(٦) الطقس والأسطورة في الأناشيد التموزية

في البحث السابق، أشرنا إلى أن العروة الوثقى التي تجمع بين الطقس والأسطورة، تعلن عن نفسها كأوضح ما يكون في طقسين من الطقوس الدورية الكبرى، وهما أعياد رأس السنة التي كانت تجدد طقسيًّا العالم، وذلك بإحيائها للفعاليات الإلهية الخلَّاقة التي قادت إلى إظهار الكون وإحلال النظام فيه، وأعياد الربيع التي كانت تجدد طقسيًّا دورة حياة ألوهية الخصب، التي تدفع دورة الفصول وتبعث الطبيعة الميتة من مرقدها بعد شتاء طويل. وبما أن أعياد الربيع التي كان يجري الاحتفال بها في أنحاء الشرق القديم جميعه منذ عصور ما قبل التاريخ، هي أقدم من أعياد رأس السنة بصيغتها البابلية المعروفة، ونموذجها الأسبق، فإن هذه الأعياد الربيعية بما تنطوي عليه من أسطورة وما تبديه من طقس، سوف تكون موضع اهتمامنا في ما يأتي من هذا البحث. علمًا بأن النصوص السومرية سوف تكون مصدرنا الرئيسي هنا؛ وذلك لاحتوائها على أغزر مادة أسطورية ذات علاقة بموضوعنا. ورغم أن هذه النصوص قد دُوِّنت خلال أواخر الألف الثالث قبل الميلاد؛ إلا أن الباحثين في السومريات يرجعون بأصولها إلى أواخر الألف الرابع على أقل تقدير.

لا يوجد بين أيدينا نصٌّ واحد يعطي صورة متكاملة عن الطقوس التموزية وفحواها الميثولوجي كما كانت تقام في أعياد الربيع الكبرى في سومر. كما أن النصوص المتفرقة ذات الصلة بالموضوع، لا تحتوي ضمنًا ما يشير إلى اطِّرادها في سلسلة متصلة، وذلك رغم وضوح العلاقة بينها وأرجحية انتمائها إلى الطقوس الدورية الكبرى نفسها. من هنا، فإن الباحث يجد نفسه مضطرًّا إلى إعادة بناء هذه النصوص بطريقةٍ تجعلها أقرب ما تكون إلى الترتيب الأصلي، معتمدًا على ما تبديه النصوص من صلةٍ داخليةٍ فيما بينها.

ترسم النصوص التي اخترناها ورتبناها فيما يأتي، سيرة حياة الإله دموزي (تموز) التي تبتدئ بحبٍّ مستعرٍ بينه وبين الإلهة إنانا ينتهي إلى زواج سعيد، ولكن السعادة لا تدوم لأن عفاريت العالم الأسفل تقبض على دوموزي وتقوده إلى العالم الأسفل، حيث يلبث هناك إلى أن يتم تحريره وبعثه إلى الحياة من جديد، وإلى أحضان زوجته. تمثل الإلهة إنانا في هذه النصوص طاقة الحياة الكونية، ويمثل دوموزي دور مجدِّد هذه الطاقة.

(١) الزواج المقدس ومقدماته

لدينا أولًا مجموعة من الحواريات والقصائد الغزلية التي تدور حول الحب الذي استعر بين الإلهين. بعض هذه النصوص يصف شوق الطرفين وما يشعران به من عواطف مشبوبة، وبعضها يصف حلاوة اللقاء ومتع الوصال. وهنا لا تبدو الإلهة إنانا كامرأةٍ ناضجة وسيدة مدربة، ولا يعكس سلوكها العام دورها الإلهي كسيدة للسماء والأرض، بل تبدو كفتاة يانعة يخفق قلبها بالحب الأول، وتسلك مسلك البنت الصغرى في العائلة. فهي تخشى من العودة متأخرة إلى البيت، وتختلق المعاذير لأمها عندما يعوقها لقاء دوموزي عن العودة في الوقت المطلوب، تمامًا كما تفعل البنات في يومنا هذا. كما نجد أن أخاها أوتو يحاورها مداورةً بشأن الزواج مثلما يحاور الأخُ الأكبر، في أية أسرة معاصرة، أخته العزيزة الصغرى. هذه الصورة التي تظهر بها إنانا هنا، والتي لم ينتبه دارسو النصوص السومرية إلى أهميتها ومغزاها، هي شأن مركزي ولا غنى عنه من أجل استكمال مشهد الحب الإلهي الذي ترسمه الأسطورة كنموذج لكل حبٍّ أرضي ولكل خصب ونماء على المستوى الطبيعاني. ذلك أن الشباب هو عنصر ضروري لرفع أي مشهد شبقي إلى مستوًى استاتيكي جمالي مقنع ومقبول، سواء تم التعبير عن هذا المشهد بالخطوط والألوان أم بالشِّعر والكلمات. والنص الأسطوري هنا يلعب ببراعة حول هذه النقطة عندما يُظهر الإلهين في عز الصبا وفي فورة الشباب.

نبدأ بحوارية بين إنانا وأخيها أوتو إله الشمس (شَمَش البابلي). ورغم أن الحوار يبدو للوهلة الأولى وكأنه يدور حول شئون منزلية عادية؛ إلا أنه مليء بالتوريات ذات العلاقة بزواج الفتاة. وتأخذ هذه التوريات بالإفصاح عن مضمونها كلما اقتربنا من نهاية النص:

– شقيقتي، سوف آتيكِ بالكتان من الحقل،
إنانا، سوف آتيكِ بالكتان من الحقل.
– أي شقيقي، بعد أن تأتيني بالكتان من الحقل،
مَن سوف يمشطه لي، مَن سوف يمشطه لي؟
ذلك الكتان، مَن سوف يمشطه لي؟
– أي شقيقتي، سآتيك به ممشوطًا،
إنانا، سوف آتيك به ممشوطًا.
– أي شقيقي، بعد أن تأتيني به ممشوطًا،
مَن سوف يغزله لي، مَن سوف يغزله لي؟
ذلك الكتان مَن سوف يغزله لي؟
– أي شقيقتي، سآتيك به مغزولًا،
إنانا، سوف آتيك به مغزولًا.
– أي شقيقي، بعد أن تأتيني به مغزولًا،
مَن سوف يجدل خيوطه لي؟
ذلك الكتان مَن سوف يجدله لي؟
– أي شقيقتي، سآتيك به مجدولًا،
إنانا، سوف آتيك به مجدولًا.
– أي شقيقي، بعد أن تأتيني به مجدولًا،
مَن سوف ينسجه لي، مَن سوف ينسجه لي؟
ذلك الكتان مَن سوف ينسجه لي؟
– أي شقيقتي، سآتيك به نسيجًا،
إنانا، سوف آتيك به نسيجًا.
– أي شقيقي، بعد أن تأتيني به نسيجًا،
مَن سوف يبيضه لي، مَن سوف يبيضه لي؟
ذلك الكتان مَن سوف يبيضه لي؟
– أي شقيقتي، سآتيك به مبيضًا،
إنانا، سوف آتيك به مبيضًا.
– أي شقيقي، بعد أن تأتيني به مبيضًا،
مَن سوف ينام في الفراش معي؟
مَن سوف ينام في الفراش معي؟
– أي شقيقتي، عريسك سينام في الفراش معك،
مَن وُلد من الرحم الخصيب سينام في الفراش معك،
دوموزي من الرحم الخصيب سينام في الفراش معك،
دوموزي الراعي سينام في الفراش معك.١

وبالطبع، فإن اقتراح أوتو على أخته الزواج من دوموزي لم يكن بلا مقدمات؛ لأن قصة حبهما صارت معروفةً رغم مراوغة إنانا. نقرأ في النص الآتي عن لقاء الحبيبين الذي طال، وكيف حاولت إنانا التملص من ذراعَي دوموزي لتهرع عائدةً إلى البيت قبل أن تكشف الأم غبتها الطويلة، وماذا اقترح عليها دوموزي من معاذير تختلقها لأمها مما تختلقه الفتيات في يومنا هذا من معاذير واهية، فغيبتهن دومًا مع هذه الصديقة أو تلك، وثمة أمرٌ ما ألهاهن حتى نسين كم مضى من وقت:

في الليلة الفائتة عندما، أنا الملكة، كنت أشع نورًا،
في الليلة الفائتة عندما، أنا ملكة السموات كنت أشع نورًا،٢
عندما كنت أشع نورًا وأرقص،
عندما كنت أترنم بأغنية لاقتراب الليل،٣
هو الْتَقى بي، هو الْتَقي بي،
السيد كولي آنا (دوموزي) التقى بي،
السيد وضع يده في يدي،
أوشوم غالانا (دوموزي) عانقني وضمَّني إلى صدره.
– «هلمَّ أيها الثور البري، أطلِقني فأهرع إلى البيت،
كولي إنليل (دوموزي)، أطلقني فأهرع إلى البيت.
كيف أحتال بالقول على أمي؟
كيف أحتال بالقول على أمي ننجال؟»
– «دعيني أخبرك بما تسوقه البنات من معاذير:
لقد صحبتني صديقتي إلى الساحة العامة،
حيث تسلَّينا بالرقص والموسيقى،
أنشدت لي أحلى وأعذب الألحان،
وفي بهجةٍ غامرة أمضينا الوقت هناك،
بهذه الأكذوبة تأتين إلى أمك،
بينما نطلق العنان لأنفسنا في ضوء القمر،
سأعدُّ لك سريرًا ملكيًّا نقيًّا وهنيًّا،
فنقضي الوقت في لهو ومتعة.»
(فجوة في النص، نجد بعدها إنانا عائدةً إلى البيت، تنشد أغنيةً تدل على قُرب خطوبتها من دوموزي:)
جئت إلى بوابة أمي،
أسير في بهجة وسرور،
جئت إلى بوابة ننجال،
أسير في بهجةٍ وسرور.
سوف يقصد أمي وينطق بالكلمة المنتظرة،
سوف يرش زيت السرو على الأرض،
هو الذي يتضوع عطرًا،
وتبعث كلماته في قلبي الحبور،
سيدي هو الجدير بالحضن المقدس،
أوماشوم غال آنا، صهر الإله سن،
السيد دوموزي هو الجدير بالحضن المقدس.٤

بعد ذلك، وفي ليلة العرس الموعودة، يأتي دوموزي في عربته الملكية ووراءه رتلٌ من الحيوانات المحملة بمختلف أنواع الثمار ومنتجات الأرض، وبهدايا زواج نفيسة، بينما تستحم إنانا وتتعطر وتضع زينتها وتهيئ سرير الزوجية. وبداية هذا النص مفقودة، وفي مطلع الجزء المحفوظ من الرقيم نقرأ عن آخر الهدايا في القائمة التي عدَّدها الجزء المفقود:

الراعي أتى بالزبدة إلى البيت الملكي،
دوموزي أتى بالزبدة إلى البيت الملكي،
وأمام الباب نادى:
«افتحي الباب سيدتي، افتحي الباب.»
أُم إنانا قالت لابنتها:
«أي بنيتي، الفتى سيكون لك أبًا،
أي صغيرتي، الفتى سيكون لك أمًّا،
فافتحي الباب بنيتي افتحي الباب.»
إنانا، نزولًا عند رغبة أمها،
استحمت وتضمخت بالزيت العطر،
وضعت عليها الرداء الملكي الأبيض،
وجهزت بائنتها،
وضعت عقدها اللازوردي حول عنقها،
وبيدها حملت ختمها،
بينما دوموزي بالباب فارغ الصبر،
وعندما فتحت له المصراع،
شعت من داخل البيت أمامه،
كضوء القمر:٥
– «فرجي قرن الهلال،
فرجي قارب السماء،
ملؤه رغبة كالقمر الجديد،
وأرضي متروكة بغير حرثٍ،
فمَن لي، أنا إنانا،
بمَن يحرث لي فرجي!
مَن لي بمَن يفلح لي حقلي!
مَن لي بمَن يفلح أرضي الرطبة!»
– «أي سيدتي العظيمة،
أنا دوموزي الملك، سأحرث لك فرجك.»
– «إذن احرث فرجي يا رجل قلبي،
احرث لي فرجي.»
في حضن الملك ارتفع الأَرْز،
ومن حولهما نما الزرع عاليًا،
من حولهما تدافع القمح سامقًا،
وازدهر كل بستان.٦

ولدينا نصٌّ جميل آخر مصاغ في قالبٍ حواري، يصف أيضًا قدوم دوموزي إلى بوابة بيت إنانا. وهذه ترجمة لمقاطعه الواضحة:

– «أختاه، لماذا أغلقت باب البيت دوني؟
يا صغيرتي لماذا أغلقت باب البيت دوني؟»
– «لقد استحممتُ، اغتسلتُ بالصابون،
لقد اغتسلتُ في المستحَمِّ المقدس،
واستحممتُ بالصابون في الحوض الأبيض،
ارتديتُ عباءة الملوكية، ملوكية السماء،
ولهذا أغلقتُ الباب على نفسي،
كحلتُ عيني بالإثمد،
وصففتُ شعري …
حللتُ خصلاته المشوشة،
وسويتُ أطرافه الملتوية،
ثم جمعتُ الجدائل المنسدلة ورفعتها،
وتركتها تتدلى إلى حافة قذالي،
وضعتُ سوار فضة في معصمي،
وطوقتُ عنقي بعقد خرز صغير.»
– «أختاه، لمسرة قلبك، جئت بالعسل،
جئت بالخبز وتقْدِمات اﻟ … كلها إليك،
أختاه، يا ضوء النجم وعسل الأم التي حملتك،
أختاه، لقد جئت إليك بخمسة أرغفة،
أختاه، لقد جئت إليك بعشرة أرغفة،
حققت لك ما طلبت حتى التمام …

(تطلب إنانا من وصيفاتها فتح الباب لدوموزي وتعطي تعليماتها بخصوص ما يجب عمله:)

– عندما يأتي أخي من القصر،
دعوا الموسيقيين يعزفون لأجله،
وأنا سوف أسكب الخمرة من فمي له،
بذلك سيبتهج قلبه،
بذلك سيفرح قلبه،
دعوه يأتي، دعوه يأتي، ألا ليته يأتي.

(وفي هذا الوقت يتابع دوموزي تعداد ما جاء به من الهدايا:)

– أختاه، سآتي بها معي إلى البيت،
حملانًا جميلة كالنعاج،
جداءً جميلة كالعنزات،
حملانًا جيدة كالنعاج،
جداءً جيدة كالعنزات،
أختاه، سآتي بها معي إلى البيت.

(هنا يغدو النص غامضًا بسبب ظهور أصوات أخرى في الحوارية. الأبيات الآتية يمكن أن تكون لوصيفات الإلهة اللواتي يرقصن من حولها، وهن يتحدثن بلسانها:)

ها صدرنا عارم، ها صدرنا،
ها هو شَعر نبت على فرجنا،
وفي حضن العريس فلتكن بهجتنا،
(ويبدو أن إنانا تحثهن على متابعة الرقص والغناء:)
هيا ارقصن، أنتن هيا ارقصن،
دعوننا نبتهج لفرجي دعونا،
هيا ارقصن، أنتن هيا ارقصن،
بذلك سوف يكون مسرورًا، سوف يكون مسرورًا،
دعوه يأتي، دعوه يأتي، ألا ليته يأتي.٧

هذه هي الخطوة العامة للأسطورة كما ترسمها النصوص المتفرقة التي أوردنا بعضها أعلاه. فإنانا هي القوة الأنثوية الخلَّاقة، ودوموزي هو القوة الذكرية الخلَّاقة. وبدون تقاطع هاتَين القوتَين الكونيتَين؛ القوة السالبة والقوة الموجبة، لا يمكن للحياة الحيوانية والإنسانية والنباتية أن تظهر وتستمر. تمر إنانا في النصوص السابقة بثلاث مراحل من حياتها؛ الأولى: مرحلة الفتاة العذراء التي تحمل في جسدها وروحها كل طاقات الخلق والإنجاب الكامنة. والثانية: مرحلة الفتاة العاشقة التي تتوق إلى تفجير كل تلك الطاقات الكامنة عن طريق الاتحاد بالقوة الذكرية المكملة. والثالثة: هي الزواج المقدس الذي يحوِّل الفتاة إلى سيدة مكتملة ويطلق طاقاتها لتتبدَّى على المستوى الطبيعاني في كل مظاهر الخصب والنماء. إن زواج الإلهين على المستوى الميثولوجي الماورائي، هو البادئ والمحرك لعالم الطبيعة الحية، والغرام المستمر بينهما هو الذي يحرِّض الدافع الجنسي لدى الأحياء ويضمن تكاثرها، ويملأ ضروع الماشية باللبن ويجعل من البذور الصلبة المدفونة في التربة سويقاتٍ وأعشابًا وأشجارًا.

غير أن أسلوب صياغة هذه الأناشيد يدل على أنها كانت تُستخدم في أداء طقسي. فالزواج المقدس على مستوى الأسطورة يتم تكراره سنويًّا على مستوى الطقس في عيد رأس السنة، الذي يقام في بداية فصل الربيع في سومر وفي بقية أنحاء الشرق الأدنى القديم. وتشير الشواهد النصية والفنية إلى أن الملك السومري كان يلعب في هذه المناسبة دور الإله دوموزي، وكانت الكاهنة الكبرى تلعب دور الإلهة إنانا. ويبدو أن الاثنين كانا يلتقيان في ذروة الاحتفال في غرفةٍ تقع في أعلى المعبد المدرج. والفكرة الميثولوجية/السحرية الكامنة وراء هذه الطقس، هي أن الإلهين يحلَّان حقًّا وصدقًا في الملك والكاهنة، وأن الحدث الدرامي المشهود هو عملية تحيين للحدث الأسطوري الذي تم في الأزمان الميثولوجية وجعله حاضرًا في الزمن الجاري. من هنا فإن الطقس الدوري الربيعي لا يتخذ طابع الاحتفال بذكرى ميثولوجية، بل إنه يكررها. ويغدو المحتفلون موجودين في زمن الأسطورة يعايشون الكائنات العليا، ويشهدون تكرار عمليات الخلق حيث يقوم الإلهان من خلال وكيليهما الدنيويين بتجديد الحياة، حياة الطبيعة والإنسان والحيوان.

يظهر الطابع الطقسي للأناشيد التموزية واضحًا كل الوضوح في بعض النصوص التي نجد فيها الإله دوموزي والملك السومري يتبادلان الأدوار في سياق النص، وبطريقةٍ لا نكاد من خلالها نتبين الحدث الأسطوري من الدراما الطقسية. لدينا نصٌّ من عصر أسرة أور الثالثة (حوالي ٢١٠٠ق.م.) ويعود إلى فترة حُكم الملك شولجي، يصف رحلة هذا الملك إلى معبد إيانا المكرس للإلهة إنانا في أوروك، وهو يحمل الهدايا عن كل نوع لكي يخطب ودَّ الإلهة ويدعوها للزواج منه:

شولجي، الراعي المخلص، انطلق بقاربه،
حط الرحال عند رصيف كولاب (في أوروك)،
فأخذته روعة ناموس الملوكية، ملوكية سومر وأكاد.٨
أتى معه بثيران جبلية ضخمة تساق بالأذرع،
أتي معه بنعاجٍ وجِدَاء تُشدُّ بالأيادي،
أتي بجِدَاءٍ مرقَّطة وجِدَاءٍ ملتحية تُحمل إلى الصدور،
إلى إنانا أتى بها، في حرم إيانا المقدس.

(وبينما شولجي يرتدي عباءته الطقسية ويستعد للقاء إنانا كانت الإلهة تنشد في مخدعها وقد أنهت زينتها:)

بعد أن أستحم من أجل السيد، من أجل الثور البري،
بعد أن أُزين أعطافي ﺑ …
بعد أن أطلي بالعنبر ثغري،
بعد أن أُكحل بالإثمد عيني،
بعد أن يحتوي خصري براحتيه المليحتين،
بعد أن يضطجع الراعي دوموزي إلى جانبي،
بعد أن يمسِّد حضني باللبن والقشدة،
بعد أن يضع يده على فرجي،
بعد أن يضمَّني إليه في الفراش،
عندها سأعانق سيدي وأرسم له قدرًا طيبًا.٩

نلاحظ في هذا النص كيف ابتدأ الكاتب بالحديث عن الملك شولجي، ثم تحوَّل بعد ذلك إلى الحديث عن دوموزي في مشهد العناق. وهذا يعني أن الملك الذي يلعب دور الإله في طقس الزواج المقدس، ما يلبث أن يفقد صفته الدنيوية متحولًا حقًّا إلى دوموزي. عندها تعود آلهة الأزمنة الميثولوجية لتماس أفعالها الخلَّاقة كما في البدايات، وتحدد حياة الطبيعة سنةً أخرى قادمة.

ومن عصر الملك إدين داجان ملك إيسين (حوالي عام ٢٠٠٠ق.م.) وصلتنا ترتيلة مرفوعة إلى الإلهة إنانا، يرد في آخرها وصف للقاء الملك والإلهة في ليلة رأس السنة الجديدة:

في رأس السنة في يوم الطقوس،
أقيم لمليكتي مخدعًا لنومها،
عطَّروه بجِرَارٍ مليئة بالأسل والأرز،
وضعوه لمليكتي، لسريرها،
وعلى المخدع نشروا حلاوة،
حلاوة تبهج القلب وتضفي على السرير عذوبةً،
مليكتي تستحم على الحضن المقدس،
تستحم على حضن الملك،
تستحم على حضن إيدين داجان،
إنانا المقدسة تغتسل بالصابون،
ويُرَش لها زيت الأرز العطر، على الأرض،
والملك يمشي رافع الرأس إلى الحضن المقدس،
أموشوم جال أنا (دوموزي) اضطجعْ معها،
ولاطِفْ بحب حضنها المقدس،
وبعد أن لاذت الملكة طويلًا بحضنه المقدس،
غمغمت قائلةً: يا إيدين داجان أنت …١٠

يلي ذلك وصفٌ للمائدة العامرة التي أُعدت لهذه المناسبة، والتي نراها في أعمال الفن المصور لتلك الحقبة، مما سيرد الحديث عنه بعد قليل. هذه المائدة التي تنصب للشخصيتين الرئيسيتين في دراما الزواج المقدس، بما عليها من خيرات وثمار، هي بشكلٍ ما تمثيل للأرض التي يستحثها هذا الطقس على الفيض والعطاء. وقيام هذَين التجسيدَين الإلهيَّين بالأكل من المائدة وتناول الشراب من جرار الخمر الموضوعة أمامهما، هو نوع من الإيحاء بقدوم المواسم الطيبة التي تسد حاجة أهل البلاد.

ويركِّز النص الآتي على تعداد الخيرات العميمة التي تنتج عن زواج الملك من الإلهة إنانا، ولكن اسم الملك المعنيَّ غائب فيه. يبتدئ النص بخطاب موجَّه إلى الإلهة نعلم منه أن سريرها قد تم تطهيره من قِبل جيبيل إله النار، وأن الملك قد أقام مذبحًا وانتهى من أداء الإجراءات الطقسية اللازمة جميعها. بعد ذلك نجد الإلهة ننشوبور وصيفة إنانا ووزيرتها الأمينة تقود الملك إلى حضن عروسه، ملتمسةً منها أن تهبه حكمًا وطيدًا وتفيض على البلاد من خيراتها.

لعل السيد الذي قرَّبْتِه إلى قلبك،
الملك، زوجك الحبيب، لعل أيامه تطول في حضنك الهني،
امنحيه حكمًا وطيدًا ومجيدًا،
امنحيه عرش مُلكٍ وطيد الدعائم،
وثبِّتي في يديه الصولجان والمحجن،
امنحيه تاجًا دائمًا وإكليلًا وضَّاءً على الرأس،
من حيث تشرق الشمس إلى حيث تغرب،
من شمال البلاد إلى جنوبها،
ومن البحر الأعلى إلى البحر الأدنى،
من بلاد شجرة الحلبو إلى شجرة الأرز،
على جميع سومر وأكاد امنحيه الصولجان والمحجن،
فيرعى ذوي الرءوس السود أينما كانوا،
وكما يفعل الفلاح فليضاعف غلال حقولهم،
وكما يفعل الراعي فيكثر في حظائرهم،
وفي أيام حكمه ليكن هنالك زرع وحبوب،
وفي الأنهار فلتعلُ المياه،
وفي الحقول فلتكثر المحاصيل،
وفي السبخات فلتُسمع زقزقات الطيور واصطخاب السمك،
وفي الدغل ليرتفع القصب الجديد والقديم معًا،
وفي البراري لتنمُ أشجار الماشجور،
وفي الغابات لتتناسل الغزلان والماعز البري،
وفي البساتين ليجرِ الخمر والعسل،
وفي مساكب الحدائق ليطلع الخس والرشاد،
وفي القصر لتكن هناك حياة جديدة مديدة،
وليفض الماء في دجلة والفرات،
ويعلُ العشب على الضفاف ويملأ المروج،
وملكة المزروعات تكوم الحبوب تلالًا،
أي مليكتي، يا ملكة السماء والأرض، المحيطة بهما،
فليهنأ بأيام طويلة في حضنك المقدس.١١

إن الإلهة إنانا التي ستنهض هنا طقسيًّا لتهب الخيرات للبلاد عقب زواجها من الملك، قد قامت من قبل، على مستوى الأسطورة، بما هو مطلوبٌ منها الآن. نقرأ في أحد النصوص هذه الأنشودة التي تغنيها إنانا:

لقد جاء بي، لقد جاء بي،
إلى البستان، أخي قد جاء بي.
تمشيت معه بين الأشجار المنتصبة،
وقفت معه عند الأشجار المنحنية.
عند شجرة التفاح قرفصت كما يجب،
وأمام أخي القادم بالأغاني،
أمام السيد دوموزي الذي تقرَّب مني،
الذي من (شجر) الطَّرْفاء تقرَّب مني،
الذي من (نخلات) عراجين التمر تقرَّب مني،
دفقت الزرع من رحمي،
وضعت الزرع أمامه، دفقت الزرع أمامه.
وضعت الحبوب أمامه، دفقت الحبوب أمامه.١٢

(٢) الزواج المقدس في الفن المصور

تقدِّم لنا الأعمال الفنية المصورة من ثقافة وادي الرافدين وثقافات الشرق القديم الأخرى، شاهدًا آخر على طقس الزواج المقدس. وهنا تتطابق المشاهد التي يقدمها لنا هذا الفن مع المشاهد التي رسمتها لنا بالكلمات الوثائق الكتابية التي قدَّمنا لتوِّنا نماذج منها.

يرجع تاريخ أول عمل فني قدَّم لنا صورةً عن الزواج المقدس، إلى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد؛ أي إلى فترة ما قبل عصر السلالات الأولى. وهو عبارة عن فاز (مزهرية) حجرية تم العثور عليه في موقع مدينة أور، ولذا فقد دعاه الأركيولوجيون ودارسو الفن القديم بفاز أوروك. يبلغ طول هذا الفاز المتر تقريبًا، وهو مصنوع من الحجر وعليه مشاهد مصورة بطريقة الحفر، موزعةً على أربعة أشرطة موضوعة بعضها فوق بعض في طبقات (الشكل رقم ١).
fig2
شكل ١: فاز أوروك (من أجل هذا الشكل والشروحات عليه، انظر كتاب العلامة أنطون مورتكات: تموز؛ ترجمة الدكتور توفيق سليمان، دمشق، ١٩٨٥م، ص١١٩-١٢٠، واللوحة ٤).

يعرض لنا الشريط الأعلى المشهد الرئيسي، وفيه نرى الإلهة إنانا على البوابة تستقبل دوموزي الذي يتقدمه خادم عاري الجسم يحمل سلةً مليئة بالثمار. وبسبب عوامل الحت التي نالت من الفاز لم يبقَ من جسم دوموزي إلا قدمه وجزء من التنورة الشبكية المميِّزة له في الفن التصويري السومري. وخلف دوموزي هناك خادمٌ آخر يحمل بين يديه حزمةً من القصب. فإذا عدنا بنظرنا إلى الإلهة إنانا رأينا وراءها رمزها المعروف في الفن السومري، وهو عبارة عن حزمتين من القصب ذات رأسٍ ملتف عند الأعلى وتتدلى منه رايةٌ. وإلى الخلف من الحزمتين هنالك مذبح مصنوع على هيئة تيسٍ، ويرتقي درجاته شخصان يحملان في أيديهما أدواتٍ طقسيةً. يلي المذبح باتجاه الوراء فازان من نوع فاز أوروك نفسه، بقربهما إناءان مليئان بالهدايا التي أتى بها دوموزي. في الشريط الثاني نرى رتلًا من الخدم العراة يحملون أواني مليئةً بالثمار وجرارًا مليئةً بالشراب. وفي الشريط الثالث لدينا ثلاثة حقول، في الحقل الأعلى هناك رتلٌ من الحيوانات الأهلية التي تشكل جزءًا من هدية الزواج، وفي الحقل الأوسط هناك صفٌّ من السنابل وأشجار النخيل، وفي الحقل الأخير لا شيء غير الماء، عنصر الحياة الأول وتجسيد الإله إيا والد دوموزي.

وكما تنتقل بنا الأناشيد الميثولوجية والطقسية من وقوف دوموزي على باب إنانا حاملًا هداياه، إلى دخوله حرم الإلهة وجلوسه معها إلى مائدة الطعام والشراب، كذلك تنتقل بنا الأعمال الفنية والمصورة من وقفة دوموزي التي رأيناها على فاز أوروك، إلى مشهد الشراب الذي يتكرر على الأختام الأسطوانية وعلى اللوحات الجدارية المنحوتة من ذلك العصر. فبعد أن تَقبل إنانا هدايا دوموزي تدعوه إلى الداخل، ويجلس الاثنان على كرسيين متقابلين يتبادلان الأنخاب وبينهما جرة مليئة بالشراب، ويقوم على خدمتهما ساقٍ واحدٌ أو ساقيان، إضافةً إلى عددٍ آخر من الموسيقيين والخدم يختلف من عمل فني إلى آخر. ولدينا من مطلع الألف الثالث قبل الميلاد (عصر ميسيليم تحديدًا) عدد من الأعمال الفنية التي تصور هذا المشهد بتنويعات مختلفة. ففي الشكل رقم ٢ أدناه، لدينا ختم عليه مشهد لرجل وامرأة يجلسان متقابلين وفي يد كل منهما كأسٌ، ويقوم على خدمة كل منهما ساقٍ، إضافة إلى عازف قيثارة وخادمة تقف وراء المرأة تحمل في إحدى يديها مرآةً وبالأخرى إناء على هيئة سطل.
fig3
شكل ٢: مجلس الشراب (انظر المرجع السابق، ص٨٤).
إلى جانب هذا النوع من الأختام، لدينا من العصر نفسه مجموعةٌ من اللوحات الحجرية المنفذة بطريقة الحفر تعالج الموضوع نفسه. وهذه اللوحات مربعة الشكل تقريبًا ومزودة بثقب في وسطها لغاية تثبيتها على الحائط. وجميعها تقريبًا ذات تكوين تشكيلي واحد وعناصر متشابهة. فقد جرى تقسيم سطح اللوحة إلى ثلاثة أشرطة موضوعةٍ بعضها فوق بعض، واحتوى كل شريط على الجانب نفسه من مشهد الشراب مع بعض التعديلات الطفيفة. في الشريط العلوي نجد امرأةً ورجلًا متقابلين في وضعية الجلوس على كرسي وفي يد كل منهما كأسٌ، وبينهما أو وراءهما يقف السقاة والخدم والموسيقيون. وفي الشريط الأوسط هناك الخدم يحملون السلال والجرار التي تحتوي على هدايا الزواج، ويسوقون أو يحملون حيوانًا نذريًّا. وفي الشريط الأسفل غالبًا ما نجد عربةً يقودها سائق مترجل وأمامها خادم بيده عصا. وهذه العربة هي التي قدِم بها الرجل الذي يجالس المرأة في الشريط العلوي. انظر الأشكال ٣ و٤ و٥ أدناه.١٣
fig4
شكل ٣: قطعة من لوحة حجرية مربعة تمثِّل مشهد الشراب.
fig5
شكل ٤
fig6
شكل ٥

(٣) الموت والانبعاث

ولكن الموت صنوٌ للحياة ووجهها الآخر، والطبيعة يجب أن تجدد نفسها بالموت والانبعاث إلى حياة غضةٍ جديدة، مقتفية أثر أول حادثة موت وانبعاث على المستوى الميثولوجي، وهي حادثة موت وقيامة الإله دوموزي. لقد كانت لعبة الحب الكونية التي انتهت باتحاد الإلهين، بمثابة الطور الأول من حياة دوموزي، ولكن العريس الإلهي الذي ما ارتوى بعدُ من كئوس الهوى يجب أن يموت. وها هي عفاريت العالم الأسفل تنطلق في إثره وهو يهرب من وجوههم من مكانٍ إلى آخر، يغير من هيئته متخفيًا عن أنظارهم ولكن دون جدوى؛ لأنهم ما لبثوا أن انقضُّوا عليه وراحوا يسومونه أنواع العذاب قبل أن يسوقوه إلى العالم الأسفل.

لدينا أكثر من نصٍّ سومري يصف عذابات وموت الإله دوموزي. ولسوف أتجاوز هنا النص المعروف جيدًا والذي قدمته في مؤلفي مغامرة العقل الأولى، وأعطيت عنه تحليلات مستفيضة في مؤلفي الثاني لغز عشتار، لألتفت إلى نصوص ذات طابع طقسي تخدم أهداف بحثنا هنا.

تشكل سلسلة الأناشيد الآتية نصًّا معروفًا لدى علماء السومريات تحت عنوان: أكثر البكاء مرارةً. وهو يتميز عن نص موت دوموزي المعروف، بأسلوبه القوي وعاطفته الدافقة وطابعه الدرامي الواضح. يبدأ النشيد الأول ببكائية يرفعها المحتفلون إلى الإلهة إنانا:١٤
أكثر بكاء الدنيا مرارةً نبذله على زوجها،
من أجل إنانا، أكثر البكاء مرارة نبذله على زوجها،
وا حسرتاه على زوجها، وا حسرتاه على فتاها،
وا حسرتاه على بيتها، وا حسرتاه على بلدها،
على زوجها الأسير، على فتاها الحبيس،
على زوجها الميت، على فتاها الراقد،
على زوجها الذي غاب، لأجل أوروك، في الأسر.

(بعد بضعة أسطر أخرى يواسي فيها المنشدون الإلهة، تدخل إنانا إلى المشهد:)

إنانا تبكي بكاءً مرًّا على زوجها الفتي:
اليوم قد قضى زوجي الحلو، زوجي قد قضى،
اليوم قد قضى فتاي الحلو، فتاي قد قضى،
لقد مضيت يا زوجي الحلو إلى زرع البواكر،
لقد مضيت يا زوجي الحلو إلى زرع الأواخر،
قد مضى زوجي إلى الزرع ولكنه قُتل بين الزرع،
قد مضى فتاي يطلب الماء ولكنه أُسلم هناك إلى الماء.

بعد ذلك يعود المنشدون لإعطاء تفصيلات عما حدث، فنعرف أن سبعة عفاريت من العالم الأسفل قد بُعثوا للقبض على دوموزي، وراحوا يبحثون عنه حتى وجدوه نائمًا في الحظيرة، فدخلوها وأخذوا يخربون كل ما يقع تحت أيديهم. ثم قام العفريت السابع بإيقاظ دوموزي بغلظةٍ:

ثم دخل العفريت السابع إلى الحظيرة،
وأنهض سيد الرعاة النائم،
أنهض زوج إنانا المقدسة، سيد الرعاة النائم:
مولانا أرسلنا في طلبك، قم تعالَ معنا،
أرسلنا في طلبك يا دوموزي، قم تعالَ معنا،
أولولو، يا أخا السيدة جشتنانا، قم تعالَ معنا،
نعاجك قد سُلبت وحملانك ولَّت، قم تعالَ معنا،
عنزاتك قد أخذت وجِدَاؤك ذهبت، قم تعالَ معنا،
انزع عن رأسك تاج القداسة، قم عاري الرأس،
ألقِ عن جسمك رداء الملك، قم عاري البدن،
ارمِ من يدك عصا القداسة، قم خاوي اليد،
اخلع عن قدميك نعل القداسة، قم حافي القدمين.

ولكن دوموزي يفلح في الإفلات من أيديهم، وها هم يتشاورون في أمرهم ويضعون خطةً للمطاردة:

عفريت نظر إلى عفريت.

العفريت الصغير خاطب العفريت الكبير:

الفتى الذي نجا من قبضتنا (…)،
دوموزي الذي نجا من قبضتنا (…)،
لنلحق به وندركه عند ربوات البراري،
فهناك عند ربوات البراري مَن يمسكه معنا،
لنلحق وندركه عند خنادق البراري،
فهناك عند خنادق البراري مَن يمسكه معنا،
… … …
دعونا نمسك به في حضن أمه سرتور،
سرتور الأم الحنون، ستقول له قولًا رحيمًا،
دعونا نمسك به في حضن أخته الحنون،
أخته الحنون ستقول له قولًا رحيمًا،
دعونا نمسك به في حضن زوجه إنانا،
إنانا العاصفة الكاسحة.

يصل دوموزي إلى ضفة نهر الفرات فيخلع ثيابه ويسبح إلى الضفة الأخرى، حيث يكون في انتظاره أمه وزوجته، ولكن التيار كان أقوى منه، أو أن قوى العالم الأسفل قد سخَّرت مياه النهر لاقتناص الإله الهارب من قدره:

عند شجرة التفاح المنتصبة التي تنمو على الرابية،
عند شجرة التفاح في صحراء إيموشن،
الماء الدافق الذي يحطم القوارب،
حمل الفتى إلى العالم الأسفل،
الماء الدافق الذي يحطم القوارب،
حمل زوج إنانا إلى العالم الأسفل،
هناك يأكل طعامًا ليس بالطعام،
ويشرب شرابًا ليس بالشراب،
هناك مرابط للماشية ليست مرابطَ،
وهناك سقوف للزرائب ليست سقوفًا،
هناك تحفُّ به العفاريت بدل الصحب والخلَّان.

بعد هذه المشاهد المثيرة للأسى، تعود البكائيات بإيقاع أكثر حزنًا وألمًا. ذلك أن ندْب الإله الميت والتفجع عليه والمبالغة في إظهار الحزن، هي أدوات سحرية تعينه على فك قيوده في عالم الأموات واكتساب القدرة على مقاومة قوى الفناء. في هذه البكائيات ترنيمة يشترك بها نسوة دوموزي؛ أمه وزوجه وأخته. لقد أرسل في طلبهن إلى ملجئه في الصحراء. وعندما وصلن إلى الزريبة التي يتوارى فيها، وجدن أن عفاريت الظلام قد خطفت دوموزي:

على ناي القصب،
قلب يعزف ترنيمة على ناي القصب،
الأجل ذلك الشريد في الصحراء،
قلبي يعزف ترنيمة على ناي القصب،
أنا إنانا التي تُركت وحيدةً في القفر،
وأنا ننسونا أم الرب الفتى،
وأنا جشتينانا أخت السيد الفتى،
قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب،
لأجل ذلك الشريد في الصحراء،
قلب يعزف ترنيمة على ناي القصب،
في مرابعه، في روابي الرعاة،
قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب،
في مرابع مَن أمسى اليوم حبيسًا،
في مرابع مَن أمسى اليوم أسيرًا،
قلبي يعزف ترنيمةً على ناي القصب.

أما عن عودة الإله الميت إلى الحياة، فلدينا عنه نصٌّ واحد مفصَّل اسمه «أيها الرب، الطفل السامي العظيم، الممجد في السماء والأرض»، وهو مؤلف من ثلاثة عشر نشيدًا متراوحة في الطول والوضوح. الأناشيد الأولى عبارة عن مدائح واسترضاء لدوموزي، يليها مرثية دمار مدينة أوروك التي غاب عنها الإله. وفي النشيد الخامس نستمع إلى مرثية من الأم الثكلى تظهر فيها خوفها من ألا يعود الغائب، وما يمكن أن يحمله ذلك من كوارث على الإنسان والحيوان والطبيعة، ولكن من الواضح أن تعداد المخاوف هذا ما هو إلا تحريض لقوى الإله واستنهاض لهمَّته:

لأجله، لأجل الغائب البعيد،
أبكي وخوفي ألا يعود،
لأجل طفلي الغائب البعيد،
أبكي وخوفي ألا يعود،
لأجل (المسيح)١٥ الغائب البعيد،
أبكي وخوفي ألَّا يعود،
من شجرة الأرز المقدسة،
حيث حملت به، أنا أمه،
من معبد إيانا الأعلى والأسفل،
أبكي وخوفي ألا يعود،
من بيت الرب أبكي،
أبكي وبكائي على شجر الكرمة،
خوفي ألا تعطي الكرمة عناقيدها،
أبكي وبكائي على السنابل،
خوفي ألا يجود بها الأخدود،
أبكي وبكائي على النهر العظيم،
خوفي ألا يفيض ماؤه،
أبكي وبكائي على السبخات،
خوفي ألا تكثر أسماكها،
أبكي وبكائي على غيضات القصب،
خوفي ألا يخلف القصب القديم،
أبكي وبكائي على الأحراش،
خوفي ألا تتكاثر غزلانها ووعولها.

في النشيد السادس نرى الأم تذهب للسؤال عن دوموزي عند مربيته التي تعهَّدته بالرعاية في صغره. وهي تتحدث عنه كطفلٍ قضى قبل الأوان لا كشابٍّ في أوج نضجه، فتخبرها المربية بضياع الطفل وترفع الاثنتان صيحات تفجُّعٍ تبلغ عنان السماء والعالم الأسفل. أما في النشيد السابع فنجد الأم تعطي روايةً جديدة عن كيفية اقتياد ابنها إلى العالم الأسفل، ولكننا نعلم أيضًا أن عودته قريبة لأنها تلبس أفضل ما عندها استعدادًا لاستقباله.

في النشيد الثامن، يرتفع الإيقاع الشعري إلى ذروة عالية مفعمة بالنشوة والجذل، عندما تنطلق الحناجر بنشيد مدائحي للرب الذي يوشك أن يصل، فتذكِّره بأسمائه الحسنى جميعًا:

نبيل، نبيل، إنه إله نبيل،
أوشوشو، رب هذا البيت،
إنه لإله نبيل.
ننجشزيدا، رب هذا البيت،
إنه لإله نبيل.
دامو، رب هذا البيت،
إنه لإله نبيل.
عشتار نان، رب هذا البيت،
إنه لإله نبيل.
إيجشوبا، رب هذا البيت،
إنه لإلهٌ نبيلٌ.
أمه أوراش، الأرض المحروثة،
إنه لربٌّ نبيل.
وأبوه إنكي، ثور إريدو الوحشي،
إنه لرب نبيل.
نظرته مفعمةٌ بالروع،
إنه لرب نبيل.
وكلامه مشبعٌ حلاوة،
إنه لرب نبيل.
جسده ينضح عذوبةً،
إنه لرب نبيل.
فِعاله سبَّاقة مجلية،
إنه لرب نبيل.
أيها النبيل، ألا أيها النبيل،
فلتسكن إلينا.
أوشوشو، رب هذا البيت، النبيل،
فلتسكن إلينا.

ثم يتابع النص ذِكر أسماء دوموزي للمرة الثانية إثر البيت الأخير أعلاه، حيث يتم استبدال الشطرة «إنه لرب نبيل» بالشطرة «فلتسكن إلينا»، وذلك حتى نهاية النشيد الثامن. أما النشيد التاسع فقصير، يبدأ بابتهال إلى ثور الإله الذي يجر مركبته، ثم بترنيمة السائرين في موكب الإله العائد:

يا مَن نسير في ركابه، وبه المسرة،
نسرع الخُطا تحت النجوم في سلام.
أوشوشو، يا مَن نسير في ركابه وبه المسرة،
ننجشزيدا، الذي نسير في ركابه وبه المسرة،
دامو، الذي نسير في ركابه وبه المسرة،
عشتارنان، الذي نسير في ركابه وبه المسرة،
إيجيشوبا، الذي نسير في ركابه وبه المسرة،
أورنمو الراعي، الذي نسير في ركابه وبه المسرة.

ثم يتابع النص بعد ذكر أورنمو، وهو الملك الأول من سلالة أور الثالثة، ذكر بقية الملوك الذين اعتُبروا خلال حياتهم تجسيدًا حيًّا للإله تموز، إلى أن ينتهي بخاتمة تُعلي من شأن دوموزي كإله للخيرات من كل الأنواع، ولكن معظم أسطرها مشوَّه عدا سطرين:

يا رب الطعام والشراب، الذي نسير في ركابه وبه المسرة،
يا رب الطعام والشراب الذي نسير في ركابه وبه المسرة.

النشيد الحادي عشر يُشبه في بنائه وتكراره النشيد العاشر ولكنه يقوم على اللازمة: «أيها الرب المبجل، مَن تُرى يجاريك في الجلال والعظمة؟!» أما الثاني عشر فهو تكرار للنشيد السابع. الثالث عشر والأخير مشوه السطر ولكننا نستطيع إعادة بناء بعض سطوره على الشكل التالي:

عد إلينا يا فتى … عد يا فتى،
أوشوشو، عد إلينا يا فتى، عد يا فتى،
ننجشزيدا، عد إلينا يا فتى، عد يا فتى،
دامو، عد إلينا يا فتى، عد يا فتى،
عشتارنان، عد إلينا يا فتى، عد يا فتى،
عد إلينا يا فتى فتُستعاد المعابد، عد يا فتي،
عد إلينا يا فتى، فستعاد المدن، عد يا فتى،
عد إلينا يا فتى بطعام الحياة، عد يا فتي،
عد إلينا بماء الحياة، عد يا فتى.

ثم يتابع النص تعداد الخيرات التي تفيض مع عودة دوموزي، ولكن تشوه الرقيم يحول دون إعطاء صورة واضحة عن هذا الجزء الأخير من النشيد. ورغم أننا نجهل الكيفية التي كانت تؤدَّى بها هذه الطقوس التموزية بتفاصيلها، نظرًا لعدم العثور على تعليمات طقسية خاصة بها؛ إلا أنني أخمن استنادًا إلى إيقاع النص الثالث عشر والأخير الذي يستخدم لازمة: عد إلينا يا فتى عد يا فتي، بأن قرع الطبول والصنوج هنا يأخذ بالارتفاع، بينما ترتفع الحناجر بالدعاء مستنهضة الإله الذي قام من بين الموتى، على الصعود عبر بوابات العالم السفلي السبع. وعندما يصل اللحن الإيقاعي إلى ذروته، يكون المحتفلون الذين عانوا كل مراحل الطقس مهيئين من الناحية النفسية والذهنية للإحساس بحضور الألوهة بينهم، عندما يعلن كبير الكهنة الذي يلعب دور قائد الكورس بأن الإله قد بُعث من عالم الأموات: «لقد قام. حقًّا قام.» وبعد لحظة صمتٍ يشعر كل واحد فيها بإحساس غامر بالتواصل مع الحضرة الإلهية التي صارت حقيقةً تسري بين العباد، ينفجر الجميع بالهتافات والزغاريد معبرين عن فرح غامر بعودة الإله، ثم يسيرون في موكب احتفالي يحمل الإله العائد من العالم الأسفل إلى حبيبته إنانا ليعقد عليها زواجه من جديد. وتبدأ سنة طقسية جديدة.

إن ما يميز النصوص التموزية في بلاد الرافدين هو صيغتها الدرامية التي لا تخفي نفسها. فالأسطورة هنا لا تُروى بأسلوب القص الميثولوجي، بل من خلال أناشيد وحواريات توضع على لسان الشخصيات الرئيسية، وتتخللها مقاطع يؤديها كورس من المنشدين أو أكثر من كورس. كما نستطيع الافتراض بثقة، بأن المشاهد الرئيسية كانت تمثَّل بطريقة حية أمام المشاهدين الذين كانوا ينخرطون في الطقس من خلال مشاركتهم بالإنشاد أيضًا. كل ذلك يضعنا أمام حالة جنينية للدراما التي تطورت في بلدان المشرق ضمن المؤسسة الدينية، ثم انسلخت تدريجيًّا عن أصولها الدينية لتنجب التراجيديا الإغريقية في الحضارة اليونانية. لقد نشأت التراجيديا عن تقاليد طقسية مشابهة للتقاليد التموزية، هي التقاليد الديونيسية التي وُلد منها المسرح الإغريقي. ففي الصيغة الدرامية الطقسية المعروفة باسم الديثرامب Dithyramb، كانت قصة ميلاد الإله ديونيسيوس وحياته وموته الفاجع تتلى من قِبل جوقة من الكهنة في أعياد الربيع. ويبدو أن قائد الكورس قد أخذ بالاستقلال تدريجيًّا عن جماعته، مما أدى إلى تحويل الأداء الجمعي إلى حوار درامي بين قائد الكورس وجماعته، ثم إلى ظهور الأصوات المستقلة الأخرى ضمن الجماعة؛ وبالتالي إلى ولادة الدراما.
١  D. Wolkstein and S. N. Kramer, Inanna, Harper, New York 1982, pp. 30-31. S. N. Kramer, The Sacred Marriage Rite, Indiana University Press 1969, pp. 68-69.
٢  يشير النص هنا إلى وظيفة إنانا كإلهة لكوكب الزهرة المضيء.
٣  إشارةً إلى سطوع كوكب الزهرة عقب غياب الشمس مباشرة.
٤  S. N. Kramer, Sumerian Sacred Marriage Texts (in: J. Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, pp. 639-640).
٥  بعد هذا السطر، بقية النص مليئة بالفجوات، ولكننا نعرف من سياق نصوص أخرى مشابهة أن مثل هذا اللقاء عند الباب يتلوه تبادل كلمات الغزل، حيث يُظهر كل طرف مدى رغبته وتوقه إلى وصال الآخر. من هنا فإنني أكمل المشهد السابق بالنص القصير التالي الذي فُقدت بدايته.
٦  D. Wolkstein and S. N. Kramer, op. cit., pp. 35-36.
٧  S. N. Kramer, The Sacred Marriage Rite, op. cit., pp. 97-98.
٨  ناموس الملوكية هو أحد النواميس المقدسة التي تحتفظ بها آلهة مدينة أوروك، والتي جاءت بها من مدينة إريدو، على ما سردته لنا أسطورة إنكي وإنانا التي أوردناها كاملة في فصل في الأسطورة والتاريخ.
٩  Ibid., pp. 63-64.
١٠  Ibid., p. 65.
١١  Ibid., pp. 82-83.
١٢  Ibid., p. 101.
١٣  المرجع نفسه، اللوحات ١٠، ٢٠، ٢١.
١٤  جميع الأناشيد الطقسية الآتية قمت بترجمتها عن جاكوبسن، انظر كتابه:
Th. Jacobsen, The Treasures of Darkness, Yale University 1976, pp. 47–72.
١٥  أي الممسوح بالزيت. وكان طقس المسح بالزيت نوعًا من التكريس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥