الفصل الرابع

مُحترفون وهواة

في عام ١٩٧٩م نشر المفكر الفرنسي ريجيس ديبراي، المعروف بالحذق وتعدُّد المواهب، كتابًا يتضمن تحليلًا عميقًا للحياة الثقافية الفرنسية بعنوان «مُعلِّمون وكُتَّاب ومشاهير: المُثقفون في فرنسا الحديثة».١ وكان ديبراي نفسه ذات يومٍ من دُعاة الاتجاه اليساري المُلتزِمين التزامًا جادًّا بقضيتهم، وشغَل منصب أستاذٍ في جامعة هافانا بُعَيد الثورة الكوبية عام ١٩٥٨م، وبعد عدة سنوات، حكمت عليه السلطات البوليفية بالسجن ثلاثين سنة، بسبب ارتباطه بالزعيم الثَّوري تشي جيفارا، لكنه لم يقضِ من مدة العقوبة إلا ثلاث سنوات. وعندما عاد إلى فرنسا أصبح ديبراي مُحللًا سياسيًّا شِبه أكاديمي، ثم أصبح في وقتٍ لاحق مُستشارًا للرئيس ميتران، وهكذا كان في موقعٍ فريد مكَّنه من تفهُّم العلاقة بين الأفراد والمؤسَّسات، وهي علاقة لا تتَّسِم بالثبات قط، بل هي تتطوَّر باستمرارٍ وأحيانا ما تكون مُعقدة إلى حدٍّ يبعَث على الدهشة.
والفكرة التي يطرحها ديبراي في هذا الكتاب هي أن المثقفين الباريسيين كانوا ما بين عام ١٨٨٠م و١٩٣٠م مُرتبطين أساسًا بجامعة السوربون، قائلًا إنهم كانوا لاجئين علمانِيين يفرُّون من بطش الكنيسة والنزعة البونابارتية. وكان المثقف يحتمي بلقَب الأستاذ وعمله في المختبرات والمكتبات وقاعات الدرس، ويستطيع مِن موقعه ذاك أن يُحرز خطوات تَقدُّمٍ مُهمة في المعرفة الإنسانية. ولكن السوربون فقدت تدريجيًّا سُلطاتها بعد عام ١٩٣٠م؛ إذ انتقلت تلك السلطة إلى دُور النشر الجديدة مثل دار «نوفيل ريفي فرانسيز» وهي الدُّور التي وفَّرت مأوًى مُرحِّبًّا بهذه «الأسرة الروحية»، كما يُسمِّيها ديبراي، وكانت تضم أفراد الطبقة المُثقفة ومُحرري كتاباتهم. وكان بعض الكُتَّاب، مثل سارتر، وسيمون دي بوفوار، وألبير كامي، وفرانسوا مورياك، وأندريه جيد، وأندريه مالرو، يُمثلون هذه الطبقة المُثقفة التي حلَّت محلَّ فئة الأساتذة الجامعيين بسبب اتِّساع نِطاق عمل أفرادها وإيمانهم الراسخ بالحرية، ولُغتهم الفكرية التي كانت تحتلُّ «موقعًا وسطًا بين الوقار الكنسي الذي سبقَها وعلوِّ نبرة الإعلانات التجارية التي تلتها.»٢
وفي نحو عام ‎١٩٦٨م ترك مُعظم المثقفين «حظيرة» دُور النشر، وتقاطروا على أجهزة الإعلام الجماهيرية، فأصبحوا صحفيين، وضيوفًا ومُضيفين في برامج الإذاعة والتلفزيون، ومُستشارين، ومُديرين، وهلمَّ جرًّا. لم يقتصر الأمر على أن أصبح لهم جمهورٌ واسعٌ عريض، ولكن إنجاز حياة كل منهم باعتباره مُفكرًا أصبح يَعتمد على تقبُّل أو رفض المشاهدين والقراء والمُستمعين، أي أن يُحكَم له بالتفوُّق أو يُقضى عليه بالنسيان حسبما يُقرِّر هؤلاء «الآخرون» الذين أصبحوا جمهورًا مُستهلكًا مجهول الهوية في مكانٍ ما. ويقول ديبراي إن «أجهزة الإعلام الجماهيرية قد وسَّعت ساحة التلقي والاستقبال فقللت بذلك من مصادر الشرعية الفكرية، وأحاطت طبقة المثقفين المحترفين، التي تُعتبَر المصدر الكلاسيكي للشرعية، بدوائر مُتداخلة أوسَع، ولكن مطالبها أقلَّ، وهو ما يجعل استمالتها أيسر وأقرب … أي إن أجهزة الإعلام الجماهيرية قد حطَّمت أسوار حظيرة الطبقة المُثقفة التقليدية، وحطمت معها معايير التقييم الخاصة بها، وميزان قِيَمها.»٣

والذي يتحدث عنه ديبراي وضع يكاد يقتصر تمامًا على الوضع المحلي في فرنسا وهو الذي نشأ نتيجة صراعٍ بين القوى العلمانية والإمبراطورية والكنسية في ذلك المجتمع منذ أيام نابليون. ولذلك فليس من المُحتمَل إطلاقًا أن تنطبق الصورة التي يرسمها لفرنسا على غيرها من البلدان، فالجامعات الكبرى في بريطانيا مثلًا لم تكن قبل الحرب العالمية الثانية في وضعٍ ينطبق عليه ما يقوله ديبراي، بل إن أساتذة أوكسفورد وكمبريدج أنفسهم لم يكونوا معروفين في الحياة العامة باعتبارهم مُفكرين بالمعنى الفرنسي. وعلى الرغم من قوة دور النشر البريطانية ونفوذها، فيما بين الحربَين العالميتَين، فإنها لم تكن تُمثل، هي ومؤلفوها، الأسرة الروحية التي يتحدث عنها ديبراي في فرنسا. ومع ذلك فإن القضية العامة صحيحة؛ أي إن مجموعات من الأفراد تنحاز إلى مؤسساتٍ مُعينة وتستمدُّ قوَّتها وسُلطتها من هذه المؤسسات. ولما كانت المؤسَّسات قد يصعد نجمُها فيسطَع أو يَخبو فيَأفِل، كذلك حال «المثقفين المُنسقين» التابِعين لها، إذا استعرْنا عبارة أنطونيو جرامشي التي استخدمها في وصفهم، فهي عبارة مُفيدة.

ولا يزال التساؤل قائمًا عن وجود المُفكر أو المُثقف المُستقل، أو مَن يُمكن إطلاق هذا الوصف عليه، وأعني به من يعمل بذاته ولذاته، أي إنه شخصٌ لا يتقيَّد بما يدين له من فضلٍ إلى ما يربطه بالجامعات التي تدفع الرواتب، أو الأحزاب السياسية التي تطلُب الولاء للخط السياسي للحزب، أو هيئات المُستشارين التي تُتيح حرية إجراء البحوث ولكنها، بأساليب ذات دهاءٍ وحذق، تَصبغ أحكامهم بالصبغة التي تُريدها وتفرض القيود على الصوت الذي يُحاول الانتقاد. وكما يقول ديبراي، ما إن تتسع دائرة المثقف إلى ما يتجاوز غيره من المُثقفين — وبعبارةٍ أخرى، عندما يحلُّ القلق على إرضاء جمهورٍ ما أو صاحب عملٍ ما، محل الاعتماد على المثقفين الآخرين في المناظرة والحكم — حتى تتضرَّر رسالة المثقف … قد لا يؤدي ذلك إلى إلغائها، ولكنه قطعًا يعوقها.

ونعود الآن من جديدٍ إلى المحور الرئيسي لمحاضراتي وهو رسم الصورة التي تُمثل المثقف. عندما يخطر ببالنا المثقف الفرد — والفرد هو مدار اهتمامي الرئيسي هنا — ترانا نُركز على فردية الشخص في رسْم صورته، رجلًا كان أو امرأة، أم ترانا نُركز على المجموعة أو الطبقة التي ينتمي إليها الفرد؟ إن الإجابة على هذا السؤال تؤثر، بوضوحٍ وجلاء، في توقعاتنا لِما يكون عليه خطاب المُثقف لنا: هل الذي نقرؤه أو نسمعه رأيٌ مُستقل، أم يُمثل حكومةً من الحكومات، أم قضيةً سياسية ذات «تنظيم» مُعين، أم جماعة من جماعات الضغط واستمالة الآراء؟ كانت الصور التي تمثل المثقف في القرن التاسع عشر تميل إلى تأكيد فرديته، وكونه في أغلب الأحيان مثل شخصية بازاروف التي رسمَها تورجنييف، أو شخصية ستيفن ديدالوس التي رسمها جيمز جويس، شخصًا منعزلًا، عزوفًا عن الناس إلي حدِّ ما، لا يوافق مُجتمعه على الإطلاق، ومِن ثَم فهو مُتمرد يدور تمامًا خارج فلك الرأي السائد. وإزاء ما شهِده القرن العشرون من زيادة أعداد المجموعة العامة التي تُسمَّى المثقفين أو «الإنتليجنسيا» — مثل المُديرين والأساتذة والصحفيين وخبراء الكمبيوتر والخبراء الحكوميين، وأعضاء جماعات الضغط، وكبار العلماء، وأصحاب الأعمدة الصحفية المُستقلين، والمُستشارين الذين يتقاضَون أجورًا في مقابل إبداء آرائهم — لا يَسعُنا إلا أن نتساءل إذا ما كان يمكن للمُثقف الفرد باعتباره صوتًا مُستقلًّا أن يُوجَد على الإطلاق.

هذه مسألة بالِغة الأهمية وعلينا أن ننظُر فيها بمزيج من الواقعية والمثالية، ولكن دون أدنى سخريةٍ أو لامبالاة. ويقول أوسكار وايلد إن الساخر الذي لا يُبالي حقًّا، هو من يعرف ثمن كل شيءٍ ولا يعرف لأي شيءٍ قيمة. وهكذا فإن اتهام جميع المُثقفين بأنهم «يبيعون» أنفسهم لمجرد أنهم يكسبون رزقهم بالعمل في جامعةٍ أو صحيفة، اتهامٌ فظٌّ غليظ ولا معنى له في النهاية، بل إن سخرية اللامبالاة قد تزيد على الحدِّ فتدفع المرء، دون تمييز، إلى القول بأن العالم قد بلغ درجةً من الفساد جعلت كلَّ فردٍ فيه يخضع لربِّ المال. وفي المُقابل أرى ما لا يقلُّ خطورةً عن ذلك وهو القول بأن المُثقف الفرد هو المَثَل الكامل، أي إنه الفارس المُعلم الذي بلغ نقاؤه ونبلُه حدًّا يجعلنا ننفي عنه أي اشتباهٍ في الاهتمام بالمصلحة المادية. هذا اختبار من المُحال أن يجتازه أحد، حتى ولا ستيفن ديدالوس الذي صوَّره جيمز جويس، والذي ازداد نقاؤه وازدادت مِثاليته العنيفة حتى أقعدَتْهُ في النهاية عن العمل، بل أدَّت إلى ما هو أسوأ، ألا وهو خلوده إلى الصمت.

الواقع هو أن على المُثقف ألا يكون شخصًا مأمونًا ولا خلافَ عليه إلى الحدِّ الذي يجعلنا نراه في صورة «الفني» أو «التقني» الودود، ويجب أيضًا ألا يُحاول المثقف أن يتحوَّل إلى مُتنبئٍ مُتفرغ مثل كاساندرا التي كانت تُثير الاستياء لإفصاحها عن الحقيقة، بل ولم يسمعها أحد، فكل إنسانٍ يعيش في مجتمع، والمجتمع هو الذي يكبح جماح الإنسان، مهما تبلُغ درجة تحرُّر المجتمع وانفتاحه، ومهما يكن الفرد بوهيميًّا. وعلى أية حال فالمُفترض أن يُسمِع المثقف صوته للناس، وعليه في الواقع أن يُثير المناقشات وكذلك — إذا أمكن — الخلافات، ولكن البدائل لا تتمثَّل في الخمود الكامل أو في التمرُّد الكامل.

‏ففي أواخر أيام حكم الرئيس ريجان، نشر أحد المثقفين الأمريكيين من أنصار اليسار المتمرد، ويُدعى راسل جاكوبي، كتابًا أثار مناقشاتٍ كثيرة، كان معظمها مناصرًا للكتاب. كان عنوان الكتاب «آخر المُثقفين»، وفيه يُقيم الحجة على قضيةٍ لا يمكن الطعن فيها تقول إن «المُثقف غير الأكاديمي» قد اختفى تمامًا في الولايات المتحدة، ولم يترك في مكانه إلا عصبةً من أساتذة الجامعات الجُبناء المُثقلين بالرطانة، والذين لا يبدي أحد في المجتمع اهتمامًا كبيرًا بهم.٤ وأما النماذج التي يأتي بها جاكوبي للمُثقف في الزمن الغابر فتتضمَّن أسماء عدة أشخاصٍ كان معظمهم يُقيم في قرية جرينتش (الموازي المحلي للحي اللاتيني في باريس) في وقتٍ مبكر من القرن العشرين، وكان يُطلَق عليهم اسم عام هو مثقفو نيويورك. وكان معظمهم يهودًا ويساريين (وإن كان أغلبهم مُعاديًا للشيوعية) كما نجحوا في كسب رزقهم بأقلامهم. وكان من الشخصيات في الجيل الأول إدموند ويلسون، وجين جاكوبز، ولويس ممفورد، ودوايت مكدونالد. وأما نظراؤهم في الجيل التالي فكانوا فيليب راف‎، وألفريد كازين، وإيرفنج هاو، وسوزان سونتاج، ودانيل بل، ووليم باريت، ‏وليونيل تريلنج. ويقول جاكوبي إن عدد أمثال هؤلاء قد تضاءل بسبب شتَّى القوى الاجتماعية والسياسية في فترة ما بعد الحرب، مثل الهجرة إلى الضواحي (إذ يؤكد جاكوبي أن المثقف من أبناء المدن)، ومظاهر انعدام الإحساس بالمسئولية لدى أفراد ما يُسمَّى بجيل التمرد، وهم الذين حملوا لواء «التسرُّب» من التعليم والفرار من المواقع «المخصصة» لهم في الحياة؛ والتوسُّع في التعليم الجامعي؛ وتدفق أفراد الاتجاه اليساري المُستقل من الأمريكيين على «الحرم الجامعي».
والنتيجة أن أصبح المثقف اليوم، على الأرجح، أستاذًا للأدب يعيش منعزلًا في خلوته، ويتمتع بدخلٍ مضمون، ولا يهتم بالتعامُل مع العالم خارج قاعة الدرس. ويزعم جاكوبي أن أمثال هؤلاء الأفراد يكتبون نثرًا خَفِيَّ الدلالات ويتَّصِف بالهمجية وهدفه الأول هو الترقِّي في المناصب الجامعية لا التغيير الاجتماعي. ويقول إنه لمح في غضون ذلك سطوع نجم أصحاب الحركة التي أطلق عليها «حركة المُحافظين الجدد» — وهم المثقفون الذين برزوا وذاع صِيتهم في أيام حُكم الرئيس ريجان، وإن كانوا في حالاتٍ كثيرة من اليساريين السابقين، وهم مثقفون مُستقلون مثل «المعلق الاجتماعي» إيرفنج كريستول والفيلسوف سيدني هوك — وقد أدَّى سطوع نجم هذه الحركة إلى ظهور عددٍ كبير من المجلات العلمية المتخصِّصة الجديدة التي تدعو إلى برنامج عمل اجتماعي يتَّسِم بالرجعية الصريحة، أو على الأقل بالطابع «المحافظ» (ويُشير جاكوبي إلى مجلة «ذا نيو وكرايتيريون» وهي ربع سنوية ويمينية متطرفة). ويقول جاكوبي إن هذه القوى كانت ولا تزال تعمل جاهدةً على خَطب ودِّ الكُتَّاب الشبَّان، وهم الذين قد يتولَّون «القيادة» الفكرية وقد يخلفون صفوف القدماء ويَحلُّون محلهم، ويضيف قائلًا إن مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» (مجلة نيويورك لمراجعة الكتب) وهي أشدُّ المجلات المُتحررة فكريًّا تمتعًا بذيوع الصيت في أمريكا، كانت في يومٍ من الأيام رائدةً في نشر الأفكار الجسورة التي يُعبر عنها الكتاب الراديكاليون الجدد، ولكن «سِجلها مؤسِف» الآن، إذ أصبحت في حُبها للإنجليز «أقرب إلى وجبات الشاي (والفطائر) في أوكسفورد منها إلى أطايب الأطعمة المحفوظة في نيويورك.» وينتهي جاكوبي إلى أن مجلة نيويورك «لم تُقدِّم الرعاية قط بل ولم تهتم قط بالمثقفين الأمريكيين الشبان، لقد ظلَّت تسحب المال من المصرف الثقافي دون أن تستثمر أيًّا منه، ولا بدَّ أن تعتمِد في عملها اليوم على رأس المال الثقافي المستورد، وبصفة أساسية من إنجلترا.» ويرجع كل هذا في رأيه، إلى حدٍّ ما، «لا إلى إغلاق المراكز الثقافية القديمة في المدن بل إلى إفلاسها.»٥

ويشير جاكوبي مرارًا إلى تصوُّره للمثقف، فيصِفه بأنه «مُستقل لا يمكن النَّيل من استقلاله، وأنه غير مسئول أمام أحد.» ويضيف إننا قد فقدنا الآن جيلًا كاملًا، حلَّ محلَّه «تقنيُّو» قاعات الدرس الذين يحسبون لكلِّ شيءٍ حسابًا، ومن المُحال فهمهم، والذين تستأجرهم اللجان، وهم حريصون على إرضاء شتَّى أصحاب العمل والوكالات، وهم مُدجَّجون بشهاداتٍ جامعية وسلطة اجتماعية لا تُشجع المناقشة بل تُرسِّخ ذيوع الصيت وتُخَوِّفُ غير الخبراء. إن الصورة التي يرسمها جاكوبي صورة قاتمة ولكن هل تتَّسِم بالدقة؟ هل هو مُصيب فيما يورده من أسبابٍ لاختفاء المُثقفين، وهل نستطيع أن نُقدِّم في الواقع تشخيصًا أدقَّ للحالة؟

أعتقد أولًا أنه من الخطأ أن نُثير الضغائن حول الجامعة، أو حتى حول الولايات المتحدة، فقد مرت بفرنسا، بُعَيْد الحرب العالمية الثانية، فترة قصيرة بدا فيها أن حفنةً من المثقفين البارزين، مثل سارتر وكامي وآرون ودي بوفوار يُمثلون الصورة الكلاسيكية — وإن لم تكن بالضرورة الصورة الحقيقية للمثقفين المُنحدِرين من «سلالة» النماذج الأولى العظيمة في القرن التاسع عشر (وإن كانوا كثيرًا ما يكتسون الطابع الأسطوري) مثل إرنست رينان وفيلهم فون همبولت. أما ما يغفل جاكوبي الحديث عنه فهو أن النشاط الفكري في القرن العشرين لم يكن شغله الشاغل ينحصر في المناقشة العامة والجدل الرفيع المستوى مثل ذلك الذي كان يدعو إليه جوليان بندا وربما كان يُمثله برتراند راسل وعددٌ غير كبير من مُثقفي نيويورك البوهيميين، ولكنه كان يتضمَّن النقد أيضًا والإعراب عن الاستياء، من خلال فضح «الأنبياء» الكاذبين وتقويض التقاليد البالية والأسماء التي اكتسبت صفة القداسة.

أضف إلى هذا أن المفكر لا يتناقض عمله على الإطلاق مع كونه أستاذًا في الجامعة أو حتى عازفًا للبيانو، فعازف البيانو الكندي اللامع جلين جولد (١٩٣٢–١٩٨٢م) كان فنانًا تُسجَّل معزوفاته، وتربطه عقود عمل بشركاتٍ كبيرة، طيلة حياته العملية، ولكن هذا لم يمنعه من الإتيان بتفسيراتٍ جديدة حطمت‎ بعض الأصنام في الموسيقى الكلاسيكية، إلى جانب ما قدَّمه من شروحٍ وتعليقات عليها، وكان له تأثيره الجبار في أساليب الأداء وطرائق الحُكم عليها. وعلى غرار ذلك كان لبعض المفكرين الأكاديميين — كالمؤرخين على سبيل المثال — الفضل في إعادة تشكيل تفكيرنا بصورةٍ كاملة بشأن كتابة التاريخ، وثبات التقاليد واستقرارها، ودور اللغة في المجتمع. ويخطر على البال هنا إريك هوبسبوم وأ. ب. طومسون في إنجلترا، أو هايدن هوايت في أمريكا، ولقد كُتب لعملهم أن يتَّسع نطاق تأثيره فيتجاوز الجامعة، وإن كان في معظمه قد نشأ وترعرع داخلها.

وأما القول بأن الولايات المُتحدة كانت مسئولةً بصفة خاصة عن إفساد طبيعة الحياة الفكرية، فلا يسَع المرءَ إلَّا الطعن فيه؛ إذ إننا، وحيثما قَلَّبنَا أبصارنا اليوم، وجدنا — حتى في فرنسا — أن صورة المُثقف أو المفكر لم تعُد تقتصر على البوهيمي أو فيلسوف المقهى، بل أصبحت صورةً مختلفة تمامًا، تُمثل ضروبًا كثيرة ومنوعة من المشاغل، بحيث تعدَّدت صُوَره واختلفت اختلافاتٍ جذرية. فكما أُشير في هذه المحاضرات، لا يُمثل المثقف صورةً ثابتة كالتمثال، ولكنه يُمثل رسالة فردية يحمِلها، وطاقة يبذُلها، وقوة عنيدة تشتبك (باعتبارها صوتًا ملتزمًا يسهل التعرُّف عليه في اللغة والمجتمع) مع عددٍ هائل من القضايا التي ترتبط جميعًا في نهاية الأمر بمزيج من التنوير والتحرُّر أو الحرية. والخطر الخاص الذي يتهدَّد المُثقف اليوم، سواء في الغرب أم في العالم غير الغربي، لا يتمثَّل في الجامعة، ولا في الضواحي، ولا في الطابع التجاري البغيض الذي اكتسبته الصحافة ودور النشر، ولكن في موقفٍ سوف أُطلِق عليه صفة الاحتراف المهني. وأعني بالاحتراف المهني أن تنظُر إلى عملك الثقافي باعتباره شيئًا تؤدِّيه لكسْب الرزق، ما بين التاسعة صباحًا والخامسة مساءً، وإحدى عينَيك على الساعة، والعين الأخرى مُصوَّبة نحو ما يعتبر السلوك المهني الصحيح؛ أي عدم «قلقلة المركب» وعدم الانفلات خارج النماذج أو الحدود المقبولة، وأن تجعل نفسك قابلًا للتسويق وقبل كلِّ شيءٍ لائق المظهر، ومِن ثَم تُصبح لا خلاف عليك، وتُصبح غير سياسي، بل تُصبح «موضوعيًّا».

فلنعُد إلى سارتر: إنه، وفي نفس اللحظة التي يُنادي فيها، فيما يبدو، بأن يتمتَّع كل رجلٍ (لا ذكر هنا للمرأة) بحُرية اختيار مصيره، يقول أيضًا إن الأوضاع أو الحالة — وهذه من كلمات سارتر المفضلة — قد تحُول دون الممارسة الكاملة لهذه الحرية. ويضيف سارتر: إنه من الخطأ، على الرغم من هذا، أن نقول إن البيئة والأوضاع هي التي تُحدِّد وحدَها مصير الكاتب أو المثقف؛ ‏فالواقع يقول بوجود حركةٍ دائبة فيما بينهما. وفي الكتاب الذي يُعبِّر فيه عن عقيدته باعتباره مُفكرًا، وهو «ما الأدب؟» المنشور عام ١٩٤٧م، يستخدم سارتر كلمة كاتب لا كلمة مُفكر أو مُثقف، ولكن الواضح هو أنه يتحدَّث عن دور المثقف في المجتمع، على نحو ما نرى في الفقرة التالية (المقصورة على الرجل):
إنني مؤلف، أولًا بسبب اعتزامي الحُر أن أكتُب. ولكن هذا يؤدي فورًا إلى أن أُصبح رجلًا يَعتبره غيره من الرجال كاتبًا، أي إن عليه أن يستجيب لمطلَبٍ مُعين، وأنه مُكلف بأداء وظيفةٍ اجتماعية مُعينة. ومهما تكن اللعبة التي يريد أن يلعبها، فعليه أن يلعبها على أساس الصورة التي تكوَّنت لدى الآخرين عنه، وقد يودُّ تعديل الطابع الذي ينسبه المرء إلى الأديب [أو المُثقف] في مجتمعٍ من المجتمعات، ولكنه لا يستطيع تغييره إلا إذا اكتسبه أولًا. ومِن ثَم، فإن الجمهور يتدخَّل، بعاداته، وبرؤيته للعالَم، وبمفهومه للمجتمع وللأدب في داخل المجتمع. إنه يُحيط بالكاتب، وهو يُطبِق عليه من كل جانب، ومَطالبه الغلَّابة أو التي يُوحي بدهاء بها، ومظاهر رفضه وانصرافه عنه، كلها تُمثِّل الحقائق المبدئية التي يمكن على أساسها بناء العمل.٦

لا يقول سارتر إن المفكر أو المُثقف في منزلة الفيلسوف الملك المُنعزل الذي يجب علينا أن نُبجِّله ونَعتبره مثلًا أعلى بهذه الصفة، بل يقول عكس ذلك — وهذا ما يغفل عنه المعاصرون الذين يتباكَون على اختفاء المُفكرين — أي إن المفكر يخضع دائمًا لمطالِب مُجتمعه، وكذلك للتعديلات الكبيرة في مكانة المُفكرين أو المُثقفين باعتبارهم جماعة مُتميزة. فمن ينتقِدون الساحة الراهنة، والذين يفترضون أن على المُثقف أن يتمتع بالسيادة، أو بضربٍ من السيطرة غير المحدودة على الحياة الخلقية والنفسية في مجتمعٍ من المجتمعات، يرفضون إدراك الطاقة الهائلة التي بُذِلت في مقاومة السلطة، بل في مُهاجمتها، في الآونة الأخيرة، وما أدى إليه ذلك من تغيرات جوهرية في تصوير المُثقف لنفسه.

ومجتمع اليوم لا يزال يُحيط بالكاتب ويُحاصره، وأحيانًا ما يُقدم إليه جوائز وفوائد، وكثيرًا ما يَحطُّ من قدر النشاط الفكري برمَّته أو يسخر منه، وغالبًا ما يُردِف المجتمعُ ذلك بذكر أن المُثقف الحقيقي عليه أن يقتصر على كونه خبيرًا مِهنيًّا في مجال تخصُّصه فقط. ولا أذكُر أن سارتر قال في يومٍ من الأيام إن على المُثقف أن يظلَّ خارج الجامعة بالضرورة، ولكن الذي قاله فعلًا هو: إن المُثقف لا تتوطَّد مكانته الفكرية مِثلما تتوطَّد حين يُحيط به المجتمع ويُحاصره ويُغريه بالوعد والوعيد بأن يتَّخذ هذه الصورة أو تلك، لأن عمل المُثقف أو المفكر لا يمكن بناؤه إلا إذا حدث هذا وعلى هذا الأساس. وهكذا فعندما رفض سارتر أن يتسلَّم جائزة نوبل عام ‎١٩٦٤م كان يُطبِّق مبادئه على وجه الدقة.

ما طبيعة هذه الضغوط اليوم؟ وكيف تتَّفق مع ما وصفتُه بروح الاحتراف المِهنيِّ؟ أودُّ أن أقتصر في مناقشتي على أربعة ضغوطٍ فقط، وهي التي أعتقد أنها تُمثل التحديَ الحقيقيَّ لبراعة المُثقف أو المُفكر وإرادته. ولا يتفرَّد مجتمع واحد بأحد هذه الضغوط دون غيرها. وأقول إنه من الممكن التغلُّب على كلٍّ منها، على الرغم من شيوعها وتغلغُلها، بما سوف أُسمِّيه «روح الهواية»، ألا وهي الرغبة في ألَّا تتمثَّل حوافز المُثقف أو المُفكر في الربح أو الفائدة المرجوة، بل في الحب وفي الاهتمام الذي لا ترتوي له غُلَّة في إطار الصورة الأكبر، أي في إقامة الروابط عبر الحدود والحواجز، وفي رفض التقيُّد الصارم بتخصُّصٍ أوحد، وفي الأفكار والقِيَم، على الرغم من القيود التي تفرضها المهنة.

أما أول هذه الضغوط فهو التخصُّص، فكلَّما ارتقى المرء في مَدارج النظام التعليمي اليوم، ازداد انحصاره في النطاق الضيق نسبيًّا لمجالٍ من مجالات المعرفة. ولا أعتقد أن أحدًا يستطيع أن يعترض على اكتساب المَقدرة والكفاءة في ذاته، ولكنه إذا أدَّى إلى إغفال النظر إلى كلِّ ما لا ينتمي إلى المجال المباشر للتخصُّص، ‏مثل شِعر الحب في أوائل العصر الفكتوري، وإلى التضحية بالثقافة العامة للمرء، اكتفاء بأقوال بعض الثقات والأفكار المُعتمَدة، فلن تكون الكفاءة التي تتَّصف بذلك جديرةً بالثمن المدفوع في مُقابلها.

ففي دراسة الأدب، على سبيل المثال، وهي مجال اهتمامي الخاص، أدَّى التخصُّص ويؤدي إلى زيادة تطبيق المنهج الشكلي التقني، وإلى تناقُصٍ مُستمر في الإحساس التاريخي بالتجارب والخبرات الحقيقية التي أدَّت إلى صياغة العمل الأدبي؛ فالتخصُّص يعني عدم رؤية الجهد الأوَّلي المبذول في بناء الفن أو المعرفة، ومن ثم فإنك، في هذه الحالة، تعجز عن النظر إلى المعرفة والفن باعتبارهما خياراتٍ وقرارات، وصور التزام وانحياز، بل تقتصر على النظر إليهما من خلال النظريات أو المنهجيات «غير الشخصية»، وما أكثر أن يؤدي التخصُّص في الأدب إلى استبعاد التاريخ أو الموسيقى، أو السياسة. وستجد أنك، حين تُصبح مُثقفًا تخصَّصتَ كل التخصُّص في الأدب، قد غدوتَ أيضًا أليفًا مُستأنَسًا تتقبَّل كل ما يسمح به الكبار المزعومون في هذا المجال. والتخصُّص أيضًا يقتُل الإحساس بالإثارة والاكتشاف، وهما عامِلان يدخُلان في تكوين كلِّ مُفكر، ومن المُحال اختزالهما أو التقليل من شأنهما. وفي نهاية المطاف يُمسي التخصُّص، على نحوِ ما أحسستُ طول عمري، كسلًا، بحيث تنتهي إلى أداء ما يأمُرك به الآخرون، لأن هذا هو تخصُّصك على أية حال.

وإذا كان التخصُّص لونًا من الضغوط العامة المُفيدة التي لا يخلو منها أي نظامٍ تعليمي في أي مكان، فإن «الخبرة» و«عبادة» الخبراء من حمَلَة الشهادات تُمثِّلان ضغوطًا خاصة في عالَم ما بعد الحرب. فإذا أردتَ أن تكون خبيرًا فلا بدَّ أن تحمِل شهادة من السلطات المُختصَّة؛ فهي التي تُلقِّنك اللغة الصحيحة التي تتكلَّمها، وكيف تستشهد بالثقات المُعترَف بهم، وكيف تحتفظ «بالمواقع» الصحيحة. ويصدُق هذا بصفةٍ خاصة حين يتعلَّق الأمر بمجالٍ حسَّاس أو مُربح من مجالات المعرفة (أو بمجال حسَّاس ومُربح معًا). ولقد ثارت مناقشات كثيرة في الآونة الأخيرة حول ما يُسمَّى «اللياقة الاجتماعية» (والمعنى الحرفي هو «الصحة السياسية»)، وهذا تعبير خبيث يُطلَق على الأكاديميين «الهومانيين» (أي أصحاب الفلسفة الإنسانية الدنيوية) الذين، على نحو ما يُقال مرارًا، لا يتميزون بالاستقلال الفكري بل يُخضعون تفكيرهم للمعايير التي رسَّختها عُصبة سِرية يَسارية، وهي المعايير التي يُفترَض أنها تتميز بالحساسية السافرة ضد العنصرية، أو التعصب لأحد الجنسَين، وما شابه ذلك، بدلًا من السماح للناس بأن يناقشوا ما يريدون بحُرية أو «بانفتاح» مُفترَض.

والحقيقة هي أن هذه الحملة ضد اللياقة الاجتماعية قد شنَّها أساسًا شتَّى المُحافظين وغيرهم من دُعاة قِيَم الأسرة. وعلى الرغم من أن بعض ما يقولونه جدير بالنظر — خصوصًا حين يُهاجمون الهراء الذي نَسمعه في أفواه الدجالِين والمُتصنِّعين — فإن حملتهم تتجاهل كل التجاهُل ذلك الاتِّساق المُدهش واللياقة الاجتماعية حيثما طرأ طارئ يتعلَّق مثلًا بالأمن العسكري أو الأمن القومي أو السياسات الخارجية والاقتصادية. ففي السنوات التالية مباشرة للحرب، على سبيل المثال، كان الموقف إزاء الاتحاد السوفييتي يتطلَّب منك أن تقبل ما وضعته الحرب الباردة من افتراضات، وأن الاتحاد السوفييتي يُمثل الشر الخالص، وهلمَّ جرًّا. وعلى امتداد فترةٍ أطول، قُل من منتصف الأربعينيات حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين، كان الموقف الرسمي الأمريكي يقول إن الحُرية في العالم الثالث لا تعني إلا التحرُّر من الشيوعية؛ وقد سادت هذه الفكرة دون أن يعترِض عليها أحدٌ تقريبًا، وصاحبَتْها الفكرة التي تولَّت تفصيل القول فيها، إلى ما لا نهاية، فِرَق من علماء الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والمُتخصِّصين في العلوم السياسية وفي الاقتصاد، وهي التي تقول بأن «التنمية» بريئة من الأيديولوجيا، وتستمدُّ أصولها من الغرب، وتتضمن الانطلاق الاقتصادي، والتحديث، ومُعاداة الشيوعية، والولاء من جانب بعض الزعماء السياسيين لأحلافٍ رسميَّة مع الولايات المتحدة.

وكثيرًا ما كانت هذه الآراء الخاصة بالدفاع والأمن تعني اتِّباع سياساتٍ إمبريالية للولايات المتحدة وبعض حلفائها مثل بريطانيا وفرنسا، وكانت هذه السياسات تتضمن مُناهَضة الثورات، والعداء المُستحكم لمشاعر الوطنية المحلية (إذ كان يُنظر إليها دائمًا باعتبارها ميَّالة إلى الشيوعية والاتحاد السوفييتي) وهو ما أدى إلى كوارث كبرى اتخذت شكلَ الحروب والغزوات الباهظة التكاليف (على نحو ما حدَث في فيتنام) والدعم المباشر للغزوات والمذابح (كالتي قام بها حلفاء الغرب مثل إندونيسيا والسلفادور وإسرائيل) وللنُّظم الحاكمة العميلة التي يتَّسِم اقتصادها بتشوُّهات بشِعة. وكان الاختلاف مع هذا كله يعني التدخُّل، في الواقع، في سوقٍ للخبراء، وهي السوق التي جهزتها الدولة لخدمة الجهود القومية. فإذا لم تكن، على سبيل المثال، مِن الذين تخصَّصوا في العلوم السياسية في الجامعات الأمريكية، وتُبدي الاحترام اللازم لنظرية التنمية والأمن القومي، وأردتَ أن تُعرِب عن رأيك، فلن يُصغي إليك أحد، وقد لا يُسمَح لك بالكلام في بعض الأحيان، بل وقد يُطعن فيما تقول استنادًا إلى أنك لستَ من ذوي الخبرة المُتخصِّصة.

والواقع أن «الخبرة المُتخصِّصة»، في نهاية المطاف، لا تتَّصل إلا بأَوهى الروابط، إن شِئنا دقةَ التعبير، بالمعرفة، فبعض الآراء التي أبداها نعوم تشومسكي عن الحرب الفيتنامية أوسعُ نطاقًا بكثير، وأدقُّ كثيرًا، مما كتبَه الخبراء من حاملي الشهادات. لكنه إذا كان تشومسكي قد تخطَّى في آرائه الأفكار الوطنية «الطقسية» — ومن بينها أننا «نحن» نُقدِّم يدَ العون إلى حلفائنا، أو أننا «نحن» ندافع عن الحُرية في وجه محاولة الاستيلاء على الحُكم بوحيٍ من موسكو أو بكين — بل وتناول الدوافع الحقيقية من وراء سلوك الولايات المتحدة، فإن الخبراء حاملي الشهادات، ‏الذين كانوا يريدون العودة إلى وزارة الخارجية الأمريكية للعمل مُستشارين أو لإسداء مشورةٍ ما، أو العمل في شركة راند، لم يتطرقوا إلى ما تطرَّق إليه تشومسكي على الإطلاق. ويروي تشومسكي أنه كان يُستدْعي للحديث عن نظرياته اللغوية إلى المُتخصِّصين في الرياضيات، ويقول إنه كان دائمًا يَلمحُ لدَيهم اهتمامًا بها واحترامًا لما يقوله على الرغم من جهله النسبي بالمصطلحات الرياضية المُتخصِّصة. ولكنه كان حين يُحاول أن يُصور السياسة الخارجية للولايات المتحدة من وجهة نظرٍ مُعارضة، كان خبراء السياسة الخارجية المُعترَف بهم يُحاولون منعه من الكلام استنادًا إلى أنه لا يحمل الشهادات التي يحملها خبير السياسة الخارجية. لم يكن من بينهم من يستطيع أن يدحض حُجةً من حُجَجه، باستثناء موقفه خارج الحدود المقبولة للمناظرة أو اتفاق الآراء.

وأما الضرب الثالث من ضغوط الاحتراف المِهني فهو حتمية انجذاب هؤلاء المُحترفين إلى الحُكَّام وأصحاب السلطة، والاندفاع لتحقيق الشروط التي تتطلَّبها السلطة والتمتُّع بما فيها من مزايا، ومحاولتهم الدائبة للعمل لدَيها. وفي الولايات المتحدة كان برنامج الأمن القومي يتحكَّم إلى درجة مُذهلة في أولويات البحث العلمي و«العقلية» المطلوبة له في الفترة التي كانت الولايات المتحدة تتنافس فيها مع الاتحاد السوفييتي في السيطرة على العالم. وكان ذلك هو الحال نفسه في الاتحاد السوفييتي، وإن لم يكن أحد في الغرب يتوهَّم أن البحث العلمي يتمتع بالحُرية في الاتحاد السوفييتي. ولم نبدأ إلا الآن في إدراك معنى هذا؛ أي إن وزارتَي الخارجية والدفاع قدَّمَتا أموالًا تزيد عما قدَّمته أي جهةٍ مانحة أخرى للبحوث الجامعية في العلوم والتكنولوجيا، ويصدُق هذا القول بوضوحٍ وجلاء على معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة ستانفورد، اللذَين تقاضَيا فيما بينهما أكبر مَبالِغ حَظِيا بها منذ عقودٍ طويلة.

لكنه من الصحيح أيضًا أن الفترة نفسها قد شهدت قيام الحكومة، في إطار برنامج الأمن القومي نفسه، بتمويل أقسام العلوم الاجتماعية بل والعلوم الإنسانية أيضًا بالجامعات. وسوف نجد نظائر لهذا، بطبيعة الحال، في كل المجتمعات، ولكنه كان بارزًا ولافتًا للنظر في الولايات المتحدة على وجه الخصوص لأن نتائج البحوث التي أُجريت في مجال مناهضة حرب العصابات، ‏دعمًا للسياسات المُتَّبعة إزاء العالم الثالث — وبصفةٍ رئيسية في جنوب شرقي آسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط — كانت تُطبَّقُ على الفور في أنشطةٍ خَفيَّة أو سِرِّية، وفي أعمال التخريب، بل وفي شَنِّ الحروب السافرة. وكان المسئولون يُرجئون الخَوض في القضايا المُتصلة بالأخلاق والعدالة حتى يتسنَّى الوفاء بما تنصُّ العقود عليه، على نحوِ ما حدث في المشروع الذي ذاع سوء صيته، واسمه مشروع كاميلوت، وهو الذي تولَّى أساتذة العلوم الاجتماعية القيامَ به لحساب الجيش اعتبارًا من عام ١٩٦٤م، والذي لم تقتصر أهدافه على دراسة انهيار شتَّى المجتمعات في مختلف أرجاء العالَم بل كانت تتضمَّن الحيلولة دون وقوع ذلك الانهيار.

بل لم يقتصِر الأمرُ على هذا؛ إذ إن بعض القوى المُعتمِدة على المركزية في المجتمع المدني الأمريكي — مثل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وجماعات الضغط في الصناعة أو ذوات المصالح الخاصة مثل الجماعات التي أنشأتها أو تُموِّلها شركات تصنيع الأسلحة وشركات النفط والتبغ؛ وكبار المؤسَّسات مثل تلك التي أنشأها روكيفيلر وفورد وميلون — كلها تستخدِم خبراء أكاديميين لإجراء البحوث وتنفيذ برامج الدراسات التي تهدف إلى تدعيم مصالحها التجارية وتنفيذ برامج سياسية أيضًا. وهذا بطبيعة الحال، من جوانب ما يُعتبَر السلوك العادي في ظلِّ نظام حرية السوق، وهو يحدُث في كل مكانٍ في أوروبا وفي الشرق الأقصى أيضًا، فهيئات المُفكرين والمُستشارين تقدِّم المنح و«الزمالات العلمية» إلى جانب الإجازات الدراسية، والإعالة المالية لنشر الدراسات، إلى جانب الترقي في السُّلَّم المهني وآيات الاعتراف بالباحث أو الدارس.

إن كلَّ شيءٍ في النظام يجري علنًا وهو، كما قلتُ، لا غبار عليه وفقًا لمعايير المنافسة واستجابة الأسواق، وهي المعايير التي تَحْكُم السلوك في ظل الرأسمالية المُتقدِّمة في المجتمع الليبرالي الديمقراطي، ولكننا، في تخصيصنا هذا الوقت الطويل للإعراب عن القلق بشأن القيود المفروضة على الفكر والحرية الفكرية في ظل نظُم الحكم الشمولية، لم نُبدِ الدقة والاهتمام اللازمَين لدراسة ما يتهدَّد المُثقف الفرد من جانب نظامٍ يُكافئ الانصياع الفكري، ويُكافئ المشاركة بإرادةٍ طوعية في تحقيق أهدافٍ لم يضعها العلم بل وضعتها الحكومة؛ ومن ثم فإن البحث العلمي ومنح المؤهِّلات العلمية يخضعان للقيود اللازمة للظفر بنصيبٍ أوفى من السوق والحفاظ عليه.

وبعبارةٍ أخرى نرى أن المجال المُتاح للاحتجاج الفكري فرديًّا وشخصيًّا، أي لطرح الأسئلة والطعن في حِكمة الدخول في إحدى الحروب أو تنفيذ برنامج اجتماعي هائل يُكافئ المتعاقِدين ويمنح الجوائز، قد تقلَّص بصورةٍ كبيرة عما كان عليه منذ مائة عامٍ أي عندما قال ستيفن ديدالوس إنه، باعتباره مُثقفًا، يرى أن واجبه ألا يعبُد أي سلطانٍ أو يخدم أي سلطة. ولا أودُّ الآن أن أبدو في صورة من يقول (أو مثل من قالوا بنبرات عاطفية في رأيي) إنَّ علينا أن نبعث الزمن الذي لم تكن الجامعات فيه بهذه الضخامة، ولم تكن الفُرَص التي توفِّرها بهذا السخاء؛ إذ لا أزال أرى أن الجامعة في الغرب، وفي أمريكا بكل تأكيد، ما زالت قادرةً على أن تُوفِّر للمُثقف أو المُفكر مكانًا يُشبه المدينة الفاضلة؛ حيث يستطيع فيه مواصلة التأمُّل والبحث، وإن كان ذلك في ظل قيودٍ وضغوط جديدة.

وهكذا فإن المشكلة التي يُواجهها المُثقف أو المُفكر هي أن يحاول «التعامُل» مع ما يصطدِم به من طابع الاحتراف المهني الحديث وضروب هذا الصدام التي تحدَّثتُ عنها، لا أن يتظاهر بأنها غير قائمة أو أن يُنكِر تأثيرها، بل أن يُمثِّل مجموعةً مختلفة من القِيَم والمزايا. وسوف أُطلِق على هذه المجموعة اسمًا عامًّا هو «روح الهواية»، ومعناها حرفيًّا ذلك النشاط المدفوع بنزعة الحرص والحُب لا بالرِّبح والتخصُّص الأناني الضيق.

على المُثقف أو المُفكر اليوم أن يُصبح من الهواة؛ أي إن عليه أن يَعتبر أن انتماءه إلى مُجتمع من المجتمعات، بصفته فردًا يُفكر ويهتمُّ بما يُهم المجتمع، يمنحه الحقَّ في إثارة القضايا الأخلاقية التي تنشأ حتى في صُلب اشتغاله بأشدِّ المسائل التقنية الخاصة بالمِهنة التي يحترفها، ما دامت تمس بلده، وقوته، وأسلوبه في التعامُل مع المواطنين فيه وكذلك مع المجتمعات الأخرى. أضف إلى ذلك أن روح المُثقف أو المفكر باعتباره من الهواة، قادرة على أن تنفُذ إلى شئون المهنة المعتادة التي يعهدها مُعظمنا فتحوِّلها إلى شيءٍ أكثر حيويةً وأكثر راديكالية، فالمُفكر قد لا يكتفي بأن يفعل ما يُفترَض فيه أن يفعله، بل إنه يسأل عن سبب فِعله له، وعمَّن يستفيد بذلك، وكيف يُمكن لذلك العمل أن يرتبط من جديدٍ بمشروعٍ شخصي وبأفكارٍ أصيلة.

إن لكلِّ مُثقفٍ أو مُفكر جمهورًا وقاعدة أي جمهورًا مُعينًا يَسمعه، والقضية هي: هل عليه أن يُرضي ذلك الجمهور، باعتباره زبونًا عليه أن يُسعده، أم أن عليه أن يتحدَّاه ومِن ثم يُحفزه إلى المعارضة الفورية أو إلى تعبئة صفوفه للقيام بدرجةٍ أكبر من المشاركة الديمقراطية في المجتمع؟ أيًّا كانت الإجابة على هذا السؤال، فإنه لا بد من مواجهة السلطان أو السلطة، ولا مناصَ من مناقشة علاقة المُثقف بهما. كيف يُخاطب المُثقف السلطة: هل يُخاطبها باعتباره محترفًا ضارعًا إليها أم باعتباره ضميرها الهاوي الذي لا يتلقى مكافأةً عما يفعل؟

١  Regis Debray, Teachers, Writers, Celebrities: The Intellectuals of Modern France, trans. David Macey (London: New Left Books, 1981).
٢  Ibid., p. 71.
٣  Ibid., p. 81.
٤  Russell Jacoby, The Last Intellectuals: American Culture in the Age of Academe (New York: Basic Books, 1987).
٥  Ibid., pp. 219-20.
٦  Jean-Paul Sartre, What is Literature? And Other Essays (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1988), pp. 77-78.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤