(٦) الطقس والأسطورة في الأناشيد التموزية
في البحث السابق، أشرنا إلى أن العروة الوثقى التي تجمع بين الطقس والأسطورة، تعلن عن نفسها كأوضح ما يكون في طقسين من الطقوس الدورية الكبرى، وهما أعياد رأس السنة التي كانت تجدد طقسيًّا العالم، وذلك بإحيائها للفعاليات الإلهية الخلَّاقة التي قادت إلى إظهار الكون وإحلال النظام فيه، وأعياد الربيع التي كانت تجدد طقسيًّا دورة حياة ألوهية الخصب، التي تدفع دورة الفصول وتبعث الطبيعة الميتة من مرقدها بعد شتاء طويل. وبما أن أعياد الربيع التي كان يجري الاحتفال بها في أنحاء الشرق القديم جميعه منذ عصور ما قبل التاريخ، هي أقدم من أعياد رأس السنة بصيغتها البابلية المعروفة، ونموذجها الأسبق، فإن هذه الأعياد الربيعية بما تنطوي عليه من أسطورة وما تبديه من طقس، سوف تكون موضع اهتمامنا في ما يأتي من هذا البحث. علمًا بأن النصوص السومرية سوف تكون مصدرنا الرئيسي هنا؛ وذلك لاحتوائها على أغزر مادة أسطورية ذات علاقة بموضوعنا. ورغم أن هذه النصوص قد دُوِّنت خلال أواخر الألف الثالث قبل الميلاد؛ إلا أن الباحثين في السومريات يرجعون بأصولها إلى أواخر الألف الرابع على أقل تقدير.
لا يوجد بين أيدينا نصٌّ واحد يعطي صورة متكاملة عن الطقوس التموزية وفحواها الميثولوجي كما كانت تقام في أعياد الربيع الكبرى في سومر. كما أن النصوص المتفرقة ذات الصلة بالموضوع، لا تحتوي ضمنًا ما يشير إلى اطِّرادها في سلسلة متصلة، وذلك رغم وضوح العلاقة بينها وأرجحية انتمائها إلى الطقوس الدورية الكبرى نفسها. من هنا، فإن الباحث يجد نفسه مضطرًّا إلى إعادة بناء هذه النصوص بطريقةٍ تجعلها أقرب ما تكون إلى الترتيب الأصلي، معتمدًا على ما تبديه النصوص من صلةٍ داخليةٍ فيما بينها.
ترسم النصوص التي اخترناها ورتبناها فيما يأتي، سيرة حياة الإله دموزي (تموز) التي تبتدئ بحبٍّ مستعرٍ بينه وبين الإلهة إنانا ينتهي إلى زواج سعيد، ولكن السعادة لا تدوم لأن عفاريت العالم الأسفل تقبض على دوموزي وتقوده إلى العالم الأسفل، حيث يلبث هناك إلى أن يتم تحريره وبعثه إلى الحياة من جديد، وإلى أحضان زوجته. تمثل الإلهة إنانا في هذه النصوص طاقة الحياة الكونية، ويمثل دوموزي دور مجدِّد هذه الطاقة.
(١) الزواج المقدس ومقدماته
لدينا أولًا مجموعة من الحواريات والقصائد الغزلية التي تدور حول الحب الذي استعر بين الإلهين. بعض هذه النصوص يصف شوق الطرفين وما يشعران به من عواطف مشبوبة، وبعضها يصف حلاوة اللقاء ومتع الوصال. وهنا لا تبدو الإلهة إنانا كامرأةٍ ناضجة وسيدة مدربة، ولا يعكس سلوكها العام دورها الإلهي كسيدة للسماء والأرض، بل تبدو كفتاة يانعة يخفق قلبها بالحب الأول، وتسلك مسلك البنت الصغرى في العائلة. فهي تخشى من العودة متأخرة إلى البيت، وتختلق المعاذير لأمها عندما يعوقها لقاء دوموزي عن العودة في الوقت المطلوب، تمامًا كما تفعل البنات في يومنا هذا. كما نجد أن أخاها أوتو يحاورها مداورةً بشأن الزواج مثلما يحاور الأخُ الأكبر، في أية أسرة معاصرة، أخته العزيزة الصغرى. هذه الصورة التي تظهر بها إنانا هنا، والتي لم ينتبه دارسو النصوص السومرية إلى أهميتها ومغزاها، هي شأن مركزي ولا غنى عنه من أجل استكمال مشهد الحب الإلهي الذي ترسمه الأسطورة كنموذج لكل حبٍّ أرضي ولكل خصب ونماء على المستوى الطبيعاني. ذلك أن الشباب هو عنصر ضروري لرفع أي مشهد شبقي إلى مستوًى استاتيكي جمالي مقنع ومقبول، سواء تم التعبير عن هذا المشهد بالخطوط والألوان أم بالشِّعر والكلمات. والنص الأسطوري هنا يلعب ببراعة حول هذه النقطة عندما يُظهر الإلهين في عز الصبا وفي فورة الشباب.
نبدأ بحوارية بين إنانا وأخيها أوتو إله الشمس (شَمَش البابلي). ورغم أن الحوار يبدو للوهلة الأولى وكأنه يدور حول شئون منزلية عادية؛ إلا أنه مليء بالتوريات ذات العلاقة بزواج الفتاة. وتأخذ هذه التوريات بالإفصاح عن مضمونها كلما اقتربنا من نهاية النص:
وبالطبع، فإن اقتراح أوتو على أخته الزواج من دوموزي لم يكن بلا مقدمات؛ لأن قصة حبهما صارت معروفةً رغم مراوغة إنانا. نقرأ في النص الآتي عن لقاء الحبيبين الذي طال، وكيف حاولت إنانا التملص من ذراعَي دوموزي لتهرع عائدةً إلى البيت قبل أن تكشف الأم غبتها الطويلة، وماذا اقترح عليها دوموزي من معاذير تختلقها لأمها مما تختلقه الفتيات في يومنا هذا من معاذير واهية، فغيبتهن دومًا مع هذه الصديقة أو تلك، وثمة أمرٌ ما ألهاهن حتى نسين كم مضى من وقت:
بعد ذلك، وفي ليلة العرس الموعودة، يأتي دوموزي في عربته الملكية ووراءه رتلٌ من الحيوانات المحملة بمختلف أنواع الثمار ومنتجات الأرض، وبهدايا زواج نفيسة، بينما تستحم إنانا وتتعطر وتضع زينتها وتهيئ سرير الزوجية. وبداية هذا النص مفقودة، وفي مطلع الجزء المحفوظ من الرقيم نقرأ عن آخر الهدايا في القائمة التي عدَّدها الجزء المفقود:
ولدينا نصٌّ جميل آخر مصاغ في قالبٍ حواري، يصف أيضًا قدوم دوموزي إلى بوابة بيت إنانا. وهذه ترجمة لمقاطعه الواضحة:
(تطلب إنانا من وصيفاتها فتح الباب لدوموزي وتعطي تعليماتها بخصوص ما يجب عمله:)
(وفي هذا الوقت يتابع دوموزي تعداد ما جاء به من الهدايا:)
(هنا يغدو النص غامضًا بسبب ظهور أصوات أخرى في الحوارية. الأبيات الآتية يمكن أن تكون لوصيفات الإلهة اللواتي يرقصن من حولها، وهن يتحدثن بلسانها:)
هذه هي الخطوة العامة للأسطورة كما ترسمها النصوص المتفرقة التي أوردنا بعضها أعلاه. فإنانا هي القوة الأنثوية الخلَّاقة، ودوموزي هو القوة الذكرية الخلَّاقة. وبدون تقاطع هاتَين القوتَين الكونيتَين؛ القوة السالبة والقوة الموجبة، لا يمكن للحياة الحيوانية والإنسانية والنباتية أن تظهر وتستمر. تمر إنانا في النصوص السابقة بثلاث مراحل من حياتها؛ الأولى: مرحلة الفتاة العذراء التي تحمل في جسدها وروحها كل طاقات الخلق والإنجاب الكامنة. والثانية: مرحلة الفتاة العاشقة التي تتوق إلى تفجير كل تلك الطاقات الكامنة عن طريق الاتحاد بالقوة الذكرية المكملة. والثالثة: هي الزواج المقدس الذي يحوِّل الفتاة إلى سيدة مكتملة ويطلق طاقاتها لتتبدَّى على المستوى الطبيعاني في كل مظاهر الخصب والنماء. إن زواج الإلهين على المستوى الميثولوجي الماورائي، هو البادئ والمحرك لعالم الطبيعة الحية، والغرام المستمر بينهما هو الذي يحرِّض الدافع الجنسي لدى الأحياء ويضمن تكاثرها، ويملأ ضروع الماشية باللبن ويجعل من البذور الصلبة المدفونة في التربة سويقاتٍ وأعشابًا وأشجارًا.
غير أن أسلوب صياغة هذه الأناشيد يدل على أنها كانت تُستخدم في أداء طقسي. فالزواج المقدس على مستوى الأسطورة يتم تكراره سنويًّا على مستوى الطقس في عيد رأس السنة، الذي يقام في بداية فصل الربيع في سومر وفي بقية أنحاء الشرق الأدنى القديم. وتشير الشواهد النصية والفنية إلى أن الملك السومري كان يلعب في هذه المناسبة دور الإله دوموزي، وكانت الكاهنة الكبرى تلعب دور الإلهة إنانا. ويبدو أن الاثنين كانا يلتقيان في ذروة الاحتفال في غرفةٍ تقع في أعلى المعبد المدرج. والفكرة الميثولوجية/السحرية الكامنة وراء هذه الطقس، هي أن الإلهين يحلَّان حقًّا وصدقًا في الملك والكاهنة، وأن الحدث الدرامي المشهود هو عملية تحيين للحدث الأسطوري الذي تم في الأزمان الميثولوجية وجعله حاضرًا في الزمن الجاري. من هنا فإن الطقس الدوري الربيعي لا يتخذ طابع الاحتفال بذكرى ميثولوجية، بل إنه يكررها. ويغدو المحتفلون موجودين في زمن الأسطورة يعايشون الكائنات العليا، ويشهدون تكرار عمليات الخلق حيث يقوم الإلهان من خلال وكيليهما الدنيويين بتجديد الحياة، حياة الطبيعة والإنسان والحيوان.
يظهر الطابع الطقسي للأناشيد التموزية واضحًا كل الوضوح في بعض النصوص التي نجد فيها الإله دوموزي والملك السومري يتبادلان الأدوار في سياق النص، وبطريقةٍ لا نكاد من خلالها نتبين الحدث الأسطوري من الدراما الطقسية. لدينا نصٌّ من عصر أسرة أور الثالثة (حوالي ٢١٠٠ق.م.) ويعود إلى فترة حُكم الملك شولجي، يصف رحلة هذا الملك إلى معبد إيانا المكرس للإلهة إنانا في أوروك، وهو يحمل الهدايا عن كل نوع لكي يخطب ودَّ الإلهة ويدعوها للزواج منه:
(وبينما شولجي يرتدي عباءته الطقسية ويستعد للقاء إنانا كانت الإلهة تنشد في مخدعها وقد أنهت زينتها:)
نلاحظ في هذا النص كيف ابتدأ الكاتب بالحديث عن الملك شولجي، ثم تحوَّل بعد ذلك إلى الحديث عن دوموزي في مشهد العناق. وهذا يعني أن الملك الذي يلعب دور الإله في طقس الزواج المقدس، ما يلبث أن يفقد صفته الدنيوية متحولًا حقًّا إلى دوموزي. عندها تعود آلهة الأزمنة الميثولوجية لتماس أفعالها الخلَّاقة كما في البدايات، وتحدد حياة الطبيعة سنةً أخرى قادمة.
ومن عصر الملك إدين داجان ملك إيسين (حوالي عام ٢٠٠٠ق.م.) وصلتنا ترتيلة مرفوعة إلى الإلهة إنانا، يرد في آخرها وصف للقاء الملك والإلهة في ليلة رأس السنة الجديدة:
يلي ذلك وصفٌ للمائدة العامرة التي أُعدت لهذه المناسبة، والتي نراها في أعمال الفن المصور لتلك الحقبة، مما سيرد الحديث عنه بعد قليل. هذه المائدة التي تنصب للشخصيتين الرئيسيتين في دراما الزواج المقدس، بما عليها من خيرات وثمار، هي بشكلٍ ما تمثيل للأرض التي يستحثها هذا الطقس على الفيض والعطاء. وقيام هذَين التجسيدَين الإلهيَّين بالأكل من المائدة وتناول الشراب من جرار الخمر الموضوعة أمامهما، هو نوع من الإيحاء بقدوم المواسم الطيبة التي تسد حاجة أهل البلاد.
ويركِّز النص الآتي على تعداد الخيرات العميمة التي تنتج عن زواج الملك من الإلهة إنانا، ولكن اسم الملك المعنيَّ غائب فيه. يبتدئ النص بخطاب موجَّه إلى الإلهة نعلم منه أن سريرها قد تم تطهيره من قِبل جيبيل إله النار، وأن الملك قد أقام مذبحًا وانتهى من أداء الإجراءات الطقسية اللازمة جميعها. بعد ذلك نجد الإلهة ننشوبور وصيفة إنانا ووزيرتها الأمينة تقود الملك إلى حضن عروسه، ملتمسةً منها أن تهبه حكمًا وطيدًا وتفيض على البلاد من خيراتها.
إن الإلهة إنانا التي ستنهض هنا طقسيًّا لتهب الخيرات للبلاد عقب زواجها من الملك، قد قامت من قبل، على مستوى الأسطورة، بما هو مطلوبٌ منها الآن. نقرأ في أحد النصوص هذه الأنشودة التي تغنيها إنانا:
(٢) الزواج المقدس في الفن المصور
تقدِّم لنا الأعمال الفنية المصورة من ثقافة وادي الرافدين وثقافات الشرق القديم الأخرى، شاهدًا آخر على طقس الزواج المقدس. وهنا تتطابق المشاهد التي يقدمها لنا هذا الفن مع المشاهد التي رسمتها لنا بالكلمات الوثائق الكتابية التي قدَّمنا لتوِّنا نماذج منها.

يعرض لنا الشريط الأعلى المشهد الرئيسي، وفيه نرى الإلهة إنانا على البوابة تستقبل دوموزي الذي يتقدمه خادم عاري الجسم يحمل سلةً مليئة بالثمار. وبسبب عوامل الحت التي نالت من الفاز لم يبقَ من جسم دوموزي إلا قدمه وجزء من التنورة الشبكية المميِّزة له في الفن التصويري السومري. وخلف دوموزي هناك خادمٌ آخر يحمل بين يديه حزمةً من القصب. فإذا عدنا بنظرنا إلى الإلهة إنانا رأينا وراءها رمزها المعروف في الفن السومري، وهو عبارة عن حزمتين من القصب ذات رأسٍ ملتف عند الأعلى وتتدلى منه رايةٌ. وإلى الخلف من الحزمتين هنالك مذبح مصنوع على هيئة تيسٍ، ويرتقي درجاته شخصان يحملان في أيديهما أدواتٍ طقسيةً. يلي المذبح باتجاه الوراء فازان من نوع فاز أوروك نفسه، بقربهما إناءان مليئان بالهدايا التي أتى بها دوموزي. في الشريط الثاني نرى رتلًا من الخدم العراة يحملون أواني مليئةً بالثمار وجرارًا مليئةً بالشراب. وفي الشريط الثالث لدينا ثلاثة حقول، في الحقل الأعلى هناك رتلٌ من الحيوانات الأهلية التي تشكل جزءًا من هدية الزواج، وفي الحقل الأوسط هناك صفٌّ من السنابل وأشجار النخيل، وفي الحقل الأخير لا شيء غير الماء، عنصر الحياة الأول وتجسيد الإله إيا والد دوموزي.




(٣) الموت والانبعاث
ولكن الموت صنوٌ للحياة ووجهها الآخر، والطبيعة يجب أن تجدد نفسها بالموت والانبعاث إلى حياة غضةٍ جديدة، مقتفية أثر أول حادثة موت وانبعاث على المستوى الميثولوجي، وهي حادثة موت وقيامة الإله دوموزي. لقد كانت لعبة الحب الكونية التي انتهت باتحاد الإلهين، بمثابة الطور الأول من حياة دوموزي، ولكن العريس الإلهي الذي ما ارتوى بعدُ من كئوس الهوى يجب أن يموت. وها هي عفاريت العالم الأسفل تنطلق في إثره وهو يهرب من وجوههم من مكانٍ إلى آخر، يغير من هيئته متخفيًا عن أنظارهم ولكن دون جدوى؛ لأنهم ما لبثوا أن انقضُّوا عليه وراحوا يسومونه أنواع العذاب قبل أن يسوقوه إلى العالم الأسفل.
لدينا أكثر من نصٍّ سومري يصف عذابات وموت الإله دوموزي. ولسوف أتجاوز هنا النص المعروف جيدًا والذي قدمته في مؤلفي مغامرة العقل الأولى، وأعطيت عنه تحليلات مستفيضة في مؤلفي الثاني لغز عشتار، لألتفت إلى نصوص ذات طابع طقسي تخدم أهداف بحثنا هنا.
(بعد بضعة أسطر أخرى يواسي فيها المنشدون الإلهة، تدخل إنانا إلى المشهد:)
بعد ذلك يعود المنشدون لإعطاء تفصيلات عما حدث، فنعرف أن سبعة عفاريت من العالم الأسفل قد بُعثوا للقبض على دوموزي، وراحوا يبحثون عنه حتى وجدوه نائمًا في الحظيرة، فدخلوها وأخذوا يخربون كل ما يقع تحت أيديهم. ثم قام العفريت السابع بإيقاظ دوموزي بغلظةٍ:
ولكن دوموزي يفلح في الإفلات من أيديهم، وها هم يتشاورون في أمرهم ويضعون خطةً للمطاردة:
العفريت الصغير خاطب العفريت الكبير:
يصل دوموزي إلى ضفة نهر الفرات فيخلع ثيابه ويسبح إلى الضفة الأخرى، حيث يكون في انتظاره أمه وزوجته، ولكن التيار كان أقوى منه، أو أن قوى العالم الأسفل قد سخَّرت مياه النهر لاقتناص الإله الهارب من قدره:
بعد هذه المشاهد المثيرة للأسى، تعود البكائيات بإيقاع أكثر حزنًا وألمًا. ذلك أن ندْب الإله الميت والتفجع عليه والمبالغة في إظهار الحزن، هي أدوات سحرية تعينه على فك قيوده في عالم الأموات واكتساب القدرة على مقاومة قوى الفناء. في هذه البكائيات ترنيمة يشترك بها نسوة دوموزي؛ أمه وزوجه وأخته. لقد أرسل في طلبهن إلى ملجئه في الصحراء. وعندما وصلن إلى الزريبة التي يتوارى فيها، وجدن أن عفاريت الظلام قد خطفت دوموزي:
أما عن عودة الإله الميت إلى الحياة، فلدينا عنه نصٌّ واحد مفصَّل اسمه «أيها الرب، الطفل السامي العظيم، الممجد في السماء والأرض»، وهو مؤلف من ثلاثة عشر نشيدًا متراوحة في الطول والوضوح. الأناشيد الأولى عبارة عن مدائح واسترضاء لدوموزي، يليها مرثية دمار مدينة أوروك التي غاب عنها الإله. وفي النشيد الخامس نستمع إلى مرثية من الأم الثكلى تظهر فيها خوفها من ألا يعود الغائب، وما يمكن أن يحمله ذلك من كوارث على الإنسان والحيوان والطبيعة، ولكن من الواضح أن تعداد المخاوف هذا ما هو إلا تحريض لقوى الإله واستنهاض لهمَّته:
في النشيد السادس نرى الأم تذهب للسؤال عن دوموزي عند مربيته التي تعهَّدته بالرعاية في صغره. وهي تتحدث عنه كطفلٍ قضى قبل الأوان لا كشابٍّ في أوج نضجه، فتخبرها المربية بضياع الطفل وترفع الاثنتان صيحات تفجُّعٍ تبلغ عنان السماء والعالم الأسفل. أما في النشيد السابع فنجد الأم تعطي روايةً جديدة عن كيفية اقتياد ابنها إلى العالم الأسفل، ولكننا نعلم أيضًا أن عودته قريبة لأنها تلبس أفضل ما عندها استعدادًا لاستقباله.
في النشيد الثامن، يرتفع الإيقاع الشعري إلى ذروة عالية مفعمة بالنشوة والجذل، عندما تنطلق الحناجر بنشيد مدائحي للرب الذي يوشك أن يصل، فتذكِّره بأسمائه الحسنى جميعًا:
ثم يتابع النص ذِكر أسماء دوموزي للمرة الثانية إثر البيت الأخير أعلاه، حيث يتم استبدال الشطرة «إنه لرب نبيل» بالشطرة «فلتسكن إلينا»، وذلك حتى نهاية النشيد الثامن. أما النشيد التاسع فقصير، يبدأ بابتهال إلى ثور الإله الذي يجر مركبته، ثم بترنيمة السائرين في موكب الإله العائد:
ثم يتابع النص بعد ذكر أورنمو، وهو الملك الأول من سلالة أور الثالثة، ذكر بقية الملوك الذين اعتُبروا خلال حياتهم تجسيدًا حيًّا للإله تموز، إلى أن ينتهي بخاتمة تُعلي من شأن دوموزي كإله للخيرات من كل الأنواع، ولكن معظم أسطرها مشوَّه عدا سطرين:
النشيد الحادي عشر يُشبه في بنائه وتكراره النشيد العاشر ولكنه يقوم على اللازمة: «أيها الرب المبجل، مَن تُرى يجاريك في الجلال والعظمة؟!» أما الثاني عشر فهو تكرار للنشيد السابع. الثالث عشر والأخير مشوه السطر ولكننا نستطيع إعادة بناء بعض سطوره على الشكل التالي:
ثم يتابع النص تعداد الخيرات التي تفيض مع عودة دوموزي، ولكن تشوه الرقيم يحول دون إعطاء صورة واضحة عن هذا الجزء الأخير من النشيد. ورغم أننا نجهل الكيفية التي كانت تؤدَّى بها هذه الطقوس التموزية بتفاصيلها، نظرًا لعدم العثور على تعليمات طقسية خاصة بها؛ إلا أنني أخمن استنادًا إلى إيقاع النص الثالث عشر والأخير الذي يستخدم لازمة: عد إلينا يا فتى عد يا فتي، بأن قرع الطبول والصنوج هنا يأخذ بالارتفاع، بينما ترتفع الحناجر بالدعاء مستنهضة الإله الذي قام من بين الموتى، على الصعود عبر بوابات العالم السفلي السبع. وعندما يصل اللحن الإيقاعي إلى ذروته، يكون المحتفلون الذين عانوا كل مراحل الطقس مهيئين من الناحية النفسية والذهنية للإحساس بحضور الألوهة بينهم، عندما يعلن كبير الكهنة الذي يلعب دور قائد الكورس بأن الإله قد بُعث من عالم الأموات: «لقد قام. حقًّا قام.» وبعد لحظة صمتٍ يشعر كل واحد فيها بإحساس غامر بالتواصل مع الحضرة الإلهية التي صارت حقيقةً تسري بين العباد، ينفجر الجميع بالهتافات والزغاريد معبرين عن فرح غامر بعودة الإله، ثم يسيرون في موكب احتفالي يحمل الإله العائد من العالم الأسفل إلى حبيبته إنانا ليعقد عليها زواجه من جديد. وتبدأ سنة طقسية جديدة.
Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale University 1976, pp. 47–72.