(٤) الأسطورة والتاريخ
لقد قلنا سابقًا بأن الأسطورة هي حكايةٌ مقدسة، يؤمن أهل
الثقافة التي أنتجتها بصحة وصدق أحداثها. فهي، والحالة هذه،
سجلٌّ لما حدث في الماضي وأدى إلى الأوضاع الحالية والشروط
الراهنة. وهذا ما يعقد صلة قوية بين الميثولوجيا والتاريخ
باعتبارهما ناتجين ثقافيين ينشآن عن ذات النوازع والتوجهات،
رغم ما بينهما من اختلافاتٍ تجعلهما يبدوان وكأنهما نظامان
لا يربط بينهما رابطٌ؛ فالأسطورة والتاريخ ينشآن عن التوق
إلى معرفة أصل الحاضر، ولكنهما يفترقان في القيمة التي
نسبغها على ذلك الأصل، فهو أصلٌ قدسي عند الأسطورة وأصل
دنيوي مفرغ من الأسطورة عند التاريخ. وبتعبيرٍ آخر، فإن
الأسطورة تنظر إلى التاريخ باعتباره تجليًا للمشيئة الإلهية.
أما التاريخ فيُنظر إلى موضوعه باعتباره تجليًا للإرادة
الإنسانية في جدليتها مع قوانين فاعلة في حياة الإنسان
الاجتماعية. وهذا يعني أننا أمام نوعين من التاريخ: تاريخ
مقدس وتاريخ دنيوي.
يقتصر التاريخ المقدس على سرد كيفية تجلي «الإلهي» في
الزمان والمكان الدنيويين، والكشف عن فعاليات الكائنات
الماورائية في الأزمان الميثولوجية الأولى، وما نشأ عنها في
عالم الإنسان. إن كل فعل من أفعال الإنسان، بالنسبة للفكر
الأسطوري، أو أية ظاهرة من ظواهر الطبيعة، لا تتمتع بقيمةٍ
ذاتية، بل إن قيمتها وحقيقتها تنبع من حقيقةٍ تقع خارج
الملموس والمحسوس، من بوادرَ أولى متجذرة في زمن الأصول؛
فالجنس البشري محكومٌ عليه بالكد والمشقة لأن الآلهة قد
خلقته ليحمل عبء الكدح عنها (على ما نعرفه من نصوصٍ رافدية
عديدة). والمؤسسات الاجتماعية مثل الملوكية الوراثية
والكهنوت وما إليها، قائمةٌ وتتمتع بقوةٍ ونفوذ لأنها نزلت
من السماء (على ما نعرفه من أسطورة أدابا وأسطورة إيتانا
والنسر). والمرض قد حلَّ في جسم الإنسان بسبب خطيئة الإله
إنكي (على ما نعرفه من أسطورة إنكي وننخرساج). وصار الموت
مصيرًا لكل إنسان حي بسبب خطيئةٍ ارتكبها الإنسان الأول (على
ما نعرفه من أسطورة آدابا البابلية وأسطورة خلق الإنسان
التوراتية). والشر موجودٌ في نسيج العالم بسبب تمرد ملاك في
السماء وتحوله إلى شيطانٍ يحكم مملكة الظلام (على ما نعرفه
من المعتقدات المسيحية والإسلامية)، إلى آخر ما هنالك من
أفعالٍ وأحداث قادت إلى تكوين الصورة الحالية لعالم
الإنسان.
هذا التوق إلى معرفة أصول وجذور الشرط الراهن، هو الذي
يكمن وراء هوس المجتمعات الحديثة بالتاريخ. فتاريخ الكون
الذي صار موضوعًا لعلمٍ خاص، يرجع بنا القهقرَى إلى نقطة
البدء الأولى، إلى لحظة الانفجار الأعظم الذي تولدت عنه
المجرات وما زالت تفر في كل اتجاه بسرعاتٍ خيالية. وتاريخ
كوكب الأرض يرجع إلى أربعة مليارات ونصف المليار من الأعوام،
عندما دخل كوكبنا في مداره حول الشمس. وتاريخ الحياة يرجع
إلى ثلاثة مليارات ونصف المليار من الأعوام، عندما ظهرت
الخلية الأولى في مياه المحيط المالح. وتاريخ الإنسان ككائنٍ
طبيعاني يرجع إلى أربعة ملايين من الأعوام عندما كانت إحدى
فصائله الرئيسية تستقل لتسير في خطٍّ تطوري بلغ ذروته في
هيئة الإنسان العاقل. وتاريخ الإنسان ككائنٍ ثقافي يرجع إلى
ابتكار الأدوات واستخدامها من أجل التكيف مع البيئة، ثم يسير
بعد ذلك عبر عددٍ من العصور الموسومة بنوعية تقنياتها،
وصولًا إلى عصر المعلوماتية الذي نعيشه الآن. وباختصار، فإن
الماضي يُبعث بكامله وبكليته من خلال أعظم عملية لاستنهاض
التاريخ عرفتها البشرية، كل ذلك لأن الإنسان يحاول الآن،
وأكثر من أي وقتٍ مضى، فهْم نفسه ووعي شرطه واستشراف
مستقبله.
إن كلًّا من الأسطورة والتاريخ هو وسيلةٌ يفهم الإنسان من
خلالها نفسه ويعي شرطه. وإن توقنا الآن لقراءة وفهم التاريخ
ينشأ عن الموقف القديم ذاته الذي كان يدفع أسلافنا لتلاوة
الأساطير والاستماع إليها. ولكن ما يميز هذَين النظامَين
بشكلٍ أساسي بعضهما عن بعض، هو أن الفكر الحديث قد أحل أفعال
الإنسان وقوانين التطور، كمحركٍ للتاريخ، محل مشيئة وأفعال
الآلهة. وبما أن موضوعنا الأساسي في هذا البحث هو الأسطورة
باعتبارها تاريخًا مقدسًا، فإننا سنلتفت فيما يأتي إلى
اكتناه «منهجية» هذا التاريخ والمواقف الفكرية والعاطفية
التي يقوم عليها.
يمكننا تمييز ثلاث مراحل في التاريخ الذي تكشف عنه
الأسطورة: (١) السرمدية السابقة على فعالية الألوهة. (٢)
الزمن الكوزموغوني؛ أي زمن الخَلق والتكوين. (٣) زمن الأصول
والتنظيم.
لا تعلن الألوهة عن نفسها إلا عند دخولها في الزمن وفي
تاريخ الكون والإنسان، وذلك مع قيامها بفعل الخَلق الأوَّلي
الذي مد المكان وأطلق الزمان، وقاد إلى ظهور الكون من رحم
العماء. إن فعل التكوين الذي منح العالم وجوده هو الذي يقفز
بالألوهة، في الوقت نفسه، من حالة الكمون في السرمدية
الساكنة إلى حالة الوجود أيضًا. والألوهة بإظهارها لما عداها
قد أظهرت نفسها في مقابله؛ ذلك أن الإله الأزلي القابع فيما
وراء الزمن الجاري هو إله نظري افتراضي، ومثل هذا الإله لا
يباشر وجوده الفعلي إلا عندما يبتدر الزمن ويعلن عن فعالياته
الواضحة فيه، فيقوم أو يشارك في خلق الكون أو في النشاطات
الخاصة بتنظيمه؛ فالميثولوجيا كما يقول الفيلسوف المعاصر
إرنست كاسيرر، تقوم على مفهومٍ زماني لا مكاني.
١ والأسطورة الحقة، تبعًا لذلك، لا تتشكل عندما
يكوِّن الإنسان في ذهنه صورًا للآلهة، بل عندما يعزو لهذه
الآلهة بداية محددة في الزمن. وعندما تباشر فعالياتها وتنبئ
عن وجودها في سياقٍ زمني؛ أي عندما يتحول الوعي الإنساني من
فكرة الألوهة إلى تاريخها.
تقع الأحداث التي تقصها أساطير التكوين عند الحد الفاصل
بين السرمدية والتاريخ؛ أي في الزمن الكوزموغوني، زمن الخلق
الذي يُظهر ما دون الخالق إلى الوجود. ومع الانتهاء من فعل
الخلق نغادر هذا الزمن الكوزموغوني، ويدخل الإنسان وآلهته
معًا في الزمن الخطي، الذي يسير من الماضي إلى المستقبل عبر
الحاضر؛ أي في الزمن التاريخي. وهنا يعقب فعل الخلق البدئي
مجموعةً أخرى من الفعاليات المبدعة للألوهة، تنشط في الأزمان
الميثولوجية الأولى الواقعة عند جذور الزمن التاريخي؛ أي
أزمان الأصول والتنظيم. وهذه الفعاليات تسجلها لنا الزمرة
التي نطلق عليها عادة اسم أساطير الأصول، والتي تعمل على
تأسيس وتأصيل كل ما هو قائم، سواء على المستوى الطبيعاني أم
على المستوى الثقافي.
قدمت لنا معتقدات وأساطير الشرق القديم أمثلة واضحة عن هذه
المراحل الثلاث للتاريخ المقدس. ومرةً أخرى نعود إلى
الإينوما إيليش، فنبدأ بها؛ لأن مطلعها يعطينا وصفًا بالغ
الحيوية والتأثير للمرحلة الأولى من التاريخ المقدس ومرحلة
كمون الألوهة:
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض،
لم يكن (من الآلهة) سوى أبسو، أبيهم،
وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعًا،
يمزجون أمواههم معًا.
لقد أفلح هذا المقطع في نقل انطباع ميثولوجي
شديد التأثير على السامع أو القارئ، ووضعه سيكولوجيًّا في لب
«مفهوم» السرمدية الساكنة المنكفئة على نفسها المكتفية
بذاتها. وهو باختياره للماء جوهرًا لهذه «الكيانات» الأزلية
الثلاث، قد أكد على الحالة السابقة لكل شكل؛ لأن الماء هو
أكثر العناصر من حولنا تمثيلًا لما لا شكل له ولا قوام ولا
أبعاد. إنه «اللاشكل» و«اللانظام» بكل امتياز. كما أن اختتام
الإيقاعات الأربعة الأولى لهذا المقطع الاستهلالي، بالإيقاع
الخامس: «يمزجون أمواههم معًا»، يؤكد على أن هذه الكيانات
المؤلفة من الأب الأزلي والأم الأزلية والابن الأزلي، هي
كيانات غير مستقلة بل متمازجة متداخلة، دون حدود تفصل بينها؛
أي بالمفاهيم اللاهوتية المعقدة: ثلاثة في واحد؛ لأنه لا
معنى لقيام ثلاثة كيانات مائية مستقلة، بينما هي في الآن
ذاته في حالة تمازج واختلاط أزليين.
ينتقل النص بعد ذلك إلى المرحلة الثانية من التاريخ
المقدس، مرحلة الزمن الكوزوموغوني الذي يصدر فيه الكون عن
الفوضى والزمن عن السرمدية، ويصف عتبة ذلك الزمن. فقد أخذت
هذه الكتلة الهيولى الأولى بالتمايز تدريجيًّا عن طريق
التناسل، وصدر عنها الجيل الثاني من الآلهة. ومن ظهور هذا
الجيل تبدأ إرهاصات الزمن ونقترب من البرزخ الكوزموغوني.
ويعبر النص عن إرهاصات الزمن بالضجيج الذي صدر عن الآلهة
الشابة الجديدة، في مقابل ذلك الصمت المطلق الذي كان سمة
للأزلية الساكنة. ففي أعماق الماء المتمازج في صمتٍ وسكون،
أخذ هؤلاء بالصخب والحركة جيئةً وذهابًا، فهزوا جوف تعامة
وسبَّبوا لها الأذى كما سببوا الأرق لأبسو وممو. لقد حدث
شرخٌ في الحالة السكونية لا سبيل لرأبه:
وتجمع الصحب المؤلَّهون،
أزعجوا بحركتهم تعامة،
يروحون ويجيئون في مسكنهم المقدس.
فتوجه أبسو بالقول إلى تعامة:
لقد غدا سلوكهم مؤلمًا لي،
في النهار لا أستطيع راحةً ولا في الليل
رقادًا،
لأدمرنَّهم وأضع حدًّا لفعالهم،
فيخيم الصمت، وتخلد بعدها إلى النوم.
ولكن هيهات؛ فالحركة قد انطلقت وما من
وسيلةٍ لإيقافها، واصطدم الصمت والسكون بالضجيج والحركة،
ونشأت معركتان قادتا إلى ابتدار التاريخ. قاد المعركة الأولى
الإله إيا (إنكي) ضد أبسو وممو، فقتل الأول وأسر الثاني.
وقاد المعركة الثانية الفاصلة الإله مردوخ؛ بكر الإله إيا،
فقتل تعامة وشطرها إلى نصفين رفع واحدهما سماءً وأرسى
الثانية أرضًا. فنشأ الشكل عن اللاشكل، والنظام عن الفوضى
المائية، وانطلق الزمن، والنص واضح هنا كل الوضوح في إظهار
ترافق التكوين مع ظهور الزمن. ففي نهاية اللوح الرابع من
الإينوما إيليش ينتهي مردوخ من رفع السماء وبسط الأرض، وفي
بداية اللوح الخامس ينتظم الزمن:
خلق محطات لكبار الآلهة:
أوجد لكلٍّ مثيله من النجوم: علامات خط
السمت،
وحدد السنة وقسَّم أجزاءها،
ولكلٍّ من الاثني عشر شهرًا أوجد ثلاثة
أبراج.
وبعد أن حدد بالأبراج أيام السنة،
خلق كوكب المشتري ليرقب واجبات الأيام،
فلا يقصِّر أحدهما أو يتماهل.
… إلخ.
ثم أخرج القمر فسطع بنوره، وأوكله بالليل،
وجعله حليةً له وزينة، وليعين الأيام:
أن أطلع كل شهر دون انقطاع مزينًا بتاج،
وبعد أن يطمئن مردوخ إلى انتظام سير الزمن،
يلتفت إلى نشاطات التنظيم والأصول، ونغادر المرحلة الثانية
الكوزموغونية، إلى المرحلة الثالثة:
بعد أن أوكل بالأيام شَمَش (إله الشمس)،
أخذ من لعاب تعامة وخَلق منه (…).
خَلق منه الغيوم وحملها بالأمطار.
دفع الرياح وأنزل الغيث،
وخَلق من لعابها أيضًا ضبابًا.
ثم عمد إلى رأسها فصنع منه تلالًا،
وفجَّر في أعماقها مياهًا،
وفجَّر منها عيونًا وأحيا آبارًا.
وتنتهي هذه النشاطات ببنائه لمدينة بابل
ولمعبدها الكبير المدعو إيزاجيلا المخصص لعبادة الإله مردوخ،
ولا يبقى سوى خلق الإنسان الذي سيكون خليفة مردوخ على الأرض،
ووكيل سلطانه فيها.
توجه الآلهة بالسؤال لبكرهم مردوخ:
بعد كل ما صنعت يداك،
لمَن ستوكل سلطانك؟
وفوق الأرض التي ابتدعتها يداك،
لمَن ستوكل حكمك؟
يخلق مردوخ الإنسان من دم الإله كينغو قائد
جيش تعامة والمحرض الرئيسي على القتال ضد الآلهة الشابة،
ويفرض عليه السعي في مناكب الأرض ليعمل فيها ويحصل قُوتَه
وقوت الآلهة التي حررها مرودخ من العمل. كما يرسي له أسس
الطقوس والعبادات ويعلمه خشية الآلهة. ثم يتبع ذلك بعددٍ من
النشاطات التنظيمية التي ترسِّخ التحضر الإنساني، حيث نقرأ
في المقاطع الأخيرة من النص، التي تعدد أسماءه الخمسين
وتَقْرِن بكل اسمٍ عملًا جليلًا من أعماله:
إينبيلولو، واهب الخيرات هو
الجليل الذي منح لكل اسمه،
نظَّم المرعى وموارد الماء،
فجَّر الأرض عيونًا، وأجرى المياه أنهارًا،
ليمجد ثانيًا على أنه إيبادون الذي يروي
الحقول،
الذي نظَّم السدود والقنوات ورسم خطوط
المحراث،
رب الظلال الوفيرة والمحاصيل الكثيرة،
واهب الثروة الذي أغنى المساكن،
مانح الذرة ومُنبت الشعير، يتولى أمور
المخازن،
يحفظ تماسك العائلة، مصدر كل أمرٍ حسن.
… إلخ.
وفي نصٍّ بابلي آخر عن التكوين والأصول
مؤلَّف من أربعين سطرًا. نقرأ في الأسطر الأخيرة من
الفعاليات التنظيمية للإله مردوخ التي أعقبت فعاليات الخلق
والتكوين ما يأتي:
صنع قالب الآجُرِّ، وأنتج مكعباته.
بنى البيت وبنى المدينة.
بنى المدينة وأسكن فيها البشر.
بنى مدينة نيبور، وبنى فيها معبد الإيكو.
بنى مدينة أوروك وبنى فيها معبد إيانا.
وفي الميثولوجيا السومرية الأقدم، لا نجد
اهتمامًا بمسألة الخلق والتكوين قدر الاهتمام بمسائل الأصول
والتنظيم. فبينما تتم الإشارة بشكلٍ عابر إلى بعض تفاصيل
فعاليات الآلهة صنع العالم، فإن الميثولوجيا السومرية تتوقف
بشكلٍ مطول عند فعاليات الآلهة في مطالع التاريخ، في الأزمان
الميثولوجية التي تلت الزمن الكوزموغوني، وقيامها بتنظيم
شئون العالم والمجتمع الإنساني. فأسطورة إنكي وننخرساج، التي
بحثناها باستفاضةٍ في الفصل السابق، تقع ضمن هذا النوع من
الفعاليات التاريخية للألوهة، ومثلها في ذلك أسطورة إنكي
وننماخ، التي تحكي عن قيام إنكي بخلق الإنسان بمعونة الإلهة
ننماخ (وهو اسم آخر لننحرساج)، وتخلص من ذلك في النهاية إلى
التأصيل للشيخوخة والموت. وفيما يلي ملخص لهذه
الأسطورة:
بعد الانتهاء من خَلق العالم، جاء الآلهة إلى إنكي طالبين
منه أن يخلق لهم مَن يحمل عنهم عبء العمل ويقوم على خدمتهم،
فيقوم إنكي بخلق الإنسان، يساعده في ذلك أمه نمو، المياه
الأولى، وننماخ الأرض/الأم. تغرف نمو قبضة من طين مياه
الأعماق ثم تعجن الطين وتشكله تحت إشراف إنكي وبالتعاون مع
ننماخ. وبعد الانتهاء من صنع نموذج الإنسان الأول تقوم ننماخ
بإعطائه صورة الآلهة، على حد تعبير النص: «علقت عليه صورة
الآلهة». واحتفالًا بهذه المناسبة أقام إنكي وليمةً عامرة
دعا إليها بقية الآلهة. وبعد أن شرب إنكي وننماخ الكثير من
الخمرة، قامت ننماخ بصنع ستة نماذج بشرية من الطين نفسه
ولكنها تحمل عاهات مختلفة، وتحدت إنكي أن يجد لها عملًا
مناسبًا ومكانًا في المجتمع، ففعل إنكي ذلك على أكمل وجه. ثم
إن إنكي قام من جهته بصنع نموذج لبشريٍّ واهن لا يستطيع حتى
تحريك ذراعه، واسمه بالسومرية يعني «إن أيامي موغلةٌ في
البُعد». ويوحي لنا هذا الاسم بأن إنكي قد خلق الشيخوخة
وأرذل العمر. تحدى إنكي ننماخ أن تجد لمخلوقه هذا وظيفةً
ومكانًا في المجتمع ولكنها أخفقت وثار غضبها عليه، فلعنته
لعنةً عظيمة غاصت به إلى أعماق الأرض. أما بقية النص فغير
واضحة للقراءة.
٤ ورغم ذلك فإن رسالته واضحة تتعلق بتفسير أصل
الشيخوخة، مثلما تعلقت رسالة أسطورة إنكي وننخرساج بأصل
المرض. فإذا كان الإنسان قادرًا على التعامل مع عاهاته
وتشوهاته، فإنه يبقى عاجزًا عن فعل أي شيء تجاه الشيخوخة
التي لم تستطع الإلهة الأم فعل شيء إزاءها، بعد أن أظهرها
إنكي إلى الوجود.
ويبدو أن الإله إنكي كان أكثر الآلهة فعالية في زمان
التأصيل. فلدينا أكثر من نصٍّ يصف نشاطاته في التأصيل
والتأسيس، وأهمها النص المعروف لدى الباحثين بعنوانه: إنكي
ينظم العالم. في هذا النص، نجد إنكي يطوف أرجاء العالم ويقرر
لكل قطرٍ مصائره وينشر فيه التقاليد الحضارية، مُظهرًا إلى
الوجود كل ما هو نافعٌ ومفيد لحياة الإنسان. عند الجزء
الواضح للقراءة من اللوح الفخاري، يصل إنكي إلى بلاد سومر
فيعلي من شأنها فوق الأقطار جميعها. ثم يقف عند مدينة أور
(التي كانت عاصمة سومر خلال فترة تدوين هذا النص)، فيقرر لها
مصائرها ويجعل منها درة البلدان. ثم يتابع إلى بلاد ملوحا
فيباركها، وإلى نهر دجلة والفرات فيملؤهما ماءً نقيًّا،
ويخلق فيهما السمك، وعلى الشطآن ينثر القصب ويوكل به الإله
إينبيلولو. ثم يلتفت إلى البحر فينظم شئونه ويوكل به الإلهة
سيرارا. ثم إلى الرياح فيوجهها في مساراته ويوكل بها الإله
إشكور، صاحب القفل الفضي الذي يضبط بواسطته هطول المطر. ثم
إلى شئون الزراعة وما يتصل بها من أدواتٍ فيخلق المحراث
والنير، ويوكل الإله إنكمدو بالقنوات والسواقي. وفي المدن
يهتم بالعمران فيقيم للآجر إلهًا خاصًّا، ويحفر الأساسات
ويرفع الجدران، ويعين الإله شداما للإشراف على أعمال البناء،
ثم يملأ السهول بالعشب والمرعى، وينثر فيها قطعان الماشية
ويعين لشئونها الإله سوموقان. ثم يملأ الحظائر باللبن
والزبدة ويعين عليها الإله الراعي دوموزي. وعند هذه النقطة
يتشوه النص ويغدو غير قابل للقراءة.
٥ غير أن هذا الجزء الواضح من النص يكشف عن هوية
أسطورتنا باعتبارها تاريخًا مقدسًا متكاملًا للحضارة
الإنسانية ولمنطقة سومر على وجه التحديد. وهذا التاريخ
الحضاري لا يقوده الإنسان بل الفعالية الإلهية التي توجه
التاريخ؛ فالإله إنكي هو الذي ابتدر الزراعة وهو الذي صنع
أدواتها الأولى، وهو الذي حفر قنوات الري، وهو الذي صنع
الآجر وأشاد البيوت والمدن … إلخ. أما الإنسان فليس إلا
عنصرًا منفعلًا في هذا العالم لا يمارس إلا الدور الذي ترسمه
له الآلهة.
وفي الميثولوجيا المصرية، نستطيع متابعة مراحل التاريخ
المقدس نفسها، أي من السرمدية إلى الزمن الكوزموغوني إلى زمن
الأصول والتنظيم في مطالع التاريخ.
تتمثل السرمدية في الأوقيانوس المائي البدئي نون، والذي
يعادل الأمواه الثلاثة المتمازجة في الإينوما إيليش. فوق هذه
المياه المبدئية كانت تحوم روحٌ لا شكل لها ولا هوية، ثم
تركزت في داخل هذه الروح تدريجيًّا كل أشكال الوجود، وصار
اسمها آتوم. والاسم في اللغة المصرية يعني العدم، ويعني في
الوقت نفسه الاكتمال. وفي لحظةٍ معينة انبثق آتوم من هذه
الكينونة الأولى وتجلى تحت اسم رع، ومعه ابتدأ الزمن
الكوزموغوني. فقد أنجب رع توءمين هما الهواء شو والرطوبة
تفنوت. وأنجب هذان الزوجان بدورهما السماء نوت والأرض حبيب،
ومن وزاج السماء والأرض وُلد أوزوريس وإيزيس وسيت.
٦
مع الانتهاء من الزمن الكوزموغوني، ندخل زمن الأصول الذي
يلعب فيه الإله أوزيريس الدور الرئيسي. كان أوزيريس أول ملك
في الأرض. وقد كرَّس نفسه منذ البداية لتنظيم شئون العالم
مبتدئًا مهمته في مصر، حيث أبطل العادات الهمجية السائدة،
وعلَّم الناس كيفية صناعة الأدوات الزراعية واستخدامها في
استنبات القمح والشعير، كما علَّمهم أكل الخبز وشرب النبيذ
والجعة وبناء البيوت والموسيقى، وأسس للديانة الأولى وعلم
البشر عبادة الآلهة. وبعد أن أرسى التقاليد الحضارية في مصر،
أوكل زوجته إيزيس بحكم البلاد وسافر إلى آسيا وبقية أرجاء
المعمورة، ليعلِّم البشر في كل مكان ما علَّمه للمصريين،
مستميلًا إليه الناس باللين والمحبة، ناشرًا تعاليمه بواسطة
الأغاني والموسيقى، ثم قفل عائدًا إلى مصر وحكمها بالعدل والقسطاس.
٧ عند هذه النقطة ينتهي الطور الأول من حياة
أوزيريس ويبدأ الطور الثاني؛ ذلك أن هذه اليوتوبيا التي
صنعها هذا الإله لم تكن لتدوم طويلًا. لقد دخل الشر المسرح
الكوني ممثلًا بالإله سيت الأخ التوءم لأوزيريس. كان سيت يكن
لأخيه حسدًا وضغينة منذ البداية، ويعمل خفيةً على تخريب كل
ما يبنيه. وفي السنة الثامنة والعشرين من حكم أوزيريس، دبر
سيت له مكيدةً فقتله غيلة ووضع جسده في صندوقٍ خشبي ألقاه في
النيل الذي حمله إلى البحر. فتقوم زوجته إيزيس بالبحث عن
الصندوق في كل مكان، وتجده أخيرًا في مدينة جبيل الكنعانية
وتعود به إلى مصر حيث تخبئه مؤقتًا في مستنقعات الدلتا. يعرف
سيت بعودة الصندوق فيبحث عنه ويجده، ثم يمزق جسد أوزيريس إلى
أربع عشرة قطعة يوزعها في طول البلاد وعرضها. ولكن إيزيس
تهبُّ ثانيةً للبحث عن أجزاء زوجها فتجدها وتجمع بعضها إلى
بعض ثم تنفخ فيها الحياة. يُبعث أوزيريس من الموت ولكنه لا
يفضِّل البقاء في عالمٍ دب فيه الفساد، ويهبط مختارًا إلى
العالم الأسفل ليغدو حاكمًا هناك وقاضيًا يحاكم الموتى في
دنياهم الثانية، بينما يتابع ابنه حورس مقارعة عمه سيت،
ويستمر الصراع بين القوتين الكونيتين، قوة النور والخير وقوة
الظلام والشر.
في هذه الأسطورة المصرية، نقف مرةً أخرى أمام رؤية الإنسان
القديم للتاريخ باعتبارها تجليًا لفعاليات الآلهة في الزمن،
وللوضع الراهن للإنسان باعتباره نتاجًا لما باشرته القوى
الإلهية في الأزمنة الميثولوجية التي تلت الخلق والتكوين.
غير أن الميثولوجيا المصرية تضيف إلى هذه الرؤية للتاريخ
عنصرًا جديدًا لم نألفه في الميثولوجيا قاطبةً قبل ظهور
الزرادشتية؛ فالإنسان محكومٌ بصراعٍ كوني بين قوة الخير وقوة
الشر، انطلق عقب الخلق والتكوين وابتداء تاريخ الإنسان
والآلهة. وعلى الفرد أن يختار الوقوف إلى جانب إحدى هاتَين
القوتَين ويعبِّر من خلال سلوكه في الحياة عن خياره وموقفه.
وبما أن الإله الذي استهل تاريخ الإنسان ووضع الملامح العامة
لأصول التحضر البشري، هو نفسه الإله الذي تحوَّل إلى حاكم في
العالم الأسفل وقاضٍ يحاسب الموتى على ما قدَّموه في الحياة
الدنيا، ويقرر مصيرهم بين النعيم والجحيم، فإن التاريخ
بأكمله يغدو مجالًا لامتحان البشر في عالم الصراع الكوني
هذا، ويغدو الخلق والتكوين وصيرورة الزمن مجرد مقدمة للوقفة
الأخيرة التي يقفها الميت أمام الميزان المنصوب في قاعة
أوزيريس المدعوة بقاعة العدالة.
هذه الفكرة المصرية عن معنى التاريخ وغاياته، سوف تظهر
بأشكالٍ شتى في المعتقدات المشرقية ابتداءً من الزرادشتية في
القرن السابع قبل الميلاد، وما تلاها من الديانات المعروفة
تاريخيًّا باسم الديانات السماوية؛ فهنا لا يتوقف التاريخ
المقدس عند زمن الأصول وما يعقبه من تداخلاتٍ عرضية للمشيئة
الإلهية في حياة المجتمعات الإنسانية (الطوفان السومرية،
هلاك مدينة أور … إلخ)، بل ينسحب هذا التاريخ على كامل
صيرورة الزمن بدءًا من التكوين وانتهاءً بالقيامة الأخيرة،
التي تؤشر لنهاية الزمن وعودة الحيوانات إلى السرمدية التي
نشأت عنها.
ترسم الميثولوجيا التوراتية صورةً للسرمدية السابقة على
التكوين، أشبه بالصورة التي رسمتها الميثولوجيا المصرية،
عندما كانت روحًا بلا هوية أو شكلًا تحوم فوق المياه
الأزلية. ففي البدء لم يكن سوى لجَّة ماء وظلمة وروح الرب
يرف فوق سطح الغمر (التكوين ١: ١-٢). ثم تقرر الألوهة الخروج
من حالة الكمون هذه، فتُظهر نفسها من خلال خلق مظاهر الكون
الذي يكتمل في خمسة أيام. وفي اليوم السادس يقوم الإله، الذي
وعى نفسه الآن من خلال الكون الذي صدر عنه، يخلق الإنسان؛
ذلك أنَّ فعل الخلق نفسه، وظهور الكون عن الخالق، لا يكفي في
حد ذاته لكي يستكمل الإله الخالق إظهار نفسه. فلقد صار الآن
ذاتًا واعية، وهو في حاجةٍ إلى ذاتٍ واعية مثله؛ لأن الكون
بكل عظمته يبقى خلقًا أصمَّ، وليس بمقدوره أن يعكس عظمة
الخالق وحضوره في الزمن. أما الإنسان، فإنه المخلوق الوحيد
الذي يتمتع بالوعي، والذي بمقدوره أن يحس بذلك الحضور الفائق
للإله ويتملَّى عظمته. وهكذا ظهر الإنسان، وكان خلقه بمثابة
آخر الفعاليات المبدعة للألوهة في الزمن الكوزموغوني. وبعد
خلق الإنسان استراح الخالق في اليوم السابع الذي يقع على
الحد الفاصل بين الزمن الكوزموغوني والزمن التاريخي.
بعد ذلك تبدأ فعاليات الألوهة في زمن الأصول وبدايات
التاريخ. ونقرأ في الإصحاح ٢ من سِفر التكوين: «كل شجر
البرِّية لم يكن بعدُ في الأرض، وكل عشب البرِّية لم ينبت
بعدُ؛ لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان
إنسان ليعمل على الأرض. ثم كان ضباب يطلع ويسقي كل وجه الأرض
٨ … وغرس الرب الإله جنةً في عدن شرقًا ووضع هناك
آدم الذي جبله. وأنبت الرب الرب الإله من كل شجرةٍ شهية
للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة
الخير والشر.» يلي ذلك قصة خلق المرأة الأولى من ضلع آدم،
ووصيته لهما أن يأكلا من كل شجر الجنة إلا شجرة معرفة الخير
والشر. يليها قصة إغواء الحية لحواء بالأكل من ثمار الشجرة
وكيف أعطت آدم ليأكل منها أيضًا، وما تبع ذلك من خسرانهما
للجنة وطردهما إلى الأرض ليعملا فيها وذريتهما.
من قراءة قصة الأصول هذه نلاحظ كيف تم القفز فوق معظم
تفاصيل الأصول التي ركزت عليها الميثولولجيا المشرقية
السابقة في مقابل التركيز على أصلٍ واحد، هو: أصل الخطيئة؛
لأن التاريخ من وجهة نظر التوراة هو تاريخ للخطيئة بامتياز،
ويسير عبر النمط المتكرر التالي: خطيئة
← عقاب جماعي
رادع
← توبة
← خطيئة … إلخ.
إن كل ما يتلو خروج آدم وحواء من الجنة والدخول في زمن
الأرض، ليس إلا إبانة عن المشيئة الإلهية في التاريخ. فمن
قابيل وهابيل، إلى تكاثر الناس وتجمُّعهم في بابل وتشتيتهم
في بقاع الأرض، إلى الطوفان العظيم، إلى اختيار الإله لشعبه
الخاص، ومسيرة هذا الشعب عبر كل المصائب والمحن التي أحاقت
به بسبب خطاياه، وصولًا إلى دمار الهيكل الأول، وما تلاه من
سبيٍ فعودة فدمارٍ ثانٍ، جميعها فصول في ميثولوجيا توراتية
تفصح عن مقاصد الإله في حياة الناس. ويتخذ كل حدث فيها معناه
ومغزاه من هذه الصلة التي لا تنفصم مع الإرادة الإلهية. من
هنا، فإن ميثولوجيا الأصول هنا، ليست وقفًا على الإصحاحات
الأولى من سِفر التكوين، بل تنسحب على فصول الكتاب جميعها،
والذي يمكن اعتباره بحقٍّ كتابًا في ميثولوجيا الأصول،
ومثالًا على التاريخ المقدس بامتياز. إن قارئ التوراة المطلع
على تاريخ منطقة الشرق القديم، يلاحظ بسهولةٍ تامةٍ كيف
تجاهل محررو الأسفار التوراتية تاريخ هذه المنطقة برمته، ولم
يركزوا إلا على تلك السلسلة من الأحداث التي قادت إلى تشكيل
مملكة داود وسليمان (التي نعرف الآن بشكلٍ مؤكد أنها لم توجد
في يومٍ من الأيام)،
٩ ثم إلى انهيارها، فإلى قيام مملكتَي إسرائيل
ويهوذا؛ فالسبي الآشوري والبابلي؛ فالعودة من أجل انتظار
المسيح، ملك اليهود الأرضي الذي سيمهد الطريق لحلول مملكة
الرب التي يديرها الإله بشكلٍ مباشر.
هذه السلسلة من الأحداث لا تتخذ معناها من خلال السياقات
الحقيقية لتاريخ المنطقة، ولا من خلال علاقة النتائج
بأسبابها الفعلية، بل من خلال سلسلة من السياقات الميثولوجية
القائمة على تداخل المشيئة العلوية في التاريخ. إن ما يُدعى
بالتاريخ التوراتي ليس في حقيقة الأمر إلا مجموعة فصول في
ميثولوجيا توراتية، تبدأ بالتكوين وخطيئة الإنسان الأولى،
وتنتهي بقيام ملكوت الرب على الأرض.
وفي المعتقدات الإسلامية نستطيع تتبع مراحل التاريخ المقدس
في كتاب الله وسنَّة رسوله. لدينا حديثٌ شريف يعبر أبلغ
تعبيرٍ عن حالة الكمون التي كانت عليها الألوهة قبل أن تتجلى
من خلال فعل الخلق؛ فقد سئل رسول الله
ﷺ: «أين كان
الله قبل أن يخلق خلقه؟ فأجاب: كان في عماء، ما فوقه هواء
وما تحته هواء، وخلق عرشه على الماء.»
١٠ والعماء في اللغة هو الغيم الرقيق الأبيض. وهذه
الألوهة المتسربلة بالسرمدية، قد أعلنت عن نفسها وتجلَّت من
خلال فعل التكوين الذي جعلها حاضرةً ومعروفة في وعي المخلوق.
نقرأ في حديثٍ شريف قدسي: «كنت كنزًا مخفيًّا لا أُعرف.
فخلقت الخلق، فبه عرفوني.»
١١
ولدينا آية كريمة تشرح الأحوال الثلاثة المتعاقبة للألوهة،
من السرمدية إلى الزمن الكوزموغوني إلى التاريخ. نقرأ في
سورة هود ٧: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا. فمنذ الأزل، لم يكن سوى الذات
الإلهية والماء المخلوق. ثم خلق الله السموات والأرض في ستة
أيام. وبعد الخلق يبدأ التاريخ، وهدفه زج الإنسان في
الامتحان الكبير بين الخير والشر لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، في
انتظار نهاية الزمن، يوم القيامة الذي يشهد تدمير الكون
وحشْر الناس جميعًا إلى ربهم من أجل الحساب. لقد خلق الله
الإنسان ووهبه الحرية في الاختيار بين الخير والشر، اللذَين
تمايزا بعد عصيان إبليس وخطيئة آدم: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّاهَا (الشمس: ٧–١٠). من هنا فإن
حركة التاريخ تدور حول محورٍ قوامه: الرحمن والإنسان
والشيطان، فكلما طغى الشيطان قومًا فزاغت قلوبهم عن معرفة
الله وعبادته، جاءهم نذيرٌ من عند ربهم يردهم إلى جادة
الصواب. ويتتابع تاريخ الإنسان بكامله وفق نمط متكرر: هداية
← غواية
← رسالة سماوية
← هداية … إلخ.
وقد يتبع الرسالة السماوية في حال استمرارهم العصيان عقاب
سماوي عاجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: ١٥)، وَكَم مِن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ
قَائِلُونَ (الأعراف: ٤)، وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا
مُنْذِرُونَ (الشعراء: ٢٠٨)، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا
ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا
(الكهف: ٥٩).
ورغم أن القرآن الكريم قد سرد أحداث الماضي، منذ الخليقة
إلى البعثة المحمدية، دون أن يضعها في سياق كرونولوجي، حيث
بقي القصص القرآني معلقًا في فضاءٍ تاريخيٍّ وجغرافيٍّ تام.
١٢ إلا أن وجهة النظر القرآنية في التاريخ واضحة كل
الوضوح. إنه صيرورة تدفعها رحمة الخالق الذي جعل الإنسان
حرًّا في اختيار مصيره، ولكنه بقي في الوقت ذاته حريصًا على
هدايته وحسن آخرته:
يَا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِن رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (يس: ٣٠)،
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك: ٢).
تعطف هذه الآية الكريمة الأخيرة على سابقتها التي تقول:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا؛ فالتاريخ الذي ابتدأ بالخلق
والتكوين وظهور الموت وتمايز الخير والشر، يسير في اتجاهٍ
خطِّيٍّ حثيث نحو نهايته في يوم القيامة والحساب، وهدفه
اختبار الإنسان ومعرفة مدى التزامه بالمهمة الموكلة إليه على
الأرض كخليفة للخالق. وليس الحساب إلا إعادة للتوازن الذي
أخلَّ به البشر عبر التاريخ من خلال أفعال الإنسان الخبيثة.
غير أن ما يميز هذا التاريخ المقدس الذي يشف عن مقاصد
المشيئة الإلهية في عالم البشر، عن مثله في المعتقد
التوراتي، هو أن مسرح المشيئة الإلهية لم يعد مقتصرًا على
شعبٍ مختار واحد، وإنما اتسع ليشمل الإنسانية جمعاء. ومعرفة
هذا التاريخ هي نوعٌ من العظة، تساعد الأفراد والجماعات على
التوافق مع أهدافه وغاياته.
وفي المسيحية، تتخذ واقعة التجسد، تجسد الألوهة في التاريخ
من خلال يسوع ابن الإنسان، مكان البؤرة في تاريخ الكون
وتاريخ البشرية. وانطلاقًا من هذه الواقعة تجري قراءة
التاريخ صعودًا نحو الخلق والتكوين وهبوطًا نحو نهاية
العالم. وسوف أقدِّم فيما يأتي لمحةً موجزة عن هذا التاريخ
المقدس، كما رسمه آباء الكنيسة في العصور الوسطى، اعتمادًا
على الإشارات المتفرقة في الأناجيل وفي كتابات الرسل. إن مَن
يقرأ أعمال أولئك الآباء المؤسسين، من أمثال القديس أوغسطين
وتوما الإكويني وديونيسيوس، يلاحظ إلى أي حدٍّ كان الفكر
المسيحي في العصور الوسطى يتجاهل (أو لعله لم يكن يعرف) كل
ما يقع خارج هذا التاريخ المقدس من أحداث العالم.
ففي البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله. الله كان
الكلمة. به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان — على ما
نقرأ في مطلع إنجيل يوحنا.
في غياهب السرمدية، كانت الألوهة منكفئة على ذاتها،
ومنطوية على ثلاثة كياناتٍ إلهية، هي الأب والابن والروح
القدس. وبقدر ما كانت هذه الكيانات مستقلة بعضها عن بعض،
بقدر ما كانت متحدة في الجوهر مشكِّلة كلًّا لا ينفصم هو
الإله السرمدي الواحد. ومنذ الأزل كان الابن يتولد على
الدوام من الأب، والروح القدس يصدر عن كليهما. وكان الابن
موضوع حب الأب، والروح القدس هو الحب الذي يسري بين القطبين
مغلقًا دارة الألوهة المكتملة المكتفية.
١٣ ورغم أن الله في تناغمه السرمدي هذا كان في غنى
عن خَلق كل ما سواه؛ إلا أن دارة الحب المنكفئة على ذاتها قد
فاضت، حتى جاء وقت قرر فيه الله أن يُظهر إلى الوجود أول
أشكال خلقه، فصدر أمر الكلمة، ونشأ عن أمر الكلمة صنف من
المخلوقات الخالدة هم الملائكة. توضَّعت هذه المخلوقات في
أفلاك حول الذات الإلهية، كنقاط ضوء تعكس أشكالًا لا حصر لها
من ذلك الإشعاع المركزي الذي وهبها الحياة.
١٤ ومنذ البداية، أوكلت لهؤلاء الملائكة مهمة
مزدوجة؛ الأولى هي التنعم بمجد الخالق، والثانية هي التوسط
بينه وبين الكون المخلوق الذي سيظهر بعدهم إلى الوجود.
١٥
ولقد جاء الملائكة إلى الوجود ككائناتٍ حرة الإرادة؛ لأنه
بدون الحرية لم يكن لهؤلاء أن ينجزوا مهمتهم التي خُلقوا
لها، وهي المقدرة على الحب؛ فالحب الذي هو جوهر الألوهة لا
معنى له إذا لم يوهب عن حريةٍ وعن اختيار. وقد كان الله على
علمٍ أكيد بكل ما تنطوي عليه هذه الحرية من مخاطر؛ لأن
الكائن الحر في أن يحب هو حرٌّ أيضًا في أن يكره، وما من
شيءٍ يضمن الكيفية التي ستُستخدم بها حريته. وأكثر من ذلك،
فقد كان الله على علمٍ أيضًا بأن نعمة الحرية هذه سوف تُستغل
من قِبل البعض في العصيان وفي مخالفة المشيئة الإلهية، ولكن
الغاية الأخيرة المزروعة في صلب مخطط الخلق، كانت على درجةٍ
من الروعة تجعل مثل هذه المخاطر مسوغة. وهكذا كان. فمن بين
الملائكة المقربين في الفلك الأول، ظهر ملاك استخدم حريته في
التمرد والعصيان، وأحدث شرخًا في ذلك الكمال البدئي.
كان اسم ذلك الملاك لوسيفر. والاسم يعني ناشر الضياء. وكان
الأكثر جمالًا وبهاءً بين رهط الملائكة وذروة في كمال صنعة
الخالق. أمعن لوسيفر النظر إلى قلب الثالوث المقدس، وأخذ
يشارك الألوهة معرفتها للمستقبل، ثم رأى ما أدهشه وسبَّب له
صدمةً كبيرة، رأى أن الله كان يعد مكانًا أعلى منزلةً
لمخلوقٍ جديد مصنوع من جسدٍ مادي، وأن هذا المخلوق سوف يفوقه
في سلَّم المراتب السماوية. وأكثر من ذلك، فإن امرأة ستغدو
ملكةً عليه وعلى بقية الملائكة (أي السيدة مريم بعد صعودها
إلى السماء)، وأن الإله الابن سوف يحل في جسدٍ بشري من جنس
هذا المخلوق الجديد. عند ذلك، وبدافعٍ من حريته الكاملة، قرر
تفضيل مجده الملائكي على الغاية الإلهية، والعصيان على تقديم
الطاعة لمَن هو أدنى منه مرتبةً، وذلك رغم علمه بما سيجرُّه
عليه هذا العصيان من لعنةٍ أبدية. أعلن لوسيفر تمرده، ووقف
إلى جانبه وتبعه آلاف من الملائكة الآخرين،
١٦ بعد أن نقل إليهم ما عرف من أمور المستقبل،
وتولوا مديرين وجوههم عن بؤرة النور الأعظم، فقادهم إلى تخوم
الظلمة التحتية التي تترامى فوق العدم، حيث تحوَّل لوسيفر
إلى إبليس وأتباعه من الملائكة الساقطين إلى شياطين. ثم رسم
إبليس له ولهم مهمتهم المقبلة وهي معاكسة عمل الخالق وتخريب
ما هو صالح، وعلى وجه الخصوص إفساد الإنسان الذي كان عليهم
في الأصل إجلاله وتقديره.
بعد ذلك، تستمر خطة الخلق انطلاقًا من الماء، وهو أول ظهور
مادي غير متمايز. فمن الماء صنع الله السماء والأرض وبقية
مظاهر الكون والطبيعة في ستة أيام انتهت بخلق الإنسان.
١٧ أخذ الخالق حفنةً من تراب الأرض وصنع منها آدم
على صورته ثم نفخ في أنفه نسمة الحياة، فجاء نموذجًا للإنسان
الكامل الذي أراده خالقه. وقد وهبه الله حرية الإرادة مثلما
وهبها للملائكة من قبله، وجعله سيدًا على الأرض وعلى
مخلوقاتها جميعها. وجاء إليه بكل ما يدب على الأرض أو يطير
في السماء أو يسبح في الماء، فعرضها أمامه صنفًا صنفًا فأعطى
آدم لكل صنفٍ اسمه.
١٨ وبما أن آدم كان خليفة الله على الأرض، فقد غرس
من أجله في الأرض جنةً تُناظر الجنة السماوية، وفجَّر فيها
نهرًا ينقسم إلى أربعة فروع، وأنبت في وسطها شجرة الحياة
وشجرة معرفة الخير والشر. ثم خلق الله المرأة من ضلع آدم
لتكون له رفيقًا، وأمرهما أن يأكلا من شجر الجنة جميعه ولا
يقربا شجرة المعرفة؛ لأنهما إن أكلا منها سيلحقهما الموت
عاجلًا أم آجلًا، ولكن الإنسان استعمل حريته في معصية خالقه،
مثلما فعل لوسيفر والملائكة الساقطون من قبله، وأكل من
الشجرة المحرمة بتحريضٍ من إبليس الذي تسلل إلى الجنة في
هيئة حية، فكان عقابه الطرد من الجنة إلى الأرض القاحلة
ليعمل فيها ويكد من أجل لقمته. ومنذ ذلك الوقت ظهر الألم
والمرض ودخل الموت في نسيج الحياة، بسبب خطيئة الإنسان
الأصلية.
لقد كان الله على علمٍ منذ البداية أن الحرية التي مُنحت
للوسيفر وللإنسان، سوف تُستخدم في المعصية التي تزرع بذرة
الفساد في صميم الخلق. من هنا فقد أضمر الله منذ البداية
أيضًا خطةً لتصحيح ذلك كله، من شأنها تقديم الخلاص للإنسان
وللعالم. لقد قرر أن يتجسد في الوقت المناسب في العالم
المادي كأحد مخلوقاته، ويدخل في دورة الحياة والموت التي
صنعها بنفسه؛ لكي يقدم للعالم خلاصًا ويحرره من اللعنة
القديمة. وهكذا تجسدت الألوهة في زمن الناس، وهبط الإله
الابن من السماء فعاش على الأرض ردحًا في جسد يسوع الناصري
المولود من السيدة العذراء، وكابد شقاء البشر وتعرَّض للعذاب
الذي انتهى بالموت على الصليب؛ وبذلك افتدت الذبيحة الإلهية،
وهي القربان الكامل، الإنسان، وفتحت أمامه باب الخلاص
والدخول إلى الأبدية. من هنا، كانت واقعة التجسد مركز
التاريخ؛ تاريخ الكون وتاريخ الإنسان.
خلال الفترة التي جرى خلالها تشكيل وبلورة اللاهوت المسيحي
على يد آباء الكنيسة، وخصوصًا فيما بين القرن الثامن والقرن
الرابع عشر الميلادي، كانت قراءة التاريخ بالنسبة للفكر
الغربي تعني فقط التأمل في رمزية هذه الرواية المقدسة.
وانطلاقًا من هذا الموقف الفكري، فقد جرت قراءة كتاب التوراة
(الذي صار الآن يدعى بالعهد القديم) بشكلٍ معكوس؛ أي ابتداءً
من قدوم المسيح، واعتُبرت كل أحداثه بمثابة صور مسبقة
ونبوءات لما تلاها، فقصة الخلق وسقوط الإنسان لم تُقرأ على
ضوء مضامينها الميثولوجية، بل على ضوء اللاهوت المتطور
لعقيدة التثليث، ولمبادئ الخلق والتكوين التي رسمها كبار
اللاهوتيين. أما بقية المفاصل الرئيسية في الرواية التوراتية
فقد وُضعت في تقابلٍ وتناظر مع أحداث العهد الجديد،
باعتبارها ممهدة ومفسرة لها. فشجرة المعرفة تقف في تقابلٍ مع
شجرة الصليب. ويسوع هو آدم الثاني الذي به يحيا الجميع، في
مقابل آدم الأول الذي به مات الجميع. ومريم العذراء هي حواء
الثانية التي حملت بثمرة البقاء، مقابل حواء الأولى التي
حملت بثمرة الفناء. وحادثة الخروج من مصر التي حملت خلاصًا
أرضيًّا لشعب إسرائيل، تقابل حادثة بعث المسيح الذي حمل
خلاصًا روحيًّا للإنسانية. وتضحية إبراهيم بابنه إسحاق وقبول
هذا لها، تقابل تضحية الإله الأب بابنه وقبول هذا لها.
ومملكة داود وسليمان التي تشكِّل ذروة الرواية التوراتية،
تقابل ملكوت الرب المقبل الذي سيحققه السيد المسيح في نهاية
الأزمان … إلخ.
انطلاقًا من هذه الرؤية إلى التاريخ، لم يكن الفكر الغربي
المسيحي ينظر إلى الأحداث السابقة على المسيحية، إلا
باعتبارها فترةً مظلمة لم يعرف الناس خلالها الله إلا من
خلال ظلال قاتمة لا تعكس مجده الحقيقي، بما في ذلك كامل
المدة التي تغطيها أحداث العهد القديم؛ فالتاريخ يبدأ بآدم،
ثم يبدأ بداية أخرى جديدة بالمسيح. وليس الزمن الفاصل بين
هاتَين البدايتَين إلا عصر جاهلية إنسانية، حيث كانت البشرية
تنتظر المخلص. لقد عكس قدوم المخلص مبدأ السبب والنتيجة في
الصيرورة التاريخية. فبدلًا من أن يُقرأ الحاضر على ضوء
الماضي باعتباره نتيجة منطقية له، صارح الحاضر (أي تجسد
المسيح) سببًا لكل الأحداث الماضية التي صارت تُفهم على
ضوئه.
نعود الآن من هذه الجولة التي استعرضنا خلالها عددًا من
نماذج التاريخ المقدس، لنقول بأن كل ما سقناه أعلاه، يشير
إلى رغبة الإنسان القديم في الاحتفاظ بنوعٍ من الذاكرة
الجمعية التي تعطي وجوده في هذا العالم امتلاءً ومعنى. فهذه
الفترة القصيرة التي يحياها الفرد أو الجيل ليست معلقةً في
الفراغ، بل إنها نقطةٌ في سياق طويل ذي مغزى حفظته الأساطير؛
فالأسطورة تزود الإنسان بذاكرةٍ تاريخية تعطيه إحساسًا بوجود
مسوِّغ لحياته، وبدون هذه الذاكرة يصير الإنسان إلى حالة
أشبه بالموت؛ لأن نسيان الماضي هو نوعٌ من أنواع الموت؛
فالموت نسيان، والموتى الهابطون إلى العالم الأسفل، في
الميثولوجيا الإغريقية، يشربون في طريقهم من نبع النسيان لكي
يقضوا حياة الآخرة بدون ذاكرة؛ أي بدون تاريخ. غير أن ما
يفرق الذاكرة الجمعية الأسطورية عن الذاكرة الجمعية الأخرى
التي يصنعها علم التاريخ، هو محتوى كل منهما (كما ألمحنا إلى
ذلك في البداية)؛ فالتاريخ الأسطوري لا يحفل بغير الأحداث
الناجمة عن تداخل عالم الآلهة بعالم البشر، وهو يغفل الأحداث
الدنيوية العادية ولا يرى فيها ما يستحق العناية بجمعها
وحفظها وتذكرها. فإذا قُيِّض لحادثةٍ ما أو شخصيةٍ ما أن
تخلد في الذاكرة، فإن ذلك لن يتأتَّى إلا عن طريق أسطرتها،
وارتفاعها من مستوى الواقع إلى مستوى الحدث الميثولوجي.
فملوك المدن الإغريقية القدماء من أمثال يوليسيس وآغاممنون
ومينيلاوس، وأبطالها الخالدون من أمثال أخيل ويوليسيس، لم
تصل أخبارهم أسماع الإغريق إلا بعد إلباسهم حلة ميثولوجية
أصيلة. ومن بين جميع ملوك سومر القدماء، لم تحتفظ الذاكرة
الشعبية إلا بسيرة جلجامش ملك مدينة أوروك، الذي خلد من خلال
الأسطورة لا من خلال التاريخ، ومثله الملك سيف بن ذي يزن عند
عرب ما قبل الإسلام، والملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة
لدى الأنكلوساكسون.
إن الأشخاص التاريخيين والأحداث التاريخية بشكلٍ عام، لا
ترسخ في الذاكرة الجمعية للإنسان القديم إلا لفترةٍ وجيزة من
الزمن، لا تلبث بعدها أن تتلاشى أو يتغير وجهها بفعل
الأسطورة. ففي دراستنا لنص دمار مدينة أور السومرية (انظر
فصل الأسطورة والمعنى)، رأينا كيف تم انتزاع هذه الحادثة من
سياقها التاريخي ومن جملة ترابطاتها الواقعية، ونقلت إلى
المستوى الميثولوجي؛ فالنص لم يذكر أية معلومات عن هوية
الجيش الغازي، ولا عن المقدمات التاريخية التي قادت إلى حصار
المدينة واستباحتها، بل اكتفى بوصف الدمار الذي حل بالمدينة،
والمحاولات اليائسة التي قامت بها إلهة المدينة وإلهها من
أجل إقناع مجمع الآلهة بالتراجع عن قرارهم في تدمير أور.
وينطلق محررو التوراة من الموقف الفكري نفسه، عندما يصفون
دمار أورشليم وترحيل أهلها إلى بابل، تاركين القارئ في جهلٍ
تام بالظروف والملابسات التاريخية التي أدت إلى حصار المدينة
وتدميرها؛ لأن هذه المصيبة قد حلت بقرارٍ إلهي من الرب
عقوبةً على آثام يهوذا وعصيانهم. والحادثة برمتها ليست موضع
تأمُّل تاريخي بل تأمُّل ديني. وبما أن هذه المدينة لن تعود
إلى سابق عهدها أبدًا، فإن الرؤى المسيحية اللاحقة تختتم
الأسطورة بنزول أورشليم جديدة من السماء لتتحقق على الأرض.
نقرأ في رؤيا يوحنا ٢١: ٢ «وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة،
أورشليم الجديدة، نازلةً من السماء من عند الرب، مهيأةً
كالعروس المزينة لرجُلها.»
إن عناية الإنسان القديم بالتاريخ المقدس وتجاهله للتاريخ
الدنيوي، قد دفعه إلى تجاهل دوره تمامًا في حركة التاريخ،
فهو يعزو إلى الآلهة كل المنجزات الحضارية والابتكارات
التكنولوجية التي قادت عملية الارتقاء والتقدم؛ فالإله لا
الإنسان كان أول فلاح وأول راعٍ، وأول من حلب البقر وصنع
الزبدة والجبن، وأول من طحن وخبز الخبز، وأول من صنع
المحراث. نقرأ في نصٍّ سومري يحكي عن أصل الحبوب وأصل تأهيل
الماشية، فيرجعها إلى الإله لهار الذي كان أول مَن ربَّى
الماشية، وأخته أشنان التي كانت أول مَن زرع الحبوب:
في تلك الأيام، إنكي قال لإنليل:
«أي أبتِ إنليل، لهار وأشنان،
اللذان جرى خلقهما في الدولكوج (بيت
الخلق)،
دعنا ننزل بهما من الدولكوج.»
وهكذا، تنفيذًا لكلمة إنكي وإنليل المقدسة،
هبط لهار وأشنان من الدولكوج.
من أجل لهار أقام إنليل وإنكي حظيرة،
وقدَّما له علفًا، عشبًا ونباتًا و…
ومن أجل أشنان بنيا بيتًا،
وقدَّما لها المحراث والنير،
فأقام لهار في حظيرته،
راعيًا تدفق الخيرات من بين يديه.
ووقفت أشنان في الحقل بين محاصيلها.
من خيرات السماء أنتج لهار وأشنان،
وإلى مجمع الآلهة قدَّما خيراتهما،
وإلى الأرض وهبا نسمة الحياة.
١٩
•••
إنليل الذي قام بإبعاد السماء عن الأرض،
وقام بإبعاد الأرض عن السماء،
فجعل هنالك مجالًا ترتع فيه المخلوقات،
في (نيبور)، عماد السماء والأرض، قام ﺑ …
وأخرج المعول إلى الوجود؛ وبذلك حلَّ
اليوم،
الذي فرض فيه العمل وقرر المصائر،
وعلى المعول والسلة أسبغ القوة.
بعد ذلك يصنع إنليل قالبًا يقوم الآلهة
باستخدامه من أجل خلق الإنسان، وتمتلئ بلاد سومر بالناس،
فيقدم لهم إنليل المعول ليستخدموه في أعمال البناء والعمران.
٢٠
وإضافة إلى جهل الإنسان القديم بأصول ابتكاراته
التكنولوجية، فقد كان جاهلًا بأصل مؤسساته وقوانينه
وتشريعاته؛ فهذه جميعًا قد جاءت من السماء وابتدرتها الآلهة
من أجله. وأكثر من ذلك، فإنه لم يكن يعرف الكثير عن أصل
وتطور ونمو المدن التي شيدها أسلافه الأولون، وكان يعتقد أن
مدنه التي يسكنها قد بنتها الآلهة في سالف الأزمان وسكنت
فيها قبل أن يسكن البشر، وبنت لأنفسها هناك بيوتًا وقصورًا
ومعابد. إن الإشارات الموجودة في النصوص الميثولوجية
المشرقية حول هذا الموضوع أكثر من أن تُحصى. فمدينة نيبور
التي بناها الإله إنليل في مطلع عصر الأسرات هي «صنعة يد
الآلهة»، على حد تعبير نص ملحمة جلجامش في لوحها الأول.
وبابل العظيمة بمعابدها التي تناطح أبراجها السحاب قد بناها
الإله مردوخ، على ما تنقله إلينا أسطورة التكوين البابلية في
لوحها السادس. ومدينة إيريدو، أول وأقدم المدن في وادي
الرافدين، قد بناها الإله إنكي بيتًا لسكنه. نقرأ في أسطورةٍ
سومرية حول هذا الموضوع:
بعد أن تفرقت مياه التكوين،
بعد أن ظهر اسم البركة في السماء،
بعد أن غطت الأعشاب والنباتات وجه الأرض،
رَب الأعماق، الملك إنكي،
إنكي، الرب الذي يقرر المصائر،
بنى بيته من فضةٍ ولازورد.
بعد ذلك يتوجه إنكي إلى نيبور مدينة إنليل،
ليحصل هناك على بركات أبيه. وبعد أن يتلقى إنليل هدايا ابنه،
يقف بين الإلهة ويشيد بمدينة إنكي:
قال إنليل لآلهة الأنوناكي:
أيها الآلهة الواقفون من حولنا،
لقد بنى ابني بيتًا، الملك إنكي بنى إريدو،
وكجبلٍ رفعها فوق الأرض،
وفي مكانٍ طيب أقامها.
أيريدو، المكان الطاهر الذي لا يدخله أحد،
قد بنيت بفضةٍ وزينت بلازورد،
وبيته في عهده القيثارات السبع، قد كُرس للتراتيل.
٢١
فإذا كان للإنسان بعد ذلك أن يباشر بنفسه أي
فعل خلاق، فإن الفعل يسير على غرار فعل سابق مشابه قامت به
الآلهة. وهو إذ يبني معبدًا أو سورًا أو مدينة، فإنما يفعل
ذلك وفق صورة مسبقة رسمتها الكائنات العليا؛ فالملك غوديا
السومري قد بنى معبد المدينة في لجش وفق تصميم مرسوم على لوح
أطلعته عليه الإلهة نيدابا في الحلم. وعندما قام الملك
الآشوري ببناء مدينة نينوى، فعل ذلك وفق الخطة المرسومة في
هيئة القبة السماوية منذ الأزمنة السحيقة.
٢٢ وفي كتاب التوراة يقوم الرب بإطلاع موسى على
صورة المسكن المؤقت الذي سوف يصنعه له: «فيصنعون له مقدسًا
فأسكن بينهم، بحسب جميع ما أنا مُريك من شكل السكن وشكل جميع
آنيته، كذلك فاصنعوا لي» (الخروج ٢٥: ٨-٩). وبعد ذلك يتلقى
داود تعليماتٍ مفصلةً عن تصميم هيكل أورشليم مكتوبة بيد
الرب، ثم ينقلها لابنه سليمان الذي شرع بعد ذلك ببنائه (سِفر
الحكمة ٩: ٨)، وقبل أن تُبنى مدينة أورشليم بيد الإنسان، كان
هنالك أورشليم سماوية من صنع الله، وهي التي تكرر ذكرها في
أسفار الأنبياء، مثل سِفر طوبيا ٨: ١٦، وإشعيا ٥٩: ١١،
وحزقيال ٦٠، وهي التي رآها يوحنا نازلةً من السماء كالعروس
المزيَّنة لرجُلها، في المقطع الذي أوردناه أعلاه من رؤيا
يوحنا.
انطلاقًا من هذا الموقف الفكري نفسه، يعزو الإغريق كل
إبداع أدبي وفني يصدر عن الإنسان إلى ربات الفنون والموسيقى
اللواتي يلهمن الشُّعراء والرسامين والنحاتين، كما يعزو عرب
الجاهلية كل إلهامٍ شِعري إلى مصدرٍ ماورائي يتمثل عندهم
بجنِّيَّات وادي عبقر. ومن هنا جاءت كلمة «عبقري» التي تدل
على الإنسان الفائق الإبداع، والمتواصل مع منبع الحكمة
الخفي. وما زلنا إلى يوم الناس هذا نعزو كل إبداعٍ إنساني
إلى «إلهامٍ» يأتي من خارج الإنسان ولا ينبع من داخله. وهذه
بقية من تلك التركة الميثولوجية التي لا تنظر إلى الإنسان
باعتباره صانعًا لماضيه وحاضره، بل باعتباره أداةً لتنفيذ
الخطط الإلهية.
هذا التجاهل لحقيقةِ ما جرى في الماضي، واستبداله بتاريخٍ
مقدس تكشف عنه الأساطير، قد جعل الإنسان القديم خارج
الصيرورة التاريخية، وبدون ذاكرةٍ دنيوية ذات محتوًى له
معنًى ومغزى. ولا أعني هنا، أن المجتمعات القديمة لم تحتفظ
على الإطلاق بذاكرةٍ دنيوية وإنما أعني بالدرجة الأولى أن
هذه الذاكرة الدنيوية في حال وجودها، لم تلعب دورًا في
مساعدة الإنسان على فهم حاضره باعتباره نتاجًا صرفًا لأفعاله
ومنجزاته الماضيات؛ فالعبرة هنا ليست بما نحفظه عن الماضي،
بل في المعنى الذي نسبغه على ذلك الماضي وفي القيمة التي
نعطيها له. وليس المهم هو ما نسجله من الأخبار السالفة أو ما
نتذكره من إنجازات الجماعات والأفراد، بل اعتقادنا بأثر ما
نسجله أو نتذكره على صيرورة التاريخ، وبمدى فعالية المجهود
الإنساني كمحركٍ للتاريخ، وبتعبيرٍ آخر: كيف ننظر إلى
التاريخ الدنيوي في مقابل التاريخ المقدس.
لقد ابتدأت الكتابة التاريخية كجنسٍ مستقل عن الأسطورة،
عندما لم يعد الإنسان القديم يرى في الأحداث الماضية، أو
الأحداث الحاضرة، تداخلًا ماورائيًّا من أي نوع. عند ذلك بدأ
التاريخ يتجرد من قدسيته، وأخذ الإنسان يبحث في الأسباب
والنتائج من خلال روابطها وصِلاتها الدنيوية الواقعية، ووُلد
علم التاريخ الذي حل محل الأسطورة في صنع الذاكرة الجمعية،
وقاد إلى تعريف الإنسان بدوره الأساسي في صنع نفسه، وبأهمية
نشاطه الخلاق على حركة التاريخ. ورغم أن هذه القفزة قد جاءت
كنتيجةٍ من نتائج صراع الفلسفة مع الأسطورة في الثقافة
الإغريقية، وما نجم عن ذلك من ظهور المؤرخين الإغريق
الأوائل؛ إلا أن المقدمات البعيدة لنشوء الكتابة التاريخية
قد أنجزتها ثقافة الشرق القديم. فمنذ أواسط الألف الثالث قبل
الميلاد، كانت الممالك السورية والرافدية تحتفظ بأرشيفٍ ملكي
متنوع الموضوعات، ويحتوي على عددٍ لا بأس به من الوثائق التي
تعطي صورةً عن الأحداث الجارية، وعلى بعض الوثائق التي يمكن
اعتبارها بحق نموذجًا جنينيًّا للكتابة التاريخية. من هذه
الوثائق لدينا نصٌّ يغطي فترةً طويلة من التاريخ البابلي
تُقدر بحوالي سبعة قرون، تبدأ بصعود صارغون الأكادي (حوالي
عام ٢٣٠٠ق.م.)، وتنتهي بقدوم الكاشيين الذين أنهوا حكم أسرة
حمورابي في بابل. وهذه ترجمتي للنص عن الباحث
Leo Oppenheim:
صارغون، ملك أكاد، صعد على العرش في عهد عشتار،
٢٣ ولم يكن له منافسٌ أو معارض، فنشر هيبته
المرعبة فوق كل البلاد. عبر البحر في الشرق، وقهر
بلاد الغرب بكاملها، وفي السنة الحادية عشرة من
حُكمه جعلها لسانًا واحدًا، وأقام لنفسه نصبًا
تذكاريًّا هناك، ثم جلب جزية الأقطار عبر النهر على
الأطواف. أسكن موظفي بلاده حوله في مساحةٍ تبلغ خمسة
أميال مضاعفة، وسيطر على أرجاء البلاد بلا منازع.
حمل على بلاد كالازا فجعلها خرابًا وأطلالًا، ولم
يترك مكانًا يعشعش فيه الطير. في زمن شيخوخته قامت
المدن المحكومة بثورةٍ عليه، وضربت الجيوش حصارًا
حوله في أكاد، ولكن صارغون شنَّ هجومًا عليهم
مفاجئًا، فهزمهم وسحق جيوشهم الجرارة. ثم قامت ضده
بلاد سوربارنو بقضِّها وقضيضها، ولكنها ما لبثت أن
خضعت أمام جبروت قواته، فعمل على توطين قبائلها
الرُّحل في الأرض وجاء بممتلكاتهم إلى أكاد. بعد ذلك
عمد صارغون إلى إزاحة التربة عن أساسات مدينة بابل،
وبنى فوقها بابل أخرى قريبة من أكاد، فثار غضب الإله
العظيم مردوخ بسبب هذا التدنيس، وقضى على شعب صارغون
بالمجاعة مديرًا وجهه عنهم، وحرم صارغون من الراحة
في قبره.
نارام سن، ابن صارغون، حمل على مدينة أبيشال
فحاصرها ونقب سورها، ثم قبض بنفسه على ملكها وعلى
نبلائها، كما حمل على بلاد ماجان وقبض بنفسه على
ملكها.
شولجي، ابن أورنمو، أولى مدينة إيريدو الواقعة على
البحر عنايةً كبيرة، ولكنه أخذ ممتلكات بابل ومعبدها
ودنسها، فثار غضب الإله مردوخ وحكم على جثمانه
بالدنس.
إيرا إميتي، ملك إيسين، وضع البستاني بل أبني على
العرش كملكٍ بديل ووضع على رأسه التاج، ولكن الملك
مات في قصره وهو يتناول الطعام، فبقي البستاني على
العرض وجرى تنصيبه ملكًا.
٢٤
إيلي شامو، كان ملكًا على بلاد آشور في زمن سومر
آبو ملك بابل، حمورابي، ملك بابل، جمع جيشه وحمل على
رم سن ملك أور فقهره، ثم قهر بعدها مدينة لارسا وأخذ
ممتلكاتها إلى بابل … شمسو إيلونا، ابن حمورابي وملك
بابل، جمع جيشه وسار ضد رم سن، فقهر أور لارسا، وقبض
عليه حيًّا في قصره، ثم حمل على … وألقى الحصار
عليها … (فجوة واسعة في الرقيم)، غيليما إيلوم …
الماء … بنى … ولكن شمسو إيلونا حمل عليه … وملأت
جثثهم البحر. بعد ذلك، شن شمسو إيلونا حملةً أخرى
على إيليما إيلوم وشتت جيشه.
أبيشي، ابن شمسو إيلونا، قام … فكر في أن يحتجز
مياه الدجلة. نفذ خطته بوضع ردمٍ في النهر، ولكنه لم
يستطع القبض على إيليما إيلوم.
في أيام شمسو ديتينا، قامت بلاد حاتي بحملةٍ على
أكاد، إيا جميل، ملك بلاد البحر، قام بحملةٍ على
عيلام. وبعده، قام أولام بورياش أخو كاشتلياش ملك
الكاشيين بحملةٍ على بلاد البحر وقهرها. آغوم بن
كاشتلياش، دعا جيوشه وحمل على بلاد البحر فقهر
در-إيا، وهدم معبد إيا هناك.
٢٥
نلاحظ من قراءتنا لهذا النص، أن الكاتب لم يحاول تقديم
مسرد متكامل لتاريخ المنطقة خلال الفترة الزمنية التي يغطيها
النص، بل اختار بعض العلامات البارزة في ذلك التاريخ تاركًا
الكثير من الفجوات الزمنية الواسعة بينها. كما أنه لم يعمل
على تحليل الأحداث وفهمها في سياقاتها التاريخية الصحيحة،
ومن خلال علاقة الأسباب بالنتائج. وذلك إضافة إلى اعتماد
التفسيرات اللاهوتية في النظر إلى أسباب تفكك وانحلال الدول
والممالك. ومع ذلك، فإن أمثال هذا النص من نماذج الكتابة شبه
التاريخية، هي التي مهدت لجنس الكتابة التاريخية التي ظهرت
أولًا في اليونان ثم في أقطار الشرق القديم. فبعد هيرودتس
وتوسيديد وغيرهما ممن باشروا الكتابة في الغرب منذ مطلع
القرن الخامس قبل الميلاد، ونظروا إلى الأحداث الماضية
والحضارة في معزلٍ عن المعنى الديني. فقد ظهر في ثقافتنا
المشرقية أيضًا عددٌ من المؤلفين الذين باشروا نوعًا من
الكتابة التاريخية المستقلة عن الأسطورة إلى هذا الحد أو
ذاك. ومنهم بيروسوس (برغوشا) البابلي، وفيلو الجبيلي،
ومانيتو المصري، ولكن الكتابة التاريخية لم تتحول إلى علمٍ
مستقلٍّ تمامًا وملتزم بمناهج البحث والتقصي، إلا في الثقافة
الغربية الحديثة ابتداءً من القرن التاسع عشر. إن الذاكرة
الإنسانية تبعث اليوم على أوسع نطاقٍ ممكن، في محاولةٍ
جبَّارة تطمح إلى استعادة الماضي برمته: ماضي الثقافة وماضي
الحياة وماضي الكون، لمعرفة مَن نحن، ولماذا نحن على ما نحن
عليه الآن، وإلى أين نسير؟
غير أننا يجب أن نتذكر بأن هذا المشروع الإنساني الكبير
مَدين بأصوله إلى الأسطورة. وعندما نتذكر ذلك يجب أن نحذر؛
أن نحذر من الانبثاقات اللاواعية للأسطورة وتسربها إلى علم
التاريخ متسربلةً برداءٍ علمي يخفي معالمها الأصيلة. فرغم كل
المنطلقات العلمية التي تصدر عنها الكتابة التاريخية
الحديثة، فإن نوعًا من النزوع الأسطوري الخفي يبقى كامنًا
وراء عمل المؤرخين من جهة، ووراء فهم وتفسير قراء التاريخ
لما يقدم إليهم من مادة. ويتضح ذلك بشكلٍ جلي عندما يتم بعث
التاريخ القديم كجزءٍ من مشروعٍ قومي شامل، حيث يتحول الهوس
القومي إلى هوسٍ تاريخي، وبالعكس. ومثالنا على ذلك ما تم
إبان صعود الحركات القومية الحديثة شرقًا وغربًا، عندما كتب
التاريخ وجرى تفسيره انطلاقًا من الأوضاع الراهنة، وفي
عمليةٍ معكوسة؛ أي إن الماضي صار يُقرأ على ضوء الحاضر وليس
العكس. وهذا منطلقٌ ميثولوجي صِرف، أشرنا إلى بعض نماذجه في
موضعٍ آخر من هذا البحث. وتعبر هذه النزعة نفسها بطريقةٍ
خاصة لدى الأمم المستضعفة التي تحاول الاستناد إلى عصورها
الذهبية الخالية، من أجل استمداد العون على مواجهة أوضاعها
المتردية الراهنة، وتجاوز عقدة النقص وإحساس الاضطهاد
والعجز؛ ذلك أن قراءة التاريخ، شأنها في ذلك شأن الأسطورة،
ترمي الإنسان خارج اللحظة الراهنة لتضعه في زمنٍ حقيقي غير متخيل،
٢٦ يهبه القوة ويعطيه الإحساس بأنه سليل ذلك البطل
أو وريث تلك المرحلة الذهبية التي يؤمل استعادتها؛ وبذلك
يحيلنا التاريخ الدنيوي، مرةً أخرى إلى التاريخ المقدس وقد
أُلبس حلةً جديدة تليق بالعصر.
أخيرًا، هناك سؤالٌ يطرح نفسه عند هذه المرحلة الختامية من
بحثنا، هو: إلى أي حدٍّ يمكن للتاريخ المقدس أن يشفَّ عن
تاريخٍ دنيوي؟ وهل نستطيع تلمُّس حوادث تاريخية تحت المستوى
الظاهر للحوادث الأسطورية؟
لقد قلت في موضعٍ سابق من هذا البحث أن الأحداث والشخصيات
التاريخية لا تخلد في الذاكرة الشعبية إلا من خلال الأسطورة.
وهذا يعني أننا قادرون على تلمُّس أحداثٍ تاريخية وراء عملية
السرد الميثولوجي في العديد من النصوص الأسطورية، التي هدفت
من حيث الأساس إلى الانتقال بسلسلةٍ من الأحداث من مستوى
الواقع إلى مستوى الأسطورة. غير أن المعلومات التاريخية التي
نستطيع استخلاصها من الأسطورة، لا يمكن الركون إليها في
عملية إعادة بناء تاريخ ثقافةٍ ما إذا لم تجرِ مقاطعتها مع
المعلومات المستمدة من مصادرَ أخرى، كتابيةً كانت أم
أركيولوجية، وذلك وفق منهج علمي منضبط. ولكي أجعل هذه
المسألة واضحةً أمام القارئ، سوف أعمد إلى عرض واحدٍ من
النماذج الأسطورية المشرقية التي قادتني دراستها إلى اكتشاف
النواة التاريخية التي قامت عليها حبكتها الميثولوجية.
ونموذجنا هنا هو النص السومري المعروف لدى الباحثين بعنوان:
إنكي وإنانا، والذي أقدِّم ترجمتي الكاملة له فيما يأتي:
٢٧
(١) إنكي وإنانا – نقل تقاليد الحضارة إلى أوروك
في مطلع هذا النص، نجد الإلهة إنانا، المعبود الرئيسي
لمدينة أوروك في مستهل عصر السلالات الأولى (مطلع الألف
الثالث قبل الميلاد)، تستعد للسفر إلى موطن الإله إنكي
رب الأعماق المائية العذبة والمعبود الرئيسي لمدينة
إيريدو العريقة، والتي كانت المركز الرئيسي للثقافة
العبيدية السابقة على الثقافة السومرية في وادي الرافدين
الجنوبي:
إنانا وضعت على رأسها الشوجار، تاج
السهول،
ومضت إلى حظيرة الأغنام، جاءت إلى
الراعي،
هناك أسندت ظهرها إلى شجرة التفاح،
وعندما أسندت ظهرها برز فرجها بهجة
للناظرين،
فرحت إنانا بفرجها الرائع وأثنت على نفسها، ثم
قالت:
«أنا ملكة السموات، سوف أزور إله
الحكمة،
سوف أمضي إلى الأبسو، المكان المقدس
لإيريدو،
وأقدم فروض الاحترام لإله الحكمة في
إيريدو،
وأتلو صلاةً لإنكي عند أعماق الماء
العذب.»
ثم اتخذت إنانا طريقها وحيدةً.
أما هدف هذه الرحلة، كما يتضح بعد قليل،
فهو رغبة إنانا إلهة مدينة أوروك في الحصول على ألواح
نواميس الحضارة التي يحتكرها إنكي إله مدينة إيريدو منذ
القدم. وتدعو النصوص السومرية هذه النواميس باﻟ «مي–me»، ومَن امتلكها
من الشعوب حاز قصب السبق في ميدان الحضارة وانتقل من
البدائية إلى المدنية.
وعندما صارت على مقربةٍ من الأبسو،
ذاك الذي اتسعت أسماعه،
ذاك العليم باﻟ «مي»؛ نواميس السماء
والأرض،
ذاك الذي يطلع على أفئدة الآلهة،
إنكي؛ إله الحكمة الذي يعرف كل شيء.
نادى خادمه إيسموند:
«هلمَّ يا مُعيني، هلمَّ إليَّ،
إن الفتاة الشابة على وشك دخول الأبسو،
وعندما تلج إنانا إلى الهيكل المقدس،
قدِّم إليها كعك الزبدة لتأكل،
وصُبَّ لها ماءً باردًا ينعش قلبها،
قدِّم أمامها البيرة عند تمثال السبع،
عامِلْها كندٍّ لنا ولِدْ،
حيِّها عند المائدة المقدسة، مائدة
السماء.»
صدَع إيسموند بما أُمر به،
وعندما دخلت إنانا إلى الأبسو،
أعطاها كعك الزبدة لتأكلَ،
وصبَّ لها ماءً باردًا لتشرب،
وقدَّم أمامها البيرة عند تمثال السبع،
عاملها بما يليق بها،
وحياها عند المائدة المقدسة، مائدة
السماء.
بعد ذلك يأتي إنكي فيستقبل إنانا ويجلس
معها إلى المائدة يعاقران الخمر معًا. يُكثر إنكي من
الشراب الذي تحثه عليه إنانا على ما يبدو، وتلعب الخمرة
برأسه فيأخذ بالتخلي لإنانا عن نواميس الحضارة مُهديًا
إياها واحدًا إثر آخر:
إنكي وإنانا شربا البيرة معًا،
شربا مزيدًا من البيرة معًا،
شربا مزيدًا ومزيدًا من البيرة معًا،
بالأكواب البرونزية الطافحة بالشراب،
بأكواب أوراش أم الأرض،
تبادلا الأنخاب وبارى كلٌّ منهما
الآخر.
ثم قال إنكي وهو يرفع نخب إنانا:
«باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس،
سأعطي ابنتي إنانا الكهنوت وناموس
الألوهية،
أعطيها التاج النبيل الدائم وعرش
الملوكية.»
فأجابت إنانا: أنا أقبل بها.
ويتابع إنكي شرب الأنخاب، ومع كل نخبٍ كان يهبها عددًا
من النواميس فتقبلها إنانا. فبعد المجموعات الثماني
الأولى من النواميس المتعلقة بالكهنوت والألوهية والمعبد
وطقوس خدمة الآلهة وما إليها، ينتقل إنكي إلى إهدائها
نواميس الشئون الدنيوية كالزراعة والحرف والموسيقى
والتعدين والعدالة … إلخ. وعندما تستلم إنانا النواميس
جميعها، تقف أمام إنكي وتقر باستلامها النواميس معددةً
إياها واحدًا واحدًا:
لقد أعطاني الأب إنكي نواميس الحضارة،
أعطاني ناموس الكهنوت الأعلى،
أعطاني ناموس الألوهية،
أعطاني ناموس التاج النبيل الدائم،
أعطاني عرش الملوكية،
أعطاني الصولجان النبيل،
أعطاني العصا،
أعطاني قضيب وحبل قياس المسافة،
أعطاني الخنجر والسيف،
أعطاني فن ممارسة الحب،
أعطاني فن تقبيل القضيب،
أعطاني فن الدعارة المقدسة،
أعطاني أدوات الموسيقى الصادحة،
أعطاني فن الغناء،
أعطاني فن اللياقة والكياسة،
أعطاني بيوت السكن الآمنة،
أعطاني حرفة حفر الخشب،
أعطاني حرفة صناعة النحاس،
أعطاني … إلخ.
وبعد أن تنتهي من تعداد ما استلمته من
نواميس الحضارة تستعد لمغادرة المكان وإنكي ما زال تحت
تأثير الخمرة:
تكلم إنكي مع خادمه إيسموند:
«أي تابعي ومُعيني إيسموند،
إن المرأة الشابة ستتوجه إلى أوروك،
وإني أرغب في وصولها سالمةً إلى
مدينتها.»
جمعت إنانا النواميس المقدسة،
وحملتها جميعًا في زورق السماء،
وتم دفع الزورق فانساب بعيدًا عن
المرفأ،
وعندما زال مفعول الخمرة من رأس شارب
البيرة،
وعندما زال مفعول الخمرة من رأس إنكي،
عندما دارت الخمرة من رأس إله الحكمة
العظيم،
تطلَّع إنكي في أرجاء الأبسو،
وجالت عينا ملك الأبسو في أنحاء
إيريدو.
جالت عيناه في أنحاء أيريدو ثم نادى
خادمه:
– «أي تابعي ومُعيني إيسموند.»
– «ها أنا ذا واقفٌ أمامك مستعدٌّ
لخدمتك.»
– «ناموس الكهنوت الأعلى، والألوهية،
والتاج النبيل الدائم، أين هي؟»
– «لقد وهبها مليكي لابنته إنانا.»
يكرر إنكي سؤاله أربع عشرة مرةً ليلقى
من إيسموند الجواب نفسه. وفي جوابه الأخير قال
إيسموند:
– «لقد وهبها مليكي لابنته إنانا،
لقد وهبها النواميس المقدسة جميعها.»
فالتفت إنكي إلى إيسموند قائلًا:
– «زورق السماء المحمل بالنواميس
الإلهية،
أين هو الآن؟»
– «إن زورق السماء في الميناء الأول على
الطريق.»
– «امضِ إليه. خذ معك تنانين الإينكوم،
دعهم يرجعون زورق السماء إلى إيريدو.»
وصل إيسموند إلى إنانا وقال:
«أي سيدتي، لقد أرسلني الأب إليك،
وإن كلمة الأب إنكي هي كلمة القانون،
كلمات إنكي ينبغي ألا تُعصى.»
فقالت له إنانا:
– «ما الذي قاله الأب إنكي،
وما الذي زاد في قوله إنكي؟
ما هي كلماته، كلمات القانون التي ينبغي ألا
تُعصى؟»
فأجاب إيسموند:
«لقد قال مليكي:
دع إنانا تتابع طريقها إلى أوروك،
واستعدْ زورق السماء والنواميس إلى
إيريدو.»
فصرخت إنانا:
– «لقد بدل الأب كلمته التي أعطانيها،
لقد نكث بعهده ولم يفِ بوعده،
ولقد خدعني عندما قال،
خدعني عندما أعلن على الملأ:
باسم قدرتي باسم هيكلي المقدس،
وبخدعةٍ أخرى أرسلك إليَّ.»
وما إن أنهت إنانا كلامها هذا،
حتى انقضَّت تنانين الإينكوم وأمسكت
الزورق.
وهنا نادت إنانا خادمتها
ننشوبور:
– «لقد كنتِ فيما مضى ملكة الشرق،
والآن أنتِ القيمة المخلصة على هيكل
أوروك،
فيا معينتي التي تقدِّم النصح الحكيم،
ويا مقاتلتي التي تحارب في صفِّي،
تعالي أنقذي زورق السماء والنواميس
المقدسة.»
ننشوبور شقت الهواء بذراعها،
وأطلقت صرخةً تهز الأرض،
قذفت تنانين الإينكوم وأعادتهم إلى
إيريدو.
عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند مرةً
ثانية:
– «أي مُعيني إيسموند،
أين زورق السماء الآن؟»
– «إنه في المرفأ الثاني على الطريق.»
– «امضِ وخذ معك خمسين من عمالقة
الأورو،
دعهم يرجعون زورق السماء إلى إيريدو.»
انقضَّ العمالقة الطائرون وأمسكوا بزورق
السماء،
ولكن ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم.
عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند مرةً
ثالثة:
– «أي مُعيني إيسموند،
أين زورق السماء الآن؟»
– «لقد دخل لتوِّه محطة دولما.»
– «أسرِع، خذ معك خمسين من وحوش
اللاباما،
دعهم يرجعون زورق السماء إلى إيريدو.»
أمسك وحوش اللاباما زورق السماء،
ولكن ننشوبور أنقذت زورق السماء من
أيديهم،
في المرة الرابعة أرسل إنكي الكوكالجال ذوي
الأصوات الثاقبة.
في المرة الخامسة أرسل إنكي الإينونون.
ولكن ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم في كل
مرةٍ.
عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند للمرة
السادسة:
– «أي مُعيني إيسموند،
أين زورق السماء الآن؟»
– «إنه على وشك الدخول إلى أوروك.»
– «أسرع، خذ معك حراس قنال
الإيتوروبحال:
دعهم يرجعون زورق السماء إلى إيريدو.»
أمسك إيسموند وحرَّاس القنال زورق
السماء،
ولكن ننشوبور أنقذت الزورق من أيديهم.
عند ذلك قالت ننشوبور لإنانا:
– «أي مليكتي، عندما يصل الزورق،
عندما يدخل أوروك من بوابة نيجولا،
دعي الماء يرتفع وينداح في مدينتنا،
ولتمخر المراكب البعيدة المدى بخفةٍ
قنواتنا.»
فأجابت إنانا ننشوبور:
«في اليوم الذي يصل فيه زورق السماء.
– في اليوم الذي يدخل عبر بوابة
نيجولا،
ليرتفع الماء وينداح في شوارعنا،
ليرتفع الماء ويسري في الممرات،
ليخرج الأطفال فرحين مغنِّين،
ولتحتفل كل أوروك،
ليخرج الكاهن الأعلى ويستقبل الزورق
بالأناشيد،
وليتلُ الكاهن الأعلى الصلوات الكبرى،
ليذبح الملك الشياه والثيران قربانًا،
وليسكب من كأسه البيرة تَقدِمةً،
لتضج أصوات الطبل والطنبور،
ولتعزف موسيقى التيغي العذبة،
لتعلن البلاد وتعلي اسمي،
وليسبح كل شعبي بحمدي.»
وهكذا كان،
عند ذلك نادى إنكي خادمه إيسموند:
– «أين زورق السماء الآن؟»
– «إن زورق السماء في الميناء الأبيض.»
– «امضِ، فإنانا قد صنعت عجائب هناك،
الملكة إنانا قد صنعت عجائب في الميناء
الأبيض،
صنعت عجائب من زورق السماء.»
وفي هذه الأثناء كانت النواميس تنزل من
الزورق،
وعندما انتهى إنزال النواميس التي تلقتها
إنانا،
تم إعلانها على الملأ وتقديمها لشعب
سومر.
وتكلمت إنانا قائلةً:
– «إن المكان الذي حطَّ به قارب
السماء،
سوف يُدعى بالميناء الأبيض.
إن المكان الذي قدمت فيه النواميس،
سوف يُدعى بالميناء اللازوردي.»
وهنا نادى إنكي إنانا قائلًا:
– «باسم قدرتي، باسم هيكلي المقدس،
لتبقَ النواميس التي أخذتها في هيكل
مدينتك،
ولينصرف الكاهن الأعلى إلى الإنشاد في الحرم
المقدس،
لتزدهر أحوال أوروك،
ويبتهج صغار مدينتك،
ليكن شعب أوروك حليفًا لشعب إيريدو،
ولتتبوأ أوروك مكانتها العظيمة.»
وعلى هذا النحو ينتهي النص. فما هو
الحدث التاريخي الذي تقدمه هذه الأسطورة على
طريقتها؟
لم تظهر المستوطنات الزراعية في وادي الرافدين الجنوبي
حتى وقتٍ متأخر من الألف السادس قبل الميلاد. ففيما بين
أواخر الألف السادس وأوائل الألف الخامس تبدأ المستوطنات
الزراعية الأولى بالظهور في هذه المنطقة التي دُعيت فيما
بعدُ سومر، وتأخذ بالتشكل ملامح الثقافة التي عُرفت
بالثقافة العُبيدية أو ثقافة تل العُبيد، نسبةً إلى أول
مواقعها المكتشَفة. ورغم أن هذه الثقافة قد استمدت اسمها
من موقع تل العُبيد؛ إلا أن مدينة إريدو كانت أهم وأكبر
حواضرها. وقد بلغت هذه المدينة في نهاية فترة حضارة تل
العُبيد حجمًا كبيرًا بمقياس ذلك العصر، حيث نافت
مساحتها عن عشرت الهكتارات ووصل تعداد سكانها إلى أربعة
آلاف نسمة. وهذا أكبر تجمع سكاني حققته الحضارة
الإنسانية حتى ذلك الوقت في أي مكان من العالم. أعطت
الحضارة العُبيدية فنونًا متقدمة تجلت في الفخاريات
الملونة ذات الطابع المتميز والدمى الطينية، وصناعة
الأختام. كما تجلَّت في العمارة الراقية التي وضعت الأسس
الأولى للعمارة السومرية اللاحقة. وقد تم اكتشاف عددٍ من
آيات العمارة العُبيدية متمثلةً بمعابد الإله إنكي
المعبود الرئيسي لهذه المدينة. وفي مجال التكنولوجيا،
يبدو أن الحضارة العُبيدية قد قدمت عددًا من الابتكارات
المهمة وخاصة في مجال الري والفِلاحة والحرف اليدوية.
ومن المرجح أن يكون المحراث والعجلة قد ابتُكرا خلال هذه
المرحلة.
واستمرت آثار الثقافة العُبيدية قائمةً من حوالي عام
٥٣٠٠ق.م. إلى حوالي عام ٣٣٠٠ق.م. وهنا بدأ الآثاريون
يتلمَّسون حلول ثقافة جديدة محلَّها دُعيت بحضارة أوروك.
ففي مدينة أوروك تم اكتشاف أولى المصنوعات اليدوية التي
أشَّرت إلى بداية هذه الثقافة الجديدة، وكانت أوروك أكبر
وأهم مواقعها خلال هذه الفترة التي استمرت إلى حوالي عام
٢٩٠٠ق.م. وقد استطاعت التقنيات الأثرية تتبُّع الانتقال
الحضاري من مرحلة العُبيد، حيث كانت إريدو مركز الثقافة
في سومر، إلى مرحلة أوروك ١، عندما تحول الثقل الحضاري
من إريدو إلى أوروك. كما أمكن لعلماء الآثار تلمُّس
التغييرات الواضحة في النواتج المادية التي أشَّرت إلى
ذلك الانتقال؛ وذلك من خلال الأساليب الفنية المتبعة في
تشكيل الأختام، والأنماط المعمارية والمصنوعات اليدوية
وما إليها. ومن أهم الملاحظات الأركيولوجية الخاصة
بموضوعنا هنا، أن مدينة إريدو التي استمرت قائمةً خلال
فترة أوروك قد تبنَّت الأنماط المعمارية والفنية
والأركيولوجية الجديدة. أما أوروك التي كانت عُبيدية
الطابع حتى ذلك الوقت فقد أخذت منذ عام ٣٦٠٠ق.م. بإظهار
التقاليد الثقافية التي اصطلح الأثاريون على تسميتها
بالتقاليد الأوروكية.
٢٨
وهذا بالضبط ما حاولت أسطورة إنكي وإنانا أن تنقله
إلينا؛ فإنانا الإلهة الرئيسية لمدينة أوروك قد حصلت على
نواميس الحضارة من إنكي الإله الرئيسي لمدينة إيريدو.
وبانتقال النواميس غابت ثقافة إريدو لتحل محلها ثقافة
أوروك. نحن هنا أمام حالةٍ فريدة من تطابق مضمون التاريخ
المقدس مع مضمون التاريخ الدنيوي.
ولكن مع التذكير بأن الأسطورة هنا تبقى أمينة للتاريخ
المقدس؛ لأنها لا تعطي الإنسان أهميةً تُذكر في صنعِ
حضارته وتقرير مصيره.