(٩) بين الدين والأخلاق في ثقافات الشرق القديم

تتصل الأخلاق بالدين، عبر التاريخ الإنساني، اتصالًا وثيقًا يبدو معه وكأنهما وجهان مختلفان لظاهرةٍ واحدة. ولقد ساعد على هذا الاتصال أن أصحاب الرسالات الروحية الكبرى في تاريخ الدين الإنساني، قد أكَّدوا على الأخلاق واعتبروها جزءًا لا يتجزأ من تعاليمهم الدينية. إن أقوال السيد المسيح مثل: «مَن سخَّرك ميلًا فامشِ معه ميلين»، و«مَن ضربك على خدك الأيمن فأدِر له خدك الأيسر.» وأقوال الرسول محمد؛ مثل: «الدين المعاملة»، و«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وما يوازيها في تعاليم بوذا وزرادشت وماني، هي أمثلة على تداخل التعاليم الدينية بالتعاليم الأخلاقية، وتبيان عن ميل الرسالة الدينية للظهور بمظهر الرسالة الأخلاقية.

ولكن ما أودُّ إيضاحه في هذا المدخل الموجز إلى موضوعنا الرئيسي، هو أنه رغم التشابك بين الدين والأخلاق، والعلاقة الموغلة في القِدم بينهما، فإنهما مفهومان مختلفان تمام الاختلاف من حيث الأصل، ومتمايزان كل التمايز رغم ما يبدو من صلتهما الوطيدة. فالدين عبارةٌ عن معتقداتٍ وممارسات تنظِّم موقف الإنسان وسلوكه تجاه عالم المقدسات، وتزوده برؤية شمولية للكون وموضع الإنسان فيه. أما الأخلاق فإنها قواعد وممارسات تنظِّم موقف الفرد من الآخرين، وسلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة التي ينتمون إليها. إن القواعد الأخلاقية تنشأ من أجل حل المشكلات الناجمة عن الاحتكاك بين الأفراد والجماعات، وتسوية النزاعات التي تخلقها الحياة المشتركة. وهي برجوعها إلى مبادئ للسلوك متفق عليها ومقبولة من قِبل الجميع، فإنها تطرح نفسها بديلًا عمليًّا وناجحًا عن أسلوب القوة والإكراه في العلاقات الاجتماعية. غير أن العلاقة المعقدة بين الدين والأخلاق تبدأ عندما تصدر المشروعية الخلقية عن المعتقد الديني، بدل أن تصدر عن الفهم السليم للعلاقات الاجتماعية المتبادلة.

ولعلَّ النظر إلى مسألة علاقة الدين بالأخلاق في المجتمعات التقليدية التي لم تتعقد بِناها الاجتماعية والسياسية، يقدم لنا برهانًا على أن الأصل في الأخلاق استقلالها عن الدين. ففي هذه المجتمعات التي تعطينا صورةً عن المراحل المبكرة من تطور الحضارة الإنسانية، نجد أن الأخلاق هي شأن دنيوي تنظمه الأعراف السائدة دونما مؤيِّدٍ من قوة قدسية ما. ونستطيع متابعة هذه الظاهرة بدءًا من الثقافات الشامانية حول الدائرة القطبية والتي تحتفظ حتى الآن بملامح واضحة من ثقافة الشرق القديم عندما كان ينسلخ عن طور العصر الحجري الحديث (= النيوليت) ويتهيأ للدخول في طور الثقافة المدينية.

تعتبر الأخلاق في المجتمعات الزنجية بأفريقيا السوداء شأنًا من شئون التنظيم الاجتماعي، لا شأن من شئون الدين. ولا يوجد في الثقافات الزنجية ما يربط الأخلاق إلى الدين، أو يعطيها مؤيدًا يأتي من قِبل الآلهة. إن المفهوم الذي صنعه الأفريقيون لأنفسهم عن الإله الأعلى، مختلفٌ تمامًا عن المفاهيم السائدة في الأديان الشمولية الكبرى. فهم لا يرون فيه راعيًا للأخلاق، ولا يعتبرونه الخير المحض في مقابل الشر. ولذا فإنه لا يجزي ولا يعاقب ولا يمتلك مفاتيح جنة أو نار. أما قواعد السلوك الاجتماعي فتنصُّ عليها المواضعات الاجتماعية المؤيدة بسلطة الأسلاف، الذين تسهر أرواحهم على دوام تطبيق الأوامر والنواهي المتعارف عليها منذ القدم. ويتبع ذلك، أن الهدف من الطقوس الدينية بالنسبة للزنجي هو تحقيق حياة أفضل في هذا العالم. وبما أن مفهوم الخطيئة، باعتبارها تعديًا على حرمة قانون إلهي مفروض، غير معروف لدى هذه المجتمعات، فإن المعاصي عندهم يمكن غسلها تمامًا بواسطة شعائر خاصة. ذلك أن الخير والشر، كصفتين، غير معروفتين لديهم، والشخص الذي ارتكب إثمًا ليس إنسانًا شريرًا بالضرورة، وهو لا يستحق أي لومٍ بعد أن يقوم بغسل إثمه.١
ومع ذلك، فإننا نستطيع العثور على ما يشبه الأخلاق الدينية لدى المجتمعات التقليدية، وذلك في مؤسسة التابو التي أرى فيها نوعًا جنينيًّا من الأخلاق الدينية. فالتابو هو مجموعةٌ من التحريمات التي تسود لدى جماعة ما ولا يُعرف لها مصدر، والبدائي يلتزم هذه التحريمات دون أن يعرف غايتها الأخلاقية. وهو يؤمن بأنها تتمتع بتأييد قوة فوق طبيعانية من نوعٍ ما، سواء أكانت هذه القوة من مصدر إلهي بالمفهوم السائد الذي نعرفه، أم من مصدر سحري ذي صلة بالقوى الغفلة غير المشخصة التي تتخلل الطبيعة.٢ ويتجلَّى تأييد «القوة» للائحة التحريمات بتدخلها الفوري عن طريق إظهارها لرد فعل أوتوماتيكي، حيث يطال الجزاء مَن اعتدى على حدود التابو، كأن يصيب الشلل العضو الذي استخدمه في الفعل المحرم أو يداهمه مرضٌ ما أو يعاجله الموت. وقد تستبق الجماعة العقوبة التلقائية بعقوبة إجرائية، فتفرض على المذنب العزل أو الإبعاد أو الإعدام أحيانًا، وذلك تبعًا لنوع الحد المفروض وخطورة انتهاكه. وسوف أعرض فيما يأتي لمثَلين عن التحريمات الواقعة تحت زمرة التابو في بعض المجتمعات التقليدية، وهما تابو الدم وتابو الحديد.
لدى قبائل أستراليا يُمنع على النساء خلال فترة الحيض، وتحت طائلة الموت، لمس ما يستعمله الرجال أو المشي في درب يطرقونه. وقد سجَّل أحد الأنثروبولوجيين واقعةً مفادها أن رجلًا أستراليًّا قد قتل زوجته فور اكتشافه أنها قد تمددت على حصيرته وهي حائض، ثم ما لبث أن مات بعد أسبوعين وهو يترقب عقاب القوى الخفية. وتخضع النساء في أستراليا أيضًا إلى تحريماتٍ مشابهة خلال فترة الولادة والنفاس، فتُعزل المرأة تمامًا حتى انتهاء فترة نِفاسها، وكل ما تستعمله خلال ذلك يجري إتلافه كي لا يتم لمسه واستعماله حتى من قِبلها. ولدى معظم قبائل أمريكا، تُعزل الفتاة حين يأيتها الحيض الأول في كوخ ويمنع على أحدٍ من الذكور رؤيتها خلال فترة كافية لتطهيرها، ثم تلتزم بعد ذلك تغطية وجهها لمدة محددة بعد خروجها من معتكفها. ومثل النساء في هذا النوع من التابو، زمرة المحاربين، فهؤلاء يخضعون بعد انتهاء القتال إلى فترة عزل كافية لتطهيرهم من دماء قتلاهم، ومثلهم في ذلك أيضًا الصيادون عقب رجوعهم من الصيد.٣ تصنف مثل هذه التحريمات في زمرة التابو الواقع على الأشخاص.
وهناك تحريماتٌ أخر تقع في زمرة التابو الواقع على الأشياء. ومنها تابو استخدام الحديد والأدوات الحديدية في الشعائر الدينية، وبعض النشاطات الدنيوية ذات الطابع الشعائري مثل الفِلاحة. فإلى وقت قريب كان أهالي جزيرة جاوا يحجمون عن استخدام المحاريث الحديدية في فلاحة أراضيهم. ولدى بعض قبائل الهنود الحمر في أمريكا يُمنع استخدام السكاكين الحديدية في الشعائر الدينية ويستخدمون عوضًا عنها السكاكين الحجرية. وفي كوريا كان محرمًا على الملك لمس الحديد لأي سبب من الأسباب. ويُروى أن ملكًا كوريًّا قد مات من ورم في ظهره سنة ١٨٠٠ ميلادية، بينما كان من الممكن علاجه بمفصدٍ حديدي. وفي بعض مناطق أفريقيا تجري عملية الختان بواسطة سكين صوانية. فإذا تطلب الحال إجراء مثل هذه العملية بسكين حديدية، يجري التخلص من السكين بعد استعمالها بدفنها تحت التراب. وفي روما القديمة كان محرمًا على الكهنة الحلاقة بموس حديدية، كما كان محرمًا إدخال الحديد أو أية أدوات مصنوعة منه إلى غابة أرفال المقدسة قرب روما. فإذا تطلَّب الأمر استخدام أداة حديدية لغرض كتابة نقشٍ ما على الحجر، كان لا بد من تقديم ذبيحة تطهيرية قوامها حمَل وخنزير.٤

من هذه الأمثلة اليسيرة، نستطيع ملاحظة الأساس المشترك لكلٍّ من التابو ولوائح الأخلاق الدينية. ذلك أن كليهما يجد تأييده في قوة خارجية هي فوق الأفراد وفوق النُّظم الاجتماعية في آنٍ معًا، ولكن بينما تقتصر تحريمات التابو على عدم تعدِّي حدود قوًى إلهيةٍ أو قوًى سحرية غفلة، فإن لوائح الأخلاق الدينية تتجاوز ذلك لتشتمل على العلاقات المتبادلة بين الأفراد ضمن الجماعة. من هنا، فإنني أفترض ببعض الثقة، بأنه عند مرحلة معينة من تطور المجتمعات القديمة، اتسعت دائرة التابو لتستوعب تدريجيًّا بعض القواعد الأخلاقية التي كانت شأنًا دنيويًّا تنظمه الأعراف والعادات المتبعة، وذلك في الوقت الذي أخذت فيه تحريمات التابو القديمة تفقد سطوتها مع تغير المفاهيم الدينية. ونستطيع ملاحظة هذه المرحلة الوسيطة التي يختلط فيها التابو بالأخلاق الاجتماعية في كتاب التوراة. فمع الوصايا العشر ذات الطابع الأخلاقي، يستلم موسى على جبل سيناء عددًا من الوصايا الأخرى التي لا يمكن فهمها إلا على ضوء مفهوم التابو البدائي. وهي تهبط من السماء باللهجة الإلزامية نفسها وفي الجو القدسي المرعب نفسه. نقرأ في سِفر الخروج ٢٠: ١٨–٢٦: «وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق، وصوت البوق والجبل يدخن … وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الرب. فقال الرب لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل … مذبحًا من تراب تصنع لي … وإذا صنعت لي مذبحًا من حجارة فلا تبنِه منها منحوتة. إذا رفعت إزميلك عليها تدنسها. ولا تصعد إلى مذبحي بدرج كي لا تتكشَّف عورتك.» أما لماذا يتوجب صنع المذبح من تراب، ولماذا يتوجب عدم استخدام الإزميل الحديدي في تسوية الحجارة، فأمور لا توضحها القاعدة التحريمية؛ لأنها قائمة على مبدأ التابو السابق على الأخلاق الدينية التي يعرف المؤمنون الغاية من ورائها.

ولقد أثَّر علو شأن الأخلاق في الحياة الدينية على مفهوم الإله، وعلى تصور الجماعة لصفات الإله وخصائصه. ذلك أن الإله الذي يحضُّ على فضائل الأعمال ينبغي أن يمثِّل في ذاته الخير المحض، ويترك شرور العالم لكي تتدبرها قوة ماورائية أخرى. وهذا ما أدى إلى ظهور مفهوم أو فكرة الشيطان. وهنا، نستطيع أن نلاحظ بوضوح أنه كلما علا شأن الأخلاق في ديانةٍ ما، توضحت شخصية الشيطان وأعطيت له صلاحيات ووظائف، قد ترتقي به في هرمية القوى الماورائية إلى المرتبة الثانية، بعد الإله الأعلى الذي يمثل الخير على المستوى الكوني، أو إلى مرتبة مساوية له أحيانًا. وبالعكس، فكلما تمتعت الأخلاق باستقلالٍ عن الدين غابت شخصية الشيطان وتوزعت صلاحياته على عدد من الكائنات الماورائية الظلامية الباهتة التي لا تتمتع بقوة الألوهة وسلطانها. وهنا نستطيع أن نسوق مِثالين يمثلان طرفَي نقيضٍ في تاريخ الدين، وهما المثال الإغريقي والمثال المصري.

ففي الثقافة الإغريقية حافظت الديانة الأوليمبية الرسمية حتى النهاية على استقلالها عن الأخلاق، ولم يكن كبير الآلهة زيوس يتطلب من عباده أكثر من الذبائح والقرابين. كما أنه لم يضع وصايا أخلاقية ولم يستن الشرائع. أما صواعقه التي كان يرسلها لعقاب البشر فلم تكن معدَّة للفجرة بالمعنى الأخلاقي للكلمة، وإنما لأولئك الذين يهددون نظام الجماعة ولا يعيرون للآلهة التفاتًا. وبما أن زيوس لم يأمر بمكارم الأخلاق، فقد ترك الحبل على الغارب لأهوائه ونزواته التي كانت في معظم الأحيان بعيدةً عن المعايير الخلقية للإنسان الإغريقي. وقد قلَّده في ذلك بقية آلهة المجمع الأوليمبي الذين كانت مواقفهم وتصرفاتهم تصدر عن سلوكية فطرية، وردود أفعالٍ آنية غالبًا ما اتسمت بالبعد عن روح المسئولية الخلقية. وبذلك تُركت المجتمعات الإغريقية لتدير شئونها الداخلية بنفسها وبمعزل عن أية لوائح أخلاقية مفروضة من قِبل السماء. ولهذا السبب، لم تفرز الميثولوجيا الإغريقية شخصية ماورائية مسئولة عن الشر على المستوى الكوني، ولا نعثر فيها على آلهة خيرة من حيث الأساس وأخرى شريرة من حيث الأساس أيضًا. وليست بعض الشخصيات الأسطورية المرعبة مثل الإلهة هيقات والإلهة سكيلا وأمثالهما، سوى وكيلات لقوى الموت والدمار كظاهرتين طبيعانيتين، ولا تمثل الشر بمفهومه الأخلاقي. وربما لهذا السبب أيضًا نشأت فلسفة الأخلاق الدنيوية لدى فلاسفة الإغريق. ففي الوقت الذي عكف خلاله فقهاء الديانات الأخلاقية على اكتناه الإرادة الإلهية فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم، فإن الفلسفة الإغريقية منذ سقراط كانت تتساءل عن ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة.

أما في الثقافة المصرية، فنجد أن الأخلاق تبدأ اتصالًا تدريجيًّا بالدين منذ البدايات الأولى للتاريخ المصري المكتوب. وكلما ازداد التحام الأخلاق الدنيوية بالمعتقد الديني، ازدادت شخصية الشيطان بروزًا وارتقت مكانته في هرمية القوى الإلهية. ونستطيع متابعة هذه الظاهرة من خلال تطور شخصية الإله سيت الذي يجسد الشر على المستوى الكوني في الديانة المصرية. ففي أقدم نصوص الأهرام لا نجد توكيدًا واضحًا على عنصر الشر في شخصية الإله سيت. وهو لا يبدو هنا كأخٍ لأوزيرس (كما صار فيما بعدُ) بل كأخٍ لحورس، حيث تتحدث هذه النصوص عن صراع بين الأخوين دام فترة طويلة وانتهى بتدخل الآلهة للفصل بينهما، وتم نفي سيت إلى الصحراء.٥ غير أن الميثولوجيا الأوزيرية التي جعلت فيما بعدُ من أوزيريس إلهًا للخير ونصَّبته قاضيًا في العالم الأسفل يحاسب الموت على ما قدمته أيديهم في الحياة الدنيا، قد أدت إلى تحويل سيت إلى إله للشر، فصار أخًا لأوزيريس وُلد معه من رحمٍ واحد، وراح منذ البدء يعارض ويهدم كل عملٍ مفيد وخيرٍ يقوم به أوزيريس.
وتتكرر هذه الثنائية الكونية بعد ذلك في المعتقد الزرادشتي، الذي تصوِّر الكون برمته على أنه نظام أخلاقي قطباه قوتان؛ الأولى خيرٌ محض والثانية شرٌّ محض. وبذلك اكتملت لأول مرة في تاريخ الدين صورة الشيطان، باعتباره قوة ما روائية كبرى تعادل في قوتها الإله الواحد الخير، رغم أنها ستئول إلى الخسارة في نهاية الأزمان. ثم ورثت المانوية عن الزرادشتية هذه الثنائية وطورتها على طريقتها. فلقد رفض ماني اعتبار الخير والشر بمنزلة قوتين متكافئتين، كما رفض اعتبار ممثِّل الشر إلهًا يقف على قدم المساواة مع الله. وهذه نقطة الخلاف الجذرية بين ماني والزرادشتية المتأخرة. يقول ماني بوجود مبدأين رئيسيين، الأول هو الله والثاني هو المادة. فمن الله يأتي كل خيرٍ ومن المادة يأتي كل شرٍّ. وقد أنجبت المادة الشيطان أهريمان، ولكن هذا الشيطان ليس إلهًا رغم سلطته على النصف المظلم من الكون، وهو يخسر حربه مع الله في المستقبل ويجري تقييده وإلقاؤه في حفرةٍ تسد فوهتها بصخرة تعادل الأرض في حجمها، وبذلك يتم التخلص من أذاه إلى نهاية الأزمان.٦

أما في اليهودية، التي بقيت معنية بالشعائر أكثر من عنايتها بالأخلاق، وبلوائح التابو أكثر من السلوك الخلقي، فإن فكرة الخير المحض في شخصية الإله لم تنضج عبر أسفار التوراة، وبقي اللاهوتيون التوراتيون لا يوكلون لشئون الشر على المستوى الكوني شخصية ماورائية من أي نوع، لأن الخير والشر بقيا متلازمين في سلوك الإله التوراتي حتى نهايات فترة التدوين في القرن الثاني قبل الميلاد. نقرأ في سِفر إشعيا ٤٥: ٦-٧ «أنا الرب وليس آخر. مصور النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشر. أنا صانع كل هذا.» أما الشيطان، فيبدو في الأسفار الأولى شخصيةً باهتة، وكنوعٍ من الجن يسكن البوادي المقفرة تحت اسم عزازيل. من ذلك ما نجده في سِفر اللاويين ٨: ١٦ و١٠ و٢٦. وقد ذُكر في الأسفار اللاحقة تحت اسم الشيطان، ولكن بدون أية تفصيلات توضح هويته ومجال سلطانه. ويلفت نظرنا بشكلٍ خاص وصف سِفر أيوب للشيطان بأنه من أبناء الله، حيث نقرأ: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمْثُلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم» (أيوب ١: ٦). ثم نتابع في هذا السِّفر كيف وقع الرب في مصيدة الشيطان الذي أوغر صدره على العبد الصالح أيوب، فجلب عليه كل أنواع البلايا والأرزاء حيث سلبت قطعانه وقتل عبيده وأودى الإعصار ببيته وأبنائه وبناته، وحلَّت في جسده الأمراض والآفات من كل نوعٍ، وقامت زوجته نفسها وأصدقاؤه بإطلاق التُّهم فيه ونسبوا إليه كل نقيصةٍ، ولكن أيوب رفض مع ذلك أن يرفع شكواه لغير إلهه رغم يأسه من الاستماع إليه، ووقف ثابتًا في الدفاع عن حقه أمامه. وبذلك تفوَّق أخلاقيًّا على ذلك الإله.

وعندما حررت المسيحية أتباعها من الشريعة التوراتية، وأعلت من شأن الإيمان في مقابل الشعائر، ومن شأن السلوك الأخلاقي في مقابل التابو، ثم جعلت من الله «الخير» والمصدر لكل ما هو خير، أخذت صورة الشيطان تتضح في الأناجيل والرسائل، وارتفع شأن الشيطان إلى مرتبةٍ لم يبلغها قبل ذلك إلا في الزرادشتية. فهو ملاكٌ سقط بسبب الكبرياء (رسالة بولص إلى أهالي إفسوس ٦: ١٢). وهو رئيس رتبة من الأرواح النجسة (متَّى ١٢: ٢٤). ويقود العصاة المتمردين على الله (رسالة بطرس الثانية ٢: ٤). ويوقع بالبشر ويصدهم عن طريق الخير (مرقس ٤: ١٥). وسلطته تشمل كل الجنس البشري (إفسوس ٢١: ٣). ويدعوه بولص بإله هذه الدنيا الفانية (رسالة بولص إلى أهالي كورنثة ٤: ٤). كما يدعوه يوحنَّا الإنجيلي برئيس هذا العالم (يوحنَّا ١٢: ٣١). ويبقى سلطانه قائمًا إلى يوم الدينونة (رؤيا ١٠: ٢٠١). ثم جاء آباء الكنيسة في العصور الوسطى وطوروا هذه الأفكار العامة في تصورات لاهوتية متسقة، مما قدمناه ببعض التفصيل في فصل الأسطورة والتاريخ من هذا الكتاب.

ورغم أن صورة الشيطان في الإسلام تشبه إلى حدٍّ كبير صورته في المسيحية؛ إلا أن سلطته أكثر تقييدًا وتحديدًا. فإبليس بعد طرده من الملأ الأعلى لعصيانه الأمر الإلهي بالسجود لآدم. يعلن تصديه لحمل مسئولية الشر في العالم إلى يوم القيامة: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (الأعراف: ١٤-١٥)، ولكن نشاطه يبقى ضمن حدود المشيئة الإلهية من جهة ومقدرة الإنسان على مقاومته من جهةٍ أخرى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (الحجر: ٣٩–٤٢). بقي علينا أن نوضح الصلة بين الأخلاق والشرائع. فالشرائع ليست إلا جزءًا من الأخلاق العامة تم تأييده بالعقوبات التي تفرضها السلطة. وأول القواعد التشريعية لم يكن إلا قواعد أخلاقية بدت ذات قيمة استثنائية لنظام الجماعة، جرى دعمها بالقوانين التي تضمن التزام الأفراد بها. فالسرقة، مثلًا، تبقى في مجال الأخلاق العامة إلى أن تؤيَّد بعقوبة يفرضها المشرِّع، فتتحول عند ذلك إلى فقرة تشريعية رغم استمرار انتمائها إلى الأخلاق. والشرائع إمَّا أن تكون مدنيةً كما هو الحال في الشرائع الرافدينية، أو دينيةً كما هو الحال في الشريعة التوراتية والشريعة الإسلامية. إن الأخلاق في بلاد الرافدين كانت تحضُّ دومًا على الأمانة وعدم الاعتداء على ممتلكات الغير، وكان خرق هذه القاعدة الأخلاقية يعتبر انتهاكًا للأعراف الاجتماعية من جهة وتعديًا على حدود الآلهة من جهة أخرى. إلا أن العقوبة المدعمة لهذه القاعدة الأخلاقية لم تُسن من قِبل سلطة إلهية بل من قِبل سلطة زمنية. نقرأ في شريعة حمورابي على سبيل المثال: «لو سرق رجل ثورًا أو خنزيرًا أو قاربًا من أملاك إله — أي من أملاك المعبد — أو من أملاك القصر الملكي، يدفع ثلاثين مِثلًا. وإن كانت السرقة من أملاك قروي، يدفع عشرة أمثال. فإذا لم يكن لدى السارق ما يدفعه فإنه يُقتل.» ونقرأ أيضًا: «إن لم يُقبض على السارق، يتوجب على المسروق أن يصرِّح بما فقده أمام إله. وعلى المدينة، عن طريق العُمدة في المنطقة التي اقترفت فيها السرقة، أن تعوِّض له خسارته.»٧

على أن الشرائع في صيغتها المدنية أو الدينية لا تستنفد لوائح الأخلاق العامة كلها، ولا تتطابق معها أيضًا تطابقًا تامًّا. ففي كتاب التوراة نجد نوعين من الأحكام الأخلاقية، نوع يؤيد بالعقوبات ويدخل في جملة الشرائع، وآخر غير مؤيد بالعقوبات ويبقى في مجال الأخلاق. فالفقرات ٥ و٨ و١٠ من الوصايا العشر، على سبيل المثال، هي قواعد أخلاقية لا يوجد لها إلزام في الشريعة، وهي: «أكرم أباك وأمك، لا تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشتهِ امرأة قريبك.» أما الفقرات ٦ و٧ و٨، فتندرج في لوائح الشريعة، وهي: «لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ.» وعقوباتها مدرجة في أسفار الخروج والعدد والتثنية. من ذلك مثلًا عقوبة الزنى التي تندرج من إلزام الرجل بالزواج ممن زنى معها، إلى رجم الزناة حتى الموت (انظر سِفر التثنية ٢٢: ١٣–٢٨). وفي القرآن الكريم أيضًا نجد وصايا أخلاقية غير مؤيدة بالعقوبة؛ وبالتالي لا تدخل في مجال الشريعة. فالظن الآثم والغيبة والتجسس على أفعال الآخرين، هي أفعال منافية للأخلاق يجب اجتنابها، ولكن لا يوجد نص تشريعي يعاقب عليها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (الحجرات: ١٢). وبالمقابل هنالك قواعد أخلاقية مؤيدة بعقوبات تلحقها في مجال الشريعة. فاجتناب الزني هو قاعدة أخلاقية، شأنها في ذلك شأن اجتناب الظن الآثم والتجسس: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (الإسراء: ٣٢). هذه القاعدة الأخلاقية مؤيدة بفقرة تشريعية منصوص عليها في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (النور: ٢).

(١) الأخلاق في ثقافة الشرق القديم

لقد ترافق الارتباط التدريجي بين الأخلاق والدين مع نمو المجتمعات القروية الصغيرة ودخولها مرحلة ثقافة المدن. فعندما كانت المجتمعات البشرية تتحول لأول مرة، وفي مناطق الهلال الخصيب، من نظام القرية إلى نظام المدينة، اجتمعت في المدن السومرية الأولى السلطة السياسية والسلطة الدينية في يد واحدة هي الملك-الكاهن. وهذا ما سهَّل عملية الربط بين النظام الأخلاقي والنظام الديني للجماعة. فلقد شعر أولئك الحكام الأوائل وهم يقودون مجتمعًا ودَّع إلى الأبد بساطة القرية وعلاقاتها الاجتماعية المحدودة، وصار إلى حالة من التعقيد وتشابك العلاقات لم تُعرف من قبلُ، شعروا بضرورة ربط المؤيدات الاجتماعية للسلوك الأخلاقي بمؤيدات دينية. فالإله الذي يحافظ على نظام الكون من خلال القوانين الطبيعية، هو الذي يحافظ في الوقت نفسه على نظام المجتمعات الإنسانية من خلال القوانين الأخلاقية. وبمرور الزمن، زادت أواصر هذه العلاقة توطدًا حتى بدت الأخلاق والأديان وكأنها من طبيعةٍ واحدة وأصلٍ مشترك. وسوف نعمل فيما يأتي من هذه الدراسة على تلمُّس المنظومة الأخلاقية لإنسان الشرق القديم في مصر والهلال الخصيب، من خلال ما تركه لنا من نصوص تُظهر ذلك المستوى الراقي الذي بلغته ثقافات هذه المنطقة في مجال الأخلاق والعلاقات الاجتماعية. ونبتدئ بالثقافة المصرية التي تعرض لنا أفضل مثالٍ على ارتباط الأخلاق بالدين.

لدينا نصٌّ مصري على جانب كبير من الأهمية يُعتبر بمنزلة الوصايا العشر المصرية، ونستطيع أن نُطلق عليه اسم الوصايا المائة؛ لأنه لم يترك صغيرةً ولا كبيرةً من القواعد الأخلاقية إلا وأوردها. والنصُّ عبارةٌ عن مجموعة اعترافاتٍ يدلي بها المتوفَّى في قاعة العدالة المزدوجة، أمام الميزان المنصوب الذي يزن به قضاة العالم الأسفل حسنات الميت وسيئاته. وهذه الاعترافات مصاغة بأسلوب النفي حيث يتوجب على الميت إعلان براءته من الذنوب بصيغة: لم أفعل كذا، ولم أفعل كذا. يبتدئ النص (وهو معروف في كتاب الموتى بعنوان: إعلان البراءة من الذنوب) بالمقدمة الآتية:٨
هذا ما يتوجَّب على فلان من الناس تلاوته لدى وصوله إلى قاعدة العدالة المزدوجة،٩ لكي تُغفر له خطاياه ويتحلل من آثامه ويرى وجه الآلهة: «السلام عليك أيها الإله العظيم، رب العدالة المزدوجة — أي أوزيريس — لقد أتيت إليك. لقد جيء بي إليك لكي أتملَّى جمالك. أنا أعرفك، أنا أعرف اسمك وأسماء الآلهة الاثنين والأربعين الذين معك في قاعة العدالة المزدوجة الفسيحة. الذين يشربون ويقتاتون من دم الخطاة يوم الحساب، وفي حضرة ونيوفر — أوزيريس — ها هو اسمك، إنه ساتي ميرتيفي، رب العدالة. لقد جئت إليك بالحقيقة، وبددت الكذب أمامك.»

(يلي ذلك تعداد للخطايا التي لم يقترفها الميت في حياته):

  • لم أقم بعملٍ شرير يؤذي أحدًا من الناس.

  • لم أُسئ معاملة الماشية والأنعام.

  • لم أقترف خطيئة في مكان الصدق (= المعبد).

  • لم أحاول معرفة ما يجب على الفانين عدم معرفته.

  • لم أجدف على أحد من الآلهة.

  • لم أكن قاسيًا على أحد من الفقراء قط.

  • لم أقم بعملٍ يمقته الآلهة.

  • لم أشوه سمعة عبدٍ أمام سيده.

  • لم أتسبب بحزن وبكاء أحدٍ من الناس.

  • لم أقتل، ولم أعطِ أمرًا بالقتل.

  • لم أتسبب في عذاب أحدٍ.

  • لم أمارس الجنس مع غلام.

  • لم أزد ولم أنقص في مكيال الحبوب.

  • لم أغش في مقياس مساحة الأرض.

  • لم أزد على وزنات الميزان.

  • لم أغش في كفة الميزان.

  • لم أحرم الأطفال من حليبهم.

  • لم أطرد المواشي من مراعيها.

  • لم أمسك الطيور في حرم الآلهة.

  • لم أصطد الأسماك من بحيرات حرم الآلهة.

  • لم أمنع الماء عن الآخرين في مواسم السقاية.

  • لم أضع ردمًا أمام الماء الجاري في السواقي.

  • لم أطفئ شعلة نار لأحد وقت التهابها.

  • لم أتناسَ مواعيد تقديم القرابين.

  • لم أسُقِ الماشية من حرم الآلهة.

  • لم أعرقل مسيرة موكب إله.

إلى هنا وينتهي الجزء الأول من إعلان الميت لبراءته. في الجزء الثاني يتوجَّه الميت بالكلام إلى آلهة الأقاليم المصرية الاثنين والأربعين الجالسين في حضرة أوزيريس شهودًا في يوم الحساب، ويعلن براءته أمام كل واحد منهم من إحدى الخطايا قائلًا:

  • (١)

    السلام عليك يا أوسيخ نيميت الآتي من هليوبوليس.

    لم أظلم أحدًا.

  • (٢)

    السلام عليك يا حبت شيت الآتي من خير-آحا.

    لم أنهب.

    ولغرض الاختصار، سوف أتجاوز فيما يأتي أسماء الآلهة وأماكن إقامتها وأكتفي بتعداد الخطايا التي يعلن الميت براءته منها أمام كلٍّ منهم.

  • (٣)

    لم أشتهِ ما في يد غيري.

  • (٤)

    لم أسرق.

  • (٥)

    لم أقتل أحدًا.

  • (٦)

    لم أغش في مكيال الحبوب.

  • (٧)

    لم أخدع أحدًا.

  • (٨)

    لم أسرق من ممتلكات إله.

  • (٩)

    لم أكذب.

  • (١٠)

    لم أختلس طعامًا.

  • (١١)

    لم ألعن أحدًا.

  • (١٢)

    لم أعتدِ على أحدٍ.

  • (١٣)

    لم أذبح ماشية إلهٍ.

  • (١٤)

    لم آخذ رِبًا من أحدٍ.

  • (١٥)

    لم أسرق جراية الخبز من أحدٍ.

  • (١٦)

    لم أُشنِّع على أحدٍ.

  • (١٧)

    لم أفترِ على أحدٍ.

  • (١٨)

    لم أجادل بغير حقٍّ.

  • (١٩)

    لم أنم مع زوجة رجلٍ آخر.

  • (٢٠)

    لم أدنس نفسي.

  • (٢١)

    لم أُفزع أحدًا.

  • (٢٢)

    لم أغضب بلا سببٍ.

  • (٢٣)

    لم أصرف سمعي عن كلمة الحق.

  • (٢٤)

    لم أكن مشاكسًا وخالقًا للمشاكل.

  • (٢٥)

    لم أغمز بأحدٍ.

  • (٢٦)

    لم أمارس الجنس مع غلام.

  • (٢٧)

    لم أبتلع قلبي (كناية عن المراوغة وإظهار المرء ما ليس في قلبه).

  • (٢٨)

    لم أكن متعسفًا.

  • (٢٩)

    لم أكن عنيفًا في سلوكي.

  • (٣٠)

    لم أكن متسرعًا في فعالي.

  • (٣١)

    (المعني غامض في اللغة الأصلية).

  • (٣٢)

    لم أصرخ في وجه الآخرين.

  • (٣٣)

    لم أتصرف بخبثٍ.

  • (٣٤)

    لم أشتم الملك.

  • (٣٥)

    لم أعكِّر المياه.

  • (٣٦)

    لم يعلُ صوتي على أحدٍ.

  • (٣٧)

    لم أشتم إلهًا.

  • (٣٨)

    لم أتغطرس ولم أتكبر.

  • (٣٩)

    لم أكن أنانيًّا في فعالي.

  • (٤٠)

    لم أضاعف ممتلكاتي بغير الحلال.

  • (٤١)

    لم أُزرِ بإله مدينتي.

يعود هذا النص الفريد إلى مطلع تاريخ مصر القديمة، وقد بقي متداولًا حتى نهايات التاريخ المصري. الأمر الذي يدل على اتصال الأخلاق بالدين منذ وقت مبكر من تاريخ ثقافات الشرق القديم، عندما كانت تتحول من العصر النيوليتي القروي إلى العصر المدني. ويلفت نظرنا بشكل خاص في لائحة القواعد الأخلاقية هذه خلوها من التابو تمامًا، وخلوها من الواجبات الشعائرية تقريبًا، وتركيزها بالمقابل على العلاقات السوية بين الأفراد في المجتمع. فمن بين الاعتراف أمام قضاة العالم الأسفل، والتي يبلغ عددها اثنين وأربعين بندًا، لا نجد سوى أربعة بنود تتصل بعلاقة الفرد بعالم الآلهة. أما البقية فجميعها متصل بحسن السلوك تجاه بقية أعضاء المجتمع. يضاف إلى ذلك شمول القواعد الأخلاقية لبقية الكائنات الحية التي يتوجَّب على الإنسان الرأفة بها وحسن معاملتها. وهذا ما نجده في أكثر من بندٍ من بنود القِسم الأول من الاعتراف. كما يتسع مفهوم الأخلاق ليشمل قواعد التهذيب وحُسن التصرف مع الآخرين. ففي المشاكسة والصراخ في وجه الآخرين، ورفع الصوت في مجتمعٍ من الناس، والغطرسة والأنانية، انحراف عن الخلق السليم لا يقل عن السرقة والغش والربا والاعتداء على العروض والممتلك.

هذا وتبين لنا الأحكام المتعلقة بالجنس في هذا النص الرائد في مجال الأخلاق والحقوق على حدٍّ سواء، الأساس النظري الذي قامت عليه المنظومة الأخلاقية لمصر القديمة. فهناك أمران يجب اجتنابهما في العلاقات الجنسية لا ثالث لهما، الأول هو اللواطة بالغلمان والثاني هو الزنى بامرأةٍ متزوجة. في الحالة الأولى يأتي التحريم من كون أحد الطرفين قاصرًا وغير قادرٍ على التمييز واتخاذ قرار حر ومسئول. وفي الحالة الثانية يأتي التحريم من كون الزنى بامرأةٍ متزوجة يحمل اعتداء على حرمة رجلٍ آخر، كما يحمل تهديدًا لنظام الأسرة في المجتمع. وفيما عدا هاتَين الحالتَين فإن أية علاقة جنسية أساسها الرضا والقبول وعدم تسبيب الأذى لأي طرفٍ فيها أو لأية أطراف خارجية، هي علاقةٌ مشروعة ومقبولة. وهذه قاعدة سامية لم يتوصل إليها كثير من المنظومات الأخلاقية الدينية التي بقيت مشوبة بالعديد من قواعد التابو القديمة، كما لم تتوصل إليها التشريعات المدنية إلا في وقتٍ متأخر من العصور الحديثة.

إلى جانب هذا النوع من النصوص الدينية، لدينا من مصر القديمة عددٌ من نصوص الحكم والوصايا، التي تطلعنا على جانبٍ آخر من جوانب الحياة الأخلاقية للمجتمع المصري القديم. وهذه النصوص طويلة وعلى جانبٍ كبير من الإفاضة والتفصيل، أهمها:

  • (١)

    وصايا الوزير بتاحوتب وتعود إلى حوالي عام ٢٤٥٠ق.م.

  • (٢)

    وصايا الملك ميركاري، وتعود إلى حوالي عام ٢١٠٠ق.م.

  • (٣)

    وصايا الملك أمين أمحت، وتعود إلى عام ١٩٥٠ق.م. وقد بقيت هذه الوصايا شائعةً ومتداولة حتى أواخر عصر الأسرة التاسعة عشرة حوالي ١١٠٠ق.م.، وكانت جزءًا من تعليم الأولاد في المدارس.

  • (٤)

    وصايا الأمير حورديدف، وهو حكيمٌ عاش خلال فترة حكم الأسرة الثالثة، وكان ابنًا للفرعون خوفو صاحب الهرم الأكبر. وقد بقيت أقوال هذا الحكيم، أو أقوالٌ منسوبة إليه، متداولة حتى نهاية التاريخ المصري.

  • (٥)

    وصايا أمين أم أوبيت، وتعود إلى حوالي عام ٧٠٠ق.م.

    وسوف أقدِّم فيما يأتي فقرات ترجمتها من وصايا أمين أم أوبيت، والتي يبلغ عدد فقراتها حوالي المئتين موزعةً على ثلاثة عشر فصلًا:١٠
لا تسرق من المسكين، ولا تُحمِّل الضعيف فوق طاقته.
لا تزعزع أحجار حدود الحقول عن مواضعها.
ولا يكن جشعك لبضعة أمتار من الأرض.
لا توسع أرضك على حساب أملاك الأرملة.
لأن المتر الحلال أفضل من خمسة آلاف متر حرام؛
وحصادها لا يبقى يومًا في صومعتك.
وغلتها لا تقدم لبرميل واحد من الجعة.
أفضل لك أن تكون فقيرًا بين يدَي الله،
من أن تكون غنيًّا في وسط مستودعاتك.
الرغيف الواحد مع الطمأنينة، أفضل من الثروة مع الأحزان.
لا تشتهِ الغنى ولا المظاهر، فكل إنسان مملوك لساعته.
لا تجهد نفسك في الاكتناز وحاجتك آمنة؛
فإن المال الحرام لا يلبث من بيتك، تصير له أجنحة ويطير.
لا تطمع في مال الفقير ولا تشتهِ خبزه؛
لأنه سيصير شوكةً في حنجرتك وقَيْئًا في حلقك.
إذا كان لك دَيْنٌ عند رجلٍ فقير.
اجعله ثلاثة أقسام، سامحه بقسطين واترك واحدًا.
عندها ستنام ملء جفونك، وفي الصباح ستجد عملك كالبشارة الطيبة.
لا تجعل لنفسك أوزانًا مغشوشة؛
لأنها سوف تزخر بالبلايا بإرادة الله (= نتر).
لا تقضِ ليلك في خوفٍ من الغد؛
لأنه مَن يعرف ما سيكون عليه الغد عند انبلاج الصبح؟
ما يقوله الإنسان شيء، وما يفعله الله شيء آخر.
إذا آذاك أحد لا تقل إن لي رئيسًا قويًّا.
وإذا أصابك أحدٌ بضر لا تقل إن لي حاميًا.
بل ضع نفسك في رعاية الله.
لا تهزأ من أعمى ولا تسخر من قزم؛
ولا تتفجر غضبًا في وجه مَن يرتكب خطأ.
فما الإنسان إلا قش وتراب؛ خلق الله.
إن الله يخلق ألف إنسان ضعيف إذا شاء.
ويخلق ألف إنسان حكيم أيضًا.
لا تنهر الأرملة وهي تجمع البقايا في حقلك.
ولا تمنع عن الغريب جرة زيتك.
إن الله يفضل احترامك للفقير على تعظيمك للقوي.

إن من يتأمل الوصايا الأخلاقية السامية في هذا النص، والذي سبقه. يتذكَّر قول السيد المسيح: «ما جئت لأنقض بل لأكمل.» وقول النبي محمد (صلى عليه وسلم): «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» ويفهم هذان القولان بما يتجاوز التفسيرات الضيقة لفقهاء اللاهوت والشريعة.

إذا انتقلنا من مصر إلى وادي الرافدين، فإننا لا نجد نصًّا يشبه في تفصيلاته نص الاعتراف المصري، ولكننا نستطيع من خلال نصوص الصلوات والتراتيل تلمُّس منظومة أخلاقية دينية متكاملة، في خطوطها العام. فهذه النصوص لم تكن في الأصل مخصصةً لعرض القواعد الأخلاقية، وإنما ذكرتها عرضًا في سياق الضراعة للإله والثناء عليه؛ لأنها اعتبرتها على ما يبدو معروفةً ومفهومة من الجميع.

من النصوص ذات الصلة بموضوعنا هنا، ترتيلة مرفوعة للإله شَمَش إله الشمس والعدالة، الذي يعاقب الأشرار ويكافئ الأخيار، عُثر على هذا النص، الذي يتألف من ١٦٠ سطرًا، في مكتبة آشور بانيبال، وهو نسخةٌ من نص أكادي أقدم منه بكثير. ولسوء الحظ، فإن سبعة عشر سطرًا مفقودة من الرقيم، عند الموضع الذي يعرض فيه النص إلى الوصايا الأخلاقية التي يرعى الإله شَمَش تطبيقها؛ الأمر الذي لم يترك لنا من تلك الوصايا إلا أقلها، ونموذجًا عنها. وفيما يأتي أقدِّم ترجمتي للفقرات ذات الصلة بالأخلاق من هذا النص الطويل:١١

I

(١) أيا مبدد الظلام … …
(٢) قاهر الشر … في الأسفل وفق الأعلى.
(٥) يا مَن يرمي بأشعته كشبكة فوق البلاد والأصقاع.
(٢٣) ويراقب من علاليه شعوب الأرض قاطبةً.
(٣٣) أنت راعي العالم من أسفل، وحارس العالم من أعلى.
(٥١) لظهورك يبتهج كل بني البشر.
(٥٢) وتتوق لنورك، يا إلهي شَمَش، الدنيا بأجمعها.

II

(١) يا مَن تحاسب، بالحق، الصالح وتحاسب الشرير.
(٣٠) تنشر شبكتك الواسعة لتمسك بالرجل،
(٣٢) الذي يشتهي امرأة صديقه.
(٣٩) تكسر شكيمة المجرم وتقطع دابره.
(٤٠) تذهب بمال مَن يتلاعب بالحسابات.
(٤١) تودي عدالتك بالقاضي الفاسد إلى السجن،
(٤٢) وتنزل عقابك بالمرتشي الذي يحرِّف سير العدالة.
(٤٣) أما المستقيم الذي يرفض الرشوة وينتصر للضعيف،
(٤٤) يفرح به فؤادك، فتثري حياته وتزيد في أيامه.
(٤٥) القاضي النزيه الذي يُصدر الأحكام بالحق،
(٤٦) تجعل مكانته سامية وتسكنه مساكن الأمراء.
(٤٧) ما الذي يجنيه المرابي الذي يثمر ماله بربحٍ فاحش؟
(٤٨) يكذب من أجل ربح آنيٍّ، ولكنه يخسر ثروة بأكملها.
(٥١) ومَن يغيِّر عن عمد في أحجار الميزان وينقص منها؟
(٥٣) إنه يكذب من أجل ربح آني، ولكنه يخسر ثروة بأكملها.
(٥٤) أما مَن يستخدم الميزان بالصدق … … …

يلي ذلك ثمانية أسطر تالفة تختتم هذا الجزء من النص المتعلق بالوصايا الأخلاقية في هذه الترتيلة.

ولدينا نصٌّ معروف باسم صلاة إلى الآلهة جميعها، عُثر عليه أيضًا في مكتبة الملك آشور بانيبال، وهو عبارة عن صلاة مرفوعة إلى الآلهة كلها، المعروف منها لدى كاتب النص وغير المعروف، يطلب منها غفران خطاياه التي ارتكبها دون قصدٍ وعن غير علمٍ بها ومعرفةٍ. النص مكتوبٌ بالسومرية مع ترجمة أكدية مرافقة. وهذه ترجمتي الكاملة تقريبًا له، حذفت منها بعض الأسطر المكررة:١٢
وليرضَ عني الإله الذي لا أعرفه.
لترضَ عني الإلهة التي لا أعرفها.
ليرضَ عني مَن أعرف من الآلهة ومَن لا أعرف.
ليرضَ عني مَن أعرف من الإلهات ومَن لا أعرف.
بجهلٍ مني أكلت طعامًا حرَّمه إلهي.
وبجهلٍ مني وطئت مكانًا حرَّمته إلهتي.
فيا ربي إن آثامي عديدة وخطاياي عظيمة.
إني جاهلٌ حقًّا بما اقترفته من ذنوب.
إني جاهل حقًّا بما ارتكبته من خطايا.
ولكن الإله نظر إليَّ بقلبٍ غاضب.
وإلهتي في غضبها تسببت في مرضي.
لقد نال مني الإله الذي أعرفه والإله الذي لا أعرفه.
وقضت بعذابي الإلهة التي أعرفها والإلهة التي لا أعرفها.
أطلب العون وما من أحدٍ يمد إليَّ اليدا.
أبكي وما من أحدٍ يقدِّم لي سندًا.
أندب ولا يسمع عويلي أحدًا.
مغلوب على أمري، معتل، وعيني لا تبصر.
فيا إلهي، أيها الإله الرحيم، هذه ضراعتي فإليَّ فانظر.
الإنسان مخلوق قاصر التفكير لا يعرف شيئًا،
لا يدري متى يجني حسنةً ولا متى يصنع إثمًا.
فلا تطرح يا ربي عبدك هذا أرضًا.
ها هو يغرق في ماء المستنقع، فخذ بيده،
وحوِّل سيئاته إلى حسنات.
دع الآثام التي ارتكبتها تذروها الذاريات،

واذهب بأعمالي السيئة، انتزعها عني كما تُنزع العباءات.

يدلنا هذا النص على مدى الحساسية الخلقية لإنسان الشرق القديم، فهو يعتقد بأن أي مكروه يصيبه هو نوع من العقاب على ذنبٍ ما، أو إساءةٍ ارتكبها بحق أحد من الناس أو الآلهة؛ خصوصًا وأن مفهوم العقاب في الحياة الآخرة غير موجود في التصورات الدينية الرافدية. فإذا أصاب الإنسان ضرٌّ ولم يعرف له سببًا، فإنه لا يشكك بعدالة السماء بل يعزو مصابه إلى ذنبٍ ما لا يدري كيف ارتكبه ومتى وأين، ثم يتجه بالصلاة إلى الآلهة طالبًا المغفرة.

ولدينا نصٌّ معروف بعنوان: سأُثني على رب الحكمة. وهو يشبه في بواعث كتابته نصَّ دعاءٍ إلى الآلهة جميعها. فالكاتب هنا ضائع عن مقاصد المشيئة الإلهية ومعاييرها الأخلاقية؛ لأنه يجد نفسه في أسوأ حالةٍ رغم كل تقواه وورعه، والآلهة تدير وجهها عنه رغم كل ما قدمته يداه من أعمالٍ صالحة. يقع النص في حوالي ٤٠٠ سطرٍ موزعةً على أربعة ألواح. من هنا لا يسعني سوى تقديم ترجمةٍ لمنتخبات من سطور اللوحين الأول والثاني، والتي تحتوي على معظم المادة ذات الصلة بموضوعنا:١٣

I

(١) سأُثني على إله الحكمة، الربِّ المتفكر المتدبر،
(٢) الذي يمسك بالليل ويطلق النهار.
(٣) مردوخ؛ إله الحكمة الرب المتفكر المتدبر،
(٤) الذي يكتسح غضبه كطوفانٍ مدمر،
(٥) والذي يتسع قلبه رحمةً وصدره مغفرةً.
(كسرٌ طويل في اللوح)،
(٤٣) لقد تخلَّى عني إلهي واختفى،
(٤٤) لقد هجرتني إلهتي وابتعدت،
(٤٥) وفارقني الروح الحارس الذي يرافقني.
(٧٣) رأسي المرفوع الفخور طأطأ نحو الأرض.
(٧٦) وقلبي الجسور قد تملَّك منه الخوف.
(٧٧) بعد أن كنت أخطو بفخرٍ وعزٍّ، تعودت الانسلال كمجهول،
(٧٨) وبعد أن كنت سيدًا محترمًا غدوت عبدًا ذليلًا.
(٨٠) إذا عبرت الطريق أشارت إليَّ الأصابع.
(٨٤) أصدقائي أداروا لي ظهر المجن.
(٨٥) وصحبي تحولوا إلى أشرار وشياطين،
(٨٦) وبنزقٍ أنكروني وتبرءوا مني.
(٨٩) حتى عبيدي لعنوني في المجالس العامة،
(٩٢) وأهل بيتي عاملوني كنكرةٍ وغريب.
(٩٨) لا أحد يقف في صفِّي ولا أحد يفهمني،
(٩٩) وممتلكاتي جرى توزيعها على الأغراب والدهماء.

II

(١) رفعت دعائي إلى إلهي فأشاح بوجهه عني.
(٥) صليت إلى إلهتي فلم تُدر وجهها نحوي.
(٦) حار العرَّافون ولم تفلح نبوءاتهم بشأني،
(٧) ولم يفهم مفسرو الأحلام، بعد كل ما سكبوا من ماء القرابين، قضيتي.
(١١) لقد صرت كمَن لم يقدم لإلهه قربانًا،
(١٢) وصرت كمَن لم يشكر إلهته عند كل طعامٍ،
(٢١) كمَن فقدَ صوابه ونسي ربه،
(٢٢) وكمَن حلف قسمًا عظيمًا باسم إلهه كاذبًا.
(٢٣) رغم أني كنت حريصًا على الصلاة في كل وقتٍ،
(٢٥) وكان يوم الصلاة عندي مسرة للفؤاد.
(٣٤) ولكن ما يبدو للإنسان حسنًا قد يكون في عين إلهه رديئًا.
(٣٦) وهل يعرف أحدٌ مشيئة الآلهة في السماء؟
(٣٧) هل يعرف أحد خطط الآلهة على الأرض؟
(٣٨) ومتى كان للبشر أن يفهموا أو يعوا طرق الآلهة؟
(٣٩) (وا حسرتا) مَن كان منهم حيًّا في الأمس تراه اليوم ميتًا.
(٤٠) ومَن كان مغمومًا لتوِّه تراه الآن يصخب مرحًا.
(٤١) آنًا يغني طربًا، وكالندابات المحترفات يُعول آنًا.
(٤٢) (وا حسرتا) كيف تنقلب أحوالهم بأسرع من طرفة عينٍ.
(٤٣) إذا جاعوا صاروا كأنهم جثث ساكنة،
(٤٤) وإذا شبعوا تراهم تشبَّهوا بالآلهة.
(٤٥) في زمن اليسر يتحدثون عن ارتقاء السماء،
(٤٦) وفي زمن العسر يتحدثون عن هبوط أرض الفناء.
(٤٧) لقد تأمَّلت ذلك كله ولم أفهم له معنًى.
(٤٨) وها هي الأمراض الموجعة تنهش بقيتي،
(٤٩) والرياح الشريرة تعصف في أفق حياتي.
(٧٣) عيناي تنظران ولكن لا أرى أمامي،
(٧٤) وأذناي تصغيان ولكن لا أسمع حولي.
(٧٥) غلب الضعف على جسدي.
(٧٦) وداهمت العلل أجزائي وأوصالي.
(٧٧) ٧٨ تصلَّبت ذراعاي وخارت ركبتاي،
(٧٩) ونسيت قدماي مَشيها وحركتها،
(٨٠) وها صفرة الموت تغطي محياي،
(١١٤) ها جنازتي معدَّة وقبري يناديني.
(١١٥) وقبل أن تفارقني الروح توقَّف البكاء عليَّ.

بعد أن يصل يأسُ الرجل ذروته، تأتيه بشائر الخلاص من خلال أحلام طيبة، ثم يتدخل الإله مردوخ ليعيد إليه صحته وكرامته وممتلكاته. ويصف لنا اللوحان الثالث والرابع من هذا النص الطويل، كيف عاد سيرته الأولى بعد كل ما أصابه في جسده وماله وكبريائه دون سببٍ ظاهر، فصبر على كل ذلك ولم يجدف على آلهته رغم كل شيءٍ. وهنا نستطيع أن نلاحظ شبهًا واضحًا بين هذا النص البابلي وقصة أيوب في التوراة، ولكن مع فارق أساسي يكمن في دوافع الإله مردوخ ودوافع الإله يهوه. فنصُّنا لا يوضح السبب الذي من أجله أيضًا تدخَّل مردوخ لانتشاله وإعادته سيرته الأولى أو أفضل منها. أما في سِفر أيوب، وكما سنرى بالتفصيل في الفصل القادم، فإن الشيطان يوغر صدر الإله على أيوب الصالح الواسع الثراء، ويقنعه بأن صلاحه ليس إلا بسبب النعمة التي يعيش فيها. فإذا زالت النعمة فإنه لا شك مرتدٌّ عن إيمانه بربه، كافر به. وهنا يحصل ما يشبه الرهان بين يهوه والشيطان، ويأخذ يهوه بإنزال الضربات في ذلك العبد الصالح ليعرف كنه صلاحه وتقواه، في الوقت الذي كان يستطيع فيه أن يعود إلى معرفته الكلية، كإلهٍ أعلى مطلعٍ على أفئدة عباده، ليحصل على الجواب. أما النص البابلي فخالٍ من مثل هذه الدوافع المريضة، حيث نرى الإنسان ملتزمًا بنُبله الإنساني، والإله ملتزمًا بنبله الإلهي.

في مقابل هذه النصوص التي تُعلي من شأن الحياة الأخلاقية وتؤمن بجدواها، لدينا نصٌّ بابلي على جانب من الطرافة، يبدو لأول وهلةٍ وكأنه يشكك في وجود قاعدة ثابتة يرتكز عليها الخيار الأخلاقي، ويرى أن كل سلوك في قيمته النسبية. النص معروف بعنوان: حوارية السيد والعبد. وهذه ترجمتي لأوضح مقاطعه:

– أيها الخادم، أصغِ إليَّ.
– نعم سيدي، نعم.
– سأمارس أعمالًا غير مستقيمة.
– افعل ذلك، افعل. فإنك إذا لم تأتِ أعمالًا غير مستقيمةٍ، من أين لك بلباسك، ومَن يقدم لك ما يملأ معدتك.
– كلَّا أيها الخادم، لن أمارس أعمالًا غير مستقيمة.
– لا تمارس عملًا غير مستقيم، سيدي، لا تفعل ذلك. مَن يفعل ذلك إما أن يُقتل أو يُسلخ جلده، إما أن تُقتلع عيناه أو يُرمى في السجن.
– أيها الخادم، أصغِ إليَّ.
– نعم سيدي، نعم.
– سأمارس الجنس مع امرأة.
– افعل ذلك سيدي، مارس الجنس مع امرأة. فإن مضاجعة النساء تنسي الرجل همومه ومتاعبه.
– كلَّا أيها الخادم، لن أمارس الجنس مع امرأةٍ …
– لا تفعل ذلك سيدي، لا تفعل. فالمرأة شَرَك، وحفرة، وخندق، إنها خنجر حاد يحز رقبة الرجل.١٤
– أيها الخادم، أصغِ إليَّ.
– نعم سيدي، نعم.
– اجلب لي ماءً لأغسل يدي وأقدِّم قربانًا لإلهي.
– قدِّم قربانك سيدي، قدِّم قربانك. إن مَن يقدم لإلهه القرابين يقدم له قرضًا، وينام مرتاح البال.
– كلا أيها الخادم، لن أقدم قربانًا لإلهي.
– لا تقدم قربانك سيدي، لا تقدم قربانًا. لأنك إن لم تفعل ستجعل إلهك يحوم حولك مثل الكلب.
– أيها الخادم، أصغِ إليَّ.
– نعم سيدي، نعم.
– سوف أُقرض للناس مالًا.
– أقرض الناس مالًا سيدي، أقرض مالك. إن مَن يقدم قرضًا يحافظ على محصوله من الحبوب، ويجني فوق ذلك فائدة على ماله.
– كلا أيها الخادم، لن أُقرض الناس مالًا.
– لا تقرض مالك سيدي، لا تقرض. فتقديم القرض سهل كممارسة الجنس، ولكن سداده صعب كالحمل والإنجاب. سيفيد الناس من قرضك ثم يتذمرون عليك، ويحبسون بعد ذلك فائدة أموالك.
– أيها الخادم، أصغِ إليَّ.
– نعم سيدي، نعم.
– سأقوم بعمل صالح يخدم بلادي.
– افعل ذلك سيدي، افعل. لأن مَن يقدم لبلاده خدمة يجزيه بها الإله مردوخ.
– كلا أيها الخادم، لن أقوم بعمل صالح يخدم بلادي.
– لا تفعل ذلك سيدي، لا تفعل. اذهب إلى خرائب المدن القديمة، وتمشَّ بينها.
انظر إلى جمجمة الإنسان الوضيع وجمجمة الإنسان العظيم، هل تستطيع التفريق بينهما؟ هل تستطيع التمييز بين مَن قدَّم خيرًا لبلاده ومن قدَّم سيئة؟
– أيها الخادم، أصغِ إليَّ.
– نعم سيدي، نعم.
– ما هو الخير في رأيك إذن؟
– أن يدق مني ومنك العنق ونُرمى في النهر. فمَن يستطيع في هذه الحياة أن يتطاول فيرقى إلى السماء، أو يتسع فيحيط بالأسفل.١٥
– كلا أيها الخادم، سوف أقتلك وأجعلك تسبقني.
– إذا فعلت ذلك فإنك لن تعيش بعدي أكثر من ثلاثة أيام.١٦

لا يعبر هذا النص عن وجود اتجاه عدمي من مسألة الأخلاق في الثقافة الرافدية، بل إنه يؤسس بالفعل لأخلاقيات لا تأخذ الثواب والعقاب بعين الاعتبار، ولا تنظر إلى السلوك الأخلاقي فيما يعود على صاحبه من مردود مادي أو معنوي. وإني أرى فيه مقدمة للتساؤلات الفلسفية اللاحقة حول ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة، وباعتباره واجبًا ذاتيًّا لا يتبع قاعدة دينية أو مدنية مؤسسة.

هذا وتكمل نصوص الحكم والوصايا، التي وصلنا منها العديد، الصورة العامة للحياة الأخلاقية في بلاد الرافدين. نقرأ في نصٍّ يعود إلى عام ٧٠٠ق.م. هذه الوصايا التي انتخبتها منه والموجهة من أبٍ إلى ابنه:

اكبح جماح فمك، راقب كلماتك.
وكما يحافظ الرجل على ثروته احفظ شفتيك.
لا تتفوه بما لا يفيد ولا تعطِ نصيحة في غير محلها.
لا تصنع بخصمك شرًّا.
ومَن يبادرك بسيئة كافئه بحسنة.
واجه عدوك بالعدل ولا تظلم.
لا تترك قلبك عُرضة لإغواء العمل السيئ.
أعطِ الطعام لسائله وشراب البلح لطالبه.
ولا ترد طالبًا لصدقة أو ثوب.
ففي ذلك مرضاة للإله شَمَش، وبه يجزي حسنة.
كن مصدر عونٍ لإخوتك، صانعًا للخير.
أي بني. إذا اختارك الأمير لخدمته.
حافظ على خدمته محافظتك على نفسك.
وإذا فتحت خزينته وولجت إليها.
سترى أموالًا لا يمكنك عدُّها.
فغض الطرف عنها ولا يراودك طمع بها.
لا تغلظ في الكلام ولا تفترِ على أحد.
مَن يغلظ القول ويفتري على الناس.
يعاقبه الإله شَمَش ويلاحقه طالبًا رأسه.١٧

إن هذه الفقرات القليلة التي سُقتها أعلاه من لائحة طويلة تنوف عن ٣٥٠ وصيةً يرعى تطبيقها الإله شَمَش، توصلنا إلى خلاصة هذه الدراسة، وهي أنه لا يجوز لأية ديانة أن تفاخر بعلو منظومتها الأخلاقية وتميزها عما جاءت به الأديان الأخرى، لا فرق في ذلك بين وثنية وتوحيد، بين ما يُدعى أديانًا سماوية وما يُدعى أديانًا وضعية. فكما تختلف اللغات في التعبير عن ذات الدلالات، كذلك تختلف الأديان شكلًا وتلتقي مضمونًا في دين واحد هو دين الإنسان.

١  J. C. Froelich, Animism, Edition de l’Orante, Paris 1984, pp. 64, 73–76.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب: فراوليش: ديانات الأرواح الوثنية، ترجمة يوسف شلب الشام، دار المنارة، ١٩٨٨م، ص٩٢–١٠٧/٩٧.
٢  من أجل التعريف بالقوى السحرية الغفلة راجع فصل الأسطورة والطقس، من هذا الكتاب، فقرة الطقوس السحرية.
٣  James Frazer, The Golden Bough, MacMillan, London 1971, pp. 340–345.
٤  Ibid., pp. 261-262.
٥  حول هذه النقطة الدقيقة في تاريخ الإله سيت، انظر:
J. Viaud, Egyptian Mythology (in: Larousse Encyclopedia of Mythology, op. cit., p. 20).
٦  انظر الأسطورة الرئيسة للمانوية في كتاب الفهرست لابن النديم، تحقيق الدكتورة ناهد عباس، الدوحة ١٩٨٥م، ص٦٤٤–٦٤٦، وانظر أيضًا ملاحق كتاب جيو ديونغرن: ماني والمانوية، ترجمة سهيل زكار، دمشق، ١٩٨٥م.
٧  T. J. Meek, The Code of Hammurabi (in: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, op. cit., p. 138).
٨  أعددت هذه الترجمة عن نص واليس بدج، ونص ويلسون، منتخِبًا من كل منهما الفقرة الأوضح والأسلس، ومتغاضيًا عن الفقرات التي وجدها أحدهما أو كلاهما غامضة في اللغة الأصلية. انظر:
  • Wallis Budge, Osiris, Dover, New York 1973, vol. I, pp. 337–342.
  • J. A. Wilson, Egyptian Myths, in: J. Pritchard: Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 34-35.
٩  ربما جاءت هذه التسمية من ميزان العدالة ذي الكفتين، حيث توضع الحسنات في واحدة والسيئات في الأخرى.
١٠  انظر النص الكامل لهذه الوصايا بترجمة J. A. Wilson في موسوعة.
J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 421–424.
١١  F. J. Stephens, Sumerio-Akkadian Hymns and Prayers (in: Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 387–389).
١٢  عن F. J. Stephens، انظر المرجع نفسه.
١٣  R. D. Biggs, Akkadian Didactic and Wisdom Literature (in: Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 596–600).
١٤  قارن مع خطاب جلجامش لعشتار عندما عرضت عليه الزواج، حين قال لها في اللوح السادس من الملحمة الأكادية:
ما هو نصيبي منك لو تزوجتك؟
ما أنت إلا موقد تخمد ناره وقت البرد.
حفرة يخفي غطاؤها كل غدر.
فأر يلوث حامله. قربة ماء تبلل حاملها … إلخ.
(انظر مؤلفي جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة).
١٥  كناية عن عجز الإنسان. والتعبير هنا ينسج على منوال معروف في الأدب الرافدي. نقرأ في النص السومري: جلجامش وأرض الأحياء، قول جلجامش:
  • فالإنسان مهما علا، لن يبلغ السماء طولًا.

  • ومهما اتسع لن يغطي الأرض عرضًا.

(انظر مؤلفي: جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة، الفصل الثالث).
١٦  Ibid., pp. 600-601.
١٧  R. H. Pfeiffer, Akkadian Proverbs and Counsels (in: Ancient Near Eastern Texts. op. cit. pp. 426-427).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥