(٩) بين الدين والأخلاق في ثقافات الشرق القديم
تتصل الأخلاق بالدين، عبر التاريخ الإنساني، اتصالًا وثيقًا يبدو معه وكأنهما وجهان مختلفان لظاهرةٍ واحدة. ولقد ساعد على هذا الاتصال أن أصحاب الرسالات الروحية الكبرى في تاريخ الدين الإنساني، قد أكَّدوا على الأخلاق واعتبروها جزءًا لا يتجزأ من تعاليمهم الدينية. إن أقوال السيد المسيح مثل: «مَن سخَّرك ميلًا فامشِ معه ميلين»، و«مَن ضربك على خدك الأيمن فأدِر له خدك الأيسر.» وأقوال الرسول محمد؛ مثل: «الدين المعاملة»، و«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وما يوازيها في تعاليم بوذا وزرادشت وماني، هي أمثلة على تداخل التعاليم الدينية بالتعاليم الأخلاقية، وتبيان عن ميل الرسالة الدينية للظهور بمظهر الرسالة الأخلاقية.
ولكن ما أودُّ إيضاحه في هذا المدخل الموجز إلى موضوعنا الرئيسي، هو أنه رغم التشابك بين الدين والأخلاق، والعلاقة الموغلة في القِدم بينهما، فإنهما مفهومان مختلفان تمام الاختلاف من حيث الأصل، ومتمايزان كل التمايز رغم ما يبدو من صلتهما الوطيدة. فالدين عبارةٌ عن معتقداتٍ وممارسات تنظِّم موقف الإنسان وسلوكه تجاه عالم المقدسات، وتزوده برؤية شمولية للكون وموضع الإنسان فيه. أما الأخلاق فإنها قواعد وممارسات تنظِّم موقف الفرد من الآخرين، وسلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة التي ينتمون إليها. إن القواعد الأخلاقية تنشأ من أجل حل المشكلات الناجمة عن الاحتكاك بين الأفراد والجماعات، وتسوية النزاعات التي تخلقها الحياة المشتركة. وهي برجوعها إلى مبادئ للسلوك متفق عليها ومقبولة من قِبل الجميع، فإنها تطرح نفسها بديلًا عمليًّا وناجحًا عن أسلوب القوة والإكراه في العلاقات الاجتماعية. غير أن العلاقة المعقدة بين الدين والأخلاق تبدأ عندما تصدر المشروعية الخلقية عن المعتقد الديني، بدل أن تصدر عن الفهم السليم للعلاقات الاجتماعية المتبادلة.
ولعلَّ النظر إلى مسألة علاقة الدين بالأخلاق في المجتمعات التقليدية التي لم تتعقد بِناها الاجتماعية والسياسية، يقدم لنا برهانًا على أن الأصل في الأخلاق استقلالها عن الدين. ففي هذه المجتمعات التي تعطينا صورةً عن المراحل المبكرة من تطور الحضارة الإنسانية، نجد أن الأخلاق هي شأن دنيوي تنظمه الأعراف السائدة دونما مؤيِّدٍ من قوة قدسية ما. ونستطيع متابعة هذه الظاهرة بدءًا من الثقافات الشامانية حول الدائرة القطبية والتي تحتفظ حتى الآن بملامح واضحة من ثقافة الشرق القديم عندما كان ينسلخ عن طور العصر الحجري الحديث (= النيوليت) ويتهيأ للدخول في طور الثقافة المدينية.
من هذه الأمثلة اليسيرة، نستطيع ملاحظة الأساس المشترك لكلٍّ من التابو ولوائح الأخلاق الدينية. ذلك أن كليهما يجد تأييده في قوة خارجية هي فوق الأفراد وفوق النُّظم الاجتماعية في آنٍ معًا، ولكن بينما تقتصر تحريمات التابو على عدم تعدِّي حدود قوًى إلهيةٍ أو قوًى سحرية غفلة، فإن لوائح الأخلاق الدينية تتجاوز ذلك لتشتمل على العلاقات المتبادلة بين الأفراد ضمن الجماعة. من هنا، فإنني أفترض ببعض الثقة، بأنه عند مرحلة معينة من تطور المجتمعات القديمة، اتسعت دائرة التابو لتستوعب تدريجيًّا بعض القواعد الأخلاقية التي كانت شأنًا دنيويًّا تنظمه الأعراف والعادات المتبعة، وذلك في الوقت الذي أخذت فيه تحريمات التابو القديمة تفقد سطوتها مع تغير المفاهيم الدينية. ونستطيع ملاحظة هذه المرحلة الوسيطة التي يختلط فيها التابو بالأخلاق الاجتماعية في كتاب التوراة. فمع الوصايا العشر ذات الطابع الأخلاقي، يستلم موسى على جبل سيناء عددًا من الوصايا الأخرى التي لا يمكن فهمها إلا على ضوء مفهوم التابو البدائي. وهي تهبط من السماء باللهجة الإلزامية نفسها وفي الجو القدسي المرعب نفسه. نقرأ في سِفر الخروج ٢٠: ١٨–٢٦: «وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق، وصوت البوق والجبل يدخن … وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الرب. فقال الرب لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل … مذبحًا من تراب تصنع لي … وإذا صنعت لي مذبحًا من حجارة فلا تبنِه منها منحوتة. إذا رفعت إزميلك عليها تدنسها. ولا تصعد إلى مذبحي بدرج كي لا تتكشَّف عورتك.» أما لماذا يتوجب صنع المذبح من تراب، ولماذا يتوجب عدم استخدام الإزميل الحديدي في تسوية الحجارة، فأمور لا توضحها القاعدة التحريمية؛ لأنها قائمة على مبدأ التابو السابق على الأخلاق الدينية التي يعرف المؤمنون الغاية من ورائها.
ولقد أثَّر علو شأن الأخلاق في الحياة الدينية على مفهوم الإله، وعلى تصور الجماعة لصفات الإله وخصائصه. ذلك أن الإله الذي يحضُّ على فضائل الأعمال ينبغي أن يمثِّل في ذاته الخير المحض، ويترك شرور العالم لكي تتدبرها قوة ماورائية أخرى. وهذا ما أدى إلى ظهور مفهوم أو فكرة الشيطان. وهنا، نستطيع أن نلاحظ بوضوح أنه كلما علا شأن الأخلاق في ديانةٍ ما، توضحت شخصية الشيطان وأعطيت له صلاحيات ووظائف، قد ترتقي به في هرمية القوى الماورائية إلى المرتبة الثانية، بعد الإله الأعلى الذي يمثل الخير على المستوى الكوني، أو إلى مرتبة مساوية له أحيانًا. وبالعكس، فكلما تمتعت الأخلاق باستقلالٍ عن الدين غابت شخصية الشيطان وتوزعت صلاحياته على عدد من الكائنات الماورائية الظلامية الباهتة التي لا تتمتع بقوة الألوهة وسلطانها. وهنا نستطيع أن نسوق مِثالين يمثلان طرفَي نقيضٍ في تاريخ الدين، وهما المثال الإغريقي والمثال المصري.
ففي الثقافة الإغريقية حافظت الديانة الأوليمبية الرسمية حتى النهاية على استقلالها عن الأخلاق، ولم يكن كبير الآلهة زيوس يتطلب من عباده أكثر من الذبائح والقرابين. كما أنه لم يضع وصايا أخلاقية ولم يستن الشرائع. أما صواعقه التي كان يرسلها لعقاب البشر فلم تكن معدَّة للفجرة بالمعنى الأخلاقي للكلمة، وإنما لأولئك الذين يهددون نظام الجماعة ولا يعيرون للآلهة التفاتًا. وبما أن زيوس لم يأمر بمكارم الأخلاق، فقد ترك الحبل على الغارب لأهوائه ونزواته التي كانت في معظم الأحيان بعيدةً عن المعايير الخلقية للإنسان الإغريقي. وقد قلَّده في ذلك بقية آلهة المجمع الأوليمبي الذين كانت مواقفهم وتصرفاتهم تصدر عن سلوكية فطرية، وردود أفعالٍ آنية غالبًا ما اتسمت بالبعد عن روح المسئولية الخلقية. وبذلك تُركت المجتمعات الإغريقية لتدير شئونها الداخلية بنفسها وبمعزل عن أية لوائح أخلاقية مفروضة من قِبل السماء. ولهذا السبب، لم تفرز الميثولوجيا الإغريقية شخصية ماورائية مسئولة عن الشر على المستوى الكوني، ولا نعثر فيها على آلهة خيرة من حيث الأساس وأخرى شريرة من حيث الأساس أيضًا. وليست بعض الشخصيات الأسطورية المرعبة مثل الإلهة هيقات والإلهة سكيلا وأمثالهما، سوى وكيلات لقوى الموت والدمار كظاهرتين طبيعانيتين، ولا تمثل الشر بمفهومه الأخلاقي. وربما لهذا السبب أيضًا نشأت فلسفة الأخلاق الدنيوية لدى فلاسفة الإغريق. ففي الوقت الذي عكف خلاله فقهاء الديانات الأخلاقية على اكتناه الإرادة الإلهية فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم، فإن الفلسفة الإغريقية منذ سقراط كانت تتساءل عن ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة.
أما في اليهودية، التي بقيت معنية بالشعائر أكثر من عنايتها بالأخلاق، وبلوائح التابو أكثر من السلوك الخلقي، فإن فكرة الخير المحض في شخصية الإله لم تنضج عبر أسفار التوراة، وبقي اللاهوتيون التوراتيون لا يوكلون لشئون الشر على المستوى الكوني شخصية ماورائية من أي نوع، لأن الخير والشر بقيا متلازمين في سلوك الإله التوراتي حتى نهايات فترة التدوين في القرن الثاني قبل الميلاد. نقرأ في سِفر إشعيا ٤٥: ٦-٧ «أنا الرب وليس آخر. مصور النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشر. أنا صانع كل هذا.» أما الشيطان، فيبدو في الأسفار الأولى شخصيةً باهتة، وكنوعٍ من الجن يسكن البوادي المقفرة تحت اسم عزازيل. من ذلك ما نجده في سِفر اللاويين ٨: ١٦ و١٠ و٢٦. وقد ذُكر في الأسفار اللاحقة تحت اسم الشيطان، ولكن بدون أية تفصيلات توضح هويته ومجال سلطانه. ويلفت نظرنا بشكلٍ خاص وصف سِفر أيوب للشيطان بأنه من أبناء الله، حيث نقرأ: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمْثُلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم» (أيوب ١: ٦). ثم نتابع في هذا السِّفر كيف وقع الرب في مصيدة الشيطان الذي أوغر صدره على العبد الصالح أيوب، فجلب عليه كل أنواع البلايا والأرزاء حيث سلبت قطعانه وقتل عبيده وأودى الإعصار ببيته وأبنائه وبناته، وحلَّت في جسده الأمراض والآفات من كل نوعٍ، وقامت زوجته نفسها وأصدقاؤه بإطلاق التُّهم فيه ونسبوا إليه كل نقيصةٍ، ولكن أيوب رفض مع ذلك أن يرفع شكواه لغير إلهه رغم يأسه من الاستماع إليه، ووقف ثابتًا في الدفاع عن حقه أمامه. وبذلك تفوَّق أخلاقيًّا على ذلك الإله.
وعندما حررت المسيحية أتباعها من الشريعة التوراتية، وأعلت من شأن الإيمان في مقابل الشعائر، ومن شأن السلوك الأخلاقي في مقابل التابو، ثم جعلت من الله «الخير» والمصدر لكل ما هو خير، أخذت صورة الشيطان تتضح في الأناجيل والرسائل، وارتفع شأن الشيطان إلى مرتبةٍ لم يبلغها قبل ذلك إلا في الزرادشتية. فهو ملاكٌ سقط بسبب الكبرياء (رسالة بولص إلى أهالي إفسوس ٦: ١٢). وهو رئيس رتبة من الأرواح النجسة (متَّى ١٢: ٢٤). ويقود العصاة المتمردين على الله (رسالة بطرس الثانية ٢: ٤). ويوقع بالبشر ويصدهم عن طريق الخير (مرقس ٤: ١٥). وسلطته تشمل كل الجنس البشري (إفسوس ٢١: ٣). ويدعوه بولص بإله هذه الدنيا الفانية (رسالة بولص إلى أهالي كورنثة ٤: ٤). كما يدعوه يوحنَّا الإنجيلي برئيس هذا العالم (يوحنَّا ١٢: ٣١). ويبقى سلطانه قائمًا إلى يوم الدينونة (رؤيا ١٠: ٢٠١). ثم جاء آباء الكنيسة في العصور الوسطى وطوروا هذه الأفكار العامة في تصورات لاهوتية متسقة، مما قدمناه ببعض التفصيل في فصل الأسطورة والتاريخ من هذا الكتاب.
على أن الشرائع في صيغتها المدنية أو الدينية لا تستنفد لوائح الأخلاق العامة كلها، ولا تتطابق معها أيضًا تطابقًا تامًّا. ففي كتاب التوراة نجد نوعين من الأحكام الأخلاقية، نوع يؤيد بالعقوبات ويدخل في جملة الشرائع، وآخر غير مؤيد بالعقوبات ويبقى في مجال الأخلاق. فالفقرات ٥ و٨ و١٠ من الوصايا العشر، على سبيل المثال، هي قواعد أخلاقية لا يوجد لها إلزام في الشريعة، وهي: «أكرم أباك وأمك، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشتهِ امرأة قريبك.» أما الفقرات ٦ و٧ و٨، فتندرج في لوائح الشريعة، وهي: «لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ.» وعقوباتها مدرجة في أسفار الخروج والعدد والتثنية. من ذلك مثلًا عقوبة الزنى التي تندرج من إلزام الرجل بالزواج ممن زنى معها، إلى رجم الزناة حتى الموت (انظر سِفر التثنية ٢٢: ١٣–٢٨). وفي القرآن الكريم أيضًا نجد وصايا أخلاقية غير مؤيدة بالعقوبة؛ وبالتالي لا تدخل في مجال الشريعة. فالظن الآثم والغيبة والتجسس على أفعال الآخرين، هي أفعال منافية للأخلاق يجب اجتنابها، ولكن لا يوجد نص تشريعي يعاقب عليها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (الحجرات: ١٢). وبالمقابل هنالك قواعد أخلاقية مؤيدة بعقوبات تلحقها في مجال الشريعة. فاجتناب الزني هو قاعدة أخلاقية، شأنها في ذلك شأن اجتناب الظن الآثم والتجسس: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (الإسراء: ٣٢). هذه القاعدة الأخلاقية مؤيدة بفقرة تشريعية منصوص عليها في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (النور: ٢).
(١) الأخلاق في ثقافة الشرق القديم
لقد ترافق الارتباط التدريجي بين الأخلاق والدين مع نمو المجتمعات القروية الصغيرة ودخولها مرحلة ثقافة المدن. فعندما كانت المجتمعات البشرية تتحول لأول مرة، وفي مناطق الهلال الخصيب، من نظام القرية إلى نظام المدينة، اجتمعت في المدن السومرية الأولى السلطة السياسية والسلطة الدينية في يد واحدة هي الملك-الكاهن. وهذا ما سهَّل عملية الربط بين النظام الأخلاقي والنظام الديني للجماعة. فلقد شعر أولئك الحكام الأوائل وهم يقودون مجتمعًا ودَّع إلى الأبد بساطة القرية وعلاقاتها الاجتماعية المحدودة، وصار إلى حالة من التعقيد وتشابك العلاقات لم تُعرف من قبلُ، شعروا بضرورة ربط المؤيدات الاجتماعية للسلوك الأخلاقي بمؤيدات دينية. فالإله الذي يحافظ على نظام الكون من خلال القوانين الطبيعية، هو الذي يحافظ في الوقت نفسه على نظام المجتمعات الإنسانية من خلال القوانين الأخلاقية. وبمرور الزمن، زادت أواصر هذه العلاقة توطدًا حتى بدت الأخلاق والأديان وكأنها من طبيعةٍ واحدة وأصلٍ مشترك. وسوف نعمل فيما يأتي من هذه الدراسة على تلمُّس المنظومة الأخلاقية لإنسان الشرق القديم في مصر والهلال الخصيب، من خلال ما تركه لنا من نصوص تُظهر ذلك المستوى الراقي الذي بلغته ثقافات هذه المنطقة في مجال الأخلاق والعلاقات الاجتماعية. ونبتدئ بالثقافة المصرية التي تعرض لنا أفضل مثالٍ على ارتباط الأخلاق بالدين.
(يلي ذلك تعداد للخطايا التي لم يقترفها الميت في حياته):
-
لم أقم بعملٍ شرير يؤذي أحدًا من الناس.
-
لم أُسئ معاملة الماشية والأنعام.
-
لم أقترف خطيئة في مكان الصدق (= المعبد).
-
لم أحاول معرفة ما يجب على الفانين عدم معرفته.
-
لم أجدف على أحد من الآلهة.
-
لم أكن قاسيًا على أحد من الفقراء قط.
-
لم أقم بعملٍ يمقته الآلهة.
-
لم أشوه سمعة عبدٍ أمام سيده.
-
لم أتسبب بحزن وبكاء أحدٍ من الناس.
-
لم أقتل، ولم أعطِ أمرًا بالقتل.
-
لم أتسبب في عذاب أحدٍ.
-
لم أمارس الجنس مع غلام.
-
لم أزد ولم أنقص في مكيال الحبوب.
-
لم أغش في مقياس مساحة الأرض.
-
لم أزد على وزنات الميزان.
-
لم أغش في كفة الميزان.
-
لم أحرم الأطفال من حليبهم.
-
لم أطرد المواشي من مراعيها.
-
لم أمسك الطيور في حرم الآلهة.
-
لم أصطد الأسماك من بحيرات حرم الآلهة.
-
لم أمنع الماء عن الآخرين في مواسم السقاية.
-
لم أضع ردمًا أمام الماء الجاري في السواقي.
-
لم أطفئ شعلة نار لأحد وقت التهابها.
-
لم أتناسَ مواعيد تقديم القرابين.
-
لم أسُقِ الماشية من حرم الآلهة.
-
لم أعرقل مسيرة موكب إله.
إلى هنا وينتهي الجزء الأول من إعلان الميت لبراءته. في الجزء الثاني يتوجَّه الميت بالكلام إلى آلهة الأقاليم المصرية الاثنين والأربعين الجالسين في حضرة أوزيريس شهودًا في يوم الحساب، ويعلن براءته أمام كل واحد منهم من إحدى الخطايا قائلًا:
-
(١)
السلام عليك يا أوسيخ نيميت الآتي من هليوبوليس.
لم أظلم أحدًا.
-
(٢)
السلام عليك يا حبت شيت الآتي من خير-آحا.
لم أنهب.
ولغرض الاختصار، سوف أتجاوز فيما يأتي أسماء الآلهة وأماكن إقامتها وأكتفي بتعداد الخطايا التي يعلن الميت براءته منها أمام كلٍّ منهم.
-
(٣)
لم أشتهِ ما في يد غيري.
-
(٤)
لم أسرق.
-
(٥)
لم أقتل أحدًا.
-
(٦)
لم أغش في مكيال الحبوب.
-
(٧)
لم أخدع أحدًا.
-
(٨)
لم أسرق من ممتلكات إله.
-
(٩)
لم أكذب.
-
(١٠)
لم أختلس طعامًا.
-
(١١)
لم ألعن أحدًا.
-
(١٢)
لم أعتدِ على أحدٍ.
-
(١٣)
لم أذبح ماشية إلهٍ.
-
(١٤)
لم آخذ رِبًا من أحدٍ.
-
(١٥)
لم أسرق جراية الخبز من أحدٍ.
-
(١٦)
لم أُشنِّع على أحدٍ.
-
(١٧)
لم أفترِ على أحدٍ.
-
(١٨)
لم أجادل بغير حقٍّ.
-
(١٩)
لم أنم مع زوجة رجلٍ آخر.
-
(٢٠)
لم أدنس نفسي.
-
(٢١)
لم أُفزع أحدًا.
-
(٢٢)
لم أغضب بلا سببٍ.
-
(٢٣)
لم أصرف سمعي عن كلمة الحق.
-
(٢٤)
لم أكن مشاكسًا وخالقًا للمشاكل.
-
(٢٥)
لم أغمز بأحدٍ.
-
(٢٦)
لم أمارس الجنس مع غلام.
-
(٢٧)
لم أبتلع قلبي (كناية عن المراوغة وإظهار المرء ما ليس في قلبه).
-
(٢٨)
لم أكن متعسفًا.
-
(٢٩)
لم أكن عنيفًا في سلوكي.
-
(٣٠)
لم أكن متسرعًا في فعالي.
-
(٣١)
(المعني غامض في اللغة الأصلية).
-
(٣٢)
لم أصرخ في وجه الآخرين.
-
(٣٣)
لم أتصرف بخبثٍ.
-
(٣٤)
لم أشتم الملك.
-
(٣٥)
لم أعكِّر المياه.
-
(٣٦)
لم يعلُ صوتي على أحدٍ.
-
(٣٧)
لم أشتم إلهًا.
-
(٣٨)
لم أتغطرس ولم أتكبر.
-
(٣٩)
لم أكن أنانيًّا في فعالي.
-
(٤٠)
لم أضاعف ممتلكاتي بغير الحلال.
-
(٤١)
لم أُزرِ بإله مدينتي.
يعود هذا النص الفريد إلى مطلع تاريخ مصر القديمة، وقد بقي متداولًا حتى نهايات التاريخ المصري. الأمر الذي يدل على اتصال الأخلاق بالدين منذ وقت مبكر من تاريخ ثقافات الشرق القديم، عندما كانت تتحول من العصر النيوليتي القروي إلى العصر المدني. ويلفت نظرنا بشكل خاص في لائحة القواعد الأخلاقية هذه خلوها من التابو تمامًا، وخلوها من الواجبات الشعائرية تقريبًا، وتركيزها بالمقابل على العلاقات السوية بين الأفراد في المجتمع. فمن بين الاعتراف أمام قضاة العالم الأسفل، والتي يبلغ عددها اثنين وأربعين بندًا، لا نجد سوى أربعة بنود تتصل بعلاقة الفرد بعالم الآلهة. أما البقية فجميعها متصل بحسن السلوك تجاه بقية أعضاء المجتمع. يضاف إلى ذلك شمول القواعد الأخلاقية لبقية الكائنات الحية التي يتوجَّب على الإنسان الرأفة بها وحسن معاملتها. وهذا ما نجده في أكثر من بندٍ من بنود القِسم الأول من الاعتراف. كما يتسع مفهوم الأخلاق ليشمل قواعد التهذيب وحُسن التصرف مع الآخرين. ففي المشاكسة والصراخ في وجه الآخرين، ورفع الصوت في مجتمعٍ من الناس، والغطرسة والأنانية، انحراف عن الخلق السليم لا يقل عن السرقة والغش والربا والاعتداء على العروض والممتلك.
هذا وتبين لنا الأحكام المتعلقة بالجنس في هذا النص الرائد في مجال الأخلاق والحقوق على حدٍّ سواء، الأساس النظري الذي قامت عليه المنظومة الأخلاقية لمصر القديمة. فهناك أمران يجب اجتنابهما في العلاقات الجنسية لا ثالث لهما، الأول هو اللواطة بالغلمان والثاني هو الزنى بامرأةٍ متزوجة. في الحالة الأولى يأتي التحريم من كون أحد الطرفين قاصرًا وغير قادرٍ على التمييز واتخاذ قرار حر ومسئول. وفي الحالة الثانية يأتي التحريم من كون الزنى بامرأةٍ متزوجة يحمل اعتداء على حرمة رجلٍ آخر، كما يحمل تهديدًا لنظام الأسرة في المجتمع. وفيما عدا هاتَين الحالتَين فإن أية علاقة جنسية أساسها الرضا والقبول وعدم تسبيب الأذى لأي طرفٍ فيها أو لأية أطراف خارجية، هي علاقةٌ مشروعة ومقبولة. وهذه قاعدة سامية لم يتوصل إليها كثير من المنظومات الأخلاقية الدينية التي بقيت مشوبة بالعديد من قواعد التابو القديمة، كما لم تتوصل إليها التشريعات المدنية إلا في وقتٍ متأخر من العصور الحديثة.
إلى جانب هذا النوع من النصوص الدينية، لدينا من مصر القديمة عددٌ من نصوص الحكم والوصايا، التي تطلعنا على جانبٍ آخر من جوانب الحياة الأخلاقية للمجتمع المصري القديم. وهذه النصوص طويلة وعلى جانبٍ كبير من الإفاضة والتفصيل، أهمها:
-
(١)
وصايا الوزير بتاحوتب وتعود إلى حوالي عام ٢٤٥٠ق.م.
-
(٢)
وصايا الملك ميركاري، وتعود إلى حوالي عام ٢١٠٠ق.م.
-
(٣)
وصايا الملك أمين أمحت، وتعود إلى عام ١٩٥٠ق.م. وقد بقيت هذه الوصايا شائعةً ومتداولة حتى أواخر عصر الأسرة التاسعة عشرة حوالي ١١٠٠ق.م.، وكانت جزءًا من تعليم الأولاد في المدارس.
-
(٤)
وصايا الأمير حورديدف، وهو حكيمٌ عاش خلال فترة حكم الأسرة الثالثة، وكان ابنًا للفرعون خوفو صاحب الهرم الأكبر. وقد بقيت أقوال هذا الحكيم، أو أقوالٌ منسوبة إليه، متداولة حتى نهاية التاريخ المصري.
-
(٥)
وصايا أمين أم أوبيت، وتعود إلى حوالي عام ٧٠٠ق.م.
وسوف أقدِّم فيما يأتي فقرات ترجمتها من وصايا أمين أم أوبيت، والتي يبلغ عدد فقراتها حوالي المئتين موزعةً على ثلاثة عشر فصلًا:١٠
إن من يتأمل الوصايا الأخلاقية السامية في هذا النص، والذي سبقه. يتذكَّر قول السيد المسيح: «ما جئت لأنقض بل لأكمل.» وقول النبي محمد (صلى عليه وسلم): «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» ويفهم هذان القولان بما يتجاوز التفسيرات الضيقة لفقهاء اللاهوت والشريعة.
إذا انتقلنا من مصر إلى وادي الرافدين، فإننا لا نجد نصًّا يشبه في تفصيلاته نص الاعتراف المصري، ولكننا نستطيع من خلال نصوص الصلوات والتراتيل تلمُّس منظومة أخلاقية دينية متكاملة، في خطوطها العام. فهذه النصوص لم تكن في الأصل مخصصةً لعرض القواعد الأخلاقية، وإنما ذكرتها عرضًا في سياق الضراعة للإله والثناء عليه؛ لأنها اعتبرتها على ما يبدو معروفةً ومفهومة من الجميع.
I
II
يلي ذلك ثمانية أسطر تالفة تختتم هذا الجزء من النص المتعلق بالوصايا الأخلاقية في هذه الترتيلة.
واذهب بأعمالي السيئة، انتزعها عني كما تُنزع العباءات.
يدلنا هذا النص على مدى الحساسية الخلقية لإنسان الشرق القديم، فهو يعتقد بأن أي مكروه يصيبه هو نوع من العقاب على ذنبٍ ما، أو إساءةٍ ارتكبها بحق أحد من الناس أو الآلهة؛ خصوصًا وأن مفهوم العقاب في الحياة الآخرة غير موجود في التصورات الدينية الرافدية. فإذا أصاب الإنسان ضرٌّ ولم يعرف له سببًا، فإنه لا يشكك بعدالة السماء بل يعزو مصابه إلى ذنبٍ ما لا يدري كيف ارتكبه ومتى وأين، ثم يتجه بالصلاة إلى الآلهة طالبًا المغفرة.
I
II
بعد أن يصل يأسُ الرجل ذروته، تأتيه بشائر الخلاص من خلال أحلام طيبة، ثم يتدخل الإله مردوخ ليعيد إليه صحته وكرامته وممتلكاته. ويصف لنا اللوحان الثالث والرابع من هذا النص الطويل، كيف عاد سيرته الأولى بعد كل ما أصابه في جسده وماله وكبريائه دون سببٍ ظاهر، فصبر على كل ذلك ولم يجدف على آلهته رغم كل شيءٍ. وهنا نستطيع أن نلاحظ شبهًا واضحًا بين هذا النص البابلي وقصة أيوب في التوراة، ولكن مع فارق أساسي يكمن في دوافع الإله مردوخ ودوافع الإله يهوه. فنصُّنا لا يوضح السبب الذي من أجله أيضًا تدخَّل مردوخ لانتشاله وإعادته سيرته الأولى أو أفضل منها. أما في سِفر أيوب، وكما سنرى بالتفصيل في الفصل القادم، فإن الشيطان يوغر صدر الإله على أيوب الصالح الواسع الثراء، ويقنعه بأن صلاحه ليس إلا بسبب النعمة التي يعيش فيها. فإذا زالت النعمة فإنه لا شك مرتدٌّ عن إيمانه بربه، كافر به. وهنا يحصل ما يشبه الرهان بين يهوه والشيطان، ويأخذ يهوه بإنزال الضربات في ذلك العبد الصالح ليعرف كنه صلاحه وتقواه، في الوقت الذي كان يستطيع فيه أن يعود إلى معرفته الكلية، كإلهٍ أعلى مطلعٍ على أفئدة عباده، ليحصل على الجواب. أما النص البابلي فخالٍ من مثل هذه الدوافع المريضة، حيث نرى الإنسان ملتزمًا بنُبله الإنساني، والإله ملتزمًا بنبله الإلهي.
في مقابل هذه النصوص التي تُعلي من شأن الحياة الأخلاقية وتؤمن بجدواها، لدينا نصٌّ بابلي على جانب من الطرافة، يبدو لأول وهلةٍ وكأنه يشكك في وجود قاعدة ثابتة يرتكز عليها الخيار الأخلاقي، ويرى أن كل سلوك في قيمته النسبية. النص معروف بعنوان: حوارية السيد والعبد. وهذه ترجمتي لأوضح مقاطعه:
لا يعبر هذا النص عن وجود اتجاه عدمي من مسألة الأخلاق في الثقافة الرافدية، بل إنه يؤسس بالفعل لأخلاقيات لا تأخذ الثواب والعقاب بعين الاعتبار، ولا تنظر إلى السلوك الأخلاقي فيما يعود على صاحبه من مردود مادي أو معنوي. وإني أرى فيه مقدمة للتساؤلات الفلسفية اللاحقة حول ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة، وباعتباره واجبًا ذاتيًّا لا يتبع قاعدة دينية أو مدنية مؤسسة.
هذا وتكمل نصوص الحكم والوصايا، التي وصلنا منها العديد، الصورة العامة للحياة الأخلاقية في بلاد الرافدين. نقرأ في نصٍّ يعود إلى عام ٧٠٠ق.م. هذه الوصايا التي انتخبتها منه والموجهة من أبٍ إلى ابنه:
إن هذه الفقرات القليلة التي سُقتها أعلاه من لائحة طويلة تنوف عن ٣٥٠ وصيةً يرعى تطبيقها الإله شَمَش، توصلنا إلى خلاصة هذه الدراسة، وهي أنه لا يجوز لأية ديانة أن تفاخر بعلو منظومتها الأخلاقية وتميزها عما جاءت به الأديان الأخرى، لا فرق في ذلك بين وثنية وتوحيد، بين ما يُدعى أديانًا سماوية وما يُدعى أديانًا وضعية. فكما تختلف اللغات في التعبير عن ذات الدلالات، كذلك تختلف الأديان شكلًا وتلتقي مضمونًا في دين واحد هو دين الإنسان.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب: فراوليش: ديانات الأرواح الوثنية، ترجمة يوسف شلب الشام، دار المنارة، ١٩٨٨م، ص٩٢–١٠٧/٩٧.
J. Viaud, Egyptian Mythology (in: Larousse Encyclopedia of Mythology, op. cit., p. 20).
-
Wallis Budge, Osiris, Dover, New York 1973, vol. I, pp. 337–342.
-
J. A. Wilson, Egyptian Myths, in: J. Pritchard: Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 34-35.
J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 421–424.
ما هو نصيبي منك لو تزوجتك؟
ما أنت إلا موقد تخمد ناره وقت البرد.
حفرة يخفي غطاؤها كل غدر.
فأر يلوث حامله. قربة ماء تبلل حاملها … إلخ.
(انظر مؤلفي جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة).
-
فالإنسان مهما علا، لن يبلغ السماء طولًا.
-
ومهما اتسع لن يغطي الأرض عرضًا.