(٧) التموزية ومعتقد الخلود السومري
في الدراسة السابقة، كشفت لنا النصوص والأناشيد التموزية
عن جانب طقسي واعتقادي ذي أهمية بالغة في الحياة الدينية
لثقافات الشرق القديم؛ فإلى جانب الاعتقاد بوجود قوًى إلهية
تعمل على حفظ حياة الإنسان ورعاية مصادر عيشه، فقد اعتقد
الإنسان القديم بقدرته على عون هذه القوى في مهمتها، من خلال
الطقس الذي يعمل على تحيين الأسطورة وجعل النشاطات الخلَّاقة
للزمن البدئي فاعلة في الزمن الجاري. فإذا كانت القوى
الإلهية قد عملت على تجديد الطبيعة في الزمن الميثولوجي، فإن
الطقس وحده هو الكفيل باستنهاضها من جديد لتكرر أفعالها
النموذجية الأولى، وتجدد حياة الطبيعة سنةً بعد أخرى.
وبتعبير آخر، فإن الإله تموز لم يكن يموت في كل سنةٍ ثم يبعث
إلى الحياة من جديد، كما تعوَّد الباحثون قوله وتكراره
بتأثير ملاحظتهم للطقس الدوري، ومزجهم بين الطقس والأسطورة؛
ولكنه مات وبعث إلى الحياة وتزوج الإلهة إنانا في دورة حياة
واحدة، حصلت في أزمان الأصول والتأسيس، من أجل إعطاء النموذج
البدئي لصيرورة عمليات الطبيعة. وليس موته وبعثه في كل عام
إلا دورة حياة طقسية يجري تكرارها دراميًّا لغرض تحيين
الأسطورة واستحضار زمنها الميثولوجي الخلَّاق.
١
رغم أن هذا الجانب من المعتقدات والطقوس المشرقية يصنف
عادة تحت اسم عبادات الخصب، التي يرى فيها معظم الباحثين
نزوعًا براجماتيًّا نحو حفظ بقاء الإنسان وتأمين موارد عيشه؛
إلا أن وجهًا آخر لهذه العبادات الخصبوية ما يلبث أن يطفو من
تحت المظاهر الخارجية والأغراض المباشرة للطقوس التموزية.
ذلك أن دوموزي-أبسو، ابن الماء الخلاق مجدد طاقة الحياة
وحافظ قوى الخصوبة والنماء، هو في الوقت نفسه قاهر الموت
الذي حرر نفسه من قوى العالم الأسفل. من هنا فإنه الإله
الوحيد القادر على إعطاء الإنسان أملًا في تحقيق الخلود،
والأخذ بيده عبر برزخ الموت نحو عالم آخر أكثر بهجةً وسعادة
من عالمه الأرضي. إن الطقوس التموزية تلعب هنا دورًا
مزدوجًا. والعباد الذين يحتفلون بعودة الإله الميت من باطن
الأرض حاملًا معه حزم القمح غذاء للجسد، إنما يستحضرون في
الوقت ذاته تلك القوة القادرة على دحر الموت وتحقيق الخلاص
من بؤس الحياة الأرضية ومن ظلمات العالم الأسفل. ومن ناحية
أخرى، فإن ارتباط فكرة بعث الروح وتجديدها بعبادة الخصب،
نابع من نظرة الإنسان القديم إلى نمو الزرع باعتباره معجزة
غير مفهومة؛ فالبذور الصلدة الصماء تودع في الأرض بضعة شهور،
لتدب فيها الحياة وتعطي ورقًا وحبًّا جديدًا. فإذا كانت هذه
المعجزة ممكنة في عالم النبات، فإنها ممكنة أيضًا بالنسبة
للإنسان، وعودة الحياة إلى العظام الصلبة الميتة ليس أكثر
استحالة من عودة الحياة إلى البذور؛ لأن القوة الفاعلة في
كلا البعثين واحدة. مع هذا الإدراك لإمكانية الخلاص بواسطة
الإله الذي مات وقام من بين الأموات، يتحول الموت من مصير
فردي مظلم إلى مرحلة تطهير وتجديد، يبلى معها الجسد الدنيوي
ويستبدل به جسدًا نورانيًّا قادرًا على البقاء والاستمرار في
عالم الآلهة الخالدين. من هنا تأتي تلك الصلة الغامضة في
الميثولوجيا بين آلهة الخصب وآلهة الموت، صلة تبدو من القرب
أحيانًا إلى درجة التطابق التام بينها، كما في الميثولوجيا
المصرية مثلًا.
لقد انتصر تموز على قوى الظلام وصعد ظافرًا إلى حياة
جديدة، ومعه يصعد الأمل في قلوب المشاركين بالطقس بقدرتهم
على قهر الموت كما إلههم الذي يحضر بينهم ويستشعرون وجوده
حقًّا وصدقًا. وها هو يعطي لكل مؤمن وعدًا بأنه سيكون حاضرًا
لديه عندما تأتي ساعة المنية ليقوده في طريق النشور إلى
العالم الثاني. لقد دخل المحتفلون إلى الأسطورة؛ والأسطورة
هنا لم تعد قصة وقعت في زمن ماضٍ بل واقعًا حيًّا هنا والآن.
ذلك أن صيغة الماضي التي تروى بها الأسطورة عادةً، تتحول من
خلال الطقس إلى صيغة الحاضر وتبدي عن جوهرها القائم أبدًا،
حيث تتحول مقولة: عندما في البدء، إلى مقولة: عندما في الآن.
ويأتي الطقس بالقوى الإلهية فيجعلها حاضرةً بين المحتفلين
مثلما كانت حاضرةً بين الجيل الأول من الأسلاف، لا باعتبارها
كائنات علوية تتطلب الصلوات، ولكن باعتبارها تمثيلًا للحقائق
الفائقة لصيرورة الوجود ولهذا الحاضر المُعايَن والمُعَاش،
باعتبارها قوًى ممتزجة بألم هذه اللحظة التي تنبض بالحياة
وفي الوقت نفسه تغمس جذورها في قرار الموت.
إن الأسطورة الحقة، هي الأسطورة التي تفصح عن وجهَيها
هذَين: وجه القِدم، ووجه الآن المزروع في السرمدية.
إن الوجه الآخر للمعتقد التموزي باعتباره معتقدًا للخلاص،
لا تظهره لنا الوثائق الكتابية. والسبب في ذلك راجع إلى أن
عقيدة الموت والخلود التموزية لم تكن العقيدة الرسمية في
سومر خلال عصر التدوين السومري (فترة حكم أسرة أور الثالثة
٢٠٠٠م–٢١٠٠ق.م.)، الذي تمت خلاله عملية تحرير واستنساخ معظم
ما نعرفه من النصوص الأدبية والميثولوجية السومرية. فلقد
نضجت التصورات اللاهوتية لعقيدة الخلود التموزية منذ عصر ما
قبل الأسرات، ولدينا شواهد فنية على وجودها منذ عصر جمدت نصر
(٣١٠٠–٢٩٠٠ق.م.)، ولكن هذه العقيدة قد تعرَّضت خلال العصر
الصارغوني السامي (٢٣٠٠–٢١٦٠ق.م) إلى مقاومة رسمية من قِبل
اللاهوت الجديد للحكام الساميين، وهو لاهوت يدور حول الآلهة
الكوكبية ولا يعير كبير اهتمام لآلهة الدورة الطبيعية التي
كانت في بؤرة الحياة الدينية السومرية، ناهيك عن معتقد
الخلود الذي تخلو منه الديانة السامية الرافدية خلوًّا
تامًّا. وعندما عادت السلطة السياسية إلى يد السومريين
الفترة قصيرة خلال حكم أسرة أور الثالثة، يبدو أن الاتجاه
الرسمي للحكام السومريين في ذلك الوقت، قد فضَّل إحياء
العبادات التموزية في جانبها الخصبوي وطمس جانبها الآخر،
بتأثير الانقلاب العميق الذي أحدثه الحكم السامي في الحياة
الدينية لكل من سومر وأكاد.
لقد كان اكتشاف المقابر الملكية لملوك عصر فجر السلالات في
كلٍّ من مدينة كيش ومدينة أور، أول ما لفت النظر إلى عقيدة
الموت والخلود السومرية. ففي موقع مدينة كيش، تم اكتشاف عدة
مقابر ملكية احتوت إلى جانب المدفون الرئيسي على جثث عددٍ من
حيوانات الجر، وجثث عدد من الخدم والأتباع الذين رافقوا
سيدهم إلى العالم الآخر. كما وجد بين المدفونات الجنائزية
مناشير من النحاس وأزاميل.
٢ ويخدم وجود هذه الأدوات غاية رمزية تتصل
بالاعتقاد بأن الملك الذي لعب في حياته دور الإله تموز، سوف
يحرر نفسه من القبر ويُبعث من جديد كما فعل تموز قبله. ولسوف
تتضح هذه الأفكار والممارسات المتعلقة بالبعث والنشور بشكل
أكثر في مكتشفات المقابر الملكية لأسرة أور الأولى.
في موقع مدينة أور وعلى مقربة من المعبد الرئيسي لإله
القمر نانا، اكتشفت بعثة التنقيب البريطانية برئاسة السيد
ليونارد وولي، عام ١٩٥٣م، أرض مقبرة سومرية واسعة احتوت في
سويتها العليا على حوالي ١٨٥٠م قبرًا سطحيًّا من النوع
العادي البسيط المخصص لدفن عامة الناس. أما في سويتها
السفلى، فقد تم اكتشاف ست عشرة مقبرة نفقية على عمق عشرة
أمتار من سطح الأرض، وتبين من نقوش الأختام الأسطوانية التي
كانت بين الهدايا الجنائزية، أنها كانت مقابر الملوك أسرة
أور الأولى وزوجاتهم. ورغم الاختلافات البسيطة في طريقة
تنفيذ هذه المقابر؛ إلا أنها تنتظم وفق مخططٍ معماري واحد،
وجرى الدفن فيها وفق طقوس جنائزية متشابهة. تتألف المقبرة
الواحدة من ردهة رئيسية مخصصة لدفن الملك، ومن غرفة أخرى أو
أكثر لدفن الأتباع الذي رافقوا مليكهم طواعيةً إلى مثواه
الأخير. وسنقدم فيما يأتي وصفًا لأهم هذه المدافن، وهو مدفن
مزدوج مخصص للملك أبارجي وزوجته المدعوة شبعد.
في الردهة المخصصة لمدفن الملك، كانت الحجرة مثقوبة من
الأعلى وجثة المدفون الرئيسي مفقودة. وهذه واقعة تتكرر في
بقية المدافن الملكية. وقد عُثر قرب المكان المخصص لدفن
الملك على قارب صغير من الفضة، وآخر من النحاس مع مجازيفهما.
وبما أن طول الوحد منهما لا يتجاوز المتر، فإن وجودهما يخدم
غاية رمزية، مثلهما في ذلك مثل الإناء الحجري الذي وُجد على
مقربة منهما ويحتوي على أدوات نحاسية بينها مثقب ومنشار
وإزميل، وأيضًا منشار ذهبي وإزميل. كما عُثر على لوحة من
الفضة ذات شكل شطرنجي مقسمة إلى مربعات، وفي كل مربع مناظر
وأشكال منفَّذة بأسلوب الترصيع بالفضة واللازورد. ومن أوضح
المشاهد المصورة في هذه المربعات هناك زهرة ثُمانية
الوريقات، وشجرة بين حيوانين أهليين بشبان على قوائمهما
الخلفية يقضمان من أوراقها، وصراع بين ثورٍ وأسد (انظر الشكل
رقم
١).
وكما سنرى بعد قليل، فإن جميع هذه المشاهد من الفن المصور
ذات صلة بعقيدة تموز-إنانا. أما في المكان المخصص لدفن
الأتباع، فقد عُثر على ٥٧ جثةً ممدة بعضها قُرب بعض، إضافة
إلى ستة محاربين بخوذهم النحاسية ورماحهم. وخلف هؤلاء تقف
عربتان بأربع عجلات مع جثث حيوانات الجر من الثيران،
والسائقين وخدم العربات. كما رافق الملك أيضًا تسع نسوة
بكامل زينتهن من حُلي ذهبية ومشابك شَعر فضية وأكاليل من
اللازورد والعقيق، وغيرها. ويتضح من وجود الأدوات الموسيقية
قُرب هؤلاء النسوة أن هذه المجموعة كانت تؤلف جوقة الملك
الموسيقية. بين الأدوات يلفت نظرنا بشكل خاص قيثارة كبيرة
رصع وجهها الأمامي بعدد من المشاهد موزعة على أربعة حقول
موضوعة بعضها فوق بعض. في الحقل العلوي الرئيسي نجد صورةً
لرجل عارٍ متمنطق بحزام، له شَعر أجعد ولحية مضفورة، وهو
يقبض بكلتا ذراعيه على ثورين لهما رأس آدمي ولحية. وهذه هي
إحدى التمثيلات الرئيسية للإله تموز من ذلك العصر، كما سنرى
بعد قليل (الشكل رقم
٢). وفي الحقول
الثلاثة الأخرى لدينا مشاهد لحيوانات منتصبةٍ على قوائمهما
في أوضاعٍ شتى، بعضها يحمل في يديه جرار شراب وبعضها يعزف
الموسيقى. ويوحي أسلوب تنفيذ رسوم هذه الحيوانات بأنها
آدميون متنكرون بلباس حيوانات؛ الأمر الذي يستحضر إلى الذهن
كرنفالات الربيع المرتبطة بأعياد تموز.
وبملاصقة مقبرة الملك أبارجي، ثم العثور على مقبرة أخرى
مخصصة لزوجته الملكة شبعد. وقد وُجدت جثة الملكة في مكانها
وبكامل زينتها الملكية الباهرة، إضافةً إلى جثث أربعة حرَّاس
متمنطقين بخناجر، وتسع نسوة تبين من زينتهن أنهن من
الكاهنات، وكانت إحداهن ما تزال ممسكةً بآلة وترية؛ الأمر
الذي يدل على أنها بقيت تعزف حتى آخر لحظة من حياتها. وقد
زُينت واجهة هذه الآلة الوترية أيضًا بعدد من المشاهد
المرصعة والموضوعة بعضها فوق بعض؛ في الحقل الأول نجد نسرًا
برأس أسد يقبض بمخالبه على عنزتين، وفي الحقل الثاني شجرة
يشب عن يمينها ويسارها ثوران، وفي الثالث بطل في هيئة مزيجة
من إنسان وثور يقهر نمرين، وفي الرابع صراع بين أسد وثور.
وهذه المشاهد جميعها تنتمي إلى دائرة الفن المصور لعقيدة
تموز وإنانا.
٣
ويعلق السير ليونار دولي على هذه المقابر النفقية التي
اكتشفها بقوله:
إن الملك السومري المتوفَّى كان يصطحب معه أفراد
بلاطه وحاشيته جميعهم. فهؤلاء المدفونون مع الملك لم
يكونوا من العبيد الذين أُجبروا على الموت، بل من
الأتباع ذوي المكانة في القصر. وقد جاءوا بكامل
لباسهم الرسمي إلى المقبرة، لتأدية طقس طوعي من شأنه
في اعتقادهم أن يعبر بهم من عالم إلى عالم آخر، ومن
خدمة إله على الأرض إلى خدمة الإله نفسه في عالم
ثانٍ. إن كل الدلائل تشير إلى أن هؤلاء المتطوعين قد
وصلوا أحياء إلى المقبرة، ومن الجائز أنهم قد
تناولوا هناك شرابًا قاتلًا، وبعد مفارقتهم الحياة
تم ترتيب جثهم في وضعيتها الأخيرة قبل إغلاق القبر.
٤
إن افتقادنا للوثائق الكتابية التي يمكن أن توضح الجوانب
المختلفة لعقيدة الخلود السومرية، لا يقلل من شأن هذه
العقيدة ولا يشكك في وجودها. وما علينا من أجل تعويض البينة
الكتابية سوى الالتفات إلى أعمال الفن التشكيلي منذ عصر ما
قبل الأسرات في سومر، لنجد أنها تخدم في معظمها عقيدة
تموز-إنانا بوجهيها الخصبوي والخلاصي. فالأشكال التي وجدناها
مصورة على الأدوات الموسيقية من مقبرة الملك أبارجي وزوجته
(والتي لم تُخَزن هناك لأغراض جمالية بل لأغراض طقسية)،
تتكرر بشكل ملفت للنظر على الأختام الأسطوانية وغيرها من
وسائل التعبير الفني، وتشير إلى وجود عقيدة دينية تحاول
التعبير عن نفسها بشتى الوسائل التصويرية. فرغم أن الديانة
السومرية تتمركز حول آلهة تمسك بزمام المظاهر الرئيسية
للكون، وعلى رأسها آنو السماء وإنليل الهواء وإنكي الماء؛
إلا أن الحقيقة الواضحة لدارس الأديان في هذه المنطقة، هي
وجود إلهة أقدم من هؤلاء لا تنتمي إلى القوى الكونية الكبرى،
بل تجسِّد قوة الحياة الخالدة. وهذه الإلهة قد دخلت عند
أعتاب التاريخ في علاقة مع تموز الذي يجدد بدورة حياته
الطقسية قوة الحياة.
٥ وقد بقي الاعتقاد بهذَين الإلهَين يؤجج الحياة
الروحية السومرية لأكثر من ألف عام، ثم تحول بعد ذلك إلى
عبادة سرانية بتأثير اللاهوت الرسمي الأكادي السامي المعادي
للتموزية.
إن استعراض حصيلة الإنجازات الفنية لمنطقة بلاد الرافدين،
يضعنا أمام نوعين من الآثار الفنية؛ الأول عبارة عن أعمال
تنتمي مشاهدها إلى فترة محددة. ويمكن تفسيرها استنادًا إلى
الكتابات المنقوشة عليها، مثل مسلة العقبان للملك إيا ناتوم
ومسلة النصر للملك نارام سن. والثاني عبارة عن عدد ضخم من
الأعمال الفنية متنوع في الحجم وفي أساليب التنفيذ (نحت
بارز، أختام، رسوم ملونة، أشكال مرصعة)، ولكنه يدور حول عددٍ
محدود من الأفكار المصورة التي تتكرر مشاهدها عبر العصور
وعلى مدى قرون متوالية، دون انقطاعٍ ودون أن تكون مرتبطةً
بفترة معينة. ومما يلفت النظر إلى هذا النوع الثاني والأهم
من الأعمال الفنية، هو عدم وجود كلمة واحدة منقوشة عليها
يمكن أن تساعد في الكشف عن معناها الحقيقي، ولكن ديمومة
الأفكار المصورة لهذه الأعمال وقدرتها على الاستمرار وقفزها
فوق العصور التاريخية المتعاقبة، يدل على أننا بصدد أفكار هي
فوق الزمن؛ وبالتالي فإنها تشكل أساسًا خالدًا للفكر الديني
المشرقي القديم.
٦
والمثال النموذجي لفكرة مصورة عاشت عبر جميع الحقب، هو
الشكل المدعو من قِبل الدارسين المحدثين بشجرة الحياة.
والشكل عبارة عن شجيرة أو نبتة منفذة بأسلوب نمطي أو طبيعي،
وعن يمينها ويسارها حيوانان أهليان مصوران إما في وضعية
الوقوف على أربع، أو في وضعية القفز على القوائم الخلفية
يقضمان من أوراق الشجرة. يبدأ ظهور هذه الفكرة في الأعمال
التشكيلية منذ فجر التاريخ في سومر، ويستمر عبر مراحل
التاريخ الرافدي جميعها وصولًا إلى نهايات العصر الآشوري
الحديث في أواخر القرن السادس ق.م.، كما نلاحظ تكرار هذه
الفكرة في الأعمال الفنية الآرامية والفينيقية (انظر الشكل
رقم
١ سابقًا). ورغم التبدلات الخارجية
التي طرأت على أسلوب التنفيذ؛ إلا أن الفكرة الجوهرية وراءها
كانت واحدة.
٧ فشجرة الحياة كانت تمثل الإلهة إنانا، المعبود
الرئيسي لعصور ما قبل الأسرات في سومر،
٨ وهي التي صُورت على الهدايا الجنائزية في مقابر
آور الملكية.
إلى جانب فكرة شجرة الحياة، يتكرر عدد آخر من الأفكار ذات
الصلة الداخلية بهذه الفكرة الأساسية، وهي: الراعي الملكي،
والبطل قاهر الكواسر، وصراع الأسد والثور، ومجلس الشراب،
وجوقة الحيوانات. وتشكل هذه الأفكار محور المشاهد المصورة
على الهدايا الجنائزية في مقابر أور الملكية؛ الأمر الذي يدل
على صلتها الوطيدة بمعتقد الخلود التموزي.
في مشاهد الراعي الملكي، نجد تشابهًا في التكوين الفني مع
مشاهد شجرة الحياة. فهنا، وعوضًا عن الشجرة، نجد في بؤرة
المشهد رجلًا يرتدي مئزرًا شبكيًّا شفافًا ويضع على رأسه
عصابة تحيط بشعر ذي تسريحة خاصة، وهو يمد بكل يد غصنًا
مورقًا إلى شاتين تشبان على القوائم الخلفية لتقضم منه. وقد
يظهر خلف الحيوانين المتناظرين حزمتان رفيعتان من القصب
ملفوفتان في أعلاهما بشكل حلزوني وتتدلى منهما راية (انظر
الشكل رقم
٣).
وحزمة القصب هذه، على ما نعرفه بشكلٍ مؤكد، هي رمز الإلهة
إنانا. وقد بقي هذا الرمز بصيغته نفسها في الكتابة المسمارية
للدلالة على الإلهة إنانا. وبما أن عصابة الرأس وتسريحة
الشَّعر الخاصة هنا هما علامتان مؤكدتان للملك في عصر فجر
السلالات، فإن المضمون هنا لا يدور حول مشاهد يومية من حياة
الرعاة، بل حول راعٍ ملكي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بعالم
النبات؛ خصوصًا وأننا نسمع في الأناشيد السومرية عن راع هو
سيد بيت الرعاة وسيد قطعان الماشية.
وهذا الراعي الملكي الذي يرعى مواشي الأم الكبرى ويعلفها،
هو الإله-الإنسان دوموزي، النموذج الأول لجميع آلهة النبات
في الشرق القديم، الذي يمثل في شخصه حياة الطبيعة. إنه الشخص
الثاني في دراما الخصب، ويشكل مع إنانا الإلهة الأكثر عراقةً
منه في التاريخ الديني، مبدأ الحياة بشكل عام. فهما المجسدان
الرئيسيان للعقيدة السومرية التي تتركز حول دورة الحياة
والموت، كما يشكل المحور الذي تدور حوله الأعمال التشكيلية
خلال الحقبة الحاسمة من فجر التاريخ السومري.
٩
هذا الراعي ذو التنورة الشبكية، يظهر في العديد من المشاهد
المتكررة الأخرى وهو يدافع عن الحيوانات الأهلية ضد حيوان
كاسر، هو الأسد في غالب الأحيان (انظر الشكل
٤ والشكل
٥). وقد
نجده في الوسط بين أسدين ممسكًا بذيليهما وكلٌّ منهما يقفز
في اتجاه، أو في حالة صراع منفرد مع أسد وهو يطعنه برمح أو
خنجر. ونلاحظ في الشكل رقم
٥ والشكل
رقم
٦، أن البطل هنا هو البطل نفسه
الذي رأيناه في مشهد الحقل الأعلى من قيثارة الملك أبارجي
(انظر الشكل
٢ سابقًا). ورغم أنه يظهر
هنا عاريًا إلا من حزامٍ في وسطه، فإن لدينا من الدلائل ما
يشير إلى أننا نتعامل مع الشخصية نفسها سواء في مشاهد الراعي
ذي التنورة الشبكية أم في مشاهد البطل قاهر الكواسر؛ لأن
الإلهة إنانا تظهر في بعض مشاهد صراع الكواسر مثلما ظهرت في
مشاهد الراعي الملكي. فعلى خاتم أسطواني محفوظ في متحف برلين
نرى البطل العاري بالشَّعر الكثيف واللحية المضفورة يصرع
أسدًا بفأس حربية، ومن ورائه الإلهة إنانا وهي تهبُّ
المساعدة حبيبها فتمسك بذيل الأسد لتمكن الراعي من قتله.
ومما يؤكد لنا شخصية الإلهة إنانا هنا هو السنابل أو الأغصان
التي تنبعث من كتفيها. وهذا الختم لا يدع مجالًا للشك في
تطابق الهوية بين الراعي وقاهر الكواسر، وفي أننا نتعامل مع
وجهَين للبطل الأسطوري نفسه؛ الإله الإنسان تموز، عشيق الأم
الكبرى إنانا. أما عن مضمون مشاهد صراع البطل مع الكواسر،
فإنه يدور حول صراع الحياة والموت، صراع تموز الذي يمثل
الحياة مع الحيوان الكاسر الذي يمثل الموت. وكذلك الأمر في
مشاهد صراع الأسد والثور. وبما أن هذه المشاهد تُظهر حالة
توازن في الصراع بين الحيوانين، فإن الفكرة القائمة وراءها
هي حالة التوازن بين النقيضين اللذَين يمثلان جوهر الوجود.
١٠
لقد تحدثنا في الفصل السابق ببعض التفصيل عن مشهد الزواج
المقدس، الذي وجدناه على الأختام وعلى الألواح الحجرية
المربعة ذات الثقب. ورأينا كيف عبَّرت هذه الأعمال الفنية عن
فكرة الزواج المقدس من خلال مشهدين؛ مشهد قدوم دوموزي إلى
بوابة إنانا حاملًا معه مجموعة من هدايا الزواج، ومشهد مجلس
الشراب. وما علينا الآن، لكي نستكمل دائرة الأفكار المصورة
العقيدة الموت والخلود التموزية؛ إلا أن نعقد الصلة بين
مشاهد الزواج وبقية مشاهد الأفكار الخالدة المصورة.
على فاز أوروك الذي يمثل مشهد قدوم تموز إلى بوابة إنانا
حاملًا هداياه (الشكل رقم
١) رأينا
تموز في هيئة الراعي الملكي ذي التنورة الشبكية، وهي ذات
الهيئة التي يبدو بها على الأختام التي تمثله وهو يمد بكل يد
غصنًا مورقًا إلى شاتين تشبَّان على القوائم الخلفية لتقضم
الأوراق. وعلى عكس فاز أوروك الذي نال منه الحت ولم يبقَ لنا
من شكل تموز سوى طرف تنورته الشبكية، فإن بعض الأختام من
مطلع عصر الأسرات تكرر المشهد ذاته. فعلى ختم أسطواني محفوظ
الآن بمدينة دريسدن بألمانيا نجد تموز في هيئة الراعي الملكي
بشَعره المجدول والمشدود نحو الخلف بواسطة عصابة رأس
وبتنورته الشبكية الكاملة، يخطو نحو بوابة إنانا وبيديه
الاثنتين يرفع حيوانًا أهليًّا صغيرًا، وأمامه على الأرض
اصطفت أوان وسلال مليئة بالهدايا وبثمار الأرض. ورغم أن
الإلهة هنا لا تظهر على البوابة بشخصها؛ إلا أن حضورها معبر
عنه بواسطة حزمتَي القصب المعروفتين كشارة لها (انظر الشكل
رقم
٧).
وفي الزمرة الثانية من مشاهد الزواج المقدَّس والتي تتخذ
من مشهد الشراب موضوعًا لها، لدينا من الدلائل أيضًا ما يجمع
هذه المشاهد إلى بقية المشاهد المصورة للأفكار الخالدة، حيث
نجد مشهد الشراب الرئيسي في الأعلى وقد أُلحق به مشهد شجرة
الحياة في أحد الأشرطة السفلى، أو مشهد صراع البطل العاري
حامي القطعان مع الوحش المفترس الذي ينقضُّ على بقرة، على ما
هو موضح في الشكلين
٨ و
٩.
لقد شغلت هذه الأفكار المصورة كل أعمال الفن التشكيلي
تقريبًا، منذ فجر التاريخ حتى نهاية فترة حكم سلالة أور
الأولى؛ أي خلال الحقبة التأسيسية للإبداعية السومرية، بحيث
لا نعثر إلا على القليل من الإنجازات الفنية لا يخدم عقيدة
إنانا-تموز. إلا أن توطيد أسس السلطة الزمنية في المدن
الكبرى على حساب السلطة الروحية للمعبد والكهنوت، قد دفعت
تدريجيًّا بالثالوث الإلهي: آنو وإنليل وإيا إلى المقدمة
وأخذ اللاهوت الرسمي يتحول تدريجيًّا عن الأم الكبرى المجسدة
لطاقة الحياة في الطبيعة، وعشيقها تموز مجدد الحياة وقاهر
الموت. وعندما انتقلت السلطة في وادي الرافدين الجنوبي إلى
العناصر السامية، كان الوضع الفكري مهيئًا تمامًا لتقبل
الانقلاب الكبير الذي أحدثه الأكاديون في الحياة الدينية
للمنطقة.
ومع ذلك، فإن الطاقة الروحية الهائلة لعقيدة إنانا- تموز
لم تفقد زخمها الأصلي، وإنما استمرت تعبر عن نفسها بأشكال
شتى حتى نهايات تاريخ الشرق الأدنى القديم في أواخر الألف
الأول قبل الميلاد. فعلى النطاق الشعبي، استمرت عبادات الخصب
قائمة بعد أن تم إنزال آلهتها إلى المرتبة الثانية. وعلى
النطاق الرسمي، عمد اللاهوتيون الساميون إلى إجراء تسوية بين
معتقد الآلهة المتعالية الكلية القدرة ومعتقد الألوهة
الطبيعانية التي تمثل خصب الأرض ودورة الفصول، بأن جعلوا من
الإله الأعلى مردوخ إلهًا يموت أيضًا ثم يبعث في عيد رأس
السنة البابلي الذي حل رسميًّا محل الأعياد التموزية. فبعد
تلاوة أسطورة التكوين البابلية وتمثيلها دراميًّا، يخرج
المنادي ليعلن بأن مردوخ-بل قد مات وأُلقيت جثته في الجبل،
وينتهي هذا الجزء من السيناريو الطقسي ببعث مردوخ وصعوده من
العالم الأسفل. ونحن نعرف بكل تأكيد بأن هذه الفقرة الطقسية
من احتفالات رأس السنة البابلية لا تتمتع بسند ميثولوجي،
سواء في الإينوما إيليش أسطورة التكوين البابلية، أم في
غيرها من الأساطير البابلية؛ الأمر الذي يدل بكل وضوح على
أنها بقية من الطقس التموزي الأسبق تم إدماجها في طقوس
مردوخ، من أجل امتصاص المعتقدات والطقوس التموزية.
ومما يدل على استمرار عقيدة إنانا-تموز فاعلة في الوسط
الفكري لإنسان المنطقة، هو استمرار ظهور المشاهد التي تنتمي
إلى دائرة الأفكار المصورة لهذه العقيدة، في الفن الأكادي
ومن بعده البابلي فالآشوري، سواء على الأختام الأسطوانية أم
غيرها من وسائل التعبير الفني، ولكن على نطاق أضيق بكثيرٍ،
ومع بعض التعديلات التي تنم عن تراجع عقيدة إنانا-تموز إلى
المرتبة الثانية. فلقد استمرت طقوس الخصب على النطاق الشعبي
تحتفل بموت وقيامة تموز كإله لدورة الطبيعة. أما الوجه الآخر
لهذه الطقوس والأفكار القائمة وراءه؛ أي معتقد الموت
والخلود؛ فقد تحوَّلت إلى عبادة سرانية باطنية مقتصرة على
مَن يمر عبر طقوس الاستسرار ويعبر إلى حلقة المريدين.
١١
ونظرًا لقلة المعلومات أو انعدامها حول هذا الطور الباطني
السراني لعبادة إنانا-تموز، فإننا لا نستطيع متابعتها في
أشكالها المشرقية بل في أشكالها المعروفة في الثقافة
الإغريقية تحت اسم «عبادات الأسرار.» فهذه العبادات
الإغريقية الموثقة لنا تاريخيًّا قد وردت إلى بلاد اليونان
من المشرق، كما يؤكد لنا أهلها والذين أرَّخوا لها من
القدماء. ومن هنا تأتي أهميتها في إلقاء الضوء على أصولها
المنسية في ثقافات المشرق القديم.
وبما أننا قد حددنا مجال بحثنا، في مقالات ودراسات هذه
الكتاب، بالميثولوجيا والمعتقدات المشرقية، فإن عبادات
الأسرار الإغريقية تقع خارج مجالنا هذا. وقد يقودنا الخوض
فيها خارج الدرب الذي نمشي عليه الآن، ولكني أقترح على
القارئ المهتم بمتابعة الموضوع، واحدة من أهم المراجع
الحديثة في عبادات الأسرار. وهو كتاب
The
Mysteries، من تحرير
Joseph Campbell ومساهمة
عدد من البحاثة المتميزين.
١٢