(٨) مقدمات التوحيد١ في عقائد الشرق القديم

واحدٌ، ولا ثاني له، واحدٌ خالق كل شيءٍ
قائم منذ البدء، عندما لم يكن حوله شيءٌ
والموجودات خلَقَها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود.

لا تشكل هذه الأسطر جزءًا من ترتيلة خاصة بإحدى الديانات التوحيدية المعروفة لنا تاريخيًّا، والتي استحوذت على صفة «التوحيدية» من دون بقية الديانات الإنسانية، بل هو جزء من ترتيلة مصرية قديمة، لها متوازيات وأشباه كثيرة في الأدبيات الدينية المصرية تتراوح في قِدمها من فجر السلالات إلى نهايات التاريخ الفرعوني. تتابع الترتيلة فتقول:

أبو البدايات، أزليٌّ أبديٌّ، دائمٌ قائمٌ
خفيٌّ لا يُعرَف له شكلٌ، وليس له من شبيهٍ
سرٌّ لا تدركه المخلوقات، خفيٌّ على الناس والآلهة،
سرٌّ اسمه، ولا يدري الإنسان كيف يعرفه،
سر خفي اسمه، وهو الكثير الأسماء،
هو الحقيقة، يحيا في الحقيقة، إنه ملك الحقيقة،
هو الحياة الأبدية، به يحيا الإنسان، ينفخ في أنفه نسمة الحياة،
هو الأب والأم، أبو الآباء وأم الأمهات،
يلد ولم يولد، يُنجب ولم يُنجبه أحد،
خالقٌ ولم يخلقه أحد، صنَع نفسه بنفسه،
هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص،
خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون،
عندما يتصور في قلبه شيئًا يظهر إلى الوجود،
وما ينجم عن كلمته يبقى أبد الدهور،
أبو الآلهة، رحيمٌ بعباده، يسمع دعوة الداعي.
لقد عمد العلَّامة السير واليس بدج، منذ أوائل القرن العشرين، إلى دراسةٍ مدققة لهذا النص وأمثاله خلال دراسته المتعمقة لديانة ومعتقدات قدماء المصريين، وخَلُص إلى القول بأن المصريين كانوا قومًا يؤمنون بإلهٍ واحد، موجودٍ بذاته، خفيٍّ، أبديٍّ وأزليٍّ، كليِّ القدرة والمعرفة، لا تدركه الأفهام والعقول، خالقٍ للسماء وللأرض وكل ما عليها، وخالقٍ لكائنات روحانية كانت رُسله ومساعديه في تصريف شئون الكون وهي الآلهة. وقد استمر الإيمان بهذه الألوهة غير المشخصة منذ أعتاب التاريخ المصري إلى نهاياته. ورغم ذلك لم يكن لها في العصور التاريخية معابد أو هياكل، ولم تصور في أية هيئة شخصية، وإنما بقيت في الأذهان والقلوب بمثابة قدرة كونية لا يحدُّها وصفٌ أو قولٌ. أما الاسم الذي أطلقوه على هذه الألوهة فهو: نتر – Neter، وكان يرمز إليها فيما قبل العصور التاريخية في مصر بفأسٍ ذي رأس حجري ومقبض خشبي، وتحيط بالرأس أربطةٌ جلدية أو قماشية لتثبيتها على المقبض. وقد صار هذا الرمز إشارةً هيروغليفية للدلالة على مفهوم الألوهة في الكتابة المصرية. ويبدو أن اختيار إنسان ما قبل التاريخ لرمز الفأس كان من قبيل التوكيد على جانب القوة المتبدية في هذه الأداة. ويدعم هذا الرأي أن كلمة نتر بالذات يمكن أن تعني القوة أو الشدة. وإلى جانب كلمة نتر لدينا في الهيروغليفية المصرية كلمة نترو، وتعني تلك الكائنات التي تشترك على نحوٍ ما في طبيعة نتر، وتُسمى في العادة آلهة، ولكننا حين ندرس هذه الآلهة عن كثبٍ، نجد أنها ليست إلا صورًا أو تجلياتٍ لإلهٍ واحد، وكان أعلى هذه الكائنات هو الإله رع؛ إله الشمس الذي كان الوجه المشخص لتلك الألوهة الخافية المدعوة نتر، ورمزها الذي يتوجه إليه الناس بالعبادة. علمًا بأن عددًا آخر من الكائنات الإلهية قد ارتقى إلى مرتبة سامية، على مدى التاريخ الديني المصري، أهَّلتهم لتجسيد الألوهة المطلقة مثلما فعل رع.٢

ويري واليس بدج من دراسته للنصوص المبكرة للأسرة الحاكمة الأولى، إشاراتٍ واضحةً إلى هذه الألوهة التي تعلو على بقية تجلياتها القدسية المتعددة. من هذه الإشارات المقاطع الآتية الواردة في نصِّ وصايا كاقمنا ونص وصايا بتحوتب، من عصر الأسرة الرابعة والأسرة الخامسة: (١) إن أفعال الله (نتر) خافيةٌ علينا. (٢) عليك ألا تُفزع إنسانًا؛ لأن في ذلك معاكسة لإرادة الله. (٣) إن الخبز الذي تأكله من أعطيات الله. (٤) إذا كنت زارعًا فاحرث حقلك الذي أعطاه الله لك. (٥) إذا نشدت كمال الأفعال يسِّر لابنك مرضاة الله. (٦) اكفِ عائلتك حاجتها؛ فهذا واجب على مَن يؤثرهم الله. (٧) إن الله يحب الطائعين ويمقت العصاة. (٨) الولد الصالح نعمةٌ من الله … إلخ.

في تعليقه على هذه الحكم والوصايا، يرى واليس بدج بكل وضوحٍ أن الكاتب لم يقصد من كلمة الله/نتر، الإشارة إلى واحدٍ بعينه من الآلهة المصرية، وإلا توجَّب عليه (على عادة النصوص المصرية) أن يخصَّه ويذكر اسمه، وإنما كان يشير إلى الله الواحد الخفي الكلي القدرة. أما الآلهة الأخرى التي آمن بها المصريون إلى جانب هذا الإله الأعلى، فجميعها مخلوقٌ وعُرضة لعوادي الزمن وللمرض وحتى للموت. أي إن هذه الآلهة (نترو) رغم كونها مجبولة من طينة مختلفة عن الإنسان، وتفُوقه قوة ومعرفة؛ إلا أنها تشبهه في عواطفه وأهوائه، وتخضع مثلما يخضع إلى قوانين هذا العالم المخلوق.

ففي أحد نصوص الأهرام نجد الملك المؤلَّه أوناس في رحلة صيد إلى السماء يصطاد خلالها بعض الآلهة ويشويهم. وفي نص للملك تحوتمس الثالث (حوالي ١٤٥٠ق.م.) نقرأ دعاء حارًّا يتمنَّى فيه الملك النجاة من الفناء المقدر على البشر وعلى الآلهة. وفي أحد نصوص كتاب الموتى نقرأ أن الآلهة تفنى مثل بقية الكائنات الحية عندما تغادرها الروح. هذه الشواهد وأمثالها، تجعل في حكم المؤكد أن المصريين القدماء كانوا يفرِّقون بشكل واضح بين الله/نتر، والآلهة/نترو المخلوقين من قبله والذين يلعبون دورًا أشبه بدور الملائكة الموكلين بوظائف ومهام محدودة.٣
غير أن تصور المصريين لهذه الألوهة المطلقة، كان مصحوبًا بنوع من التشخيص الذي يجعل الألوهة حاضرةً بينهم وقريبة منهم. فقد كان لكل بلدة ومدينة إلهها الخاص الذي تعزو إليه كل صفات وخصائص الإله الواحد، ولكنهم لم يروا في هذه الآلهة جميعًا إلا وجوهًا مختلفة لنفس الألوهة الشمولية القدرة والمعرفة. يدلنا على ذلك أن المتوفَّى عندما يحضر إلى قاعة الحساب، عليه أن يتلو اعترافاته أمام اثنين وأربعين إلهًا، هم آلهة الأقاليم المصرية، قبل أن يَمْثُل أمام الإله أوزيريس قاضي العالم الأسفل (على ما تنص عليه تعليمات كتاب الموتى). وهذا يعني أن الإله نفسه كان يُعبد في كل مدينة أو إقليم تحت أسماءٍ وتجلياتٍ متنوعة، وأن الإله المحلي قد اتخذ مكانه الإله الأعلى لضرورات عملية. وبتعبيرٍ آخر، فإن موضوع العبادة المحلية لم يكن إلا هيئة اختار الإله المطلق أن يتجلى بها لوقت طال أم قصر، وعلى ما تقتضيه طبيعة الأحوال. بعض هذه الآلهة، ولأسباب متنوعة، خرج من دائرته الضيقة التي نشأت فيها عبادته، واكتسب خصائص ووظائف وصلاحيات آلهة عديدة أخرى، ثم وصل أخيرًا إلى المرتبة العليا حيث صار تجسيدًا للألوهة المطلقة على مستوى الثقافة بأكملها. من هؤلاء تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة.٤ وكان رع أول مَن تسنم هذه المرتبة العليا، عندما ظهر في الأفق عند بدء الخليقة في هيئة قرص الشمس. ثم تواحد رع مع آمون إله مدينة طيبة وصار اسمه آمون-رع. وهذه إحدى التراتيل المرفوعة إليه:
هو الروح القدس الموجود منذ البدايات،
هو الإله المعظم الذي يحيا في الحقيقة، وبه يحيا الآلهة،
الواحد الذي صنع كل ما ظهر في البدايات الأولى،
ميلاده سرٌّ، وأشكاله لا حصر لها، وأبعاده لا تقاس،
كان، عندما لم يكن هنالك شيءٌ
وفي هيئة القرص شعَّ وأضاء لكل الناس،
يقطع السماء بلا تعب، وعزمه في الغد كعزمه اليوم،
عندما يشيخ في أواخر النهار يجدد شبابه في الصباح،
بعد أن خلق نفسه، صنع السماء والأرض بإرادته،
لقد كان المياه الأولى، وهو قرص القمر،
من عينيه المباركتين صدَر الرجال والنساء،
ومن فمه صدرت الآلهة،
كثيرة عيونه (البصير) وكثيرة آذانه (السميع)،
إنه رب الحياة،
الملك الذي يضع الملوك على عروشهم،
الخفي المجهول، حاكم العالم، أخفى من كل الآلهة،
والقرص وكيله وممثله.٥

تُقدم لنا هذه الترتيلة برهانًا ساطعًا على أن عبادة الشمس المصرية لم يكن موضوعها قرص الشمس، بل القدرة الخافية التي تكمن وراءه. هذه القدرة لا تتمثل فقط في القرص وإنما تجد تجسيدًا لها في الآلهة المتفرقة التي ليست في حقيقة الأمر إلا وجوهًا للإله الواحد رع، والإله رع ليس إلا الرمز المنظور للألوهة الكلية المحتجبة. ونقرأ في ترتيلةٍ أخرى مرفوعة إلى رع ما يلي:

– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تسري في مساكن،
آمنت. هو ذا جسدك فهو تيمو.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تسري في مخبأ،
أنوبيس. هو ذا جسدك فهو خيبيرا.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة، الذي تطول حياته أكثر من بقية الكائنات غير المنظورة هو ذا جسدك فهو شو.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة …
هو ذا جسدك فهو تفنوت.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تُنبت الزرع،
في مواسمه. هو ذا جسدك فهو جيب.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة، الكائن القوي،
الذي يقضي … هو ذا جسدك فهو نوت.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تنير رأس مَن يقف أمامك، هو ذا جسدك فهو نفتيس.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة، رب اﻟ …
هو ذا جسدك فهو إيزيس.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة، وأنت مصدر الأعضاء المقدسة.
أنت الواحد الذي يهب الحياة للوليد. هو ذا جسدك فهو حورس.
– الثناء لك يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تسكن العمق السماوي،
هو ذا جسدك فهو نو.٦
إن الإشارة إلى رع أو آمون رع، أو أي إلهٍ آخر بصفة الواحد، هو تقليد قديم جدًّا، ولدينا شواهدُ عليه في نصوص الأهرامات العائدة إلى المملكة القديمة. وفي العديد من النصوص العائدة إلى عصر المملكة المتوسطة. وكاتب أي نصٍّ من هذه النصوص إنما يستخدم صفةً من صفات الله المعروفة لديه في مخاطبة إلهه المحلي الذي يمثِّل عنده الله العظيم. ومثل هذه النصوص قديمها وحديثها حافلة بأسماء الله المتعددة، سواء كانت بتاح أم تيمو أم آمون أم رع. نقرأ في كتاب الموتى، الفصل ١٧، الفقرات ٩ و١٠: «إن الإله تيمو في هيئة رع، قد خلق أسماءً لأعضائه فصارت هذه الأسماء آلهة انضمت إلى بطانته.» من هنا، فإن الوحدانية التي تُطلق صفةً على الواحد الحق الذي خلق نفسه بنفسه وخلق السموات والأرض وما بينها، لا يمكن تفسيرها من خلال الافتراض بوجود معتقدٍ توحيدي مشوب بالتعددية. لأن مؤلفي مثل هذه التراتيل والصلوات التوحيدية، يُظهرون منذ البدايات المبكرة معتقدًا توحيديًّا لا لبس فيه. وهذا ما دعا العالِم شامبليون إلى القول منذ عام ١٨٣٩م «بأن الدين المصري يقوم على معتقدٍ توحيدي صافٍ، يعبر عن نفسه خارجيًّا بصيغ شركية تعددية.» بينما قادت التعددية الظاهرية في النصوص المصرية علماء آخرين، من أمثال البروفيسور Tiele وهو دارسٌ مدقق للأديان القديمة، إلى القول بأن الديانة المصرية قد قامت في الأصل على معتقدٍ شِركيٍّ تعدديٍّ ثم اقتربت تدريجيًّا من المفاهيم التوحيدية.٧

لم يكن قناع الألوهة المطلقة الذي يتبدَّى من خلالها في عالم الإنسان على الدوام، قناعًا مُذكَّرًا. فقد لعبت الإلهة إيزيس، أعلى إلهات الثقافة المصرية، دور الإله الواحد الذي يجسد الألوهة المطلقة، أيضًا. واعتبرها عُبَّادها بمثابة التجلي الأنثوي للإله رع نفسه: «إنها رع المؤنث، إنها حورس المؤنث، إنها عين الإله رع.» على ما تردده الترتيلة التالية المرفوعة إلى إيزيس، من عصر المملكة الحديثة:

هي ذات السماء الكثيرة، الواحدة القائمة منذ البدء،
هي القدوسة الواحدة أعظم الآلهة والإلهات،
ملكة الآلهة جميعًا، ومحبوبتهم الأثيرة،
نموذج الكائنات طُرًّا، وملكة النساء والإلهات،
إنها رع المؤنث، إنها حورس المؤنث، وعين الإله رع،
إنها العين اليمنى للإله رع،
التاج النجمي لرع-حورس، وملكة الكوكبات النجمية،
نجم الشِّعرى الذي يفتتح السنة،٨ وسيدة رأس السنة،
صانعة الشروق، تجلس في المقدمة من مركب السماء،
سيدة السموات، قدوسة السموات، وواهبة النور مع رع،
الذهبية، سيدة الأشعة الذهبية، الإلهة الوضاءة،
سيدة ريح الشمال، ربة الأرض، والأقدر بين القديرين،
مالئة العالم الأسفل بالخيرات، والسيدة المَهوبة هنالك،
بالاسم تانيت هي العظمى في العالم الأسفل مع أوزيريس،
سيدة حجرة الولادة، البقرة حيرو-سيما التي أنجبت كل شيءٍ
سيدة الحياة، واهبة الحياة، خالقة كل شيءٍ أخضر،
الإلهة الخضراء، سيدة الحب البهية الطلعة،
الجميلة في طيبة، والجليلة في هليوبوليس، والمعطاء في ممفيس،
سيدة الرقي والتعاويذ والنسَّاجة الحائكة (للأقدار)،
ابنها سيد الأرض، وزوجها سيد الأعماق، زوجها فيضان النيل،
الذي يجعل النيل يعلو ويرتفع فيفيض في موسمه.٩
لقد طرح العلَّامة واليس بدج آراءه حول الديانة المصرية، التي عرضناها أعلاه، منذ أواخر القرن التاسع عشر، في عدد من الدراسات التي نشرها حوالي عام ١٨٩٨م، والتي لقيت في حينها الكثير من الاستغراب والنقد. ثم عاد بدج فأكد على أفكاره تلك وطورها في كتابه الكلاسيكي الذي صدر في مجلدين عام ١٩١٢م تحت عنوان Osiris and the Egyptian Resurrection، وكتابه الآخر Egyptian Religion. وقد قدمتُ آراءه هنا كما هي مع الشواهد التي استند إليها في تفسيره لشذراتٍ متفرقة من النصوص المصرية، دون تعليقٍ أو مناقشة من قِبَلي أو إيرادٍ لوجهات نظر عارضته وخالفته؛ لأن ذلك من شأنه أن يستغرق حيزًّا واسعًا من هذا الكتاب. على أنني أكتفي بالقول بأن ما رآه بدج توحيدًا صافيًا كامنًا خلف مظاهر الشرك، ليس إلا مقدماتٍ غامضةً وبعيدة للفكر التوحيدي، يمكن أن نجد نظائر لها في الأدبيات الدينية لوادي الرافدين.

ففي العديد من الصلوات والتراتيل الرافدينية نستطيع تلمُّس مثل هذه الإرهاصات التوحيدية، حيث يتم التوجه إلى إله كل عبادة محلية على أنه الإله الحق وكبير الآلهة وأعظمهم. ولنبدأ أولًا بهذه الترتيلة السومرية للإله إنليل والتي كانت تنشد في معبده الرئيسي المدعو إيكور في مدينة نيبور. ونظرًا لطول الترتيلة التي يبلغ حوالي المائة والسبعين سطرًا، فإني أكتفي فيما يأتي بترجمة منتخبات منها تفي بالغرض:

(١) إنليل ذو الكلمة المقدسة والأوامر النافذة،
(٢) يقدر المصائر للمستقبل البعيد، وأحكامه لا مُبدِّل لها،
(٣) عيناه الشاخصتان تمسح الأمصار،
(٤) وأشعته تفحص قلب البلاد،
(٥) عندما يعتلي الأب إنليل منصته السامية،
(٦) عندما يقوم نونا منير بواجبات السيادة على أكمل وجه،
(٧) ينحني أمامه آلهة الأرض طوعًا،
(٨) يتضع أمامه الأنوناكي؛ آلهة الأرض،
(٩) ويقفون في استعدادٍ وترقُّب لتنفيذ الأوامر،
(١٠) الرب المبجَّل في السماء والأرض، العليم الذي يفهم الأحكام،
(٩٢) إنليل راعي الجموع المؤلفة،
(٩٣) راعي جميع الكائنات الحية وحاكمهم،
(٩٥) عندما يعتلي منصته فوق ضباب الجبال،
(٩٦) يذرع السماء غدوًّا ورواحًا، كقوس قزح،
(٩٧) يجعلها تميد كغيمة سابحة،
(٩٨) وحده أمير السماء وحده عظيم الأرض،
(٩٩) ووحده رب الأنوناكي المبجَّل،
(١٠٠) عندما، بكل روع، يقرر المصائر،
(١٠١) لا يجرؤ أحد من الآلهة على رفع البصر إليه،
(١٠٩) لولا إنليل، الجبل العظيم، لم تبنَ المدن ولا القرى،
(١١٧) ولم يفِض البحر بكنوزه الوفيرة،
(١١٨) ولم يضع السمك بيوضه بين أجمات القصب،
(١١٩) ولم تصنع طيور الجو أعشاشها في طول البلاد وعرضها،
(١٢٠) لولاه لم تفتح الغيوم الماطرة أفواهها في السماء،
(١٢١) ولم تمتلئ الحقول والمروج بخيرات الحبوب،
(١٢٢) ولم تطلع الحشائش والأعشاب، بهيةً، في البوادي،
(١٢٣) ولم تحمل الأشجار الضخمة في البساتين ثمارها،
(١٢٤) لولا إنليل، الجبل العظيم،
(١٢٥) لم يكن للإلهة ننتو أن تجلب الموت، لم يكن لها أن تقتل١٠
(١٢٦) ولم يكن لبقرة أن تضع عجلها في الإسطبل،
(١٢٧) ولم يكن لغنمة أن تنجب حمَلها في الحظيرة،
(١٣٠) ولم يكن لذوات الأربع نسل ولم يقفز ذكَرها على أنثاها.
(١٣١) إن أعمالك البارعة تثير الروع،
(١٣٢) ومراميها عصية كخيط متشابك لا يمكن فكُّه،
(١٣٩) فمَن يقدر على فهم أفعالك،
(١٤٠) أنت قاضي الكون وصاحب الأمر فيه،
(١٤١) عندما تنطق، يلوذ آلهة الأنوناكي بالصمت،
(١٤٣) عندما تصعد كلمتك نحو السماء تغدو عمودًا،
وعندما تهبط نحو الأرض تصير قاعدةً وأساسًا،
(١٥٠) كلمتك زرع، كلمتك قمح وحبوب،
(١٥١) كلمتك ماء الفيض الذي به تحيا البلاد،
(١٧٠) أي إنليل، أيها الجبل العظيم، لك الثناء والحمد.١١

فيما قدمته أعلاه من هذه الترتيلة الطويلة، نجد إنليل يمسك بيديه صلاحيات جميع الآلهة الرئيسية المعروفة في المجمع السومري. فهو رب السماء، ورب الأرض، ورب الشمس، ورب الخصب والزرع، ورب الماء وواهب الحياة، ورب الموت. وباختصار إنه الإله الذي لا شريك له في السلطان. أما بقية الأنوناكي من آلهة المجمع السماوي فليسوا أكثر من ظلالٍ يقفون في حضرة القدرة الإلهية.

غير أن إنليل لم يكن وحده من ارتدى قناع الإله الواحد في المعتقد السومري. فها هم كهنة إنانا يرفعونها إلى مقام إنليل نفسه، ويقولون لنا في هذه الترتيلة إنها تُعبد في كل معابد المدن السومرية الرئيسية المخصصة أصلًا للآلهة المحلية. وهذا يعني أنهم لا يرون في آلهة المدن إلا صورًا وتجليات للألوهة المؤنثة الكونية، المتمثلة في الأم الكبرى القديمة للثقافة الرافدية. وهذه ترجمتي الكاملة للنص:

أعطاني أبي السماء، وأعطاني الأرض،
إني ملكة السماء، وملكة السماء أنا،
وما من إله قادر على منازعتي،
أعطاني إنليل السماء وأعطاني الأرض،
إني ملكة السماء، وملكة السماء أنا،
أعطاني إنليل الربوبية،
أعطاني الملوكية،
أعطاني القتال والمعركة،
أعطاني الطوفان وأعطاني العاصفة،
أعطاني السماء لي تاجًا،
وربط الأرض إلى قدمي صندلًا،
خلع عليَّ طيلسان النواميس الإلهية،
وثبت في يدي الصولجان المقدس،
الآلهة … إني أنا الملكة،
حولي يتراكض الآلهة، وأنا البقرة البرِّية واهبةُ الحياة،
أنا البقرة البرِّية التي تتصدر الجميع،
عندما أدخل الإيكور، بيت إنليل،
لا يجرؤ الحراس على منعي،
ولا يقول لي وزيره انتظري،
لي السماء ولي الأرض، أنا سيدة المعارك،
في مدينة أوروك، معبد الإيانا، لي،
في مدينة زابالوم، معبد الجيجونا، لي،
في مدينة أور، معبد إشدام، لي،
في مدينة آداب، معبد العيشارا، لي،
في مدينة كيش، معبد خورساخ كالاما، لي،
في مدينة دير، معبد أماش لوجا، لي،
في مدينة أشاك، معبد آن زاكار، لي،
في مدينة أوما، معبد إيجال، لي،
في مدينة أكاد، معبد أدلماش لي،
فهل هنالك من إلهٍ قادر على منازعتي؟١٢

ولدينا صلاةٌ مرفوعة إلى الإلهة إنانا من الكاهنة إنحيدوانا ابنة الملك صارغون الأول ملك أكاد. والصلاة مكتوبة باللغة السومرية (التي بقيت بمثابة لغة مقدسة لفترة طويلة بعد صعود العناصر السامية إلى سُدة السلطان)، وفيها توكيد على جوانب القوة والجبروت في شخصية الإلهة. يتألف النص من حوالي ١٥٠ سطرًا، أُقدِّم فيما يلي منتخبات منه:

(١) سيدة النواميس، أيتها النور المشع،
(٥) مَن تمسِك بيدها النواميس السبعة،
(٨) مَن تجمع النواميس المقدسة إلى صدرها،
(٩) مَن تنفث السم في الأرض كالتنين،
(١٠) تذوي المزروعات عندما تهدرين مثل أشكور (إله الرعود والمطر)،
(١١) تأتين بالطوفان من الجبال العالية،
(١٢) تمطرين على البلاد لهبًا ونارًا،
(٢٦) وفي معمعان القتال تقضين على كل ما أمامك.
(٢٧) أي مليكتي، أنت المُبيدة في قوتك،
(٢٨) تهجمين كالإعصار الداهم،
(٣٠) وترعدين بصوت أعلى من العاصفة الزاعقة،
(٣١) وتعولين بصوت أعلى من الرياح الشيطانية،
(٣٤) أي مليكتي، إن آلهة الأنوناكي،
(٣٥) يهربون أمامك كالخفافيش المرتعشة،
(٣٦) لا يصمدون أمام وجهك الغضوب،
(٣٧) لا يستطيعون اقترابًا من جبينك المهوب،
(٣٨) وما من قادر على تهدئة قلبك المشبوب،
(٤٠) أي مليكتي، أنت فرحةٌ مبتهجة الفؤاد،
(٤١) ولكن «غضب» قلبك لا يمكن تهدئته يابنة سن،
(٤٢) أي مليكتي المعظمة في البلاد، مَن يعطي طاعتك حقها؟
(٤٣) في الأقطار التي لم تعلن لك الولاء يذوي الزرع،
(٥٥) ولا تحدِّث المرأة زوجها حديث الحب،
(٥٦) وفي ظلمة الليل لا تهمس له كلمات الحنان،
(٥٧) ولا تُظهر له مكنون الفؤاد،
(٥٩) أي مليكتي، أنت أعظم من «كبير الآلهة» آن،
مَن يعطي طاعتك حقها؟
(٦٠) وفق النواميس الواهبة للحياة، أنت ملكة الملكات،
(٦١) أنت أعظم من الأم التي ولدتك، منذ خروجك من الرحم،
(٦٢) أنت العلية الحكيمة، مليكة كل البلاد،
(٦٣) يا مَن تكثرين النسل للإنسان وكل الأحياء، أُغنِّي بذكرك،
(١١٢) أي ربة الأفق وذروة السماء،
(١١٣) إن الأنوناكي يخرُّون أمامك راكعين،
(١١٦) إن الآلهة يُقبِّلون الأرض أمامك،
(١٢٣) أنت يا مَن تتسعين سعة السماء،
(١٢٤) أنت يا مَن تطولين طول الأرض،
(١٥٣) أي مليكتي، إنانا، المتشحة بالفتنة،
لك الحمد والثناء.١٣

تكمل صلاة الكاهنة إنحيدوانا هذه الصورة التي رسمتها الترتيلة السابقة لإنانا باعتبارها الإلهة العليا الوحيدة. فبعد أن رأيناها تُعبد في كل المعابد الرئيسية المخصصة لآلهة المدن المحلية، نراها هنا تمسك بيدها النواميس السبعة (السطر رقم ٥) وهي نواميس آلهة سومر الرئيسية: آن وإنليل وإنكي وننخرساج وسن وأوتو وإنانا نفسها. وهذه النواميس هي التي تُمكِّن الآلهة من الحكم وممارسة السلطان. كما أن صلاة إنحيدوانا تنص صراحةً على أن مكانة إنانا هي فوق مكانة كبير الآلهة آن (السطر رقم ٥٩). وهذا يعني أنها الأول في مجمع الآلهة، حيث «يخر الأنوناكي أمامها راكعين» (السطر رقم ١١٣)، و«يُقبِّلون الأرض أمامها» (السطر ١١٦)، و«يهربون أمامها كالخفافيش المرتعشة» (السطر رقم ٣٥).

ولدينا نصٌّ بابلي يتابع رسم صورة الإلهة إنانا (التي صار اسمها عشتار) كسيدة للآلهة، ويصفها بصفات القوة والجبروت نفسها تقريبًا، والنص عبارةٌ عن صلاةٍ طويلة أُقدِّم فيما يأتي ترجمةً لنصفها الأول:

إليك أرفع صلاتي يا سيدة السيدات ويا إلهة الإلهات،
أي عشتار، يا سيدة البشر أجمعين ومسدِّدة خطاهم،
أي إرنيني المبجلة دومًا، عظيمة الإيجيجي آلهة السماء،
أيتها الجبارة بين الأميرات، عظيم هو اسمك،
أنت حقًّا نور السموات والأرض، أيتها الجبارة يابنة سن،
أنت مَن يقف وراء الأسلحة الماضية، ويقرر المعارك،
أي سيدتي، يا مَن تحوز كل القوى الإلهية وتضع تاج السلطان،
أي سيدتي، يا مَن تبسط مجدها وعظمتها فوق الآلهة،
يا نجمة العويل والنواح التي تُلقي سيفًا بين الإخوة المتحابين،
ومَن، في الوقت نفسه، ترعى الصداقة والمودة،
أيتها الجبارة يا سيدة المعارك، يا مَن تفوق الجبال جلالًا،
أي جوشيا، التي تتَّشح بالخوف التي تلبس الرعب،
أنتِ مَن يصدر الأحكام الكاملة، ويصنع مقادير السماء،
في أي مكان لا يعلو اسمك؟ في أي مكان لا تظهر قدرتك؟
لذِكْر اسمكِ ترتجف السماء وتهتز الأرض،
لذِكْر اسمكِ يرتعد الأنوناكي ويقفون في روع ورهبة،
أهل هذه البلاد، وحشود البشر أجمعين، يعطونكِ الولاء،
أنتِ مَن يقضي بالحق والعدل بين الناس،
وأنتِ مَن يعيد حقوق المضطهدين والمظلومين،
أيتها المشعة بالنور، لبؤة الآلهة، ومخضعة الغضبى منهم،
أيتها المتألقةُ، يا مشعل السماء والأرض، ونور الناس،
يا ربة الرجال والنساء، لا يدرك أحد خططكِ وأفعالكِ
عندما تنظرين إلى الميت يحيا، وإلى المريض يُشفى،
ويهتدي بوجهكِ مَن يضل به الطريق.١٤

وفي ترتيلة بابلية أخرى إلى عشتار، نجد الوجه الآخر الصبوح للإلهة في مقابل الوجه الغضوب الذي طالعتنا به التراتيل والصلوات السابقة. فهنا يقدم لنا كاتب الترتيلة عشتار كسيدة للحب والشهوات، ويُطنب في وصف سحرها وجمالها، مع الحفاظ على مكانتها كسيدة للآلهة. هذا النصُّ أقصر من سابقه بكثير، أقدِّم فيما يأتي ترجمةً لمعظم سطوره:

لك الثناء أيتها الإلهة الأكثر روعًا بين الإلهات،
لك التبجيل يا سيدة البشر وأعظم آلهة السماء،
هي المتشحة بالحب والمتع والرغبات،
هي الطافحة حياة وسحرًا وشهوات،
في شفاهها حلاوةٌ، وفي فمها الحياة،
بظهورها تكتمل البهجة والسعادة،
هي الممجدة ورأسها يغطيه النقاب،
هيئتها الجمال وفي عينيها الألق،
بيدها تمسك مقادير الأمور جميعًا،
حينما تنظر تخلق فرحًا وسعادة،
هي الروح الحافظ والقوة والعظمة،
تسكن في الحنان والألفة وترعاهما،
تحمي الأمهات، والفتيات الوحيدات، والمستعبدات،
وبين النساء اسم واحد ينادى به، هو اسمها،
رائعة أحكامها، سامية وقوية،
عشتار ما لها في العظمة من مثيلٍ
رائعة أحكامها، سامية وقوية،
مكانتها عالية سامية، وكل الآلهة يقصدونها،
كلمتها محترمة نافذة بينهم،
هي الملكة عليهم ينفِّذون أوامرها على الدوام،
وينحنون بخضوعٍ أمامها، رجالًا ونساءً يوقرونها،
وفي مجمعهم كلمتها هي المسيطرة، هي العليا.١٥

لقد وُصفت إنانا في صلاة الكاهنة إنحيدوانا بأنها أعظم من الإله آن؛ إله السماء وكبير الآلهة ورئيس مجمعهم، ولكن الترتيلة التي سنقدمها بعد قليل تُطلِق على الإله نانا/سن؛ إله القمر، اسم آن/آنو؛ الأمر الذي ربما دلَّ على أن لقب آن أو آنو ليس إلا فكرة عن الألوهة السامية، ومَنصبًا يمكن أن يرتقي إليه أي إله رئيسي من آلهة المجمع. نقرأ في هذا النص المكتوب بالسومرية والأكادية على لوح واحد ما يأتي:

أيها الربُّ، بطل الآلهة، مَن مثلك معظَّم في السماء والأرض؟!
أيها الأب نانا، الرب أنشار، بطل الآلهة،
أيها الأب نانا، الرب الكبير آنو، بطل الآلهة،
أيها الرب نانا، الرب سن، بطل الآلهة،
أيها الأب نانا، رب مدينة أور، بطل الآلهة،
أيها الأب نانا، رب التاج الساطع، بطل الآلهة،
أيها الأب نانا، صاحب الملك الكامل، بطل الآلهة،
أنت المولود الذي أنجب نفسه بنفسه، تامًّا كامل الهيئة،
أنت الرحم الذي أنجب كل شيءٍ
الذي يقيم بين البشر في مسكنه المقدس،
الوالد الرحيم في قضائه، مَن يمسك بيديه حياة البلاد،
أيها الرب، يا مَن تملأ قداسته البحر الواسع روعًا، وأعماق السماء،
أيها الأب الذي أنجب البشر والآلهة،
الذي أوجد المقامات والهياكل، وأسس للقرابين والتقْدِمات،
أنت رب الملوكية، واهب السلطان،
أنت مقرر المصائر إلى نهاية الأزمان،
أيها الأمير القدير الذي لا يستطيع إلهٌ سبْر قلبه،
شعاعك ينطلق من قاعدة السماء إلى ذروة السمت،
وتفتح أبواب السماء لتهبَ النور لكل البشر،
أيها الأب الوالد، الذي ينظر بعين العطف إلى كل الأحياء،
أيها الرب الذي يقدر مصائر السماء والأرض،
صاحب الكلمة التي لا يقدر أحد على تغييرها،
أنت المتحكم بالماء وبالنار، وليس لك بين الآلهة شبيه،
مَن المبجل في السماء؟ أنت، أنت وحدك المبجَّل،
مَن المبجل في الأرض؟ أنت، أنت وحدك المبجَّل،
عندما تُسمع في السماء كلماتك، يخر الإيجيجي صاغرين،
وعندما تُسمع في السماء كلماتك يقبل الأنوناكي الأرض أمامك،
عندما تنطلق كلماتك في السماء كالريح، تفيض خيرات الطعام والشراب،
وعندما تستقر كلماتك في الأرض، يطلع كل زرع ونبات،
كلماتك تملأ الحظائر والاصطبلات، وتغني أحوال البشر،
كلماتك العالية في السماء والخبيئة في الأرض، خافية عن العيون،
كلماتك لا يقدر أحدٌ على فهمها وما لها من مثيلٍ
أيها الربُّ، في السماء سلطانك وفي الأرض بسالتك،
ليس لك بين الآلهة من ندٍّ ولا من مزاحم.١٦

لا تترك هذه الترتيلة السومرية/الأكادية أي مكان لإلهٍ آخر إلى جانب إله القمر نانا. فهو الإله الواحد الذي يجمع بين يديه كل صلاحيات الآلهة الأخرى التي لا تبدو أمامه إلا ظلالًا وأشباحًا لا هوية لها. فهو الرحم البدئي الذي ولد الكون. وهو الذي أنجب الآلهة وأنجب البشر، وهو واهب النور، وهو سيد البحر، وهو سيد السماء والأرض، والمتحكِّم بالماء والنار، وهو إله الخصب الذي يعطي الزرع والنبات … إلخ. ونلاحظ بشكل خاص أن تعبير: الذي أنجب نفسه بنفسه (وهو يشبه ما تستعمله التراتيل المصرية)، يناقض التصورات الميثولوجية الرسمية التي تجعل من إله القمر نانا ابنًا للإله إنليل؛ فالإله الواحد هنا مولودٌ من العدم وبقواه الذاتية، ومنه صدرت كل الموجودات. إنه يلد ولم يولد، ينجب ولم ينجبه أحدٌ، على حد تعبير الترتيلة المصرية التي أوردناها في مطلع هذا البحث.

ولدينا صلاةٌ آشورية مرفوعة إلى شَمَش؛ إله الشمس، يقول لنا كاتبها إن الآلهة الرئيسية آنو وإنليل وإيا تستمد قوتها وقدرتها على أداء مهامها من إله الشمس. وهذا يعني أنها ليست إلا ظلالًا للقدرة الإلهية التي يجسدها قرص الشمس. النص قصير. وهذه ترجمة لبعض سطوره:

أنت نور الآلهة العظمى، نور الأرض الذي يضيء العالم،
تعطي الوحي والإلهام، وفي كل يوم تصنع قرارات السماء والأرض،
شروقك نارٌ باهرةٌ تكسف كل النجوم،
وأنت المتألق الذي لا يضاهيه أحد من الآلهة،
آنو وإنليل لا يصدران قرارًا دون موافقتك،
وإيا صاحب أقدار الأعماق ينظر وجهك ويعتمد عليك،
أنظار الآلهة جميعًا شاخصةٌ في انتظار شروقك.١٧

قبل أن أختم شواهدي النصية أعود إلى النصوص المصرية، لأنتخبَ منها هذه الترتيلة المرفوعة للإله آمون، من حوالي عام ١٣٠٠ق.م:

هو الذي ظهر إلى الوجود في الأزمان البدئية،
آمون، الذي جاء إلى الوجود في الأزمان البدئية،
طبيعته خفية، وغامضة لا يُسبر غورها،
لم يأتِ إلى الوجود إلهٌ قبله، ولم يكن معه أحدٌ
لم يكن معه، في ذلك الوقت، إلهٌ ليخبرنا عن شكله،
بلا أمٍّ ينتسب إليها، بلا أبٍ يقول: هذا أنا،
صنع البيضة التي خرج منها بنفسه،
روح غامضة في ميلادها. صنع جماله بنفسه، وصنع الآلهة،
مكتنف بالأسرار، متألق في الظهور، وأشكاله لا حصر لها،
يتفاخر الآلهة بانتمائهم إليه، ويظهرون من خلال جماله،
هو آتوم العظيم المقيم في هيليوبوليس، ورع متواحد بجسده،
يُدعى تانتين، ويُدعي آمون الذي وُلد من نون (المياه الأولى)،
هو أجدود الذي أنجب الآلهة البدئية التي ولدت رع،
بداءة الوجود،
روحه في السماء، وهو في العالم الأسفل، ويحكم المشرق،
روحه في السماء، وجسده في الغرب، وتمثاله في هيرموتيس يبشر بظهوره،
واحد هو آمون، وخافٍ عليهم جميعًا،
محجوب عن الآلهة ولا يعرفون لونه،
إنه بعيد عن السماء ولا يُرى في العالم الأسفل،
لا يعرف أحد من الآلهة شكله الحقيقي،
صورته لا ترسمها الكتابة، وما له من شهود،
مَن تلفَّظ اسمه، سهوًا أم عمدًا، يموت لتوِّه،
ولا يعرف إله كيف يتوجه إليه باسمه،
جمع الآلهة ثلاثة: آمون ورع وبتاح،
ولا ثاني لهم،
هو الخفي باسمه آمون،
وهو الظاهر باسمه رع،
وهو المتجسد باسمه بتاح.

لعلَّ أهم ما يميز هذه الترتيلة عن بقية التراتيل المصرية التي أوردناها هو شفافيتها عن مفهومٍ صوفيٍّ يذكِّرنا بالمفاهيم الصوفية المتأخرة حول علاقة الذات الخافية بأسمائها وصفاتها، وعلاقة الكون المخلوق بالذات الخافية من خلال تجلياتها بالأسماء والصفات. كما يلفت نظرنا بشكل خاص فكرة الإله الواحد المثلث التي وردت في نهاية الترتيلة، حيث ورد القول: «جميع الآلهة ثلاثة ولا ثاني لهم» ولم يرد: «جميع الآلهة ثلاثة ولا رابع لهم.» وهذا يعني أن الإله الواحد مؤلف من: الخفي والظاهر والمتجسد؛ ثلاثة في واحد.

١  محاضرة ألقيتها في جامعة بواتييه بفرنسا بدعوة من النادي العربي، حزيران ١٩٩٧م.
٢  Wallis Budge, Egyptian Religion, Routledge, London 1975. ch. L.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب، نهاد خياطة، دمشق، ١٩٨٦م، ص١٣–١٧.
٣  Wallis Budge, Osiris and the Egyptian Resurrection, Dover, New York, vol. 1, pp. 350–357.
٤  Ibid., p. 354.
٥  Ibid., p. 356.
٦  Wallis Budge, Egyptian Religion, op. cit., ch. 3.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب: واليس بدج: الديانة الفرعونية، ترجمة نهاد خياطة، دمشق، ١٩٨٦م، ص١٠٩-١١٠.
٧  Wallis Budge, Osiris, op. cit. p. 358.
٨  كان ظهور نجم الشِّعرى مؤشرًا لابتداء فيضان النيل، واستهلال الدورة الزراعية الجديدة التي تبتدئ بها السنة المصرية.
٩  Ibid., vol. 2, pp. 277-278.
١٠  تبدو الأم الكبرى هنا بوجهها الأسود كسيدة للموت. لفهم هذا التناقض في شخصية الإلهة، راجع مؤلفي لغز عشتار، فصل عشتار السوداء.
١١  S. N. Kramer, Sumerian Hymns (in: James Pritchard, edt. Ancient Near Eastern Texts, pp. 573–576).
١٢  Ibid., pp. 578-579.
١٣  Ibid., pp. 579–581.
١٤  F. G. Stephens, Sumerio-Akkadian Hymns and Prayers (in: James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, p. 384).
١٥  F. G. Stephens, ibid., p. 383.
١٦  F. G. Stephens, ibid., pp. 385-386.
١٧  F. G. Stephens, ibid., p. 387.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥