الفصل الثالث

منفى المُثقفين: المغتربون والهامشيون

لا يبعث الأحزان مصيرٌ مثل العيش في المنفى، وكان الحُكم بالنفي في العصور التي سبقت العصر الحديث عقوبةً بالغةَ الشدة، فالنَّفي لا يقتصر معناه على قضاء سنواتٍ يضرب فيها المرء في الشِّعاب هائمًا على وجهه، بعيدًا عن أُسرته وعن الديار التي ألِفَها، بل يعني إلى حدٍّ ما أن يُصبح منبوذًا إلى الأبد، محرومًا على الدوام من الإحساس بأنه في وطنه، فهو يعيش في بيئةٍ غريبة، لا يُعَزِّيه شيءٌ عن فقدان الماضي، لا يقلُّ ما يشعُر به من مرارةٍ إزاء الحاضر والمُستقبل. ولطالَما اقترن المنفى بالفظائع التي يُحِسُّها الأبرص، ذلك المنبوذ اجتماعيًّا وأخلاقيًّا. ولكن صورة المنفى قد اختلفت في القرن العشرين، فبعد أن كانت عقوبةً خاصةً ذات رونقٍ وتقتصر على شخصيات اجتماعية مرموقة — على نحو ما حدث لشاعر اللغة اللاتينية العظيم أوفيد، الذي نُفي من روما إلى بلدةٍ بعيدة على شاطئ البحر الأسود — أصبحت عقوبةً قاسية تُفْرَضُ على مجتمعاتٍ وشعوب بأسرِها، وكثيرًا ما تكون النتيجة غير المقصودة لقوى عامَّة مثل الحروب والمجاعات والأمراض.

وينتمي الأرمينيون (الأرمن) إلى هذه الفئة، فهُم شعب موهوب تعرَّض للنزوح مراتٍ عديدة، وكان أبناؤه يعيشون بأعدادٍ كبيرة في شتَّى أرجاء منطقة شرقَي البحر المتوسط (وخصوصًا في الأناضول) ولكنهم تعرَّضوا لحملات الإبادة الجماعية على أيدي الأتراك فتدفَّقوا إلى المناطق القريبة في بيروت، وحلب، والقُدس، والقاهرة، لكنهم لم يلبثوا أن نزحوا من جديدٍ بعد الانتفاضات الثورية التي وقعَتْ في الفترة إلى أعقبت الحرب العالمية الثانية. ولطالَما أحسست بالانجذاب إلى هذه الجاليات الكبيرة المُغتربة أو المَنفية، وهي التي شَغَلت مشاهد صِباي في فلسطين وفي القاهرة. كانت أعداد الأرمن كبيرة، بطبيعة الحال، إلى جانب اليهود والإيطاليين واليونانيين، الذين ما إن استقروا شرقَي البحر المتوسط حتى أصبحت لهم جذورهم وتكاثروا في هذه المنطقة، وخرج من بين هذه الجاليات كُتَّاب مُبرِّزون مثل إدموند جابس،‏ وجيوسبى أونجاريتي، وقسطنطين كفافي، ‏ولكن هذه الجاليات سرعان ما تعرَّضت للتمزيق بصورةٍ وحشية بعد إنشاء إسرائيل في ١٩٤٨م، وحرب السويس في ١٩٥٦م. كانت الحكومات الوطنية الجديدة في مصر والعراق وغيرهما من بلدان العالَم العربي ترى أن الأجانب يرمزون للعدوان الجديد من جانب الإمبريالية الأوروبية في فترة ما بعدَ الحرب، فأجبرتهم على الرحيل، وكان هذا يُمثل مصيرًا بالِغ السوء لكثيرٍ من الجاليات القديمة، وقد نجح بعض هؤلاء في التأقلُم مع مَواطن إقامتهم الجديدة، ولكن الكثيرين كانوا، إن صحَّ التعبير، يُنفَون للمرة الثانية.

يشيع افتراض غريب وعارٍ عن الصحة تمامًا، بأن المَنفيَّ قد انقطعتْ صِلته كليةً بمَوطنه الأصلي، فهو معزول عنه، مُنفصل مُنْبَتُّ الروابط إلى الأبد به، ألا ليتَ أنَّ هذا الانفصال (الجراحي) الكامل كان صحيحًا، إذن لاستطعتَ عندها على الأقل أن تجِدَ السَّلوى في التيقن مِن أن ما خلَّفْتَه وراء ظهرِك لم يعُد يشغل بالك، وأنه من المحال عليك أن تستعيده أبدًا، ولكن الواقع يقول بغير ذلك، إذ لا تقتصر الصعوبة التي يُواجهها المَنفيُّ على كونه قد أُرغم على العيش خارج وطنه، بل إنها تعني — نظرًا لما أصبح العالم عليه الآن — أن يعيش مع كلِّ ما يُذكِّره بأنه مَنفيٌّ، إلى جانب الإحساس بأن الوطن ليس بالِغ البعد عنه، كما أن المسيرة (الطبيعية) أو المُعتادة للحياة اليومية المُعاصرة تعني أن يظلَّ على صلةٍ دائمة، موعودة ولا تتحقَّق أبدًا، بموطنه، وهكذا فإن المَنفيَّ يقع في منطقةٍ وسطى، فلا هو يُمثل تواؤمًا كاملًا مع المكان الجديد، ولا هو تَحرَّر تمامًا من القديم، فهو مُحاط بأنصاف مشاركة، وأنصاف انفصال، ويُمثل على مستوًى مُعين ذلك الحنين إلى الوطن وما يرتبط به من مشاعر، وعلى مستوى آخر قُدرة المَنفيِّ الفائقة على محاكاة مَن يعيش معهم الآن، أو إحساسه الدفين بأنه منبوذ، ومن ثَم يصبح واجبه الرئيسي إحكام مهارات البقاء والتعايُش هنا، مع الحرص الدائم على تجنُّب خطر الإحساس بأنه حقَّق درجةً أكبر مما ينبغي من «الراحة» و«الأمان».

ولننظُر الآن إلى نموذجٍ للمثقف الحديث في المنفى، وهو الذي تُمثله شخصية «سالم»، الشخصية الرئيسية في رواية «مُنحنًى في النهر» للكاتب ف. س. نايبول، فهو نموذج مُؤثر، إنه مُسلِم من أبناء شرقَي أفريقيا، وهو ينحدِر من أصولٍ هندية، وهو يترك الساحل ويرحَل إلى داخل القارة الأفريقية، حيث يتمكَّن من البقاء، وإن كان بقاءً محفوفًا بالمخاطر، في دولةٍ جديدة رسَم المؤلف صورتها على غرار دولة زائير إبَّان حُكم الرئيس موبوتو. ولدى المؤلف نايبول «قرون استشعار الروائي» التي تُمكنه من تصوير حياة سالم عند «مُنحنى النهر» وهو التعبير الذي يعني به «الأرض الحرام» أو أي منطقة معزولة عن غيرها، وإليها يأتي المُستشارون الأوروبيون (الذين حلوا محل المُبشِّرين المثاليين في إبان العهود الاستعمارية) إلى جانب المرتزقة، والمُتربِّحين وغيرهم من صعاليك وحثالة العالَم الثالث، وسالم مُضطر إلى العيش في هذا المناخ، ويفقد تدريجيًّا مُمتلكاته ويفقد خُلُقه القويم، وفي نهاية الرواية — وهذه، بطبيعة الحال، هي القضية الأيديولوجية مَثار الخلاف عند نايبول — نجد أن أهل البلد قد أصبحوا هم أنفسهم من المَنفيِّين داخل وطنهم، بسبب بشاعة وتقلُّب أهواء الحاكم — الذي يُسمَّى الرجل الكبير — وهو الذي يرمز عند نايبول لجميع الأنظمة السياسية التي خلفت الحكم الاستعماري.

شهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية إجراءاتٍ واسعة النطاق «لإعادة ترتيب» أقاليم العالم، وهي التي أدَّت إلى انتقال السكان بأعدادٍ كبيرة من منطقةٍ إلى منطقة، على نحو ما حدث عندما انتقل الهنود المُسلمون إلى باكستان بعد التقسيم في عام ١٩٤٧م، أو ما حدث للفلسطينيين الذين تشتَّت جانب كبير منهم في غضون إنشاء إسرائيل من أجل إفساح المكان لليهود القادِمين من أوروبا وآسيا، وأدَّت هذه التحوُّلات بدَورها إلى أشكال «مُهَجَّنة» من الصِّيَغ السياسية، فلم تقتصر الحياة السياسية في إسرائيل على الصيغة السياسية ليهود الشتات بل اقترنت بها وتنافسَت معها صيغةٌ سياسية أُخرى خاصة بالشعب الفلسطيني في المنفى، وفي البلدَين المُنشأَيْن حديثًا، أي في باكستان وإسرائيل، كان يُنظر إلى المهاجرين الجُدد باعتبارهم يُمثلون جانبًا من جوانب تبادُل السكان، ولكنهم كان يُنظَر إليهم أيضًا، من الزاوية السياسية، باعتبارهم أفراد أقلِّياتٍ تعرَّضت للظلُم في الماضي وأصبحوا يتمتَّعون الآن بالعيش في وطنهم باعتبارهم أفرادًا ينتمون إلى الغالبية. ولكن التقسيم والأيديولوجية الانفصالية كانتا أبعدَ ما تكونان عن حلِّ القضايا الطائفية، بل إنهما أعادتا إشعالها بل وزيادة التهابها في حالاتٍ كثيرة، ولكن ما يشغلني أكثر من ذلك هو أمر المَنفيين الذين لم يتيسَّر تكيُّفهم إلى حدٍّ كبير، مثل الفلسطينيين أو المُهاجرين المُسلمين الجُدد في بلدان أوروبا، أو أبناء جزُر الهند الغربية والأفريقيين السود في إنجلترا، وهم الذين يؤدي وجودهم إلى تعقيدِ ما نفترِضه من تجانُسٍ في المجتمعات الجديدة التي يعيشون فيها، والمُثقف الذي يَعتبِر نفسه جزءًا من نظامٍ عامٍّ تخضع له الجالية القومية النازحة لن يكون على الأرجح مصدرًا للتأقلُم والتكيُّف الثقافي بل مصدرًا للقلقلة والبلبلة وزعزعة الاستقرار.

وليس معنى هذا إنكار قُدرة المنفي على تقديم نماذج رائعة للتكيُّف، إذ نشهد في الولايات المتحدة اليوم حالة فذَّة، فلقد كان اثنان من كبار شاغِلي المناصب العُليا في الإدارة الأمريكية منذ عهد قريب — هما هنري كيسنجر وزبجنيو برزنسكي — (أو لا يزالان، وفقًا لوجهة نظر المراقب) من المثقفين في المنفى، فالأول من ألمانيا النازية والثاني من بولندا الشيوعية. أضِف إلى ذلك أن كيسنجر يهودي، وهو ما يضعه في وضع بالِغ الغرابة إذ يؤهله أيضًا لإمكان الهجرة إلى إسرائيل، طبقًا لقانون العودة الأساسي لدَيها، ولكن كُلًّا من كيسنجر وبرزنسكي، فيما يبدو، إذ اقتصرنا في الحُكم على الظاهر، قد سخَّر موهبته لخدمة البلد الذي تبنَّاه، فحقَّق بذلك فوائد مادية جبارة، ومارس نفوذًا قوميًّا، إن لم يكن عالميًّا أيضًا، يبتعِد به بُعد السماء عن الأرض عن الأوضاع المغمورة التي يعيش فيها مُثقفو العالم الثالث الذين يعيشون في المنفى في أوروبا والولايات المتحدة. واليوم وبعد أن خدما في الحكومة عدَّة عقود، يعمل المُثقفان البارزان في وظائف استشارية للشركات والحكومات الأخرى.

وربما لا يكون برزنسكي وكيسنجر، كما يفترض البعض، من الحالات الاستثنائية، خصوصًا إذا تذكَّرنا أن المَنفيين الآخرين — مثل توماس مان — قد وصفوا المسرح الأوروبي للحرب العالمية الثانية بأنه ساحة معركةٍ لمصير الغرب، ومصير روح الإنسان الغربي، وقد اضطلعَت الولايات المتحدة في هذه الحرب، التي وُصفت بأنها «حرب الخير»، بدور المُنقذ أو المُخلِّص، فهيَّأت بذلك الملجأ اللازم لجيلٍ كامل من الباحثين والفنانين والعلماء الذين فرُّوا من الفاشية الغربية إلى المَقر الرئيسي للسيادة الغربية الجديدة، فقد جاءت إلى أمريكا مجموعة كبيرة من الباحثين المتميزين إلى حدٍّ بعيد في بعض مَيادين البحث العلمي مثل العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، وكان بعضهم من مصادر الثراء للجامعات الأمريكية بما قدَّموه من مواهب وخبرات العالَم القديم، مثل بعض علماء فقه اللغات الرومانسية والباحثين في الأدب المقارن، ومن بينهم ليو سبتسر وإريك أورباخ، وأما البعض الآخر من العلماء مثل إدوارد تيلر وفيرنرفون براون، فقد انضموا إلى قوائم الحرب الباردة باعتبارهم أمريكيين جُددًا وقفوا حياتهم على الفوز في سباق التسلُّح مع الاتحاد السوفييتي، وقد بلغ انشغال أمريكا بهذه القضية بعد الحرب حدًّا أتاح لبعض المُثقفين الأمريكيين من ذوي النفوذ الواسع في العلوم الاجتماعية، على نحوِ ما أُميط اللثام عنه مؤخرًا، أن يُجنِّدوا بعض النازيين السابقين المعروفين بعدائهم للشيوعية للعمل في الولايات المتحدة في إطار الحملة العظمى المذكورة.

سوف أتناول في المحاضرتَين التاليتَين قضية المراوغة السياسية، وهي فنٌّ مُريب، أو أسلوب فني يكفل عدم اتخاذ موقفٍ واضح ويكفل البقاء والازدهار في الوقت نفسه، تمهيدًا لحديثي عن أسلوب المثقف في التكيُّف مع قوةٍ مهيمنة جديدة أو ناشئة. أما هنا فأريد التركيز على العكس، أي على المُثقف الذي لا يستطيع، أو بالأحرى لا يقبل، التكيُّف بسبب المَنفى، ويختار أن يظلَّ خارج التيار الرئيسي، دون استيعابٍ ودون استقطابٍ مُصِرًّا على المقاومة، ولكنني لا بدَّ أولًا أن أعرِض بعض المسائل التمهيدية.

ومن هذه المسائل أنَّ المنفى وضعٌ حقيقي لكنه أيضًا، في السياق الذي يُحقِّق مرماي، وضعٌ مجازي. وأعني بذلك أن «تشخيصي» للمُثقف في المنفى مُستقًى من التاريخ الاجتماعي والسياسي للنزوح والهجرة، وهو الذي بدأت به هذه المحاضرة لكنه ليس مقصورًا على ذلك، فقد نجد أنَّ المثقفين الذين عاشوا أعمارهم كلَّها أفرادًا في مجتمعهم يمكن تقسيمهم إلى المُنتمِين واللامُنتمِين، بصورةٍ ما، أي من ناحيةٍ مُعينة أولئك الذين ينتمون انتماءً كاملًا إلى المجتمع بحالته القائمة، وتزدهر أحوالهم فيه دون أن يغلِبهم الإحساس بالنشوز عنه أو الاختلاف معه، أي مَن يُمكن أن نصِفهم بأنهم من يقولون «نعم»، وعلى الناحية المقابلة نجد الذين يقولون «لا»، أي أولئك الأفراد الذين هم في شِقاقٍ مع مُجتمعهم، ومن ثَم فهم لا مُنتمون، ومَنفيُّون فيما يتعلق بالمزايا والسلطة ومظاهر التكريم. وأما النسق الذي يرسم طريق عدم الانتماء للمُثقفين فأفضل ما يُمثله «وضع المنفى»، أي عدم التكيُّف الكامل قط، والإحساس دائمًا بأنه يعيش خارج العالَم الذي يُحسُّ فيه أبناء البلد بالأُلفة ويتبادلون فيه الأحاديث دون كلفة، إن صحَّ هذا التعبير، والمَيل إلى تجنُّب بل وكراهية مباهج «الاستيعاب» والإحساس بالرضا على المستوى القومي، فالمنفى بهذا المعنى الميتافيزيقي يُمثل للمثقف ضربًا من القلق، والحركة، وعدم الاستقرار والتسبُّب في عدم استقرار الآخرين. وهو لا يستطيع العودة إلى الاطمئنان القديم الذي يُصاحب العيش في الوطن، ولا يستطيع، ويا للأسف، أن «يصل» وصولًا كاملًا، أي أن يتوحَّد مع «موطنه» أو حاله الجديد.

والمسألة الثانية — وأشعر أن ذِكرها يُدهشني إلى حدٍّ ما حتى وأنا أعرض لها — هي أن المُثقف باعتباره مَنفيًّا يميل إلى الإحساس بأن فكرة الشقاء تُسعده، حتى إنَّ الاستياء الذي يكاد يُشبه «عُسر الهضم»، قد يُصبح لونًا من ألوان سوء الطبع أو انحراف المزاج الذي يتحوَّل إلى «أسلوب للتفكير» بل أيضًا إلى مأوًى جديدٍ له وإن كان مؤقتًا. وهنا ربما تَحوَّل المثقف إلى جعجاعٍ هائج مثل شخصية الجندي ثيرسيتس في ملحمة الإلياذة. ومِن النماذج التاريخية الأولى لما أعنيه وهو نموذج عظيم، أحد كبار شخصيات القرن الثالث عشر، وأعني به الكاتب جوناثان سويفت، والذي لم يستطع قطُّ أن يتقبَّل فقدانه للنفوذ والصيت المُدوِّي في إنجلترا بعد خروج حزب المحافظين من الحُكم عام ‎١٧١٤م، فقضى بقية حياته كالمَنفِيِّ في أيرلندا. وقد أصبح نموذجًا شِبه أسطوري للمرارة والسخط — كما وصف نفسه في العبارات التي أوصى بكتابتها على قبره — فكان، على الرغم من غضبه الشديد من أيرلندا، المُدافعَ عنها ضدَّ الطغيان البريطاني، وهو المُؤلف الذي تكشف أعماله الأيرلندية العظمى مثل روايات «رحلات جاليفر»، و«خطابات تاجر الأقمشة»، عن ذهنٍ أزهرَ وأثمرَ، إن لم يكن قد استفاد من ذلك الألم الخصب البناء.

ونستطيع أن نعتبِر أنَّ ف. س. نايبول في كتاباته المُبكرة نموذجًا للمثقف المَنفي الحديث، إذ هو كاتب المقالات وأدب الرحلات، المُقيم أحيانًا في إنجلترا وأحيانًا خارجها،‎‏ يتنقَّل باستمرارٍ فيُعيد زيارة جذوره الهندية وفي بلدان البحر الكاريبي، وهو ينخل حطام الاستعمار وما تلا الاستعمار ويُغربله، ويُصدر أحكامه، التي لا ترحم، على الأوهام وضروب القسوة في الدول المستقلة (الجديدة) وعند «المؤمنين الصادقين» الجدد.

ولدينا نموذج أصدقُ وأصلب عزمًا على حياة المنفى من نايبول، وهو الألماني ثيودور فيزنجروند أدورنو. لقد كان شخصيةً مهيبة، وجذابة بلا حدود، وهو يُمثل لي ضمير المثقف المُهيمن في منتصف القرن العشرين، وكانت حياته العملية في مُجملها حياة مشارفة ومحاربة لأخطار الفاشية والشيوعية ونزعة «الاستهلاك» الجماهيرية في الغرب. وبخلاف نايبول الذي يتجوَّل داخل وخارج أوطانه القديمة في العالم الثالث، كان أدورنو أوروبيًّا صرفًا، رجلًا لا يضمُّ كيانه إلا أرقى الثقافات الراقية، وكان من بينها إحاطته المدهشة بالفلسفة، وبالموسيقى (وكان من التلاميذ والمُعجبين ﺑ «بيرج» و«شونبيرج») وعلم الاجتماع، والأدب، والتاريخ، والتحليل الثقافي. ولما كان ينتمي، من جانبٍ ما، إلى خلفية يهودية فقد ترك موطنه ألمانيا في منتصف الثلاثينيات، بُعَيْد استيلاء النازيين على السلطة، والتحق أولًا بجامعة أوكسفورد لدراسة الفلسفة، وكتب فيها كتابًا بالِغ الصعوبة عن هوسرل. ويبدو أنه لم يكن سعيدًا فيها، إذ لم يكن يُحيط به إلا العاديون من فلاسفة الوضعية المنطقية والتحليل اللغوي، فاعتزلَهم بكآبته المُستمَدَّة من الفيلسوف شبنجلر وباستغراقه في الجدلية الميتافيزيقية بأفضل منهجٍ هيجيلي مُمكن، وعاد إلى ألمانيا لفترة قصيرة لكنه بعد أن أصبح أستاذًا في معهد البحوث الاجتماعية في جامعة فرانكفورت، اضطُر إلى الفرار سرًّا إلى الولايات المتحدة حيث الأمان، فأقام زمنًا ما في نيويورك أول الأمر (١٩٣٨–١٩٤١م) ثم استقر في جنوبي ولاية كاليفورنيا.

وعلى الرغم من رجوع أدورنو إلى فرانكفورت عام ‎١٩٤٩م ‏حيث عاد إلى منصب الأستاذية في الجامعة، فإن السنوات التي قضاها في أمريكا صبغتْهُ بصبغة المَنفى إلى الأبد، كان يكرَه موسيقى الجاز وكل شيءٍ يتعلق بالثقافة الشعبية هناك، ولم يكن يُحِب الطبيعة والخلاء على الإطلاق، ويبدو أنه ظلَّ يتعمَّد الاستمساك بمسلكه في الحياة، ولمَّا كان قد درج على الانغماس في التقاليد الفلسفية الماركسية الهيجيلية، فقد كان شديد الحنق على كلِّ ما يتعلَّق بالنفوذ الأمريكي في العالم من حيث الأفلام، والصناعة، وعادات الحياة اليومية، والتعليم القائم على الحقائق العملية والبرجماتية. وكان أدورنو، بطبيعة الحال، مُهيَّئًا تمامًا لحياة «المنفى الميتافيزيقي» قبل قدومه إلى الولايات المتحدة، إذ كان شديد الانتقاد لِما كان يُوصَف بأنه أذواق الطبقة المتوسطة في أوروبا، وكانت المعايير التي وضعها لِما ينبغي أن تكون الموسيقى عليه، مثلًا، مُستمدَّة من مؤلفات شونبيرج البالغة الصعوبة، وكان أدورنو يعترف بأن هذه الأعمال الموسيقية قد كُتِب لها أن تَشرُف بعدم الاستماع إليها، بل واستحالة سماعها. كان موقف أدورنو يتضمَّن مفارقاتٍ ويقوم على السخرية والنقد الذي لا يرحم، فكان بذلك يُمثل جوهر المثقف الذي يكره جميع الأنظمة، سواء كانت أنظمتنا «نحن» أو أنظمتهم «هم»، ويجد مرارة الطعم في هذه وتلك جميعًا. كان يرى أن «أكذب» صُور الحياة هي صُورتها الجماعية — ولقد قال مرة إن «الكل» دائمًا باطل — وهذا في رأيه يضع مسئوليةً أكبر على عاتق الفرد، أي على الوعي الفردي، أي على ما لا يمكن إخضاعه لنظامٍ صارم في المجتمع الذي يعتمِد على الإدارة «الكلية».

ولكن المنفى الأمريكي الذي عاش فيه أدورنو كان من وراء إبداعه رائعته الكبرى الحدود الخلقية الدنيا، وهي مجموعة من شذرات عددها ١٥٣، نشرها عام ١٩٥٣م ووضع لها عنوانًا فرعيًّا هو «تأمُّلات مُستقاة من حياةٍ معطوبة»، والكتاب غريب ويتكوَّن من حكايات غير مترابطة عسيرة الفهم، لا ترقى إلى مستوى السيرة الذاتية المتصلة زمنيًّا ومنطقيًّا، ولا تُمثل تأمُّلات في موضوعاتٍ مُحددة، بل ولا تُعتبر عرضًا منتظمًا لنظرة المؤلف إلى العالم، وهو يُذَكِّرنا من جديد بالخصائص الفذَّة لحياة بازاروف التي عرضها تورجنييف في روايته عن الحياة في روسيا في منتصف الستينيات من القرن التاسع عشر — أي رواية «آباء وأبناء». لقد كان بازاروف يُمثل النموذج الأول للمثقف العدَمي الحديث، ولكن المؤلف لا يجعل له مكانًا في سياق السرد الروائي، إذ يظهر بازاروف فترة قصيرة ثم يختفي. إننا نراه برهةً مع والدَيه المُسنَّين، وإن كان يتبدَّى لنا، بوضوحٍ وجلاء، أنه قد تعمَّد قطع الصِّلات التي تربطه بهما، ونستنتج من هذا أن حياة المُثقف وفقًا لمعايير مختلفة تَحُول دون أن تكون له قصة، ويقتصر أثرها على زعزعة الاستقرار؛ أي إن المثقف يتسبب في هزَّاتٍ أرضية مثل الزلازل، وهو يصدم الناس بما يقول ويفعل، ولكن فهمه مُحال في ضوء خلفيته أو أصدقائه.

وتورجنييف لا يقول في الواقع شيئًا من هذا مُطلقًا، بل يجعله يحدُث أمام أعيننا، كأنما ليقول إن المثقف ليس فحسب إنسانًا مقطوع الصِّلة مع والدَيه وأبنائه، بل إن طرائق حياته، أو أساليب الاشتباك معها، لا تبدو إلا مُضمرةً ومُلْمَعًا إليها، ومن المحال تصويرها واقعيًّا إلَّا في سلسلةٍ من الأفعال المُتقطعة وغير المُترابطة، ويبدو أن كتاب «الحدود الخلقية الدنيا» الذي وضعه أدورنو يتبع هذا المنطق نفسه، وإن كان تمثيل المثقف تمثيلًا صادمًا أمينًا، بعد أوشفيتز وهيروشيما، وبداية الحرب الباردة، وانتصار أمريكا، قد أصبح يتطلَّب طرائق أشدَّ التواءً وتعقيدًا مما فعله تورجنييف بشخصية بازاروف قبل ذلك بمائة عام.

وجوهر تمثيل أدورنو للمثقف باعتباره في منفًى دائم، وباعتباره قادرًا على تفادي القديم والتملُّص من الجديد بالبراعة نفسها، هو أسلوب في الكتابة يتميز بالتصنُّع والتكلُّف والتنقيح الشديد، فهو كما وصفته من قَبل يُقدِّم شذراتٍ متقطعة غير مُتصلة، أو هو بالمصطلح الحديث شَظَوِي، فليس في الكتاب «حبكة» أو نظام مُسبق يمكن للقارئ الاهتداء به … وهو يُمثل وعيَ المثقف الذي لا يستطيع أن يركن فيطمئنَّ إلى أي مكان، والحذِر دائمًا من الخضوع لمداهنات النجاح، وكان هذا يعني بالنسبة لأدورنو العنيد المُشاكس أن يحاول عامدًا ألَّا يفهمه أحدٌ بسهولة وعلى الفور، بل إنه من المُحال أيضًا على المثقف أن ينسحِب فيقتصِر على حياته الخاصة تمامًا، إذ يقول أدورنو، بعد سنواتٍ طويلة، إنَّ الأمل الذي يحدو المثقف لا يتمثَّل في أن يؤثر في العالَم، بل أن يجيء شخصٌ ما، يومًا ما، في مكانٍ ما، فيقرأ ما كتبه دون زيادةٍ أو نقصان.

وتُقدِّم إحدى شذرات كتاب «الحدود الخلقية الدنيا»، وهي رقم ١٨، مغزى المَنفى في صورةٍ محكمة؛ إذ يقول أدورنو فيها إن «الإقامة بالمعنى الصحيح أصبحت مُحالة، فأماكن الإقامة التقليدية التي نشأنا فيها أصبحت لا تُحتمَل، فكلُّ سبيلٍ من سبل الراحة فيها يُدفَع ثمنُه بخيانة المعرفة، وكل أثرٍ باق للمأوى يُدفَع ثمنه تعاقدًا حقيرًا يقوم على مصالح الأسرة.» ويكفي هذا فيما يتعلق بحياة الناس قبل الحرب، وهم الذين بلغوا أشُدَّهُم قبل النازية، ولكن الاشتراكية والنزعة الاستهلاكية الأمريكية ليستا أفضل من ذلك، «فالناس هناك تُقيم في الأزقَّة القذِرة، وإن لم يكن ففي منازل من طابقٍ واحد، قد تتحوَّل غدًا إلى أكواخٍ من أوراق الأشجار، أو مقطورات سيارات، أو مُخيمات، أو الهواء الطلق.» «وهكذا» — كما يقول أدورنو: «فالمنزل ينتمي للماضي (أي انتهى عهده) … وأفضل طريق للسلوك، إزاء هذا كله، لا يزال، فيما يبدو، يتمثَّل في عدم الالتزام، في التوقُّف … ومن ثَمَّ تقضي الأخلاق، فيما تقضي به، بأن لا يحسَّ الإنسان براحة الوجود في البيت وهو في منزله نفسه.»

لكنه ما إن يصِل أدورنو إلى هذه النتيجة الظاهرة حتى يعكسها قائلًا: «ولكن القضية في هذه المفارقة تؤدي إلى الدمار، أي إلى تجاهلٍ عارٍ من الحُب للأشياء، وهو التجاهُل الذي يُصبح حتمًا تجاهلًا للناس أيضًا. وأما نقيض هذه القضية، فما إن ينطق به حتى يُصبح أيديولوجية لأصحاب الضمائر الفاسدة الذين يرغبون في الحفاظ على ما في أيمانهم: من المُحالِ أن يعيش المرء حياة خاطئة بأسلوب صحيح.»١
وبعبارة أخرى يقول أدورنو إنه لا يلوح أيُّ مهربٍ أو مفرٍّ حقيقي، حتى للمنفِيِّ الذي يحاول إيقاف (أو تعليق) مسار حياته؛ إذ إن حالة «البيْن بيْن» المُشار إليها يمكن أن تُصبح هي نفسها موقفًا أيديولوجيًّا يتَّسِم بالجمود، أو ضربًا من «الإقامة» التي يُغطي مرور الزمن طابع زيفها، وما أيسر أن يعتادها المرء فيقبلها، ولكن أدورنو يُواصِل حديثه قائلًا «إن التحرِّي من باب الريبة ناجعٌ في كل حالة.» خصوصًا حين يتعلق الأمر بما يكتبه المثقف. «فالإنسان الذي لم يعد له وطن، يتَّخذ من الكتابة وطنًا يُقيم فيه.» ومع ذلك — وهذه هي لمسة أدورنو الأخيرة — لا ينبغي التراخي في «تحليل الذات» تحليلًا صارمًا:
إن مطلب اكتساب الصلابة التي تحول دون إشفاق المرء على نفسه، يعني ضمنًا — وعمليًّا — ضرورةَ مواجهة أيِّ تراخٍ للتوتر الفكري مواجهةً تتَّسِم بأقصى درجات اليقظة، والقضاء على كلِّ ما يبدأ في تغطية العمل (أو الكتابة) أو في الانسياق بلا عملٍ في التيار، وقد يكون قد أتى بفائدة، في فترةٍ سابقة، باعتباره ثرثرة، في توليد دفء الجو اللازم للنمو، لكنه قد تُرك الآن بعد أن أصبح سخيفًا ومُملًّا. وفي النهاية لا يسمح للكاتب أن يعيش في كتابته.٢

هذه هي النظرة القاتمة التي تنمُّ عن صلابة الموقف، وهما ممَّا يتميَّز به أدورنو؛ إذ إن أدورنو باعتباره مُثقفًا منفيًّا هنا يصبُّ السخرية صبًّا وهو يتهكَّم من القول بأن العمل الذي يؤديه المرء قادر على توفير بعض الرِّضا، وهو نمَط بديل من أنماط العيش قد يُمثل تسريةً طفيفة عن القلق والهامشية اللذَين يقترنان بانعدام «الإقامة» انعدامًا كاملًا، ولكن أدورنو لا يتحدَّث عن بعض المسرَّات الحقيقية للمنفِيِّ، أي تلك «الترتيبات» المختلفة للعيش والزوايا الغريبة للرؤية التي قد يُوفِّرها المنفى أحيانًا، وهي التي تبث الحياة في رسالة المثقف وعمله، وإن كانت قد تعجز عن تخفيف حدَّة كلِّ توترٍ أو كل إحساسٍ بالعزلة المريرة، وهكذا فإذا كان صحيحًا أن «المَنفَى» هو الحال التي يتَّسم بها كل مُثقف باعتباره إنسانًا هامشيًّا، مُستبعدًا من أطايب العيش التي تأتي بها الامتيازات والسلطة والإحساس براحة الانتماء، (إن صحَّ هذا التعبير) فعلينا — وهذا بالِغ الأهمية — أن نؤكد أن تلك الحال تأتي أيضًا بفوائد مُعينة — نعم، بل بمزايا مُعينة، فإذا كنتَ محرومًا من الحصول على الجوائز أو من الاحتفاء بك في جماعات أو جمعيات التكريم التي يُهنئ أفرادها بعضهم بعضًا ودائمًا ما تَستبعِد مُثيري المتاعب والحرج الذين لا يلتزمون بسياسة الحزب، فإنك تستقي فعلًا، وفي الوقت نفسه، بعض الإيجابيات من النفي والهامشية.

وتتمثَّل إحدى هذه الإيجابيات، بطبيعة الحال، في المُتعة التي تجِدها في الدهشة، وفي عدم التسليم بشيء، وفي أن تتعلَّم كيف تتصرَّف تصرُّفًا معقولًا في ظروف القلقلة والبلبلة التي قد تُرْبِك أو تُفزِع الآخرين. فالمدار الأساسيُّ لحياة المُثقف يتمثَّل في المعرفة والحرية، ولكن هاتَين لا تكتسِبان معناهما باعتبارهما من التجريدات — على نحو ما نرى في المقولة المُبتذلة إلى حدٍّ ما «لا بدَّ أن تحصل على تعليم راقٍ حتى تعيش مُرفَّهًا»، — بل باعتبارهما خبراتٍ فعلية يمرُّ بها الإنسان في حياته، فالمُثقف يُشبه الملَّاح الذي تحطَّمت سفينته فتعلَّم أن يعيش، بمعنًى من هذه المعاني، «مع الأرض» لا «فوقها»، أي إنه لا يُشبه روبنسون كروسو الذي كان هدفه هو استعمار جزيرته الصغيرة، بل هو أشبه بالرحَّالة ماركو بولو، الذي لم يُفارقه قطُّ إحساسه بالدهشة والعجب، فهو دائمًا راحلٌ من مكانٍ إلى مكان، قد ينزل ضيفًا على أحدٍ إن استضافه، لكنه ليس طُفيليًّا ولا فاتحًا ولا غازيًا.

ولمَّا كان المُقيم في المنفى يرى ما حوله من منظور ما خلَّفه وراءه وما هو ماثل أمامه الآن هنا، فإنه يتمتَّع بمنظورٍ مزدوج يمنعه من أن ينظر إلى شيءٍ ما في عُزلة عن غيره من الأشياء، فكل مشهدٍ أو موقفٍ في البلد الجديد يستمدُّ معنًى ما، بالضرورة، من نظيرٍ له في البلد القديم. ومعنى هذا فكريًّا وثقافيًّا، أن أيَّ فكرةٍ أو خبرة دائمًا ما تُوازنها فكرة أو خبرةٌ أخرى، بحيث تبدو الاثنتان أحيانًا في ضوءٍ جديد ولا يُمكن التكهُّن به: ومِن تجاور هذه وتلك يحصُل المثقف على رؤيةٍ تهديه (وهي رؤية أفضل وقد تكون أقرب إلى الشمول والعالمية) إلى سُبل التفكير في بعض القضايا، فقد يُناقِش إحدى قضايا حقوق الإنسان بمقارنتها بغيرها. ولقد رأيتُ أن مُعظم المناقشات التي تُعبر عن الفزع وتدعو إليه، والتي تشوبها عيوب عميقة، لقضية الأصولية الإسلامية، في الغرب، لم تؤدِّ إلى تلك الأحقاد والضغائن الفكرية إلَّا لأنها لم تُقارَن بالأصولية اليهودية أو المسيحية، وكل منهما سائد ومُستهجن مثل الأصولية الإسلامية، وفقًا لخبرتي الشخصية بالشرق الأوسط. فإن ما اعتاد الناس اعتبارَه قضيةً بسيطة، تنحصر في إصدار الحُكم على عدوٍّ مُتَّفق عليه، تتغير صورته بفضل المنظور المُزدوَج أو منظور المَنفى، بحيث تدفع المثقف الغربي إلى مشاهدة صورةٍ أوسع نطاقًا بكثير، وتفرض على المُراقِب الآن أن يتَّخذ موقفًا مُوحَّدًا، من مُنطلَقٍ علمانيٍّ (أو غير علماني) إزاء جميع الاتجاهات الدينية، لا إزاء الاتجاهات التي يتَّفق العُرف عليها وحسب.

وهاك مزيَّة ثانية لموقف المثقف من زاوية المنفَى، في الواقع، وهي أنك أقرب إلى أن تُبصِر الأمور لا في وضعها الراهن فحسب، بل أيضًا من حيث تَحوِّلها إلى ما آلت إليه؛ أي إنك تنظُر إلى الأوضاع باعتبارها مشروطةً لا محتومة، أي تنظُر إليها باعتبارها نتيجةً لسلسلةٍ من الخيارات التاريخية التي اتَّخذها البشر رجالًا ونساءً، وباعتبارها حقائق اجتماعية صاغها أبناء البشر، لا باعتبارها طبيعيةً أو قدَّرها الله سبحانه فهي لذلك لا يُمكن تغييرها أو الرجوع عنها، بمعنى أنها ثابتة سرمدية.

والنموذج الأول والعظيم لهذا الموقف الفكري عند المُثقف يُقدِّمه إلينا فيلسوف إيطالي من أبناء القرن الثامن عشر، وهو جامباتستا فيكو، وهو الذي طالما أُعجِبتُ به إعجابًا شديدًا. وأما الاكتشاف العظيم الذي جاء به فيكو فيرجِع إلى حدٍّ ما إلى إحساسه بالعُزلة باعتباره أستاذًا جامعيًّا مغمورًا في مدينة نابولي، يُجاهد بشقِّ النفس للبقاء في قيد الحياة، وعلى خلافٍ مع الكنيسة والبيئة المُحيطة به مباشرة، وهذا الاكتشاف هو أن الطريق الصحيح لتفهُّم الواقع الاجتماعي هو أن نُدرك أنه يُمثل تحوُّلاتٍ مُستمرةً نشأت من مصدرٍ مُعين، ونستطيع دائمًا أن نرصد هذا المصدر في بعض الظروف البالِغة التواضُع عادةً، ويقول فيكو في كتابه العظيم «العِلم الجديد»: إن معنى هذا رؤية الأمور باعتبارها قد تطوَّرَت ونشأت من بداياتٍ مُحدَّدة، مثلما ينمو الإنسان البالِغ ويمرُّ بأطوارٍ مختلفة منذ طفولته الأولى.

ويُقيم فيكو الحُجَّة على أنَّ هذه النظرة هي التي ينبغي علينا اتِّخاذها دون غيرها إلى العالَم الدنيوي، وهو يؤكد مِرارًا وتكرارًا أنه عالَمٌ تاريخيٌّ، تحكُمه قوانينُه الخاصة وتحوُّلاته الخاصة، وليس ممَّا قدَّره البارئ جلَّ وعلا وكتَبَه على الإنسان. وهذا يقتضي أو يستتبع نظرة احترامٍ وتأمُّلٍ للمجتمع البشرى، لا نظرة تبجيل وتقديس، انظر إذن إلى أجلِّ القوى من حيث بداياتها، ومن حيث يكون مصيرها، ولن تُصيبك الرهبة من الشخصيات المهيبة، أو المؤسَّسة الجليلة التي تفرض على ابن البلد الصمتَ والخضوع في ذهولٍ لروعتها، ما دام قد اقتصر دائمًا على مشاهدة الجلال (وتبجيله من ثَمَّ) دون أن يُدرك الأصول البشرية، المُتواضِعة حتمًا التي نشأت منها تلك المؤسَّسة. إن المثقف الذي يعيش في المنفى نزَّاع بالضرورة إلى السخرية والشك بل وإلى الهزل والمرح، ولكنه لا يستخفُّ بشيءٍ ولا يعرف اللامبالاة.

وأخيرًا، وكما يعرف ويؤكد كُلُّ مَنفِيٍّ حقيقي، فإنك حين تُغادر وطنك فمهما يكُن المكان الذي تنتهي إليه، تجد أنك لا تستطيع ببساطةٍ أن تستأنف حياتك وتُصبح مجرد مواطنٍ آخر في المكان الجديد، أما إذا فعلتَ ذلك فسوف تجد أن جُهدك يتضمَّن قدرًا كبيرًا من العُسر والحرج، وهو ثمن أكبر من المَرمى المنشود. قد تقضي وقتًا طويلًا في الأسف على ما فقدت، وقد تحسد الذين من حولك على أنهم ظلُّوا يعيشون دائمًا في وطنهم، مع أحبابهم مُقيمين في المكان الذي وُلِدوا وترعرعوا فيه، دون أن يُضطرُّوا يومًا ما إلى معرفة مذاق فقدان ما كان ينتمي لهم يومًا ما، قد تستطيع أن تكون من «المبتدئين» في ظروفك الخاصة، كما قال ريلكه يومًا ما، وهو ما يسمح لك بأسلوب حياةٍ غير تقليدي، وقبل ذلك وبعدَه قد يُتيح لك حياةً عملية مختلفة، كثيرًا ما تكون بالِغة الغرابة.

والنزوح إلى المنفى يعني للمُثقَّف التحرُّر من حياته العملية المعتادة وهي التي لا تزيد معالمها الأساسية عن «النجاح» واتباع الخُطى التي اكتسبت إجلالًا لقِدَمِها. والمنفَى يعني أنك ستظلُّ هامشيًّا على الدوام، وأن ما سوف تنجزه باعتبارك مثقَّفًا لا بد أن تبتكِره بنفسك لأنك لا تستطيع اتباع سبيلٍ «مُقرَّر» سلفًا، فإذا استطعتَ أن تُواجِه هذا المصير وتخوضه لا باعتباره حرمانًا وشيئًا تبكي عليه وتندُبه، بل باعتباره لونًا من ألوان الحُرية، وكجهدٍ استكشافي تفعل فيه ما تفعل وفقًا للنسَق الذي تضعه بنفسك إزاء الاهتمامات المختلفة التي تشغل بالك، وحسبما يُملي الهدف الخاص الذي وضعتَه لنفسك، فسوف تجد في ذلك متعةً فريدة. ولك أن تجد مِثالًا على هذا في ملحمة س. ل. ر. جيمز كاتب المقالات والمؤرِّخ الترينيدادي الذي جاء إلى إنجلترا باعتباره لاعبًا للعبة الكريكيت في فترة ما بين الحربَين، والذي تُعتبَر سيرته الذاتية الفكرية، وعنوانها «خارج أحد الحدود» وصفًا لخبرته وحياته مع هذه اللعبة، ووصفًا لأحوال اللعبة نفسها في ظلِّ الاستعمار. ومن مؤلَّفاته الأخرى «اليعاقبة السود» (ويُقصَد باليعقوبية النزعة الجمهورية والديموقراطية المُتطرفة) وهي رواية مُثيرة تروي تاريخ ثورة العبيد السود في هايتي بقيادة توسان الفاتح (١٧٤٣–١٨٠٣م) (واسمه الأصلي ببتر فرانسوا دومينيك توسان)، هذا إلي جانب كونه خطيبًا ورائدًا للتنظيم السياسي في أمريكا، كما كتب دراسةً عن أحد أعمال الروائي هيرمان ملفيل وعنوانها «ملَّاحون ومُرتدُّون ومَنبُوذُون»‏ وشتَّى الكتب عن القومية الأفريقية،‏ ‏وعشرات المقالات عن الثقافة الشعبية والأدب، وكان غريب الأطوار في حياته العملية، التي كانت مُزعزعة مُضطربة، وأبعد ما تكون عما نصفه اليوم بالحياة العملية المهنية، ومع ذلك فما أجمل ما نجِد لدَيه من حيوية فيَّاضة وترحالٍ لا ينتهي لاستكناه الذات.

قد لا يستطيع مُعظمنا أن يُحاكي حياة أهل المنفَى مثل أدورنو أو س. ل. ر. جيمز، ولكن دلالة هذه الحياة بالِغة الأهمية ‏للمثقفين المُعاصِرين، إن المنفيَّ نموذج للمثقف الذي يُواجه إغراء التكيُّف، ونهج الموافقة والاستقرار، ويشعُر بأنه محاصَر ويكاد أن يستسلِم للفوائد التي يجلبها هذا وذاك. وحتى لو لم يكن المثقف مُهاجرًا حقيقيًّا أو مُغتربًا في الواقع، فإن بإمكانه مع ذلك أن يفكر كأنه كذلك، وأن يتخيَّل ويبحث ويستقصي على الرغم من الحواجز، وأن يسير دائمًا في الطريق الذي يبتعِد به عن السلطات المركزية ويقترب به من الهوامش؛ فهناك تستطيع أن ترى الأشياء التي عادة ما لا تُدركها العقول التي لم تبتعِد يومًا عن كلِّ ما هو تقليدي و«مريح».

إن حالة الهامشية التي قد تنم، فيما يبدو، عن عدَم إدراك المسئولية أو عن الرعونة، تُحرِّرك من اضطرارك إلى الحذَر في كل خُطوةٍ تخطوها، خشية أن تفسد الأمور، ومن أن تقلقَ من احتمال إغضاب زملائك العامِلين في المؤسسة نفسها. وبطبيعة الحال لا يتمتَّع أحد بالحُرية الكاملة من الارتباطات أو العواطف، ‏بل ولا أقصد هنا من يُسمَّى المُثقف المُتنقِّل، أي صاحب المقدرة التقنية الذي قد يشتريه أو يستأجِره أيُّ شخص، ولكنني أقول إن اتخاذ المُثقف موقفًا هامشيًّا وغير «مُستوعَبٍ» في بيئته مثل الذي يُقيم فعليًّا في المنفى، معناه أن يستجيب استجابةً فذة إلى «العابر» لا إلى صاحب السلطان، وإلى ما هو مؤقَّت ويتضمَّن المخاطرة لا إلى ما هو معتاد مألوف، وإلى التجديد والتجريب لا إلى الوضع الراهن الذي تُمليه السلطة. إن المثقف الذي يدفعه إحساس المنفَى لا يستجيب إلى منطق ما هو تقليدي عُرفي، بل إلى شجاعة التجاسُر، وإلى تمثيل التغيير، والتقدُّم إلى الأمام لا إلى الثبات دون حركة.

١  Theodore Adorno, Minima Moralia: Reflections from Damaged Life, trans. E.F.N. Jephcott (London: New Left Books, 1951), pp. 38-39.
٢  Ibid., p. 87.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤