تصدير

هذه هي الترجمة العربية لكتاب صدرت طبعته الأولى عام ١٩٩٤م والثانية عام ١٩٩٦م بعنوان: Representations of the Intellectual، وقد أبدعه الناقد والمفكر الكبير إدوارد سعيد، ولا أظن أنه أصبح يحتاج إلى تعريفٍ أو تقديم للقارئ العربي، ولقد سبق لي أن كتبتُ تصديرًا موجزًا لكتابه «تغطية الإسلام» (القاهرة، ٢٠٠٥)، وقدمتُ فيه معلومات أساسية عن الكاتب، ولذلك فلن أُحاول ذلك من جديد هنا، بل سأقتصر على إلقاء الضوء على الحُجَّة الرئيسية التي يُقِيمها ذلك المُفكر والتي لا تتَّضح بعض معالمها بسهولةٍ في تضاعيف الأفكار المُتلاطمة التي يموج بها الكتاب، وأبدأ بالعنوان الذي يُسبب لأي مترجم عنتًا شديدًا في نقله إلى العربية بسبب دلالاته المتشابكة، بل واعتماده على تعدُّد الدلالات؛ فالمعروف عن كُتَّاب الإنجليزية الحديثة وَلُوعهم بالتورية، والتورية من أعقَدِ ما يتصدَّى له مُترجم، مهما تكن اللغة التي يُترجِم عنها أو منها. هذا إذا كانت تقبل النقل من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى أصلًا.
ولنأخُذ بداية كلمة representation ذات الدلالات الكثيرة التي يستخدمها إدوارد سعيد جميعًا في ثنايا الكتاب، وأول المعاني وأقربها إلى ذهن القارئ الإنجليزي هو «التمثيل» أي التصوير أو الرسم أو الرمز، وإذن فإذا حاوَلنا جمعها قُلنا «الصور» مثلًا، أي الصور التي تُرسَم للمُثقف أو التي يرسُمها لنفسه، والمعنى الثاني للكلمة العربية نفسها (أي التمثيل) هو ما يُمثله المثقف بمعنى ما يَرمز له، أو من يُمثله المثقف، بمعنى من ينوب عنهم أو يتكلَّم باسمهم، وهذا المعنى قائم في الصفة representative وهي التي إذا جُمِعت باعتبارها اسمًا أصبحت تدلُّ على «النواب» أي على الأشخاص الذين «يُمثِّلون» غيرهم، وهي الدلالة المألوفة لمجلس النواب الأمريكي مثلًا House of Representatives أو في الصيحة القديمة في التاريخ الأمريكي No taxation without representation أي لا ضرائب دون تمثيلٍ نيابي. وأما المعنى الآخر الذي يُعتبَر نابعًا من هذه الدلالة الأخيرة إلى حدٍّ ما، وإن كان مقصورًا على السياقات السياسية فهو تقديم «الاحتجاجات» في التعبير to make representations وهو تعبير يرِدُ في هذا الكتاب أيضًا بالمعنى نفسه، وبمعنًى آخر قريب الصِّلة به ويتكرَّر في مواقع شتَّى من الكتاب، وهو ماذا يقوله أو «يقول به» المُثقف من وجهة نظره خلافًا لِما يقول به الآخرون، خصوصًا من بيدهم مقاليد الأمور، سواء أكانوا من الحُكام أم من «القوى» التي تُسيِّر أو تتحكَّم في إدارة شئون الدولة مثل كُبرى الشركات وأصحاب المصالح بصفةٍ عامة في الدول الرأسمالية. وهذه المعاني، حتى إذا تناولناها مُفردة أي كلًّا على حِدة، جديدةٌ نسبيًّا في اللغة العربية؛ فعهدها — في الوطن العربي — قريب بأي معنًى من معاني «التمثيل الحديثة، والكلمات الدالة عليه ليست شائعةً إلَّا في تراثنا الفكري والسياسي القريب، وهي معانٍ غير وثيقة الصلة بالدلالة المعروفة للمَثَل والمِثال في الفصحى التراثية. وأما إذا حاولْنا الجمع بينها في كلمةٍ واحدة فسوف نصطدِم بمشكلاتٍ عويصة، خصوصًا إذا وضعنا القارئ العربي الحديث نصب أعيُننا، وإذا حاولنا جمع المصدر «تمثيل»، فهو من المصادر التي لا زالت اللغة العربية تأنف من جمعها.
وأما الكلمة الثانية في العنوان intellectual فهي كلمة جديدة في دلالاتها الاجتماعية حتى في الإنجليزية، ومعناها القديم يقتصر على كلِّ ما هو خاص بالذهن أو بالعقل أو بالفكر المنطقي (في مقابل العاطفة أو الشعور أو الإحساس). واستعمالها اسمًا للدلالة على صاحب الفكر أو المُفكر استعمالٌ حديث كما يقول رايموند ويليامز في كتابه كلمات أساسية (الذي يُشير إليه إدوارد سعيد) وكذلك ارتباطها بالكلمة الحديثة نسبيًّا وهي intelligentsia التي جرى العرف في الوطن العربي على ترجمتها بالمُثقفين أو حتى بطبقة المُثقفين، بمعنى الذين يقومون بأعمالٍ ذهنية أو تلقَّوا قدرًا من التعليم يؤهلهم لمُمارسة هذه الأعمال، وهم من نُطلق عليهم صفة «المِهنيين» أو أصحاب المهن، تمييزًا لهم على «الحِرَفيِّين» أي أصحاب الحرف اليدوية؛ فالمُفترَض في المِهن أنها تعتمد على إعمال العقل أو الذهن أكثر مما تعتمِد على المهارة اليدوية، وإن كانت الكلمة الجديدة قد أصبحت لها دلالات اجتماعية وسياسية خاصَّة منذ بزوغ الفكر الاشتراكي الحديث، في أوروبا أولًا، ثُم في سائر بلدان العالَم من بعدها.

ويتفاوت الكُتَّاب والنقَّاد الغربيون في تعريف «المُفكر» بالمعنى الأول؛ إذ يقصره بعضهم، كما يُبين سعيد، على كبار الكتَّاب والفلاسفة، ويُوسِّع غيرهم من دلالة الكلمة حتى تشمل كلَّ من حصل على قدْرٍ من التعليم يؤهله لإطلاق تعبيرنا الشائع عليه أي «المثقفين» أو «المُتعلمين»، حتى وإن لم يبلغ علمه درجة التخصُّص الدقيق (بمعنى التعمُّق المُفضي إلى التأمُّل الذي قد يُفضي إلى الإتيان بنظراتٍ جديدة قد تُشكل وقد لا تُشكل مذهبًا خاصًّا به)، بل إنَّ نقادًا آخرين يزيدون من توسيع دلالة الكلمة بجعلها تدلُّ على كل من يتمتَّع بقدرٍ ما من «الوعي الاجتماعي» أو «الوعي السياسي». ويتطرَّف بعض اليساريين في هذه الدلالة بحيث تشمل كلَّ من يُفكر على الإطلاق. ولمَّا كان التفكير خصيصةً إنسانية أساسية، فقد تنتهي الكلمة إلى الدلالة على جميع الناس، وبهذا تفقد خصوصيتها ومعانيها الاشتقاقية والاصطلاحية الأساسية.

ولقد أصابني تداخُل الدلالات في العنوان بحيرة شديدة، حتى أعدتُ قراءة الكتاب بتمهُّل، فوجدتُ أن المحورَ الرئيسيَّ الذي تدور حوله هذه الدلالات جميعًا هو علاقة المثقف — بالمعنى العربي الذي سوف أتعرَّض له فيما يلي — بالسُّلطة، فذلك محور كلِّ فصلٍ من فصول الكتاب، وإن كان الموضوع يتشعب ويتفرع عند تناول الجوانب المختلفة لهذه الدلالات الكثيرة المتشابكة، وسوف يلمَح القارئ كيف يتوسع سعيد في تبيان «صور» المثقف المُتعددة في المجتمع وتعريفات كبار النقَّاد له، وهو التوسُّع الذي يتطلَّب من القارئ (الإنجليزي أو العربي) تركيزًا شديدًا في مُتابعة شعاب الفكرة وفروعها، ولكنه لن يصعُب عليه أن يُخرج بالفكرة الأساسية التي يَرمي سعيد إلى إبرازها، ألا وهي ضرورة استقلال كلِّ مُثقَّفٍ (أيًّا كان تعريفنا له) عن السلطة، بمعنى عدم الارتباط بقيودٍ تحدُّ من تفكيره أو تُوجِّهُ مسار أفكاره مَهما تكن هذه الأفكار. وأما إذا حصرنا صورة المثقف فيما يُوحي به سعيد مِن أن المثقف الحق في نظره هو مَن لدَيه أفكار يُعبر عنها لِغيره (أي للجمهور) في محاضرةٍ أو حديثٍ أو مقالٍ أو كتاب، فإن سعيد يؤكد ضرورة استمساك المُثقَّف بقِيَمٍ عُليا مثل الحرية والعدالة، له ولغيره، وعدم قَبوله الحلول الوسط فيما يتعلَّق بهذه القِيَم، خصوصًا حين يحسُّ أنه، ما دام قد أقدم على الكتابة أو على مُخاطبة جمهورٍ ما، قد أصبح يُشارك في «الحياة العامة» (كما يُسمِّيها) وأصبح «يُمثل» غيره مِمَّن لا يُمثلهم أحد في دوائر السلطة، وهي التي تتعدَّد صورها في الكتاب — من صورة صاحب العمل الذي يمارس المُثقف مِهنته لديه، إلى صورة الشركات التجارية التي تسعى للربح دون غيره ولا يَعنيها في سبيل ذلك ضحايا الربح من الفقراء والمحرومين، إلى صورة الحكومة التي تُسخِّر جهازًا بل أجهزةً كاملة للحفاظ على مواقعها، إلى صورة الأيديولوجيات الجذَّابة الخادعة التي قد لا يدري العامة ما وراءها. ويقع على المُثقَّف عبء «تمثيل» العامة في مقاومة أشكال هذه السلطة جميعًا، لا يدفعه إلا ما يؤمن به من قِيمٍ ومبادئ إنسانية عامة، لا حزبية ضيقة، أو فئوية مُتعصبة، أو مذهبية مُتجمدة، ومُصِرًّا على أن ينهض في هذا كله بدور الهاوي لا المُحترِف؛ أي الذي يَصدُر في أفعاله عن حُبٍّ لما يفعل، لا مَن يخدُم غيره، أو يعبُد «أربابًا» زائفةً سرعان ما تخذل عُبَّادها.

ولمَّا كان الكتاب يدور في فلك هذه القضايا، فإن كلَّ معنًى مُوحًى به في عنوانه يصبُّ في قضية منها، ولا يجمع بينها كُلها إلا العنوان الذي اخترتُه للنص العربي، أي «المُثقَّف والسلطة»، وتغيير العنوان حقٌّ مُعترَف به في الغرب من حقوق المُترجِم الذي يرمي إلى توصيل رسالة الكاتب بوضوحٍ إلى قارئه، بل هو حقٌّ تفرضه الأمانة العلمية؛ فمن حق القارئ العربي أن يفهم ما يرمي إليه الكاتب، ولم أتردَّد في اختيار ما أَمْلَتْهُ عليَّ أمانة النقل، وإن كان القارئ سوف يجد ترجماتٍ كثيرةً للكلمة الأولى في العنوان وفقًا لمُقتَضيات السياق، فقد يعني بها سعيد «التمثيل» فقط، وقد يعني «الصورة» وقد يعني «الاحتجاج» بل وقد يعني غير ذلك مما هو موجود في المتن.

وأما كلمة «المثقف» في العنوان العربي فلا تزال غائمةَ المعنى لدَينا، فقد توازي المعنى المُتصل بالثقافة بمعناها الحديث الذي يقول سلامة موسى إنه كان أولَّ مَن أدخله في العربية (في العشرينيات من القرن العشرين) ترجمة لكلمة Kultur الألمانية ومرادفاتها باللغات الأوروبية الحديثة، والأصل فيها هو الزرع والتنمية، وهو المعنى الشائع عند الكثير مِن الكُتَّاب الأوروبيين، والدلالة التي تنصرف إلى التعليم الذي يتولَّى «تنمية» القدرات الذهنية (والنفسية والخلقية تبعًا لها) كما يقول بهذا المفكر الإنجليزي ماثيو أرنولد (خصوصًا في كتابه الثقافة والفوضى)؛ ومِن ثَم اكتساب الوعي الاجتماعي «الراقي» الذي أحيانًا ما نَصِفه بالوعي «الحضاري» (فمعاني الثقافة والحضارة مُتداخِلة وتفريق سلامة موسى بينهما لا يزال مقبولًا؛ إذ يقصر الأولى على المُجرَّدات والصفات الإنسانية والثانية على الماديَّات وصفات الجماد)، وقد تعني الكلمة لدَينا التعليم على إطلاقه، على ما في هذا المعنى من افتقارٍ إلى الدقة، فنحن قد نَصِفُ المُتعلِّمين بأنهم مُثقَّفون، ونُشير إليهم باعتبارهم «طبقة»، كما سبق لي أن ذكرتُ، تُوازي الكلمة الأجنبية intelligentsia وقد تعني الكلمة كل أصحاب المِهَن الجماهيرية دون غيرهم، أي مَن يُخاطبون الناس، سواء في أجهزة الإعلام المسموعة أو المرئية أو في الصحف والمجلَّات، أو الكُتَّاب الذين يفضلون تقديم حُجَجهم في كُتبٍ خاصة، وقد نُركِّز أحيانًا على البارزين من هؤلاء فنَصِفهم بكبار المُثقَّفين، ونحن مُولَعون، في الثقافة العربية، بالتمييز بين الكبير والصغير، وقد يُفضل بعضهم دلالة فضفاضة تُتيح «للجماهيريين» أن يشتملوا على الأدباء والفنانين أو المُبدِعين بصفةٍ عامة. ولَمَّا كان إدوارد سعيد لا يَستثني أيًّا من هذه الفئات في حديثه عن «المثقف»، فيميل أحيانًا إلى تضييق معنى المُفكر، وأحيانًا يترك المعنى عامًا شاملًا، أو يُشير إلى هذا وذاك معًا في بعض عباراته، فقد اخترتُ الكلمة العامة للعنوان، وكنت حذرًا في الترجمة عند الإشارة إلى أحد هذه المعاني، فقد يُورِد سعيد الكلمة مقرونةً بما يدل على أنه المُفكر وحسب thinker وأحيانًا بما يدلُّ على أنه يعني الثقافة العامة man of culture وأحيانًا ما يعني هذا وذاك معًا.

ولقد توخَّيتُ الدقة إلى أقصى طاقتي في الترجمة، وكنتُ أُضيف أحيانًا كلماتٍ بين أقواسٍ لتوضيح المعنى وسوف يتَّضح ما أضفته بسهولة، فتغيير الجمهور يقتضي تغيير مُستوى الخطاب، وإن حرصتُ في هذا كله على الأمانة حتى تخرُج أفكار هذا المُفكر واضحة وكاملة. ويجب ألا ننسى أن الكاتب يخاطب جمهورًا عالميًّا يتكوَّن من كلِّ من يفهم الإنجليزية ويستمع إلى محطة الإذاعة البريطانية. وسعيد لم يُغير — كما يقول — إلا أقل القليل في «محاضراته» تلك، وكانت أهم ملامح التغيير إضافة الهوامش لتيسير الرجوع إليها عند قراءة الكتاب، ولذلك فالكتاب أيسر نسبيًّا في قراءته من كُتبه الأخرى، وإن كان أسلوبه لا يتغيَّر إلَّا قليلًا، فهو يلجأ أحيانًا إلى التوكيد بالتكرار، وصعوبة ترجمته لا تقلُّ إلَّا قليلًا عن صعوبة ترجمة كتبه الأخرى.

وأخيرًا أودُّ أن أتقدَّم بالشُّكر إلى صديقي الأستاذ مُحسن شعبان الذي تولَّى تصحيح التجارب الطباعية، وأفادني بمناقشاته معي في أهم المسائل الخلافية، فأنا لعَمَلِه مُقدِّر مَمنون.

وبعد فأرجو أن يكون هذا الكتاب خطوةً أخرى في سبيل تقديم روائع إدوارد سعيد إلى القارئ العربي.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠٠٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤