(٥) الأسطورة والطقس
لقد قلنا في بحث وظيفة الأسطورة (الفصل الثاني من هذا الكتاب)، بأن الدين في أسسه النفسية، هو اختبارٌ للقدسي من خلال حالةٍ انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني. وأن هذه التجربة الدينية الداخلية ليست وقفًا على شخصٍ دون آخر ولا على فئةٍ دون أخرى، بل يتعرض لها الجميع وإن بدرجاتٍ متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معها بدرجاتٍ متفاوتة أيضًا من القبول والاعتراف.
تصل الخبرة الدينية المباشرة هذه إلى حالةٍ من الشدة لدى الإنسان، تستدعي القيام بسلوكٍ ما، من أجل إعادة التوازن إلى النفس التي غيَّرت التجربة من حالتها الاعتيادية. هذا السلوك ندعوه بالطقس، والطقس هو مجموعة من الإجراءات والحركات التي تأتي استجابةً للتجربة الدينية الداخلية، وتهدف إلى عقد صلة مع العوالم القدسية. ولعل الموسيقى الإيقاعية والرقص الحر كانا أول أشكال هذا السلوك الطقسي التلقائي، الذي تحول تدريجيًّا إلى طقسٍ مقنن تجري تأديته وفق قواعد مرسومة. وقد ترافق تقنين الطقس وتنظيمه في أطرٍ محددة ثابتة، مع تنظيم التجربة الدينية للأفراد وضبطها من خلال معتقداتٍ واضحة تؤمن بها الجماعة، ويرى فيها الأفراد تعبيرًا عن تجاربهم الدينية الشخصية.
إن المعتقدات الدينية التي تلعب الأسطورة دورًا أساسيًّا في تثبيتها وترسيخها، تبقى بالنتيجة صورًا وأفكارًا على هذه الدرجة من الوضوح أو تلك، ولكن هذه الصور والأفكار لا تصنع دينًا، بالغًا ما بلغ من وضوحها واتساقها، إلا عندما تدفع إلى سلوكٍ وإلى فعل، فيتم الانتقال من حالة التأمل إلى الحركة، ومن التفكير في العوالم القدسية إلى اتخاذ مواقفَ عمليةٍ منها، فنتقرب إليها أو نسترضيها أو نسخِّر قواها لصالحنا … إلخ. فإذا كانت المعتقدات وما يدور حولها من أساطير، تضعنا في موقفٍ تأملي من القدسي، فإن الطقس يضعنا في موقفٍ عملي، في حالة فعلٍ من شأنها إحداث رابطة واتصال. فمن خلال أداء حركات معينة ورقصات إيقاعية وتكرار صيغ كلامية ذات أثر خاص على النفوس، يمكن معها للأفراد المستغرقين في الأداء الطقسي الجمعي الانتقال إلى مستوياتٍ غير اعتيادية للوعي، ويشعرون معها بتلاشي الحدود بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية.
وفي ثقافة الشرق القديم، يمكن تقسيم الممارسات الطقسية إلى ثلاث زمرٍ رئيسية هي: الطقوس السحرية، والطقوس الدينية الروتينية، والطقوس الدورية الكبرى. وسأقوم فيما يأتي بالتعريف بهذه الأنواع الثلاثة، وبما لا يتجاوز أهداف هذا البحث.
(١) الطقوس السحرية
تقوم الطقوس السحرية على الإيمان بوجود قوة سارية في جميع مظاهر الكون، وهي قوة غفلة غير مشخصة، بمعنى أنها لا تصدر عن إلهٍ ما، أو أي كائنٍ روحاني ذي شخصية محددة وإرادة مستقلة فاعلة. كما أنها قوةٌ حيادية، بمعنى أنها فوق الخير والشر بالمفهوم الأخلاقي المعتاد. ويبدو أن الاعتقاد بوجود هذه القوة السحرية، هو أول شكلٍ من أشكال الاعتقاد الديني، وأن الطقوس التي نشأت من أجل التعامل مع القوة السحرية هي أول أنواع الطقوس، وتهدف إلى التأثير على القوة الحيادية وتوجيهها لتحقيق غاياتٍ معينة.
لقد سبق الإيمان بالقوة السحرية غير المشخصة، الإيمان بالآلهة المشخصة، سواء في المعتقدات المصرية أم في غيرها. وهذه الحقيقة تؤكدها لنا الأسطورة مثلما أكدها الطقس. إن الآلهة نفسها تلجأ إلى السحر في الميثولوجيا المصرية، وتعتمد عليه في تحقيق المهام الصعبة. فخَلق العالم، وهو أعظم مهمة يمكن أن يضطلع بها إله، قد تم بواسطة كلمة القوة التي خرجت من فم الخالق. وفي أسطورة التكوين البابلية، يقوم إيا بصنع دائرة سحرية يضربها حول رفاقه لحمايتهم أثناء المعركة مع أبسو وأتباعه. وعندما يلتقي الجمعانِ ينطق إيا بتعويذته السحرية التي تشل قوة خصمه. نقرأ في اللوح الأول من الإينوما إيليش:
وفي المعركة الثانية التي جرت بين الإله مردوخ ابن إيا والإلهة الأم تعامة، كانت كلمة مردوخ السحرية أقوى سلاح يتجهز به للمواجهة الحاسمة. نقرأ في اللوح الرابع من الإينوما إيليش:
يدلنا ذلك كله على علو مكانة الطقوس السحرية، واختلاطها بالطقوس الدينية إلى درجةٍ يصعب التمييز بينهما. ورغم أن المعيار الأساسي للتفريق بين هذَين النوعَين من الطقوس هو توسيط الآلهة بين الأسباب والنتائج في الطقوس الدينية، وتوسيط القوة السحرية الغفلة في الطقس السحري؛ فإن التمازج بين نوعَي الطقوس وتداخلهما قد بقي قائمًا، فالآلهة في بعض الطقوس تبدو لنا أشبه بالقوة السحرية الغفلة التي يمكن استنهاضها بالتعازيم والتعاويذ. كما تبدو القوة السحرية الغفلة، من ناحيةٍ أخرى، وقد أُلبست شخصية غائمة أشبه بالآلهة. ولتوضيح هذه النقطة أستعين بنص طقس حثي فريد، يعبِّر أبلغ تعبير عن نوعٍ من الطقوس المختلطة التي يمتزج فيها السحر بالدين، وبطريقةٍ لا تسمح لنا بتمييز العناصر الدينية فيه من العناصر السحرية. يحتوي هذا النص على توجيهاتٍ لأداء طقس معين يهدف إلى استنهاض الآلهة، واستقدامها من أماكن إقامتها البعيدة في كل مكانٍ متحضر معروف لدى الحثيين، لكي تجمع قواها المشتركة فتبارك بلاد حاتي وتمد ملكها وملكتها بالصحة والحياة، وتفُتَّ في عضد الأعداء. يتألف النص من مقدمة تشرح الإجراءات التمهيدية للطقس، ومن تعزيمة يجب تلاوتها لحث الآلهة على إسراع الخُطا والتجمع حول العرافين القائمين على الطقس.
نقرأ في بداية النص ما يأتي: «عندما يريد العرَّافون جذب الآلهة بواسطة تسعة دروب، من المروج ومن الجبال ومن الينابيع ومن النار، من السماء ومن الأرض، عليهم أن يقوموا بتحضير الأشياء الآتية: يؤتى بسلَّة فيها ما يأتي … تعداد لعناصر مختلفة مما يُستخدم في التحضيرات السحرية، بينها رغيف القربان؛ قطعة من خشب الأرز؛ ثلاثون رغيفًا مصنوعة من طحين جيد ناعم؛ جناح صقر؛ جزَّة خروف صوفية …» إلى جانب هذه العناصر التي يؤتى بها معًا في سلة واحدة، يقوم العرَّافون بتجهيز جِرار تحتوي على خمر وعسل وزيت وثمار متنوعة وكعك الزبدة. ثم يخرجون من بوابة معينة من بوابات المدينة إلى الفلاة، وهناك يُقيمون طاولة وتبدأ الإجراءات الطقسية التي تنتهي بصنع دروب من قماش مجدول، يُثبت طرف الواحد منها على الطاولة ثم يُسحب مسافة طويلة في أحد الاتجاهات. وعلى طول كل درب يجري صب الخمر والزيت والعسل في خطوط متوازية على جانبَي الدرب. وفي نهاية كل درب توضع التقْدِمات المختلفة من كعك الزبدة والأرغفة والثمار وما إليها. ومن المفترض أن هذه الدروب سوف تمتد نظريًّا لمسافة آلاف الأميال في كل الاتجاهات؛ ليهتدي بها الآلهة التي يتم استنهاضها وجذبها من مساكنها البعيدة.
لكي نفهم الطابع السحري المحض لهذا الطقس الذي يلبس لبوسًا دينيًّا، لا بد لي من تقديم استطراد حول طبيعة السحر في الثقافات القديمة والمواقف الفكرية التي يصدر عنها.
وفي الحقيقة، فإن التمييز الذي يضعه فريزر بين السحر والدين، يأتي نتيجة لفهمه الخاص للدين ولما هو ديني. فلقد أوضح من خلال تعريفه للدين، أنه لا يرى دينًا إلا عندما يرى طقوسًا تتوسل إلى كائنات روحانية فوق طبيعانية تتحكم في مظاهر الطبيعة. ويستتبع ذلك عنده، أن الدين لم يبتدئ في تاريخ الإنسان إلا عند ظهور الآلهة المشخصة. وقد قاده ذلك إلى اعتبار كل معتقد وطقس سابق على ذلك، بمثابة طقس سحري لا يمتُّ إلى الدين بصلة. غير أن دراستنا لتاريخ الدين قد قادتنا إلى رؤية مختلفة لعلاقة الدين بالسحر. فالدين لم ينشأ عن السحر؛ لأنه لا فرق بين السحر والدين عند منابت وجذور الثقافة الإنسانية، وليس الذي يدعوه فريزر سحرًا إلا شكلًا أصليًّا وأوليًّا من أشكال الدين، سابقًا على ظهور الشخصيات الإلهية في المعتقدات الدينية للإنسان. إن الساحر الذي يوسط بين الأسباب ونتائجها من خلال طقوسه، لا يعتمد مبدأ ميكانيكية الطبيعة وخضوع عملياتها لقوانين سحرية ثابتة، كما يرى فريزر ومَن يرددون أفكاره إلى الآن، بل على مبدأ القوة السارية في الطبيعة، وهي قوة غفلة غير مشخصة تربط عالم الظواهر وتكمن خلف تسلسل الأحداث في الطبيعة. فالساحر في أدائه لطقوسه إنما يعتمد على قوًى منبثة في الطبيعة، وهذه القوى هي قوًى دينية من نوع ما؛ لأنها تشكل بُعدًا ماورائيًّا لعالم المادة المرئي والمعاش. ونستطيع أن ندعوها بالقوى السحر-دينية، تمييزًا لها عن القوى الدينية التي تتمثل في الآلهة.
إن أي مخلوق منتصب على قائمتَين، وله دماغ يزيد وزنه قليلًا عن دماغ الشيمبانزي والغوريلا، لا يمكنه الاعتقاد، اعتمادًا على تجربته المباشرة مع الطبيعة، بأن تقليد حادثٍ ما يمكن أن يؤدي إلى وقوعه. ومع ذلك رأينا أن الإنسان الأول كان يقلد من خلال حركات طقسية، عملية صراعه مع حيوانات الصيد وسقوط هذه صريعة حرابه، وذلك قبل أن يتوجه فعليًّا إلى حقل الصيد. كما رأيناه يقلد صوت سقوط المطر بأدوات طقسية معينة معتقدًا أن السماء سوف تفتح مصاريعها وتدفق عليه المطر بعد ذلك. فكيف توصَّل الإنسان إلى ابتكار هذه الممارسات وأمثالها مما يتعارض من حيث الظاهر مع كل تجاربه العملية؟
لقد طور الإنسان منذ عصور وعيه المبكرة، تدريجيًّا، مفهومًا للسببية من خلال مراقبته للعمليات الجارية من حوله. فالحرارة تسبب الحريق، والماء يطفئ النار، والسحاب ينزل المطر … إلخ. إلا أن ما يميز مفهوم السببية عند الإنسان القديم عن مفهومه عند الإنسان الحديث، هو أن الإنسان الحديث يعزو الأثر الذي ينتقل بين السبب والنتيجة إلى خصائص كامنة في طبيعة الأشياء. أما الإنسان القديم فيرى أن العنصر الفاعل وراء السببية هو قوة تنقل الأثر من السبب إلى النتيجة، وتتوسط بين طرفَي الحادث. من هنا، فإن طقس المحاكاة السحر-ديني، هو إجراء يهدف إلى التأثير في القوة من أجل دفعها إلى إحداث النتيجة المطلوبة، وهو يعادل فعل الصلاة أو تقريب القرابين في الأديان التي تجزأت فيها القوة الأصلية إلى عدد من القوى الإلهية المشخصة. وفي الحقيقة، فإن ظهور الآلهة المشخصة في تاريخ الدين هو الذي أدى إلى استقلال الدين عن السحر، حيث توجهت طقوس الدين إلى الآلهة، وبقيت طقوس السحر تدور حول المفهوم القديم للقوة السارية في الطبيعة.
غير أن التحول من طقوس التأثير في القوة وما تقوم عليه من معتقدات، إلى طقوس التضرع والصلوات وتقريب القرابين إلى الآلهة، لم يتم إلا ببطء شديد، وبقيت طقوس التأثير في القوة قائمة في قلب الديانات التي تقوم على الإيمان بالآلهة المشخصة. وهذا ما نراه بكل وضوح في النص الطقسي الحثي الذي قدمته أعلاه. فالإجراءات التحضيرية التي يقوم بها العرافون في هذا النص، لا تختلف عن الإجراءات التحضيرية للطقس السحري. ورغم أن الطقس نفسه معَد من أجل اجتذاب الآلهة؛ فإننا نرى وبوضوحٍ تام أن هذا الطقس بشكله الأقدم كان معدًّا للتأثير في القوى السحرية ودفعها إلى إحداث النتائج المطلوبة. فالعرافون يصنعون دروبًا تمتد من الطاولة التي أقاموها بضعة أمتار في كل اتجاه، ولكنها تستطيل سحريًّا لتصل أقصى البلاد ليمشي على هديها الآلهة من كل مكانٍ متجهين إلى البؤرة، لا عن رغبة منهم وإرادة، وإنما عن قهر وإجبار ناجمَين عن قوة الفعل السحري وقوة التعزيمة السحرية. فالمُعَزِّمون لا يتضرعون إلى الآلهة ولا يصلون إليها بل يطلبون منها فيما يشبه الأمر أن تترك أماكنها وتتوجه إليهم. نرى ذلك في مقاطع مثل: «ها نحن نصرخ إليكم، ها نحن نجذبكم إلينا. أديروا ظهوركم لبلاد الأعداء، وانظروا بعين العطف إلى ملكنا وملكتنا … إلخ.» أما هذه الآلهة التي ستترك مساكنها في جميع أنحاء المعمورة المعروفة في ذلك الوقت، وتتحرك مسلوبة الإرادة بطريقةٍ أقرب إلى مشي النائم، فتخاطبها التعويذة بصيغة الجمع دون ذِكر أسمائها وصفاتها وخصائصها. إنها بالفعل قوًى سحرية غفلة لا شخصيات محددة. وليس إطلاق اسم الآلهة عليها سوى دلالة على تداخل السحر بالدين واستمرار الأول فاعلًا في الثاني، حتى الفترات المتأخرة من تاريخ أديان هذه المنطقة.
(٢) الطقوس الدينية الروتينية
رغم وصول العديد من النصوص الطقسية إلينا من ثقافات الشرق القديم؛ إلا أننا لا نستطيع حتى الآن تقديم صورةٍ متكاملة للطقوس الدينية التي كانت تقام في معابد الآلهة. فهذه الطقوس كانت تختلف من معبدٍ إلى آخر، ومن عبادة هذا الإله إلى عبادة ذاك. إن التنميط في مجالات الاعتقاد والطقوس والأساطير، مما نراه في الأديان الشمولية الكبرى مثل المسيحية والإسلام والبوذية، لم يكن معروفًا في أديان الحضارة القديمة، التي كانت تتألف من عبادات متفرقة لكلٍّ منها معتقداتها وأساطيرها وطقوسها، وذلك ضمن الإطار العام لدين القوم، الذي يشكل رابطةً تجمع العبادات المتفرقة والمتآلفة إلى هيكلية واحدة. ففي بابل القديمة مثلًا، قد يتقاطر عشرات الألوف إلى معبد مردوخ الكبير فيها، قادمين من شتى أنحاء البلاد للمشاركة في الاحتفالات الكبرى بعيد رأس السنة البابلي، ولكن كل واحد من هؤلاء يعود بعد انتهاء هذه الطقوس الكبرى إلى بلدته لينفق بقية السنة في أداء الطقوس المحلية المرتبطة بإله المدينة أو المنطقة. وقد يحدث مثل هذا التقسيم ضمن العبادات الواحدة. فعبادة الإله تموز مثلًا لا تتخذ شكلًا واحدًا لدى جميع الشرائح الاجتماعية، فتموز المدينة هو غير تموز الريف المزارع. وفي الريف المزارع يختلف تموز زارعي الحبوب عن تموز أهل البساتين والأشجار المثمرة. وهذا بدوره يختلف عن تموز جماعات الرعي المتنقل الذين يعيشون على أطراف المناطق الحضرية. ولدى أهل العبادات الباطنية فإن تموز يتحول من إله للخصب إلى إله مخلِّص يضمن لعباده الحياة الأبدية.
وتعتبر الصلاة في المعابد من الطقوس الروتينية الأساسية، ولكننا لا نعرف بالتفصيل عن الكيفية التي كانت تؤدَّى بها الصلوات لقلة ما وصلنا من الشروحات الطقسية الخاصة بها، ولكننا نستطيع الاستنتاج مما وصلنا من نصوص تندرج في زمرة الصلوات، أن المصلِّي كان يتلو في المعبد نصوصًا معَدة مسبقًا، وأن الموسيقى كانت تصاحب الأداء الجمعي للصلاة. وقد وصلنا من موقع مدينة أوغاريت السورية دليل على صلة الصلوات بالموسيقى، حيث تم العثور على نشيد ديني قصير وتحته توجيهات تقنية للعازفين هي بمثابة النوطة الموسيقية الحديثة.
ولقد وصلنا من بلاد الرافدين أغزر نصوص الصلوات والتراتيل، أقدِّم فيما يأتي نموذجًا عنها، وهو صلاة الإله سن؛ إله القمر، من العصر الآشوري الحديث. كانت هذه الصلاة تؤدَّى في اليوم الثالث عشر من الشهر القمري، وتهدف إلى الحصول على البركة وغسل الخطايا.
صلاة إلى سن/القمر:
نلاحظ من قراءتنا لهذه الصلاة الفرق الواضح بينها وبين النص الحثي الذي أسميته تعزيمة. ففي النص الحثي يقوم المعَزِّمون بتلاوتهم من أجل إجبار الآلهة على تنفيذ رغبتهم، وبدل تعابير الضراعة والتوسل التي تطالعنا في النص الآشوري أعلاه، مثلًا «إنني أركع وألبث في انتظار رحمتك … إلخ» نقرأ في النص الحثي: «أيها الآلهة انظروا. لقد فرشت الطريق أمامكم بوشاح وسكبت من أجلكم … إلخ. هلمُّوا إلى هذا المكان، لا يعترضنَّ مسيركم شجرة ساقطة ولا يعقلنَّ أقدامكم حجر … إلخ. أديروا ظهوركم لبلاد الأعداء وانظروا بعين الرضا إلى ملكنا وملكتنا … إلخ.» إن الصلاة هي سليلة التعزيمة، وكلتاهما وسيلة تواصل مع القوى الماورائية ولكنهما تنتميان إلى مرحلتين مختلفتين في تاريخ الدين، ومتداخلتين في الوقت نفسه. ففي كل تعزيمة شيء من الصلاة وفي كل صلاة شيء من التعزيم.
إضافةً إلى ما تقدَّم من أنواع الطقوس الروتينية، هناك طقوسٌ تؤدَّى كلما دعت الحاجة إليها. ومثالها الطقس المعروف بطقس غسل فم الإله، الذي يؤدَّى عند إقامة تمثال جديد في المعبد لأحد الآلهة، وذلك من أجل دعوة الإله للحلول في تمثاله. إن أي تمثال لا يغدو ممثلًا فعليًّا للإله، ولا ينتقل من زمرة ما هو دنيوي إلى زمرة ما هو قدسي، بمجرد الانتهاء من نحته ولا حتى بعد جلبه إلى المعبد ونصبه هناك. إنه قطعة حجرية لا ميزة لها عن بقية الأحجار في ورشة النحاتين ولا عن بقية الأشكال المصورة هناك. فكان لا بدَّ من القيام بطقس خاص من شأنه الاجتياز بهذه القطعة الحجرية عبر الخط الفاصل بين الدنيوي والقدسي، والعبور بها من نمط من الوجود إلى آخر. عند ذلك فقط يتحول التمثال إلى مركز تواصل بين المستوى المنظور والمستوى الغيبي، ومحورٍ يعقد صلةً بين السماء والأرض، يقود إلى تجلِّي القدسي في المكان. إن تمثال الإله هو بمثابة شارة مقدسة، ترمز إلى الألوهة وتجعلها حاضرةً في عالم الإنسان، الذي يتوسل من خلالها إلى الألوهة الخافية التي لا تحدُّها هيئة مادية ولا تحتويها صورة من الصور. والعابد الذي يجثو أمام تمثال الإله لا يتعبد لتلك القطعة الحجرية الصماء بل إلى ما ترمز إليه وتشير، إلى ما لا يستطيع العقل التعامل معها إلا بتوسيط الرمز.
فإذا كانت الأسطورة هي ترميز للخبرة الدينية بالكلمات، والطقس هو ترميز لها بالحركات، فإن التمثال هو ترميز بالصورة المادية الماثلة أمام البصر. وقبل أن تتخذ شارة الألوهة هذه شكلًا إنسانيًّا، كانت مجرد هيئة مستمدة من الوسط الطبيعي. ففي بلاد الرافدين كانت شارة الألوهة عبارةً عن حزمة من القصب ذات رأس ملفوف تتدلى منه راية. وفي بلاد كنعان كانت عبارة عن عمود حجري يُنصب في المحراب. ثم تحولت هذه الهيئة الرمزية بشكل تدريجي إلى هيئة إنسانية ذات شخصية محددة، بتأثير تراكم الأدبيات الميثولوجية، التي ترسم صورة ذهنية للآلهة وتزودهم بتاريخ وسيرة حياة. فجاءت التماثيل بمثابة المعادل البصري للشخصيات التي تقص عنها الأساطير. من هنا فإننا لا نرى أي سببٍ مقنع لتحريم كتاب التوراة (في الفقرة العاشرة من الوصايا العشر) صنع صورةٍ للإله؛ وذلك لسببين رئيسين: أولهما أن الإله التوراتي كان أكثر آلهة الشرق القديم تشخيصًا، وكان بالإمكان رؤيته ووصفه بالعين المجردة؛ فقد رآه سبعون من شيوخ إسرائيل على جبل سيناء، كما نقرأ في سِفر الخروج: «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمدَّ يده إلى أشراف بني إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشربوا» (سِفر الخروج ٢٤: ٨–١٢). والسبب الثاني أن صورة الإنسان هي في الأصل صورة الخالق الذي عمد إلى خلق البشر على هيئته. نقرأ في الإصحاح الأوَّل في سِفر التكوين: «وقال الرب نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض … فخلق الرب الإنسان على صورته، على صورة الرب خلقه ذَكرًا وأنثى.»
نأتي الآن إلى تفصيلات طقس غسْل فم الإله، الذي نعرف عنه من إشارات نصية متفرقة، ومن نصٍّ طويل يحتوي على شروحات طقسية لكيفية أداء غسل الفم، أكتفي فيما يأتي بإيراد ترجمة لقسمه الأول، وذلك لإعطاء فكرة عامة عن مضمونه:
(٣) الطقوس الدورية الكبرى
يرتبط هذا النوع من الطقوس بأساطير التكوين. فالطقس هنا هو الأسطورة وقد تحولت إلى سلوك يستهدف استعادة الزمن الميثولوجي البدئي، عندما خلقت الآلهة العالَم وابتدرت النماذج الأولى لكل فعلٍ حضاري خلَّاق. كما ترتبط الطقوس الدورية أيضًا بأساطير الخصب، التي يجري تكرار أحداثها واستعادة دورة حياة إلهها الرئيسي تموز، من زواج فعذابات وموتٍ إلى بعث جديد من العالَم الأسفل، وذلك بهدف الإيحاء للطبيعة النباتية بالانبعاث بعد انقضاء الشتاء، ودفع دورة الفصول التي لا غنى عنها للحياة الزراعية.
يكرر الطقس الدوري، بشكل مرئي ومسموع، حدثًا ماضيًا جرى في الأزمنة الميثولوجية الأولى، فيجعله حاضرًا مرةً أخرى في بضعة أيام يخرج خلالها المحتفلون بالعيد من زمنهم الدنيوي ويعيشون في تلك الأزمان المقدسة الأولى. فإذا كان الدنيوي زمانًا خطيًّا يسير من الماضي إلى المستقبل عبر الحاضر، بطريقة لا رجعة فيها، فإن الزمن القدسي هو زمن عكوسي يمكن استعادته وعيشه من خلال الطقس الدوري. إنه نوع من الحاضر السرمدي الذي يمكن للإنسان الدخول فيه من أجل الرجوع إلى ما حدث في البدايات والاستعانة بقوة الأصول على تجديد الحاضر. وبذلك يتحول الإنسان من مراقب لصيرورة العالم إلى مشارك في صنع هذا العالم.
ففي أعياد رأس السنة، يساهم المحتفلون جميعًا من خلال مشاركتهم بالطقس بإعادة خلق العالم وتجديده. وفي أعياد الخصب الربيعية يساهم المحتفلون في العملية الإعجازية لانبعاث الطبيعة ودفع دورة الفصول. وهنا يتداخل السحر بالدين، حيث تتحول الأسطورة إلى تعويذة، ويتخذ تمثيلها دراميًّا طابع الطقس السحري. ذلك أن ما يقوم به المحتفلون من إجراءات طقسية ورقصات وأداء درامي، لا يتخذ طابع العبادة بمعنى التوسُّل إلى قوًى علويةٍ، بل يتخذ طابع المشاركة مع هذه القوى بالرجوع طقسيًّا إلى زمانها أو باستحضار زمانها إلى الآن، من أجل حثها على تكرار عملياتها الخلاقة المبدعة التي أنجزتها في الأزمان الكوزموغونية الأولى. إن قراءة ملحمة التكوين البابلية في عيد رأس السنة على مسمع من المحتفلين، ثم تمثيلها دراميًّا حيث يكرر المحتفلون مشاهد صراع مردوخ وتعامة والانتصار الأخير لقوى النظام على قوى الفوضى، تجعل المحتفلين يشعرون بطريقةٍ ما بأنهم يعملون جنبًا إلى جنب مع الآلهة الخالقة على إعادة خلق وتجديد العالم الذي بلي في السنة القديمة، وإخراجه غضًّا نضرًا كشأنه عندما انبثق لأول مرةٍ من لجَّة الهيولى الأولى. كما يظهر هذا الطابع السحري للطقس الدوري بشكلٍ أكثر وضوحًا في أعياد الربيع، التي تجد في كل ترتيب من ترتيباتها الطقسية، وكل نشيد وكل بكاء وعويل على موت الإله، وما يتبعه من صرخات الفرح والاستبشار لعودة الإله الميت من العالم الأسفل، صلةً لا تخفى بالطقوس السحرية الأصلية. وسوف نخصص كامل الفصل القادم لتقديم صورة شاملة عن الطقوس التموزية في الثقافة المشرقية، مع أكبر عددٍ من النصوص التي يتسع المجال لإيرادها.
(٤) بين الطقس والأسطورة
إن العروة الوثقى التي تجمع الطقس إلى الأسطورة، قد جعلت الباحثين يتأملون في طبيعة الصلة بين الاثنين وأصلها. فهل تنشأ الأسطورة عن الطقس، أو ينشأ الطقس عن الأسطورة؟ أو هل هما تبدِّيان مختلفان لظاهرة واحدة؟
في مطلع القرن العشرين نشأت نظرية الأصل الطقسي للأسطورة، وساهم في صياغتها عدد من الباحثين المتأثرين بالمعطيات الجديدة لعلم الأنثروبولوجيا الناشئ. وترى هذه النظرية أن الأسطورة هي ناتج من نواتج الطقس الأسبق عليها في تاريخ الدين. فالطقوس المؤسِّسة منذ زمن مغرق في القِدم، تفقد بمرور الأيام معناها وغاياتها وتتحول إلى إجراءات غامضة لا يعرف ممارسوها والقيِّمون عليها مدلولاتها ومضامينها. وهنا تأتي الأسطورة لكي توضح أصل الطقس ومعناه، وتقدم تسويغًا مقنعًا لتلك الإجراءات التي تتناقلها الأجيال. فأسطورة الإله أتيس الذي خصى نفسه تحت شجرة الصنوبر ونزف حتى الموت، ليست في تفسير أصحاب هذه النظرية إلا تسويغًا لطقوس الخصاء التي كان كهنة هذا الإله يمارسونها. وأسطورة قيام التيتان بتمزيق الإله ديونيسيوس حيًّا، وهو في هيئة الثور التي حوَّل نفسه إليها هربًا منهم، ليست إلا تسويغًا للطقس الذي كان يتم بموجبه تمزيق ثور حي والتهامه في ذروة الانفعال الطقسي من قِبل أتباع هذا الإله … إلخ.
والأمر كما نراه، هو أننا لا نستطيع ادِّعاء أسبقية للأسطورة على الطقس، ولا لهذا على تلك. لأن كليهما ناتج عن مواقف وأفكار دينية مبدئية تتشكل لدى الإنسان من إحساس بوجود عالم ماورائي، قائم خلف المظاهر المتبدية لعالم الحياة اليومية. وهو يعبر عن هذا الإحساس بطريقتين، الأولى سلوكية تتبدَّى بالطقوس والثانية ذهنية تتبدَّى بالأسطورة. ورغم العروة الوثقى التي تجمع الطقس إلى الأسطورة، فإن كلًّا منهما يمكن أن يقوم في معزل عن الآخر، حيث نجد طقوسًا تمارَس دون مرجعية ميثولوجية، وأساطير يجري تداولها دون طقس مرافق من أي نوع. وهذا لا يمنع بالطبع نشوء بعض الأساطير عن طقوس معينة، ونشوء نوع من الطقوس عن أساطير معينة. ولعل أفضل مثال عن العروة الوثقى التي تجمع الطقس والأسطورة، هو الطقوس الدورية الكبرى. فهنا نجد أنفسنا أمام أداء كلامي وحركي متداخل ومتكامل بطريقة يصعب معها التمييز بين الطقس والأسطورة، أو ادِّعاء أسبقية لأيٍّ منهما على الآخر، حيث الكلام المنطوق بمثابة الصورة الذهنية للحركة الطقسية، وهذه بمثابة السلوك الحركي المعبر عن الصورة الذهنية.
سيكون البحث التالي مكرسًا لإلقاء الضوء على ثاني اثنين من الطقوس الدورية الكبرى وهو:
الطقوس التموزية.
James Frazer, The Golden Bough, MacMillan, London 1971. pp. 56–68.
G. S. Kirk, Myth: Its Meaning and Functions, Cambridge 1983, pp. 8–31.
انظر أيضًا الدراسة التطبيقية الشاملة التي قامت بها الباحثة جين هاريسون في كتابها:
J. E. Harrison, Themis, University Books, New York 1966.