا التي صعدت إلى رأس أبيها تحاول الخروج دون جدوى. انتاب زيوس صداعٌ أليم بسبب اضطراب أثينا في رأسه، وهنا تطوع الإله الحداد هيفيستوس لحل المشكلة وعمد إلى شج رأس زيوس بفأس، ومن الجرح العميق خرجت أثينا في عدة الحرب الكاملة.
نأتي الآن إلى النوع الرابع من الأساطير، وهو النوع الذي يستعصي على التفسير، ولا نستطيع حياله إلا الخروج بافتراضاتٍ تبقى أفضل من «الفوز من الغنيمة بالإياب»، على حد قول المثل المعروف.
(٤-٤) النموذج المستغلق
أسطورة إنكي وننخرساج
البطلان الرئيسيان في هذه الأسطورة السومرية التي أُلخصها هنا، هما: إنكي إله الماء العذب والحكمة، وننخرساج الأم/الأرض. عاش إنكي وننخرساج عند مطلع الأزمان في أرض دلمون؛ الجنة النقية الطاهرة التي لا يعرف ساكنوها الألم والمرض والشيخوخة، ولا يعتدي فيها مخلوقٌ على آخر، ولكن الأرض كانت قاحلةً، فطلبت ننخرساج من زوجها إنكي أن يُجري الماء في الجزيرة، ففعل ذلك بمعونة إله الشمس وإله القمر، فاخضرَّت الأرض وارتوى الزرع. ثم أخرج إنكي قضيبه وروى الأخاديد في الأرض وغمر حقول القصب، وأمر رسوله وتابِعه إيسموند، بألا يسمح لأحد أن يقترب من السبخات المائية. بعد ذلك ضاجع إنكي زوجته فحملت منه، وبعد تسعة أيام يعادل كلٌّ منها شهرًا كاملًا أنجبت الفتاة ننمو، التي ترعرعت بسرعةٍ إلى طور الصبا. وبينما كانت الفتاة تتجول عند السبخات المائية رآها إنكي، فقطع بمركبه إلى الضفة الأخرى وضاجعها هناك. حملت ننمو من أبيها، وبعد تسعة أيام يعادل كلٌّ منها شهرًا كاملًا أنجبت الفتاة ننكورا. وبينما كانت ننكورا تتجول في السبخات المحظورة جاءها إنكي وضاجعها فحملت منه، وبعد تسعة أيام يعادل كلٌّ منها تسعة أشهر وضعت الفتاة أتو. وقبل أن يعمد إنكي إلى إغواء البنت الجديدة، تقول لها ننخرساج بألا تستسلم له قبل أن يأتيها بأنواعٍ معينة من الخضار والثمار من الأراضي الصحراوية البعيدة، بينها العنب والخيار. ويبدو أنها كانت تعتقد بعدم قدرة إنكي على استنبات تلك المناطق، ولكن إنكي يفيض بمائِه على الأراضي البعيدة ويرويها، ويقوم بستانيٌّ لا نعرف هويته برعاية النباتات حتى تكبر وتنمو فيأتي بها إلى إنكي. يقدم إنكي النباتات إلى أتو فتستسلم له، ولكن ننخرساج تسرع إليهما وتنتزع بذور إنكي من بين ساقَي الفتاة. لا ندري ماذا فعلت ننخرساج ببذور إنكي؛ لأن النص ينتقل مباشرةً من انتزاع البذور إلى القول بأن ثمانية أنواع من النباتات قد وُلدت منها. نمَت النباتات وكبرت. وبينما إنكي يتجول مع تابعه إيسموند، وقع بصره على النباتات الغريبة فسأله عن أسمائها، وكان كلما ذُكر له اسم واحدة منها اقتلعها له فأكلها، وذلك «ليعرف أسماءها ويقدر مصائرها»، على حد قول النص، وهكذا حتى أتى عليها جميعًا. تثور ننخرساج لفعلة إنكي وتلعنه قائلةً: إلى آخر أيامك لن أنظر إليك بعين الحياة. ثم تختفي.
يقع إنكي مريضًا إثر لعنة ننخرساج، وتستوطن في جسده ثماني عللٍ بعدد النباتات التي أكلها. يؤدي مرض إنكي إله الماء إلى قحط يعمُّ الأرض، فيجزع الآلهة ويبحثون عن ننخرساج يلتمسونها أن ترفع لعنتها عن إنكي فلا يجدونها. وأخيرًا يتطوع الثعلب للبحث عنها فيجدها. وعندما تحضر إلى مجمع الآلهة يمسكون بأطراف عباءتها ويرجونها أن ترفع لعنتها عن إنكي فتستجيب. تعمد ننخرساج إلى وضع إنكي في فرجها ثم تسأله عن الذي يؤلمه:
ننخرساج أجلست إنكي في فرجها:
يقع هذا النص في حوالي ٢٧٠ سطرًا، هو خالٍ تقريبًا من النقص والتشوهات وواضح الكلمات والصيغ والتعابير، وخالٍ من الإشكاليات اللغوية. ومع ذلك فإن التأمل في معناه يضعنا أمام جدار مصمت لا نافذة فيه ولا باب. فما الذي تقصد أن تقوله هذه السلسلة من الأحداث التي تنتقل بنا من شيفرةٍ إلى أخرى؟ وأيُّ معنًى يكمن خلف هذا النص الذي يتسلسل دونما روابط منطقية، ودونما سببية مقنعة؟
لا شك أن التحليل المتأني يساعدنا على فهْم أجزاءٍ متفرقة من النص، ولكن دون أن نستطيع ربط هذه الأجزاء في النهاية بما يساعدنا على استيعاب الرسالة الإجمالية. من الجوانب الواضحة مثلًا أن الجنة الأولى التي تم زرعها في الأرض إنما نتجت عن اتحاد الماء بتربة الأرض؛ أي زواج إنكي-الماء من ننخرساج-الأرض. فنحن في مطلع النص أمام أسطورةٍ تنتمي إلى ميثولوجيا الأصول والتكوين، وهي تبدأ بوصف كمال البدايات قبل أن يتطرق الفساد إلى مظاهر العالَم ويدخل في نسيج الحياة. كما أننا أمام تأسيسٍ لفكرة صلة العلاقات الجنسية بخصب الأرض، وتبادلها تأثيرًا سحريًّا تعاطفيًّا. فزواج إنكي من ننخرساج يأتي بعد سلسلةٍ من نشاطات إنكي الإخصابية. وهذا الزواج يعمل بدوره على الإيحاء للطبيعة بالإخصاب. وفي نهاية النص نجد أنفسنا أمام جانبٍ إيتيولوجي تسويغي يفسر كيفية ظهور إلهات الشفاء ووظيفتهن في علاج الأمراض. قد تُشعرنا هذه التفسيرات وتشغلنا عن بقية التفاصيل، أو تعطينا مسوغًا لتجاهلها كما تجاهلها الآخرون من دارسي هذه الأسطورة. وهذا ما لن نفعله هنا. فماذا عن قيام إنكي بمضاجعة ابنته ثم حفيدته فابنتها أيضًا؟ ما الذي تمثله هذه الإلهات الثلاث المدعوات ننمو وننكورا وأتو؟ لماذا هرعت ننخرساج ونزعت بذور إنكي من رحم أتو؟ لماذا ابتلع إنكي بناته الثماني وهنَّ النباتات التي نمت من بذوره المنتزَعة من رحم أتو؟
إن استعراض أهم التفسيرات التي قدمت لهذا النص يدلنا على مدى غموضه واستعصائه، وبقاء رسالته خفية على مناهجنا وطرائقنا في التفكير.
يتَّبع هذا التفسير، وبدقةٍ متناهية، منهج جاكوبسن الذي يمكن أن ندعوه بمنهج المجاز الطبيعاني، الذي يجعل من ظواهر الطبيعة شخصيات إلهية، ويرى إلى الأسطورة باعتبارها بنية رمزية تقابل نقطة فنقطة جانبًا من العالَم الطبيعاني. ورغم أن تفسيره هنا يبدو جذابًا للوهلة الأولى ومنسجمًا مع روح المنهج المستخدم؛ إلا أننا سرعان ما نتبين أنه قد قفز فوق العديد من التفاصيل المهمة، شأنه في ذلك شأن كريمر. ولسوف أحاول من جانبي تقديم تفسير يطمح إلى شموليةٍ أكثر، ويعمل على الإحاطة بمعظم التفاصيل التي تركها الآخرون، والربط فيما بينها على نحوٍ مقنع، ولكن مع الاعتراف مسبقًا بالتقصير عن بلوغ الأرب.
إن نصًّا على هذا القدر من الغرابة والتعقيد، ذو بنيةٍ متراكبة تتطلب منا أن ننظر إلى مستوياته من زوايا مختلفة، بحيث تعطينا كل زاوية مستوًى للفهم مختلفًا ومكملًا للمستويات الأخرى؛ فالنص كما رأى جاكوبسن بحق، هو نتاج فترة مبكرة من الثقافة السومرية، كانت خلالها مشغولةً بتأسيس البِنى التحتية لنظام ري وإنتاج زراعي دام ألفين من السنين على أقل تقديرٍ. والشخصيتان الرئيسيتان هنا هما الماء والتربة، وما نجم عن علائقهما من مظاهرَ تنتمي إلى عالم الطبيعة والنبات. وهذا هو المستوى الأول لفهم الأسطورة. أما المستوى الثاني فتأمُّلي فلسفي، ومفتاحنا إليه هو الحالة التي كانت عليها أرض دلمون في البدايات الأولى، والحالة التي صارت إليها بعد ذلك، مع النظر إلى سلسلة الأسباب والنتائج التي قادت إلى تبدُّل الأحوال. فأرض دلمون كما يصفها مطلع النص هي: «مكانٌ طاهر، مكانٌ نظيف، مكانٌ مضيء؛ حيث لا يفترس الأسد ولا يفترس الذئب؛ حيث لا يعرف أحدٌ رمد العين ولا أوجاع الرأس؛ حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة والمرأة من العجز؛ حيث لا وجود لمنشدٍ يندب ولا لجوال ينوح.» ولكن ما الذي حلَّ بهذه اليوتوبيا البدئية بعد ذلك؟ لقد هُزت أركانها وتضعضعت أُسسها، فحلَّ الشقاق محل الوئام، والمرض محل الصحة الدائمة، وتنازع الإرادات محل التناغم المطلق والانسجام. وباختصار؛ فنحن هنا أمام سقوط ذريع من عصر البراءة الذي وصفته الميثولوجيا السومرية في نصوصٍ أخرى، منها هذا النص:
أما عن الأسباب التي قادت إلى هذا السقوط، فنراها في خطيئتين: الأولى: معاكسة الطبيعة، والثانية: الإفراط. فإنكي يهجر زوجته ثم يستنفد قواه في تحويل مياهه من قنواتها ليسقي بها الأراضي البعيدة الصحراوية. أما ننخرساج فترد على أفعاله غير الطبيعية والمفرطة بفعلٍ آخر متطرف وغير طبيعي حين تنزع بذوره من رحم أتو، فيدفعه ذلك إلى أكثر الأفعال تطرفًا وبُعدًا عن الطبيعة حين يلتهم بناته واحدة إثر أخرى. وتكون النتيجة حصول تصدع في بنية العالَم الفردوسي وظهور المرض، وهو علامة الاختلال الأولى في الحياة، وبوابة الموت.
وأُحب أن أضيف هنا، أن ولادة إلهات الشفاء تحمل في طياتها جانبًا إيتيولوجيًّا تسويغيًّا، هدفت الأسطورة من ورائه إلى تسويغ الخواص الشفائية التي تتمتع بها بعض النباتات. وما إلهات الشفاء الثماني اللواتي ظهرن إلى الوجود، سوى نباتات خضعت لعملية تحويل رمزي زودتها بخصائصَ سرية، من شأنها مقاومة المرض والدفاع عن الحياة. لقد ابتلع إنكي نباتات عادية وحمل بها في بطنه «لكي يعرف اسمها ويقرر مصائرها»، على حد قول النص، ثم دخل إلى فرج ننخرساج حيث أطلقها إلى الحياة وقد تحولت إلى إلهات شافية وُلدت من أعماق الماء ومن رحم الأرض، بعد عمليةٍ معقدة. وكل نبتة شافية اكتشفها الإنسان بعد ذلك، هي بشكلٍ ما سليلة لإحدى هذه النباتات السحرية البدئية التي ظهرت في الأزمان الأولى. وهذا هو المستوى الثالث لفهم الأسطورة.
ولدينا أخيرًا مستوى رابع هو مستوى سحري طقسي. وإني أرجح أن يكون هذا النص بمثابة تعويذة تساعد على الشفاء من الأمراض. ومفتاحي لهذا التفسير هو الشبه الواضح في البنية بين نصنا هذا ونصوصٍ أخرى دعاها نسَّاخها تعاويذ لشفاء المرض، أورد منها فيما يلي نصين:
النص الأول، هو وثيقةٌ بابلية يذكر كاتبها أنه استنسخها عن وثيقةٍ قديمة، ويصفها بأنها تعويذة لشفاء وجع الأسنان. وهذه ترجمتي للنص:
وذرف الدمع في حضرة الإله إيا قائلًا:
(فأجابه إيا):
(فقال السوس):
(يلي ذلك سطرٌ موجه للطبيب المعالج.)
ولدينا تعويذةٌ بابلية أخرى كانت تُتلى عند النزول في ماء الفرات للحصول على الشفاء. وهذه ترجمتها:
إن البنية العامة لنص إنكي وننخرساج، وبصرف النظر عن تفصيلاته، تتألف من ثلاثة وحدات أساسية هي: (١) عودة إلى الأصول وكمال البدايات. (٢) دخول الفساد إلى الكون وظهور المرض. (٣) ظهور الشفاء. وهذه البنية ذاتها نجدها في تعويذة السوس ووجع الأسنان؛ فالنص يرجع في مطلعه إلى البدايات الأولى عندما خلقت السماء الأرض والأرض خلقت الأنهار … إلخ. ثم يشرح كيفية ظهور مرض الأسنان، وينتهي إلى وصف العلاج الذي يتم بعون الإله إيا (= إنكي)، الذي أنجب إلهات الشفاء في أسطورتنا. كما تنتظم تعويذة النهر وفق بنية مشابهة ولكن باختصارٍ أشد. فهي تعود أيضًا إلى البدايات التي تم عندها إبداع الأشياء كلها، وتنتهي بالاستحمام في النهر الذي يقيم الإله إيا في أعماقه، والذي يصل اللحظة الراهنة للمريض بتلك البدايات الكاملة الأولى.
وفي الثقافات التقليدية، نعثر على ممارسةٍ طقسية تقوم على المواقف الفكرية نفسها من مسألة الأصول والبدايات، والقوة الشفائية التي يتضمنها استحضار زمن الأصول. ففي أستراليا تروي قبيلة الكاليولا كيف جرح العجوز فينامون نفسه جرحًا بليغًا في أثناء انشغاله بصنع قارب. عندئذٍ عمد إلى تلاوة التعاويذ التي تسترجع أزمان الأصول، فتلا نشأة الحادثة التي أدت إلى جرحه، ولكنه لم يتذكر الكلمات التي تحكي قصة أصل الحديد، وهي الكلمات التي يمكنها أن تشفي الجرح الذي أحدثته الأداة الحديدية الحادة. ثم بعد أن التمس العون من سحرةٍ آخرين صاح فينامون: الآن تذكرت أصل الحديد، ثم بدأ يتلو التعويذة الآتية:
أخيرًا، وقبل نهاية المطاف، لديَّ استطرادٌ قصير حول دخول إنكي في فرج ننخرساج، ثم خروجه منه في ولادةٍ جديدة مع نباتات الشفاء. لقد تجاهل السيد كريمر في ترجمته للنص السومري هذا العنصر تمامًا، عندما ترجم السطر المعني على الوجه الآتي: «ثم قامت ننخرساج بوضع إنكي قرب فرجها.» وللأمانة العلمية فقد أشار في الحاشية إلى أن التعبير في السومرية يشير إلى أنها قد وضعته في فرجها. وإننا نرى هنا، أن عنصر الدخول في جوف ننخرساج-الأرض، هو عنصرٌ مكملٌ للرجوع إلى البدايات والأصول؛ ذلك أن فكرة العودة إلى الرحم تحمل في حد ذاتها نوعًا من الرجوع إلى الخلف؛ خصوصًا إذا تعلَّق الأمر بالرجوع إلى رحم الأرض، خالقة الجنس البشري في الميثولوجيا المشرقية، وأم الآلهة جميعًا في التصورات الميثولوجية المبكرة. نقرأ في نصٍّ بابلي عن خلق الإنسان، حيث لُقبت ننخرساج (التي تظهر هنا باسمها الآخر مامي) بالرحم الأم:
وإذا كان تفسيرنا للأسطورة على أنها نوعٌ من تعويذة الشفاء صحيحًا، فإننا نرجح أن المريض كان يمر بطقسٍ رمزي من شأنه الإيحاء برجوعه إلى رحم الأرض كما رجع إنكي. وهنا نستطيع أن نقارن عنصر دخول إنكي في رحم الأرض في أسطورتنا، بعنصر هبوط النسر إلى رحم الأرض، عندما لبث في قاع البئر مدةً طويلة قبل أن يكون قادرًا على استعادة صحته واكتساب قوًى ذات علاقة بخصائص الإخصاب. كما تضيء لنا المقارنة مع الطقوس الشائعة لدى الثقافات التقليدية وبعض الثقافات الراقية، جوانب هامة من موضوعنا.
بعد هذه الوقفة المطولة عند هذا النص نتساءل: هل استطعنا الولوج إلى الأسطورة وتلقي رسالتها، أم بقينا نراوح مع بقية المفسرين عند العتبة؟ أترك الجواب للقارئ الذي أتعبته معي، والذي ربما كان يظن أن قراءة الميثولوجيا هي نوعٌ من الاسترخاء الذهني والإصغاء إلى عجائب الحكايا الممتعة، وأنتقل إلى تقديم نصٍّ آخر ينتمي إلى النوع المستغلق رغم بساطة بنيته وجاذبية أحداثه.
إنانا وشجرة الحلبو
يبتدئ هذا النص السومري الحيوي، والمؤثر بأسلوبه وإيقاعه الشعري الداخلي، بمقدمةٍ في التكوين وخلق العالم.
(إلى هنا وتنتهي المقدمة، لتبدأ الأسطورة بالمطلع التالي):
لقد كبرت شجرة الحلبو (معنى الاسم غامض الدلالة) على شاطئ النهر ترتوي من مائه، إلى أن جاء يوم هبَّت فيه ريح الجنوب بقوةٍ واقتلعت الشجرة فرمتها إلى الماء الذي حملها. وفيما كانت الإلهة إنانا «تهيم على وجهها خائفةً من كلمة الإله آن وكلمة الإله إنليل» على حد التعبير الحرفي للنص، وقع بصرها على الشجرة فأعجبتها وانتشلتها عائدةً إلى بستانها الخصيب حيث غرستها هناك، ثم راحت تعتني بها لكي تصنع من خشبها عرشًا لجلوسها وسريرًا لمضجعها. وبمرور الأيام كبرت الشجرة، ولكنها لم تورق ولم تزهر لأن ثلاثة كائنات غريبة قد احتلتها؛ فقد أوت إلى قاعدة الشجرة حيةٌ هائلة لا يؤثِّر فيها سحرٌ ولا تعويذة، فجعلت لها وكرًا هناك، واتخذ من قمتها طائر الزو مسكنًا له ولصغاره (ويُدعى أيضًا إمدوجد، وهو طائرٌ أسطوري عملاق معروف بعدائه للآلهة). وفي الوسط أقامت ليليث شيطانة القفار. فراحت الفتاة المرحة إنانا تبكي وتذرف الدمع. مضت إنانا إلى أخيها أوتو إله الشمس طالبةً عونه على استرجاع شجرتها، ولكن أوتو لم يهتم بالأمر، فمضت إلى جلجامش ملك أوروك وطلبت عونه فاستجاب لها. وضع جلجامش عليه درعه وحمل فأسه فجاء إلى الشجرة حيث صارع الحية وقتلها بفأسه. ولما رأى الطائر ما حلَّ بالحية فر بصغاره إلى الجبال البعيدة. أما ليليث فقد قوضت بيتها وعادت إلى القفار. عند ذلك عمد جلجامش إلى الشجرة فاجتثها وقدمها إلى إنانا لتصنع منها عرشًا وسريرًا. وبالمقابل فقد كافأته إنانا بأن صنعت له من قاعدة الشجرة بكو، ومن قمة الشجرة مكو، ومعنى هاتَين الكلمتَين غامض؛ غير أن مترجم النص السيد كريمر يرجِّح أن تكون طبلًا وعصا الطبل.
على هذا النحو تنتهي أسطورة إنانا وشجرة الحلبو لتبدأ بعدها أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالَم الأسفل، ويربط عنصر الأداتين الموسيقيتين (البكو والمكو) بين الأسطورتين، بحيث تبدأ أسطورة جلجامش وإنكيدو من استلام جلجامش للأداتين اللتين تسقطان منه بعد قليلٍ من كوةٍ في الأرض إلى العالم الأسفل. وبما أن محرر ملحمة جلجامش البابلية قد تعامل مع الأسطورة الثانية بشكلٍ مستقل عن الأسطورة الأولى، وأدمجها في نهاية قصته حيث شكلت اللوح الحادي عشر والأخير من الملحمة، فإني أرجح أنه قد استند في ذلك إلى تقليدٍ آخر يفصل بين الأسطورتين ويتعامل مع كلٍ منهما على حدة. وهذا ما سوف ألجأ إليه هنا، فأتعامل مع أسطورة إنانا وشجرة الحلبو كنصٍّ مستقل عن أسطورة جلجامش وإنكيدو والعالَم الأسفل.
لا يأتي استغلاق هذه الأسطورة من بنيتها المركبة، ولا من غرابة حوادثها وتداخلها، أو غموض عقدتها القصصية. فنحن هنا أمام حكاية تبدو بسيطة للوهلة الأولى، وهي تسير في اتجاهٍ خطي واحد وصولًا إلى العقدة التي تتمثل في استيلاء الكائنات الثلاثة على الشجرة. ثم يتم حل العقدة بطريقةٍ مألوفة في عددٍ من الأساطير الرافدية الأخرى، وصولًا إلى النهاية السعيدة وحصول إنانا على بغيتها، كل هذا جعل قارئ هذا النص يتناوله كحدوتةٍ عادية لا تحمل رسالةً مهمة. غير أن أول ما يصرف نظرنا عن بساطة القصة، هو تلك المقدمة في الخَلق والتكوين المؤلفة من جزأين، بأسلوبها الجزل وإيقاعها الموسيقي المؤثر. فكل ما في هذه الافتتاحية الفخمة يهيئنا لتوقع حدوث أمرٍ جلل ما. يضاف إلى ذلك أن الأسطورة الرافدية قد عودتنا على أن استرجاع الأصول والعودة إلى البدايات، هو مقدمة لقول شيء مهم أو الكشف عن سرٍّ من الأسرار. إن كل فعاليات الخلق والتكوين في القسم الأول من المقدمة. وما جرى لإنكي وهو يبحر لمقاومة قوى العالم الأسفل في الجزء الثاني من المقدمة، ينتهي إلى سطرٍ واحد هو بداية القصة: «في تلك الأزمان، شجرة، شجرة حلبو.» الأمر الذي يدل على أن هذه الشجرة وما جرى لها، هي الشأن المركزي، وهي التي من أجلها وُضعت المقدمة، فهل يسعفنا تأمل هذه المقدمة في إلقاء الضوء على أول مستويات هذه الأسطورة.
تمارس الأسطر الثلاثة الأولى من المقدمة تأثيرًا سحريًّا على السامع يساعد على وضعها خارج زمانه اليومي المعتاد، بطريقةٍ تشبه ما تفعله الفكرة الموسيقية الأولى من مقطوعةٍ سيمفونية:
بعد ذلك يأتي النص إلى سرد كيفية ظهور الكون ووضْع أُسس التحضر، وذلك بثلاث صيغ تكرر كل واحدة سابقتها بطريقةٍ مختلفة:
يُجمل النص هنا عملية الخلق بتعبير «كل ما يلزم» وذلك في السطر الأول والثاني، ويشير في السطر الثالث إلى أصول التحضر بتعبير «خبز الخبز»؛ ذلك أن صنع الخبز وأكله هو الذي يميز الإنسان المتحضر عن سلفه الهمجي. وأما الصيغة الثانية فتؤدي المعنى نفسه ولكن مع بعض التوضيح:
إن تعبير «كل ما يلزم» الذي تكرر في السطر الأول والثاني من الصيغة الأولى، يجري تفصيله هنا في السطرين ذاتيهما، حيث نرى كيف تم الخلق بإبعاد السماء عن الأرض وفصْل الأرض عن السماء. أما أصول التحضر فيشار إليها في السطر الثالث بتعبير «تعيين اسم الإنسان». ثم تتابع الصيغة الثالثة لتعطينا مزيدًا من التفاصيل:
إن الكون الذي أصبح الآن متمايزًا عن الكتلة غير المتمايزة الأولى، قد أُعطي معنًى روحانيًّا، وحلَّت به الآلهة تُديره. فآنو قد اضطلع بشئون السماء في السطر الأول، وإنليل قد اضطلع بشئون الأرض في السطر الثاني. أما السطر الثالث الذي أُفرد في الصيغتين الأوليين للحديث عن الإنسان وأصول التحضر، فإنه يعلمنا هنا عن مصير الإنسان وهو الموت، الذي ظهر عقب تمايز العالم الأسفل عن العالم الأعلى وتخصيصه كمكانٍ لأرواح الموتى، وتعيين إريشكيجال حاكمةً عليه.
بعد ذلك يبتدئ الجزء الثاني من المقدمة، وهو يفيدنا بأن إنكي قد أبحر بمركبه نحو العالم الأسفل، وحصول مواجهةٍ بينه وبين قوى العالم الأسفل لم تُحسم. وينتقل النص بعد ذلك مباشرة إلى القول:
ما الذي تشير إليه تلك المواجهة غير الحاسمة بين إنكي-الماء، والعالم الأسفل؟ إن كل ما أستطيع استنتاجه من هذه المواجهة التي تُركت مفتوحةً، هو أن إنكي باعتباره ممثلًا للقوى التي تدعم الحياة، والعالم الأسفل الذي يفغر فاه لالتهام الحياة، هما تمثيل لقطبين متعارضين ومتعاونين، لا يستوي الوجود الإنساني إلا بتعارضهما وتعاونهما. لقد حاول الماء بعد أن أحيا الأرض بما عليها من الكائنات، أن يشق طريقه نحو العالم الأسفل الأجرد والمظلم والعقيم ليحييه كما أحيا العالم في الأعلى، ولكن تقدمه قد أوقف؛ ولذلك نجد أن الماء العذب يكمن في الأعماق، وعند المستوى الفاصل بين سطح الأرض والعالم الأسفل. ومن هنا يصدر على شكل أنهارٍ وينابيع وآبار، ولكنه لا يستطيع الغوص أكثر من ذلك لأن قوى العقم تقف له بالمرصاد منذ تلك الأزمة الميثولوجية الأولى.
من تلك المواجهة الأولى بين قوى الخصب وقوى العقم، ينتقل النصُّ إلى ظهور شجرة الحلبو التي تمثِّل الحياة الزراعية في شكلها الخامي البدئي الذي لم يخضع بعد إلى تنظيم. ونظرًا لعدم وجود مَن يعتني بالشجرة البرِّية، فقد اقتلعتها ريح الجنوب، وطافت فوق المياه إلى أن انتشلتها إنانا وزرعتها في بستانها. وهنا يجب أن نلاحظ أن النص لا يقدم لنا إنانا في صورة الإلهة المكتملة المسيطرة فعلًا على نفسها المتحكمة في حياتها، بل في صورة الصبية الغضة التي تهيم خائفة من كلمة الإله آن وكلمة الإله إنليل، والتي لم تحصل بعدُ على رموز سلطانها. وهي عندما تقوم بزراعة الشجرة في بستانها وتأخذ في العناية بها، فإنها تأمل أن تعطيها هذه الشجرة أهم رمزين من رموز سلطانها على الخصب والحب، وها هي تفكر بصوتٍ مسموع قائلةً:
على أن انتقال الشجرة من الحالة البرِّية إلى الحالة المؤهلة قد ساعد على نموها، ولكنه لم يساعد على إيراقها وإزهارها؛ لأن ثلاثة كائنات تنتمي إلى قوى العماء والفوضى والموت قد حلَّت فيها. فطائر الزو معروف بمقاومته لقوى النظام التي سادت بعد التكوين، وهو لا يدخر وسعًا في خلخلة نظام الكون كلما سنحت له الفرصة (على ما نعرف من نصوصٍ بابلية لاحقة). أما ليليث، فهي شيطانة جميلة لها أجنحة ومخالب الطير، تنتمي إلى قوى العالم الأسفل وتسكن القفار والخرائب. وأما الأفعى فإنها لا تظهر هنا كوكيلة للخصب بل كوكيلة لقوى الفوضى والدمار. وهي من النوع اللوياتاني الذي يتوجب على إله الخصب قتله قبل أن يسيطر فعلًا على قوى الإخصاب. ومثالها الحية ذات الرءوس السبعة التي صرعتها الإلهة عناة. نقرأ في نصوص بعل وعناة المقطع الآتي:
وفي مقطعٍ آخر:
لا تستطيع إنانا حيال الموقف الجديد إلا البكاء وذرف الدموع. وعندما يخذلها الإله أوتو، يخف لنجدتها جلجامش ملك أوروك فيقتل الأفعى ويطرد الطائر والشيطانة؛ وبذلك تتخلص الحياة النباتية من تأثير قوى الفوضى وقوى الموت، وتغدو جاهزةً لأن تكون مقرًّا لعرش ألوهة الخصب، وجاهزةً لأن تكون مضجع ألوهة الحب والجنس. وباستلام الإلهة إنانا رموز سيطرتها على هذَين المجالَين، والمتمثلة بالكرسي والمضجع، تدخل الحياة النباتية طور الزراعة المنظمة تحت رعاية إنانا التي تحولت الآن من فتاةٍ خائفةٍ إلى سيدةٍ مكتملة ومسيطرة على الخصب والحب.
يبقى أمامنا عنصرٌ هامٌّ بحاجةٍ إلى إيضاح. لماذا جاءت المعونة من جلجامش ملك أوروك ولم تأتِ من الإله أوتو أو أية شخصية إلهية أخرى؟ وما هو الدور الرمزي الذي يلعبه جلجامش هنا بمساعدته إنانا على استكمال دورها كإلهة للخصب والحب وسيدة على عالم الطبيعة المدجنة؟
لا يوجد أمامنا سوى نافذة واحدة نستطيع الولوج منها إلى رمزية الدور الذي يلعبه ملك أوروك هنا في مساعدته لإنانا الإلهة الرئيسية لمدينة أوروك. وهذه النافذة هي طقوس الزواج المقدس. فبموجب هذه الطقوس المؤسسة منذ عصور ما قبل الأسرات، كان على ملك أوروك أن يلعب دور الإله دوموزي ويتزوج من الإلهة إنانا مرةً في كل عام، فيلتقيان في غرفةٍ معَدَّة لهذا الغرض تقع في أعلى برج المعبد، وأغلب الظن أن كاهنة إنانا العليا كانت تنتظر الملك هناك في غمرة الاحتفالات، فيصعد إليها وينام معها، وأن الاعتقاد السائد كان يذهب إلى أن روح الإلهة تحل في الكاهنة وروح الإله تحل في الملك. ومن لقائهما تنبثق قوة خصب كونية تساعد على دفع دورة الفصول، وإحلال الخصب في الطبيعة وفي الكائنات الحية.
ويبدو أن الأسطورة هنا تجعل من جلجامش أول ملك لأوروك، ومؤسسًا لطقس الزواج المقدس، وليس عونه لإنانا على تأسيس عرشها واستكمال سريرها إلا مقدمة لدوره المقبل كزوجٍ طقسي لها؛ الأمر الذي يرجح أن الأسطورة في نصها الأقدم قد دُونت إبان حكم الملك جلجامش؛ أي فيما بين القرن السادس والعشرين والقرن الخامس والعشرين قبل الميلاد. ومن الممكن أيضًا أن الصيغة الأكثر قِدمًا للأسطورة والتي ترجع إلى ما قبل عصر الأسرات؛ أي إلى الألف الرابع قبل الميلاد، كانت تجعل من دوموزي نفسه بطل الرواية، ثم تم استبدال بديله الطقسي به فيما بعدُ.
خاتمة
لقد حاولنا في الصفحات المحددة لهذا البحث أن نبحث عن «المعنى» في عددٍ من الأساطير المنتقاة من تراث الشرق القديم، وذلك وفق منهجٍ تجريبي لا يلتزم موقفًا مسبقًا أو مدرسة من مدارس التفسير. وكان غرضنا من ذلك أن نُظهر أن للأسطورة «نظامًا» داخليًّا متماسكًا ينطوي على رسالةٍ ما، رغم ما يبدو عليها من تفككٍ ظاهري أحيانًا، لا ينسجم مع مفهومنا الحديث عن «النظام». هذه الرسالة، كانت مفهومة ومستوعَبة من قِبل الإنسان القديم الذي لم يكن بحاجةٍ طبعًا إلى القيام بمثل ما نقوم به، لكي يفهم أساطيره ويستوعب رسائلها. إن أحد الفروق الهامة بين فكرنا الحديث وفكر الإنسان القديم، هو أننا لا نستطيع فهْم ظاهرة ما بكلِّيتها إن لم نعمد إلى تفكيكها ومعرفة أجزائها المستقلة جزءًا جزءًا. وكلما اعتقدنا أننا فهمنا الأجزاء عند مستوًى معين انتقلنا إلى المستوى الأعلى، وهكذا وصولًا إلى الفهم الكلي اعتمادًا على السير الخطي من مرحلةٍ إلى أخرى. وذلك على عكس الإنسان القديم الذي كان ينظر إلى الظاهرة بكليتها، ولا تستمد الأجزاء عنده معناها إلا من الكل. من هنا، فإن «المعنى» الذي نحاول الكشف عنه في الأسطورة باستخدام أدواتنا التحليلية، يبقى ظلًّا باهتًا للمعنى الميثولوجي الخفي في النص.
إن مشكلتنا مع «المعنى» في الأسطورة ناجمٌ عن مفهومنا للمعنى. ولتوضيح هذه النقطة أستعير مثالًا من اللغة؛ فنحن عندما نريد توضيح معنى كلمة من الكلمات، فإننا نورد عددًا آخر من الكلمات أو الجمل المفيدة التي تعمل على تكوين المعنى في الذهن. وهذا ما تفعله المعاجم عادةً عندما تستشيرها بخصوص كلمةٍ ما فتحيلك إلى كلمةٍ أخرى أو كلمات، ثم تُلحقها بجملٍ مركبة. ورغم ذلك، فإن إحساسنا بالكلمة يبقى إحساسًا مباشرًا، وهي تستثير فينا من الانفعالات المختلفة ما لا تستطيع الكلمات المفسرة خلقه. فإذا استشرت القاموس بخصوص كلمة النار مثلًا، لقال لك، اشتعال، حريق، توقد … إلى آخر ما هنالك من مترادفاتٍ تحاول نقل المعنى المطلوب، ولكن حاول في ليلةٍ مظلمة أن توقد في الخلاء نارًا وتلبث ساكنًا أمامها تحدق فيها. عند ذلك فقط يمكن لك أن تعلم سر الكلمة دون وسيط؛ لأنك تكون قد تجاوزت الكلمات والمترادفات ونفذت إلى سر الشيء. وهذا ما يتوجب علينا أن نفعله حيال الأسطورة لننفذ إلى سرها دون وسيط.
إن الأسطورة من حيث شكلها هي وسيطٌ رمزي بموضع الانفعال الداخلي في الخارج، من خلال وسيط رمزي آخر هو الكلمات، ولكننا عندما نأتي إلى التحليل والتفسير فإننا نلجأ إلى وسيطٍ ثالث، إلى جملةٍ أخرى من الكلمات تعمل على شرح الجملة العصبية، في الوقت الذي يتوجب علينا فيه أن نزيح تلك الجملة الأصلية وصولًا إلى الحالة الانفعالية التي أنتجت الأسطورة؛ أي أن نتأمل الأسطورة كما تأملنا النار ونفذنا إلى سرها دون وسيطٍ. وهذه مهمةٌ صعبة تنقلنا من «البحث» إلى ما يشبه «التصوف».
Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale, 1976, p. 87 ff.
J. Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, Princeton 1969, pp. 455–463.
J. Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, Princeton, New Jersey 1969, pp. 38–40.
G. S. Kirk, Myth: Its Meaning and Functions, op. cit., pp. 96–98.
المرجع نفسه، ص٢٧-٢٨.