الفصل الثاني

استبعاد الأمم والتقاليد

من يقرأ الكتاب المشهور «خيانة المُثقفين» الذي وضعه جوليان بندا يشعر بأن المثقفين أو المفكرين يعيشون في «فضاء كوني» لا تحدُّه الحدود القومية ولا الهوية العرقية. والواضح أن بندا كان يتصور، فيما يبدو، حين كتب ذلك الكتاب في عام ١٩٢٧م، أن الاهتمام بالمثقفين أو المفكرين معناه الاهتمام بالأوروبيين وحدَهم (فهو لا يُعرب عن رضاه عن أحدٍ من غير الأوروبيين إلَّا يسوع المسيح عليه السلام).

ولقد تغيَّرت الأحوال كثيرًا منذ ذلك التاريخ. ففي المقام الأول لم تعُد أوروبا والغرب «حامل اللواء»، الذي لا يتحدَّاه أحد، لبقية العالَم، إذ إن تفكيك الإمبراطوريات الاستعمارية العظمى بعد الحرب العالمية الثانية قلَّل من قُدرة أوروبا على الإشعاع فكريًّا وثقافيًّا لإنارةِ ما كان يُسمَّى بالمناطق المُظلمة على الأرض، وقد آذنت الحرب الباردة، ونشأة العالَم الثالث، والتحرُّر العالمي الذي صاحب ذلك، ضمنًا إن لم يكن فعلًا، من خلال إنشاء الأمم المتحدة، بأن أصبحت الأمم والتقاليد غير الأوروبية جديرة فيما يبدو، بالاهتمام الجاد اليوم.

ونحن نرى ثانيًا أن السرعة المُذهلة في الانتقال والاتصال قد أوجدت وعيًا جديدًا بما جرى العرف على الإشارة إليه باسم «الاختلاف» و«الغيرية»؛ فإذا بسَّطنا الأمر قُلنا إن هذا يعني أنك إذا بدأتَ تتحدَّث عن المثقفين أو المفكرين فلن تستطيع التعميم الذي اعتدْتَهُ من قبل، فالمثقفون أو المفكرون الفرنسيون، على سبيل المثال، تختلف صورتهم تمامًا من حيث التاريخ والأسلوب عن نُظرائهم الصينيين. وبعبارةٍ أخرى فإنك حين تتحدَّث عن المثقفين اليوم معناه أن تتحدَّث أيضًا وبصفةٍ محددة عن اختلافات مُعينة ما بين القوميات والأديان والقارات، وكلها تتَّصل بالموضوع نفسه، ويتطلَّب كلٌّ منها بحثًا منفصلًا، فالمثقفون أو المفكرون الأفريقيون مثلًا، أو المثقفون أو المفكرون العرب، كل منهم ينتمي إلى سياقٍ تاريخي بالِغ الخصوصية، وله ما له من مشكلاتٍ وأمراض وانتصارات وخصائص.

ويرجع تضييق «البؤرة» والتركيز على السياقات المحلية في نظرتنا إلى المُثقفين أو المفكرين، ولو إلى حدٍّ ما، إلى التكاثُر المذهل للدراسات المُتخصِّصة التي رصدت مُحقَّةً اتساع الدور المنوط بالمثقفين في الحياة الحديثة. وفي معظم المكتبات الجامعية أو البحثية المحترمة في الغرب اليوم آلاف العناوين لدراسات وكُتُب كُتِبت عن المثقفين أو المفكرين في شتَّى البلدان، وقد يقضي المرء سنواتٍ للإحاطة بما كُتِب عن كل «مجموعة». وإلى جانب هذا نجد أن المثقفين أو المفكرين قد تختلف لُغاتهم اختلافًا بيِّنًا، وبعض هذه اللغات، مثل العربية والصينية، تفرِض علاقةً بالِغة الخصوصية بين الخطاب الفكري الحديث والتقاليد القديمة التي تتميز في العادة بثرائها الشديد. وهنا أيضًا نجد أن أي مؤرخ غربي يحاول جادًّا أن يفهم المُثقفين أو المُفكرين — في ظلِّ تلك التقاليد «الأخرى» المختلفة — لا بدَّ له من قضاء سنواتٍ طويلة يتعلم فيها اللغات الخاصة بها. ومع ذلك وعلى الرغم من هذا الاختلاف وهذه الغيرية، ورغم شحوب صورة المفهوم العالمي لمعنى المُثقَّف أو المُفكر، فإن بعض الأفكار العامة عن المثقف أو المفكر الفرد — وهو ما يهمني في هذا المقام — يمكن أن تنطبق على سياقاتٍ تتجاوز السياقات المحلية الصِّرفة.

وأول ما أريد أن أناقشه منها هو الجنسية، وكذلك ذلك الفرع الذي نما وتفرَّع من أحد أغصانها في الصوبة، وهو القومية، لن نجد مفكرًا في العصر الحديث — ويَصْدُق هذا على نعوم تشومسكي وبرتراند راسل مثلما يَصْدُق على أفرادٍ لم تشتهر أسماؤهم — أقول لن نجد مفكرًا مُحدثًا يكتب بلغة الاسبرانتو، أي تلك اللغة التي قُصد بها إما أن تنتمي إلى العالَم كله أو ألا تنتمي إلى بلدٍ مُعين أو إلى تقاليد مُعينة على الإطلاق، بل إن كل مثقفٍ أو مفكر فردي يُولَد في ظلِّ لغةٍ معينة، والأغلب أن يقضي بقية حياته في ظل تلك اللغة، وهي الوسيط الرئيسي للنشاط الفكري، واللغات جميعًا بطبيعة الحال لغات قومية — اليونانية، والفرنسية، والعربية، والإنجليزية والألمانية وهلمَّ جرًّا — رغم أن إحدى القضايا الرئيسية التي أُثيرها هنا تقول إن المُفكر مُضطر إلى استعمال لغةٍ قومية، ولا يقتصر ذلك على الأسباب الواضحة وهي إلمامه بها ويُسر استخدامه لها، بل يتعدَّاه إلى أنه قد يأمُل أن يضغط ضغطة مُعينة على صوتٍ خاص من أصوات تلك اللغة أو يتكئ على إحدى نبراتها الخاصة ابتغاء التعبير في النهاية عن نظرةٍ خاصة به.

وأمَّا المشكلة المُحدَّدة التي يواجهها المفكر فهي أننا نجد في كل مجتمع «جماعة لغوية» بمعنى أنها جماعة تكوَّنت لديها عادات مُعينة في التعبير، من وظائفها الرئيسية الحفاظ على الوضع الراهن، والتأكُّد من تصريف الأمور بيُسر، ودون تغيير، ودون أن يطعن فيها أحد، وللكاتب جورج أورويل كلام بالِغ الإقناع عن هذه القضية في مقاله «السياسة واللغة الإنجليزية»، إذ يستشهد باستشراء القوالب الجاهزة أو الكليشيهات، والاستعارات المستهلكة، والكتابة التي تنمُّ عن الكسَل الذهني، قائلًا إنها من الأدلة على «تدهور اللغة». ونتيجة لاستخدام هذه وأمثالها، يُصيب الذهن نوع من الخدَر يجعله مُستقبلًا سلبيًّا، في الوقت الذي تتدفَّق فيه ألفاظ اللغة، وتؤثر في السامع تأثير الموسيقى الخفيفة المعزوفة في الخلفية في السوبر ماركت، إذ «تغسل» الوعي وتُغويه بالقبول السلبي لأفكارٍ ومشاعر لم يفحصها أو يختبر صحَّتها أحد.

كان ما يشغل أورويل ويُقلقه في ذلك المقال الذي كتبه عام ١٩٤٦ هو قيام السياسيين من مُثيري الدهماء بانتهاك أذهان الإنجليز خلسة، إذ يقول إن «اللغة المستخدمة في السياسة — وهذا يصدُق، مع بعض التنويعات، على جميع الأحزاب السياسية من المحافظين إلى الفوضويين — ترمي إلى أن تكسو الأكاذيب ثَوب الصدق، فتجعل القتل العَمد يبدو عملًا جديرًا بالاحترام، وتُظهر الهواء الخالص بمظهر الجسم الصلب.»١ والمشكلة أكبر من ذلك، ومع ذلك فهي مشكلة مُعتادة، ونستطيع ضرب أمثلة موجزة توضحها من مَيل اللغة اليوم إلى تفضيل العام، والجماعي، والمشترك. وسوف نجد في الصحافة أدلة تثبت هذا، فكلَّما ازدادت قوة الصحيفة، واتَّسع نطاق توزيعها، وازداد إيحاء اسمها بالثقة ازداد إحساس القارئ بأنها تُمثل «جماعة» أكبر من مجرد مجموعةٍ من الكُتَّاب المُحترفين والقراء. والفرق بين صحيفة «نيويورك تايمز» وأي صحيفة مُصَوَّرة مُصغرة رخيصة هو أن الأولى تطمح إلى أن تكون (بل وتُعتبَر بصفة عامة) الصحيفة القومية التي يُرجَع إليها، ومقالاتها الافتتاحية لا تقدم فقط آراء عددٍ محدود من الرجال والنساء بل المفترض أنها تُقدم ما يُعتبَر «الحقيقة» أو الحقائق الخاصة بالأمَّة كلها، إلى أفراد الأمة كلهم. وأما الثانية فترمي إلى اجتذاب اهتمام القراء المؤقت بالمقالات المثيرة وأساليب الإخراج الصحفي الذي يخلب الأنظار. فالمقال المنشور في نيويورك تايمز يُوحي بالثقة والتعقل، وبأنه يعتمد على أبحاثٍ طويلة، وبأنه قد سبقته تأمُّلات عميقة وأحكام رزينة، وكلمة «نحن» التي ترِد في المقالات الافتتاحية، شأنها شأن ضمائر الجمع المُتصلة، تُشير مباشرة إلى محرري الصحيفة، بطبيعة الحال، ولكنها تُوحي في الوقت نفسه بهوية قومية مشتركة، على نحوِ ما نرى في العبارة الشهيرة «نحن، أبناء الولايات المتحدة …» وكانت المناقشة العامة للأزمة الناشبة إبان حرب الخليج، في التليفزيون خصوصًا ولكن كذلك في الصحافة المطبوعة، تفترِض وجود ضمير الجمع الذكور بدلالاته القومية، وكان يتكرَّر ورودُه على ألسنة الصحفيين، والمُراسِلين الحربيين، بل والمواطنين العاديين أيضًا، على نحو ما نرى في عبارة «متى نبدأ الحرب البرية» أو «هل وقعت إصابات في صفوفنا؟»

ويقتصر دور الصحافة على إيضاح وتثبيت ما هو مُضمر في وجود اللغة القومية نفسه، كشأن اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، أي وجود مجتمع قومي، أو هوية أو ذات قومية، ولقد ذهب ماثيو أرنولد في كتابه الثقافة والفوضى (١٨٦٩م) إلى حدِّ القول بأن «الدولة» أفضل ذاتٍ للأُمَّة، وبأن الثقافة القومية هي التعبير عن أفضل الأقوال وأفضل الأفكار. وليست هذه وتلك أمورًا بديهية، ويقول أرنولد إنه من المُفترض أن يتولَّى «أهل الثقافة» الإفصاح عن هذه الذات الفُضلى وعن أفضل الأفكار أيضًا، ويبدو أنه كان يعني مَن دأبتُ على الإشارة إليهم باسم المثقفين، أو المفكرين، أي الأفراد الذين تؤهِّلهم قُدرتهم على التفكير والحُكم لتمثيل أفضل الأفكار — الثقافة نفسها — وتمكينها من السيادة والغلبة. ويعمد أرنولد إلى الصراحة الكامِلة عندما يقول إنه من المُفترَض ألَّا يكون هذا لمصلحة طبقاتٍ مُعينة أو مجموعات صغيرة من الأشخاص، بل لنفع المجتمع كله، وهنا أيضًا، كما هو الحال فيما يتعلَّق بالصحافة الحديثة، من المُفترَض أن يكون دور المُثقفين مساعدة مجتمعٍ قومي ما على الإحساس برابطة الهوية المشتركة، وهي هوية بالِغة السمو والارتقاء.

ويكمن وراء حُجَّة أرنولد خوفُه من أن يؤدي ازدياد الديمقراطية، بزيادة أعداد الذين يُطالبون بالحق في التصويت والحق في أن يفعلوا ما يحلو لهم إلى ازدياد «مشاكسة» المُجتمع، ومن ثَمَّ ازدياد صعوبة حُكمه، ومن هنا نجد ما لا يصرح به أرنولد من ضرورة قيام المثقفين «بتهدئة» الجماهير، وبإرشادهم إلى أن أفضل الأفكار وأفضل الآثار الأدبية تُمثل الانتماء إلى مجتمعٍ قومي، وهذا مِن شأنه أن يَحُول دون ما صاغه أرنولد في عبارة «أن يفعل المرء ما يحلو له.» كان هذا في إبَّان الستينيات من القرن التاسع عشر.

أما بندا في عشرينيات القرن العشرين فكان يرى أن المثقفين يُواجهون خطر الالتزام الشديد بما أوصي به أرنولد، فإذا قام المثقفون بإرشاد الشعب الفرنسي إلى عظمة العلوم والآداب الفرنسية، فإنهم بذلك يُعَلِّمون المواطنين أيضًا أن الانتماء إلى مجتمع قومي هدَف يُنشَد لذاته، خصوصًا إذا كان ذلك المجتمع أمةً عظيمة مثل فرنسا، ولكن بندا لا يُرحب بذلك ويُفضل، بدلًا منه، أن يُقلِع المثقفون عن النظر إلى القضية من منظور المشاعر الجماعية، بل أن يُركزوا بدلًا من ذلك، على القِيَم التعالية، أي القيم التي تتَّسم بالعالمية وتنطبق على جميع الأمم والشعوب. وعلى نحوِ ما ذكرت منذ لحظات، كان بندا يُسلِّم، دون مناقشة، بأن هذه القيم أوروبية، لا هندية ولا صينية. وأما عن نوع المثقفين الذين كان يُعرِب عن رضاه عنهم، فقد كانوا أيضًا رجالًا أوروبيين.

لا يبدو أن ثمَّة مفرًّا من الحدود والسدود التي تبنيها حولنا الأُمم أو سواها من ضروب المجتمعات (مثل الأوروبية أو الأفريقية أو الغربية أو الآسيوية) وهي التي تتكلَّم لغةً مشتركة، وتشترك في مجموعةٍ كاملة من الخصائص وألوان التحيُّز وعادات التفكير الثابتة، المضمرة والمشتركة. ولن تجد فيما يُسمى بالخطاب العام عادة أشدَّ شيوعًا من استخدام كلمات مثل «الإنجليز» أو «العرب» أو «الأمريكيين» أو «الأفريقيين»، ولا تقتصر دلالة كل منها على ثقافة كاملة بل تُشير أيضًا إلى أسلوب تفكير أو بناءٍ عقلي مُحددٍ وخاص.

وينطبق هذا إلى حدٍّ بعيد على النظرة الحالية إلى العالَم الإسلامي، فإن عدد أبنائه يتجاوز ألف مليون شخص، وهو يضم عشرات المجتمعات المختلفة، ونحو ستِّ لغاتٍ كبرى، من بينها العربية والتركية والفارسية، وأبناؤه ينتشرون في مساحةٍ تغطي ثلث المعمورة، ومع ذلك فإن المثقفين الأمريكيين أو البريطانيين يختزلون هذا التنوُّع عند الحديث عنهم، وهو ما لا ينمُّ عن إحساس بالمسئولية في رأيي، فيُطلقون على الجميع اسم «الإسلام» وحسب. واستخدامهم لهذه الكلمة المفردة معناه أنهم، فيما يبدو، يعتبرون أن الإسلام شيءٌ بسيط يمكن إطلاق التعميمات الكبرى عليه، بحيث تغطي التاريخ الإسلامي كله الذي يقرُب عمره من ألف وخمسمائة سنة، وبحيث تسمح بإصدار الأحكام، دون خجل، عن الاتساق بين الإسلام والديمقراطية، وبين الإسلام وحقوق الإنسان، والإسلام والتقدم.٢

ولو كانت هذه المناقشات لا تزيد عن انتقاداتٍ يوجهها أفراد من العلماء الذين يبحثون، مثل شخصية كاسوبون التي صورتها الروائية جورج إليوت، عن مفتاحٍ لجميع الأساطير، لاستطعنا أن نتجاهلها باعتبارها لونًا من التخليط والضرب في شعابِ الخُرافة، ولكن هذه المناقشات تجري في سياق فترة «ما بعد الحرب الباردة» التي أنشأتها هيمنة الولايات المتحدة على التحالُف الغربي، وظهر فيها اتفاق الآراء حول ما يُسمَّى بالنزعة الإسلامية الأصولية باعتبارها الخطر الجديد الذي حلَّ محلَّ خطر الشيوعية. وهنا لم يؤدِّ التفكير الجماعي إلى اتِّخاذ المُثقفين مواقف التفكير النقدي الذي يتَّسِم بالتساؤل والتشكك في داخل الذهن الفرد، على النحو الذي وصفْتُهُ، أي لدى أفرادٍ لا يُمثلون اتفاق الآراء المذكور بل يتشككون في أُسُسه العقلانية والأخلاقية والسياسية، ناهيك بأُسُسه المنهجية، بل قد تحوَّل المثقفون إلى جوقة تُردِّد صدى النظرة السياسية السائدة، فزادوا بذلك من سرعة اندفاعها وانضمامها إلى ما وصفتُه بالفكر الجماعي، وتدريجيًّا إلى القول بما يزداد طابعه اللاعقلاني باطِّراد، أي القول بوجود الآخر الذي يُمثله الضمير «هم» الذي يتهدَّدنا «نحن» ويُمثل خطرًا علينا، والنتيجة هي التعصب والخوف لا المعرفة والتواصل أو المشاركة.

ولكن، ويا للأسف، ما أيسر تكرار الصيغ الجماعية، إذ إن مجرد استعمال لغةٍ قومية (ما دام لا يُوجَد لهذا بديل) من شأنه إلزامك بما هو أقرب إلى متناول يدك، والدفع بك إلى الانسياق في الحشد الذي يستعمِل العبارات الجاهزة والاستعارات الشائعة لِما يُمثله «نحن» وما يُمثله «هم»، وهي لا تزال جاريةً على الألسن بفضل الهيئات المختلفة، بما في ذلك الصحافة، واللغة المهنية للأكاديميين، وتلبية لمُقتضيات التفاهم على مستوى المجتمع كله. ويُعتبر هذا كله جانبًا من جوانب الحفاظ على هويةٍ قومية، فإن الإحساس مثلًا بأن «الروس قادمون»، أو بأن الغزو الاقتصادي الياباني وشيك الوقوع، أو بأن الإسلام المُقاتل قد بدأ مَسيرته، لا يقتصِر معناه على الشعور بالفزع الجماعي، بل يتعدَّاه إلى تدعيم هويتنا «نحن» باعتبارها محاصرةً وتتعرض للخطر، وكيفية «التعامُل» مع هذا تُمثل قضيةً كبرى من قضايا المُثقف اليوم، هل تفرض حقيقة الانتماء القومي على المثقف الفرد، الذي هو محور اهتمامي في هذا السياق، أن يلتزم بالحالة النفسية العامة بدعوى التضامن، أو الولاء الأزلي، أو الوطنية القومية؟ أم ترانا نستطيع إقامة حُجةٍ أرجح لاتخاذ المُثقف موقف المُنشق الخارج على «التشكيلة» الجماعية؟

الإجابة المُوجزة هي أنه لا ينبغي للتضامُن أن يسبق النقد بحالٍ من الأحوال، فالمُثقف دائمًا ما يُتاح له الاختيار التالي: إما أن ينحاز إلى صفوف الضعفاء، والأقل تمثيلًا في المجتمع، ومَن يُعانون من النسيان أو التجاهل، وإما أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء. ومن المناسب هنا أن نُذَكِّر أنفسنا أن اللُّغات القومية ليست موجودة وحسب، جاهزة للاستعمال، بل لا بدَّ من امتلاكها أو ادِّعاء ملكيتها قبل استعمالها. فالكاتب الصحفي الأمريكي الذي كان يُمارس عمله في إبان حرب فيتنام، مثلًا، ويستعمل الضمير «نحن» وضمير الملكية المُتصل «نا» (في «لنا»)، كان يعلن في الواقع عن استيلائه على أمثال هذه الضمائر ويربط بينها واعيًا وبين أحد الطرفين: إما ذلك الغزو الإجرامي لأمَّةٍ نائية في جنوب شرقي آسيا، وإما وهو البديل الأشد صعوبة، تلك الأصوات المُفردة التي تُعرب عن معارضتها، وترى في الحرب الأمريكية نزقًا وحَيفًا بيِّنًا. ولكن هذا لا يعني المعارضة من أجل المعارضة وحسب، بل يعني حقًّا طرح الأسئلة، ووضع حدود التمييز بين هذا وذاك، والتذكير بكلِّ ما لا يُلتَفت إليه أو يُتجاهل في غمار الاندفاع نحو الأحكام والأفعال الجماعية، وأما فيما يتعلق باتفاق الآراء حول هوية «الجماعة» أو الهوية القومية، فمُهمة المثقف إيضاح أن «الجماعة» ليست كيانًا «طبيعيًّا» أو هبة الله للإنسان، بل هي كيان مبني مصنوع، بل «مُختَرَع» في بعض الحالات، ومن ورائه تاريخ كفاح أو فتوحات، وأن «تمثيله» مُهم في بعض الأحيان، وقد نهض نعوم تشومسكي وجور فيدال بهذه المُهمة في الولايات المتحدة ولم يَدَّخرا وسعًا في سبيلها.

ومن الأمثلة الناصعة على ما أعنيه هنا مقال الغرفة الخاصة الذي كتبَتْه فرجينيا وولف، والذي يُعتبر من النصوص المحورية لكل مثقفٍ حديث يؤمن بمذهب نُصرة المرأة، فالواقع أنه حين طُلِب إلى وولف أن تُلقي محاضرة عن المرأة والكتابة القصصية، قرَّرت الكاتبة في البداية أن تتجاوز التفاصيل إلى ذِكر النتيجة التي توصَّلت إليها — أي إن المرأة تحتاج إلى المال وإلى غرفةٍ خاصة حتى تكتُب القصة — وهو ما يفرض عليها تحويل القضية إلى حُجةٍ عقلانية، كما يجعلها تلتزم بخطوات عملية تصفها على النحو التالي «كل ما يستطيعه الفرد هو أن يُبيِّن كيف أصبح يؤمن بما يؤمن به من آراء.» وتقول وولف إن عرض حُجتها يمثل البديل عن تقديم الحقيقة مباشرة، فحيثما يتعلق الأمر بالجنس فالأرجح أن يَعقُب طرح القضية خلاف لا مناظرة «فكل ما يستطيعه المُتحدِّث هو أن يُتيح لأفراد جمهوره فرصة الخروج بالنتائج التي يرَونها في غمار ملاحظتهم لِما يتَّسم به هذا المتحدِّث من مناحي القصور والتحيز والخواص الفردية.» ونحن نرى في هذا، بطبيعة الحال، حيلةً أو خطةً عملية لتجريد المُعارض من سلاحه، ولكنها تتضمن تعريض المُتحدث للخطر أيضًا. وهكذا تجمع فيرجينيا وولف بين الحجَّة العقلانية والتعرُّض للخطر لكي تفتح لنفسها منفذًا تنفُذ منه إلى موضوعها، لا باعتبارها صوتًا يُمثل الجمود المذهبي ويُردِّد الأقوال نفسها، بل باعتبارها من المُثقفين الذين يُمثلون «الجنس الأضعف» والمَنسي، وفي لغةٍ تُناسب المهمة المنوطة بها تمامًا. وهكذا نرى أن تأثير الغرفة الخاصة هو أن تُخرِج من باطن لُغة السيادة الأبوية، كما تُسمِّيها فيرجينيا وولف، ومن باطن سلطة هذه السيادة، حساسيةً جديدة وإحساسًا جديدًا بمكانة المرأة، وهي مكانة ترى أنها ثانوية وخفية وعادةً ما لا يُفكر فيها أحد. وهكذا تتحفنا بصفحاتٍ رائعة عن جين أوستن التي كانت تُخفي مخطوط رواياتها، أو عن الغضب الباطن المكتوم لدى شارلوت برونتي، أو ما يُعتبَر أروع وأجمل، عن العلاقة بين القِيَم الذكورية المُهيمنة، والقيم الأنثوية الثانوية والمُحتجبة.

وعندما تصف وولف كيف تقوم تلك القيم الذكورية في وجه المرأة حين تُمسِك بالقلم وتشرع في الكتابة، فإنها تصف أيضًا العلاقة القائمة عندما يبدأ المثقف أو المفكر الفرد في الكتابة أو الحديث. فنحن نُدرك دائمًا وجود هيكل للسلطة والنفوذ، وتراكُم تاريخي لبعض القيم والناس والأفكار التي سبق تفصيل القول فيها، وكذلك — وهو الأهم للمثقف — وجود جانبٍ خفي لها، وأعني به تلك الأفكار والقِيَم والناس والنساء (مثل الكاتبات اللاتي تتحدَّث وولف عنهن) واللاتي لم تُتَح لأي منهنَّ غرف خاصة. ويقول فالتر بنيامين (وولتر بنجامين) «إنَّ كل مَن كُتب له النصر يشارك حتى يومنا هذا في مواكب النصر التي يطأ فيها الحكام الحاليون بأقدامهم على الذين انبطحوا على الأرض.» وتتفق هذه الرؤية الدرامية إلى حدٍّ ما للتاريخ مع رؤية جرامشي الذي يرى أن الواقع الاجتماعي نفسه ينقسِم إلى قسمَين هما الحُكام والمحكومون، وأظنُّ أن الاختيار الرئيسي الذي يُواجهه المُثقف هو الاختيار بين الانضمام إلى استقرار المُنتصِرين والحُكام أو السير في الطريق الشاق، أي أن ينظر إلى ذلك الاستقرار باعتباره حالةً من حالات الطوارئ التي تُهدِّد المُستضعَفين بخطر الفناء التام، وأن يأخذ في اعتباره تجربة الانزواء في موقعٍ ثانوي، وذِكرى الأشخاص والأصوات التي طواها النسيان، فكما يقول بنيامين، «لا يعني تفصيل الماضي تاريخيًّا الإقرار «بالحال التي كان عليها» … بل يعني اقتناص الذِّكرى [أو لحظة الحضور] التي تلتمِع في الذهن في ساعةٍ من ساعات الخطر.»٣
ومن التعريفات المُعتمدة للمثقف أو المفكر الحديث، التعريف الذي أورده إدوارد شيلز، عالم الاجتماع، المعروف، ويقول فيه:
«يُوجَد في كل مجتمع … بعض الأشخاص الذين يتمتَّعون بحساسيةٍ فذة للقداسة، وبقُدرة خاصة على تأمُّل طبيعة الكون الذي يعيشون فيه، والقواعد التي تحكُم مجتمعَهم. وتُوجَد في كل مجتمعٍ أقلية من الأشخاص الذين يتمتعون بمَقدرة تفُوق طاقة سواهم من البشر العاديين على التساؤل والبحث، وتُحفِّزهم الرغبة في التواصُل المُتكرر مع الرموز الأعم والأشمل من المواقف العملية في الحياة اليومية، وهي الرموز ذات الدلالات الأبعد والأوسع زمنًا ومكانًا، ويحتاج أفراد هذه الأقلية إلى إخراج وتجسيد بحثهم ومَطلبهم في كلامٍ شفوي ومكتوب، وفي ما يُعبَّر عنه شعرًا أو فنًّا تشكيليًّا، وبالذكريات أو الكتابة التاريخية، وبألوان الأداء الطقسي وضروب العبادة، وهذه الحاجة الباطنة إلى النفاذ إلى ما وراء ستار الخبرة العملية الواقعية هي الدليل الذي يُميِّز المثقفين أو المُفكرين في كل مجتمع.»٤

ويعتبر هذا التعريف من أحد جوانبه إعادة صياغة لتعريف بندا — أي إن المثقفين ضرب من «العلماء» (بالمعنى الديني) الذين يُمثلون أقلية في المجتمع — ويُعتبر من جانبٍ آخر وصفًا عامًا من منظور علم الاجتماع. ويضيف شيلز، بعد ذلك، أن المثقفين يُمثلون طرفَين متباعدَين: فإما أنهم يُعارضون المعايير والأعراف السائدة، أو أنهم يتَّخذون موقف الذي يسمح بالتكيُّف والتوافق؛ إذ ينحصر همُّهم في توفير «النظام والاستمرار في الحياة العامة». وأنا أرى أن الإمكانية الأولى فقط من هاتَين هي التي تصدُق على دور المثقف الحديث — (أي مهمة الطعن في المعايير والأعراف السائدة) — والسبب على وجه الدقَّة هو أن هذه المعايير والأعراف السائدة ترتبط اليوم ارتباطًا وثيقًا بالأمة (لأن الأمَّة هي التي تأمُر بها على أعلى المستويات) والأمة دائمًا ما تؤمِن بمذهب النصر والغلبة، وهي دائمًا تشغَل مواقع السلطة، كما إنها دائمًا ما تفرض الولاء والخضوع لا ذلك الضرب من البحث والاستقصاء الفِكري الذي يتحدَّث عنه كلٌّ من فيرجينيا وولف وفالتر بنيامين.

أضف إلى ذلك أن المفكرين، في إطار العديد من ثقافاتنا اليوم، ينزعون بصفةٍ أساسية إلى مساءلة الرموز العامة التي يتحدَّث عنها شيلز لا التواصُل المباشر معها؛ ومن ثم فقد شهدنا تحوُّلًا من اتفاق الآراء والقبول الذي تُحفزه العاطفة الوطنية إلى التشكُّك والطعن فيما هو سائد. وينظر المفكر الأمريكي كيركباتريك سيل نظرةً خاصة إلى ما يُقال عن نشأة الجمهورية الأمريكية على أساس الاكتشاف الذي يتَّسِم بالكمال وإتاحة الفُرَص غير المحدودة، وهو الأساس الذي كفل الطابع الاستثنائي للجمهورية الجديدة، وكان موضع احتفالٍ في عام ١٩٩٢م، إذ يرى سيل أن القصة برمتها تشوبها مثالب غير مقبولة، لأن أعمال النهب والإبادة الجماعية التي أدَّت إلى تدمير الأوضاع السالفة ومحوها من الوجود تُعتبر ثمنًا أكبر مما ينبغي في مقابل هذا «الإنشاء»،٥ أي إن بعض التقاليد والقِيم التي كان يُظَنُّ أنها مُقدسة تبدو الآن قائمةً على النفاق والتعصُّب العنصري، كما نرى اليوم مناظراتٍ عديدة في حرم جامعاتٍ كثيرة في أمريكا حول ما يُسمى بالنصوص المُعتمدة في المقرَّرات الدراسية، وعلى الرغم من علوِّ نبرة هذه المناظرات أحيانًا وبصورة تنمُّ عن البلَه، أو قُل على الرغم من إعجاب أصحابها بأنفسهم إلى درجة السُّخف، فإنها تكشف عن زيادةٍ تزعزع موقف المثقفين إزاء الرموز الوطنية، والتقاليد المقدسة، والأفكار التي لا تقبل الهجوم عليها لِما يُفترَض فيها من نُبل وشرف. وأما في بعض الثقافات الأخرى، مثل الثقافتَين الإسلامية والصينية، بما تتميز به من استمرار مذهب ورموز أساسية آمنة إلى حدٍّ بعيد، فإننا نجد أيضًا بعض المثقفين مثل علي شريعتي وأدونيس وكمال أبو ديب، ومثل مُثقفي حركة الرابع من مايو، الذين قاموا، وبصورة مُستفزة، بتحريك ما بدا ثابتًا كالطود، وبالنبش في التراث الذي لا تُنتَهك عزلته.٦
وأعتقد أن هذا القول يَصْدُق قطعًا على بعض البلدان الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا؛ حيث شهدنا في الآونة الأخيرة كيف تعرَّضت فكرة الهوية القومية نفسها للطعن فيها علنًا وتبيان أوجه النقص فيها، ولم يكن مصدر الطعن مقصورًا على المُثقفين بل تجاوزه إلى الواقع السكاني الذي أصبحت له مَطالبه المُلحَّة؛ إذ تعيش الآن جاليات كبيرة من المهاجرين إلى أوروبا من الأقاليم التي كانت مُستعمرة يومًا ما، وهي ترى أن المفاهيم التي نشأت في الفترة من ١٨٠٠م إلى ١٩٥٠م عن «فرنسا» و«بريطانيا» و«ألمانيا» مفاهيم تستبعدهم منها — ببساطة. أضف إلى ذلك أن الحركات النسوية (نُصرة المرأة) وحركات ذوي الميول المِثلية من الذكور، وهي الحركات التي اكتسبت زخمًا جديدًا في هذه البلدان، تطعن كذلك في المعايير الأبوية، والذكورية بصفةٍ أساسية، التي تُمثل الأسس التنظيمية للمجتمع حتى الآن. أما في الولايات المتحدة فقد شهِدنا ازدياد عدد المهاجرين الذين حلُّوا بأرضها في الآونة الأخيرة، والارتفاع التدريجي لأصوات السكَّان الأصليين وزيادة وضوح صورتهم، ونعني بهم الهنود الحمر المَنسيين الذين استولت الجمهورية في توسُّعها على أراضيهم أو غيَّرَت شكلها تغييرًا تامًّا، وقد أضاف هؤلاء وهؤلاء أصواتهم إلى أصوات النساء، وأصوات الأمريكيين الأفريقيين، وأصوات الأقليَّات الجنسية، ابتغاء الطعن في التقاليد التي ظلَّت تُستقى على امتداد قرنَين من الزمان من البيوريتانيين في ولايات نيو إنجلاند ومُلَّاك العبيد والمزارع في الولايات الجنوبية. وكان الردُّ على هذه الأصوات يتمثل في استيحاء بعض التقاليد التراثية، والتغنِّي بالوطنية وبالقِيَم الأساسية أو «قِيَم الأسرة»، وهو التعبير الذي أطلقه عليها دان كويل، نائب الرئيس الأمريكي، وهي جميعًا مرتبطة بماضٍ من المُحال بعثُه من مرقده، إلَّا بإنكار أو الحطِّ من قيمة خبرة وتجارب الحياة الحقيقية التي عاشها أولئك الذين يريدون «مكانًا لهم في مُلتقى النصر» وهي العبارة التي أبدعها الشاعر إيميه سيزار.٧

بل إننا نشهد في عددٍ كبير من بلدان العالَم الثالث تصاعُد أصوات العداء والتناقُض بين سلطات الدولة القومية التي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن وبين السكان المُستضعَفين «المحبوسين» داخلها، فهي لا تُمثلهم فيها بل تكتم أصواتهم، الأمر الذي يُهيِّئ للمثقف فرصةً حقيقية لمقاومة استمرار مسيرة الغالبين الظافرين. ونرى في العالم العربي الإسلامي وضعًا أشد تعقيدًا من هذا، ففي بعض البلدان، مثل مصر وتونس، التي كانت تحكمها، منذ حصولها على الاستقلال، أحزاب وطنية علمانية ما لبثت أن تدهورت الآن فأصبحت «شللًا» وجماعات مصالح، رأينا ما هبَّ فجأة ليُمزقها في صورة جماعات إسلامية تقول إنها تستمدُّ صلاحياتها، وهي مُحقَّة إلى حدٍّ ما في هذا القول، من المظلومين، وفقراء المدن، والفلاحين المُعدِمين في الريف، ومِن كل مَن فقد الأمل إلا في إعادة إحياء أو إعادة بناء ماضٍ إسلامي، كما رأينا الكثيرين الذين يُبدون استعدادهم للقتال حتى الموت في سبيل هذه الأفكار.

ولكن الإسلام هو دين الأغلبية على أية حال، ولا أعتقد أن دَور المُثقف أن يقول وحسب إن «الإسلام هو الحل»، فيُسوي بهذا بين معظم المنشقِّين والمُخالفين، ناهيك بالتفسيرات التي تتفاوت تفاوتًا شديدًا للإسلام، فالإسلام قبل كل شيءٍ دين وثقافة، وكلٌّ من هذين مُركَّبٌ من عدة عناصر، وأبعد ما يكون عن الكيان الصخري الجامد. ومع ذلك ففيما يتعلَّق بكَون الإسلام دينًا وهويةً للغالبية العظمى من الناس فليس من واجب المُثقف إطلاقًا أن ينساق وراء الجوقات التي تمتدح الإسلام، بل أن يُقدِّم وسط هذه الجلبة، أولًا وقبل كلِّ شيء، تفسيرًا للإسلام يؤكد طبيعته المُركَّبة وما شهِده من بِدَع، فهل هو يا ترى إسلام الحُكَّام، أم إسلام أدونيس، الشاعر والمُفكر السوري، أم هو إسلام المُنشقِّين من الشعراء والفِرَق الإسلامية؟ وعليه ثانيًا أن يطلُب من السلطات الإسلامية أن تُواجِه التحدِّيات المُتمثلة في الأقليات غير الإسلامية، وحقوق المرأة، والحداثة نفسها، بيقظةٍ يُمليها التعاطف الإنساني، وإعادة التقييم بأمانةٍ وإخلاص، لا بالترانيم التي يتجلَّى فيها الجمود المذهبي والتظاهُر بالدفاع عن الشعب. وجوهر هذا كله هو أن على المُثقف في كنف الإسلام أن يُحيي الاجتهاد، أو التفسير من وجهة نظرٍ جديدة، لا أن يستسلم منساقًا مثل الأغنام وراء علماء الدين ذوي الطموحات السياسية أو مُثيري عواطف الدهماء من المُتحدِّثين ذوي الشخصيات الجذابة.

ولكن المُثقف تحاصره دائمًا، وتتحدَّاه بلا هوادة، مُشكلة الولاء، فكلٌّ منا، وبلا استثناء، ينتمي إلى لونٍ ما من الجماعات القومية أو العرقية أو الدينية، ومن المحال على أي أحد، مهما يبلغ حجم احتجاجاته أو إنكاره، أن يقول إنه قد ارتفع فوق الروابط الحيوية (العضوية) التي تربط الفرد بالأسرة وبالمجتمع، وبطبيعة الحال، بالقومية كذلك، فإذا كان الأمر يتعلق بجماعةٍ نشأت من عهدٍ قريب أو تعرَّضت للحصار — قل مثل البوسنيين أو الفلسطينيين اليوم — فإن الإحساس بأن شعبك يتهدَّده الفناء أو الانقراض السياسي بل والمادي فعلًا يُلزمك بالدفاع عنه، وبأن تفعل كلَّ ما في طاقتك لحمايته، أو للقتال ضد أعداء الأمة. هذه وطنية «دفاعية» بطبيعة الحال، ومع ذلك، فعلى نحوِ ما قاله فرانتس فانون في تحليله للموقف في إبان ذروة حرب التحرير الجزائرية (١٩٥٤–١٩٦٢م) ضد فرنسا، لا يكفي الانسياق وراء الجوقة التي تُعلن رضاها عن الوطنية المعادية للاستعمار، مُمثلة في الحزب والقيادة، فمسألة الهدف تبرُز دائمًا حتى في خضم المعمعة، وتقضي بتحليل الخيارات المتاحة. ترانا نُحارب من أجل تحرير أنفسنا من الاستعمار فحسب، وهو هدف لازم، أم ترانا نُفكر أيضًا فيما عسانا نفعله بعد أن يرحل عن أرضنا آخِر شرطي أبيض؟

لا يمكن أن ينحصر هدف المُثقف ابن البلد، وفقًا لما يقوله فانون، في طرد الشرطي الأبيض وإحلال نظيرٍ له من أبناء البلد، بل يجب أن يتضمَّن ما يُسمِّيه «ابتكار نفوس جديدة»، وهي العبارة التي استعارها من الشاعر إيميه سيزار. وبتعبيرٍ آخر، فعلى الرغم من القيمة العُليا والتي لا تَحدُّها حدود لما يفعله المثقف في سبيل ضمان بقاء «الجماعة» التي ينتمي إليها في إبان فترات الطوارئ القومية البالِغة الحدة، فإن الولاء والإخلاص للكفاح الذي تخوضه «الجماعة» من أجل البقاء ينبغي ألا يستغرق المُثقفَ إلى الحدِّ الذي يُخدِّر فيه طاقته النقدية (أي قُدرته على التمييز) أو يُقلل مما تقضي به من واجباتٍ دائمًا ما تتجاوز البقاء فتطرح مسائل التحرُّر السياسي، ودراسات نافذة للقيادة، وتقديم البدائل التي كثيرًا ما يكون مصيرها التهميش أو التجاهل باعتبارها ليست بذات أهميةٍ حالية ما دامت المعركة الرئيسية قائمة. بل إن المظلومين يكون من بينهم ظافرون وخاسِرون، وينبغي ألا يقتصر ولاء المثقف على الانضمام إلى المسيرة الجماعية: ولقد ضرب كبار المثقفين، مثل طاغور الهندي أو خوزيه مارتي الكوبي، أمثلةً عُليا في هذا الصدد، فلم يتوقفوا عن انتقاداتهم بسبب الوطنية، رغم مُواصلة مواقفهم الوطنية.

لم يشهد بلدٌ من بلدان الأرض ما شهدَتْه اليابان الحديثة من تفاعُلٍ بين واجبات الانتماء للجماعة وبين مشكلة الانحياز الفكري، وهو التفاعل الذي اتَّسم بطابع الاختلاط، والإشكالية التي انتهت بفاجعة. كانت ثورة ميجي الإصلاحية في عام ١٨٦٨م (وميجي تعني «السلام المتنور») قد أعادت الإمبراطور موتسوهيتو إلى الحُكم (الذي بات يُطلِق على نفسه لقب ميجي) وأعقب ذلك إلغاء الإقطاع، وتلاه السير بتأنٍّ وتُؤدة في طريق بناء أيديولوجية مُركَّبة جديدة، وهي التي أدَّت لفاجعة النزعة العسكرية الفاشية و«الدمار القومي» الذي بلغ ذروته بهزيمة اليابان الإمبراطورية في عام ١٩٤٥م. وعلى نحو ما ذكرَت المؤرخة كارول جلوك، كانت «أيديولوجية الإمبراطور» (وهي التي تكتب باليابانية «تينوساي إيديوريجي») مِن ابتداع المُثقفين في عهد الميجي، وإذا كان يغذوها أصلًا الإحساس بضرورة الوقوف موقف الدفاع، أو حتى الإحساس بالدونية، فقد تحوَّلت في عام ١٩١٥م إلى روحٍ وطنية وقومية غلَّابة، قادرة في الوقت نفسه على اتخاذ النزعة العسكرية المُتطرفة، وتبجيل الإمبراطور، وإلى ضربٍ من ضروب التعصُّب للجنس الياباني يضع الدولة في المكان الأول ويُنزل الفرد منزلة ثانية.٨ كما أدَّى هذا التعصُّب إلى تحقير الأجناس الأخرى إلى الحدِّ الذي سمح لليابانيين بارتكاب بعض الجرائم من أمثال المذبحة المُتعمَّدة ضدَّ الصينيين في الثلاثينيات من القرن العشرين، بحجَّة ما يُسمَّى «شيدو منزيكو» أي الفكرة التي تقول إن اليابانيين يُمثلون الجنس الأسمى.
ومن أشدِّ الأحداث الجالبة للعار في تاريخ المُثقفين الحديث، حادثةٌ وقعت في إبان الحرب العالمية الثانية، وهي الحادثة التي وصفها جون داور قائلًا إنَّ المثقفين اليابانيين والأمريكيين دخلوا فيها معركة السباب والشتائم «الوطنية» و«العنصرية» على نطاقٍ هجومي كريه ومُهين في آخر الأمر.٩ ويقول ماساو ميوشي إن معظم المثقفين اليابانيين كانوا يعتقدون اعتقادًا راسخًا بعد الحرب بأن جوهر مُهمتهم الجديدة لم يكن يقتصر على تفكيك الأيديولوجيا الجماعية (تينوساي)، ولكن إنشاء الذاتية الفردية الليبرالية — «شوتايساي» — كان يعني التنافُس مع الغرب، ولكن ذلك، في رأي ميوشي، قد أدَّى إلى تحوُّلها، مع الأسف، «إلى الخواء الاستهلاكي آخر الأمر، وفي ظلِّه يُصبح «فعل» الشراء وحدَه مصدر تأكيد هوية الشخصية الفردية ومَبعث اطمئنانها.» ويُذكِّرنا ميوشي على أية حال بأن الاهتمام الذي أولاه المُثقفون بعد الحرب لمسألة الذاتية كان يتضمن في الوقت نفسه الإعراب عن قضايا المسئولية عن الحرب، على نحوِ ما نرى في أعمال الكاتب ماروياما ماسو، الذي كان يتحدَّث في الواقع عن «جماعة التوبة» من بين المُثقفين.١٠

ما أكثر ما يتطلَّع المواطنون في أوقات الشدة إلى المُثقف من أبناء جلدتهم لتمثيل المُعاناة التي تتعرَّض لها قوميتهم، والدفاع عنها علنًا، والشهادة بما وقع من صور مُعاناتها. فالمثقفون البارزون تربطهم علاقة رمزية بزمانهم، وهي العبارة التي استخدمها أوسكار وايلد في وصف نفسه، فهم يُمثلون في وعي الجماهير العريضة معاني الإنجاز، والشهرة، وذيوع الصيت، وهي قِيَم تستطيع الجماهير تعبئتها لصالح الكفاح الدائر أو لصالح مُجتمعٍ تحاصره الصعاب والتحديات. وعلى العكس من ذلك ما أكثر ما يتحمَّل المثقفون البارزون ما يلحق بمُجتمعهم من عارٍ ومعرَّة، إما لأن بعض «الفصائل» في ذلك المجتمع تربط بين موقف المُثقف وموقف فريقٍ لا ينتمي إليه (على نحو ما شاع كثيرًا في أيرلندا، على سبيل المثال، ولكن أيضًا في كبرى المدن الغربية أيام الحرب الباردة وفي إبان تبادُل المُعادِين للشيوعية اللَّكمات مع مناصريها) وإما حين تحتشد جماعات أخرى لشن هجومٍ ما. ولا شك أن أوسكار وايلد نفسه أحسَّ بأنه يتحمَّل الذنب الذي يُعاني منه جميع المُفكرين الطليعيين الذين تجاسروا على تحدِّي معايير مجتمع الطبقة الوسطى وأعرافها، وفي زماننا الحالي نجد أن رجلًا مثل إيلي فيزيل أصبح يرمز لمعاناة جميع اليهود الذين أُبيدوا في المحرقة النازية.

ولا بدَّ من إضافة شيءٍ آخر (ما من أحدٍ غير المثقف يستطيع الالتزام والوفاء به) إلى جانب هذه المهمة البالغة الأهمية، أي مهمة تمثيل المعاناة الجماعية لأبناء شعبك، والشهادة على ما كابَدوه، وإعادة تأكيد صمودِهم ووجودهم رغم كلِّ شيء، وتدعيم ذاكرتهم. فالواقع يقول إن الكثيرين من الروائيين والرسَّامين والشعراء، مثل مانزوني، أو بيكاسو، أو نيرودا، قد جسَّدوا الخبرة التاريخية لشعبهم في أعمالٍ فنية جمالية، وهي التي أصبحنا نعترِف بأنها روائع فنية عُظمى، ولكن المهمة المنوطة بالمثقف في رأيي هي أن يُضفي على الأزمة طابعًا عالميًّا صريحًا، أي أن يُضفي المزيد من الأبعاد الإنسانية على ما عاناه جنسٌ مُعين أو ما عانَتْه أمةٌ مُعينة، ومن ثم يربط بين تلك الخبرة الخاصة وبين معاناة الآخرين.

لا يصحُّ أن يكتفي المثقف بتأكيد أن شعبًا ما قد سُلبت أملاكه، أو تعرض للظلم أو للمذابح، أو لإنكار حقوقه ووجوده السياسي، بل عليه أن يفعل في الوقت نفسه ما فعله فانون أثناء الحرب الجزائرية، أي أن يربط بين تلك الفظائع وبين ألوان المُعاناة المُماثلة لغيره من البشر. ولا يعني هذا إطلاقًا أيَّ انتقاصٍ من الخصوصية التاريخية، لكنه يحمي الناس من تعلُّم درسٍ ما عن الظلم في مكانٍ ما ونسيانه أو انتهاكه في مكانٍ آخر، وكون المثقف مُمثلًا للمعاناة التي كابدها شعبه، وقد يكون قد تعرَّض لها هو نفسه، لا يُعفيه من واجبه في أن يكشف للناس أن أبناء شعبه ربما كانوا يرتكبون الآن جرائم مُرتبطة بما عانَوه، في حقِّ ضحاياهم هم.

فعلى سبيل المثال كان البويريون في جنوب إفريقيا (وهم المُستوطنون المُنحدرون من أصول هولندية) يرَون أنهم من ضحايا الإمبريالية البريطانية؛ ولكن هذا قد أدى، بعد صمودهم «للعدوان» البريطاني في حرب البوير، إلى إحساسهم بأن لهم الحق — باعتبارهم مُجتمعًا يُمثله دانيل فرانسوا مالان — في تأكيد خبرتهم التاريخية من خلال نظام الفصل العنصري البغيض الذي أنشئوه استنادًا إلى المبادئ التي وضعها الحزب الوطني هناك. ومن اليسير دائمًا على المُثقف، وهو أقرب إلى تحقيق شعبيَّته، أن يستسلم «لطرائق» التبرير والإحساس بأنه مُصيب أو على حق، وهي «الطرائق» التي تُعمي البصر عن إدراك الشرور التي تُرتَكب باسم مجتمعه العِرقي أو القومي، ويَصدُق هذا بصفةٍ خاصة في فترات الطوارئ والأزمات، ففي غضون حشد المشاعر القومية لدعم حرب جزر الفوكلاند أو حرب فيتنام، على سبيل المثال، كان التساؤل عن عدالة أي حربٍ يُفسَّر بأنه مُعادل للخيانة، لن يجد المثقف سبيلًا أقدرَ من هذا إلى فقدان قلوب الجماهير، لكن عليه بالرغم من ذلك أن يرفَع صوتَه مُنَدِّدًا بهذا الضرب من ضروب «القَبَلِيَّة»، دون حسابٍ لما قد يُكلِّفه ذلك على المستوى الشخصي.

١  George Orwell, A Collection of Essays (New York: Doubleday Anchor, 1954), p. 177.
٢  سبقت لي مناقشة هذا الاتجاه في كتابي الاستشراق (New York: Pantheon, 1979) وكتابي تغطية الإسلام (New York: Pantheon, 1981) وأخيرًا في مقال بعنوان «الخطر الزائف الذي يُمثله الإسلام» نشرتُه بتاريخ ٢١ نوفمبر ١٩٩٣م في مجلة: New York Times Sunday Magazine, وعنوان المقالة بالإنجليزية: The Phoney Islamic Threat.
٣  Walter Benjamin, Illuminations, ed. Hannah Arendt, trans. Harry Zohn (New York: Schocken Books, 1969), pp. 256, 255.
٤  Edward Shils, The Intellectuals and the Powers: Some Perspectives for Comparative Analysis, Comparative Studies in Society and History, Vol. 1 (1958-59), 5–22.
٥  يعرض هذه الفكرة كيركباتريك سيل عرضًا مُقنعًا في كتابه:
Kirkpatrick Sale, The Conquest of Paradise: Christopher Columbus and the Columbian Legacy (New York: Knof, 1992).
٦  كانت حركة الطلاب في الصين، في ٤ مايو ١٩١٩م، تُمثل ردًّا مباشرًا على مؤتمر فرساي الذي عُقد في العام نفسه وسمح بالوجود الياباني في شانتونج، وقد كانت الحركة تتمثل في اجتماع ثلاثة آلاف طالبٍ في ميدان تيانانمان، وكانت هذه أولى المظاهرات الطلابية في الصين، وتُعتبر بدايةً لغيرها من الحركات الطلابية المنظمة على مستوى الدولة كلها في القرن العشرين، وقد أُلقي القبض آنذاك على اثنَين وثلاثين طالبًا، الأمر الذي أدى إلى تعبئة الطلاب من جديدٍ للمطالبة بإطلاق سراحهم وكذلك لمُطالبة الحكومة باتخاذ إجراءٍ صارم في قضية شانتونج، وفشلت محاولة الحكومة لقمع الحركة الطلابية؛ إذ لقيت الحركة دعمًا من طبقة التجار الجديدة التي كانت لا تزال في طور النشوء في الصين، وكانت تشعر بالتهديد الذي يُواجهها بسبب المنافسة اليابانية. انظر:
John Israel, Student Nationalism in China, 1927–1937 (Stanford: Stanford University Press, 1966).
٧  Aimé Césaire, The Collected Poetry, trans. Clayton Eshelman and Annette Smith (Berkeley: University of California Press, 1983), p. 72.
٨  See Carol Gluck, Japan’s Modern Myth: Ideology in the Late Meiji Period (Princeton: Princeton University Press, 1985).
٩  John Dower, War Without Mercy: Race and Power in the Pacific War (New York: Pantheon, 1986).
والمعروف أن ماروياما ماساو كاتب ياباني جاء بعد الحرب ويُعتبر من النقاد الرئيسيين للتاريخ الإمبراطوري الياباني ونظام الإمبراطور، ويصِفه ميوشي قائلًا إنه يُمثل درجةً أكبر مما ينبغي من تقبل سيادة الغرب «الجمالية» والفكرية.
١٠  Masao Miyoshi, Off Center: Power and Culture Relations Between Japan and the United States (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1991) pp. 125, 108.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤