الفصل الخامس

قول الحقيقة للسلطة

أريد أن أُواصِل النظر في التخصص وروح الاحتراف المِهني وكيف يُواجه المثقف قضية السلطان والسلطة. في منتصف الستينيات من القرن العشرين، وقُبَيل ارتفاع صوت المعارضة لحرب فيتنام وانتشار تلك المعارضة، تقدَّم إليَّ طالبٌ لم يتخرج بعد، وكان يبدو أنه أكبر سِنًّا ممَّن حوله، في جامعة كولمبيا، وطلب الانضمام إلى مجموعةٍ دراسية محدودة العدد. وكان من بين ما قاله تزكية لطلبه أنه كان قد شارك في الحرب، وأنه «خدم» في القوات الجوية، وفي أثناء المقابلة وفي غضون الحديث قدَّم لي لمحةً غريبة وعجيبة عن عقلية «المحترف» — وكان في هذه الحالة طيَّارًا ذا خبرة — إذ كانت الألفاظ التي استخدمها في وصف عمله مما يمكن وصفه بأنه «مصطلح الحرفة»، ولن أنسى ما عشتُ الصدمةَ التي تلقَّيتُها حين أصررتُ على سؤالي «ماذا كان عملك — على وجه الدقة — في القوات الجوية؟» فأجابني قائلًا «تحديد الأهداف.» ولم أكتشف إلا بعد عدة دقائق أنه كان «قاذفًا للقنابل»؛ أي إن عملَه كان، ببساطة، إلقاء القنابل، ولكنه غلَّف وصفه لهذا العمل بلُغة الحرفة التي كانت ترمي، بمعنًى من المعاني، إلى استبعاد «الدخلاء» وتقليل محاولاتِ التحري والتقصي المباشرة من جانب «الغرباء» عن الحرفة — فهم فضوليون حقراء! وأقول بالمناسبة إنني قبلِتُه في المجموعة الدراسية — ربما لأنني قلتُ في نفسي إنني أريد أن أُراقبه، وربما استطعت (وهذا حافز إضافي) أن أُقنعه بالتخلي عن الرطانة السخيفة، «تحديد الأهداف» حقُّا!

ولكن الأكثر شيوعًا واستمرارًا في رأيي هو أن المُثقفين الأقرب إلى مواقع رسم السياسات ويستطيعون مدَّ يدِ العون (وهو العون الذي يكفل إتاحة الوظائف أو حجبِها، وتقديم المكافآت، وترقية العاملين) يميلون إلى الحذَر من الأفراد الذين لا يتَّبعون «السياسات» الخاصة بالمهنة، والذين يرى رؤساؤهم أنهم يُثيرون الخلاف أو عدم التعاون. ومن المفهوم، بطبيعة الحال، أنك إذا أردتَ إنجاز عملٍ ما — ولنقُل إن عليك، بالتعاون مع الفريق العامل معك، تقديم دراسة لازمة للسياسات الخاصة بالبوسنة إلى وزارة الخارجية الأمريكية أو البريطانية، في موعد غايته الأسبوع المقبل — فعليك أن تُحيط نفسك بأشخاصٍ مُوالِين لك، ويُشاركونك الآراء نفسها ويتكلَّمون اللغة نفسها. ولقد كان رأيي على الدوام أن وجود المُثقف (الذي يُمثل ما ناقشتُه وأناقشه في هذه المحاضرات) في ذلك الوضع المِهني الذي يتطلَّب منه «خدمة» ذوي السلطة والحصول على مكافأة منهم، لا يؤدى إطلاقًا إلى ممارسة طاقات التحليل وإصدار الأحكام النقدية التي تتميز بالاستقلال النسبي، وذلك في نظري هو الذي ينبغي أن يُمثل عطاء المُثقف. وبعبارة أخرى أقول إن المُثقف ليس موظفًا أو عاملًا يُكرِّس جهوده كلها لتحقيق أهداف السياسات التي تضعها الحكومة أو الشركات الكبرى أو حتى النقابة التي تضمُّ مِهنيِّين يُفكرون بالأسلوب نفسه؛ ففي هذه الحالات نجد أن الإغراء بتعطيل الحاسَّة الأخلاقية، أو بحصر التفكير في حدود التخصُّص الدقيق، أو بقمع التشكُّك في سبيل موافقة الآخرين، إغراء أكبر مِن أن يكون مَوضع ثقة. والواقع أنَّ الكثير من المُثقفين يخضعون خضوعًا تامًا لهذه الإغراءات، وجميعنا يخضع لها، ولو إلى حدٍّ ما وحسب، فلا يُوجَد فرد يعُول نفسه بنفسه بصورة كاملة، حتى لو كانت روحه أعظمَ أرواح البشر «الحرة».

لقد سبق لي أن قلتُ إن إحدى طرائق الحفاظ على الاستقلال الفكري النسبي تتمثَّل في اتخاذ موقف الهواة لا المُحترفين، ولكنى أريد أن أتخذ مؤقتًا موقفَ الشخص العملي الذي يتحدَّث من وجهة نظرٍ شخصية. إن روح الهواية تعني في المقام الأول، اختيار مخاطر الحياة العامة ونتائج هذه الحياة العامة غير المؤكدة — وقد تتَّخذ هذه صورة محاضرةٍ أو كتابٍ أو مقالٍ يتوافر له التوزيع على نطاقٍ واسع وبلا قيود — وتفضيل هذه المخاطر على شَغل موقعٍ «داخلي» في مكانٍ يتحكم فيه الخبراء والمِهنيون. ولقد طلبتْ منِّي أجهزة الإعلام عدة مرات في العامَين الأخيرَين أن أعمل مستشارًا يتقاضى أجرًا ما، لكنني رفضتُ القيام بذلك لا لشيءٍ إلا لأنه كان يعنى أن أقتصر على محطةٍ تلفزيونية واحدة أو مجلة مُتخصِّصة واحدة، وأن أقتصر أيضًا على اللغة السياسية المُستخدَمة في تلك المحطة أو المجلة، وعلى الإطار الفكري لهذه أو تلك. وعلى غرار ذلك، لم أهتم في يومٍ من الأيام بوظائف المُستشارين المأجورين في الحكومة، أو لحساب الحكومة، حيث تجهل في هذه الحالة أسلوب استخدام أفكارك أو «الانتفاع» بها في المستقبل. والواقع ثانيًا، أنَّ تقديم المعرفة بصورةٍ مباشرة، في مقابل أجرٍ ما، يختلف اختلافًا كبيرًا إذا كانت الجامعة قد طلبت منك تقديم محاضرةٍ ما، هذا من ناحية، أو إذا طُلِب منك أن تتحدَّث إلى دائرةٍ صغيرة ومغلقة من المسئولين من ناحيةٍ أخرى. وقد بدا لي أن هذا واضح كل الوضوح، ومِن ثَم كنتُ على الدوام أرحِّب بالمحاضرات الجامعية وأرفض ما عداها. وأنا ثالثًا، لم أتوقَّف عن قَبول الحديث في المناسبات التي تُتيح زيادة الجرعة السياسية في حديثي، وكنتُ أُلبى بانتظامٍ ودون تردُّد كلَّ دعوةٍ أتلقَّاها من الجماعات الفلسطينية أو من الجامعات في جنوب أفريقيا لزيارتها والحديث المُناهض للفصل العنصري والمناصِر للحرية الأكاديمية.

وفي النهاية فإن ما يَحثُّني هو القضايا والأفكار التي أستطيع فعلًا أن أختار مُناصرتها لأنها تتَّفق مع القِيَم والمبادئ التي أومِن بها، ولذلك لا أرى أن دراستي «المهنية» للأدب تُلْزِمُني بالاقتصار عليها والابتعاد، مِن ثم عن شئون السياسات العامة، أي لمجرد أن الشهادات العلمية التي أحمِلها لا تؤهِّلني إلا لتدريس الآداب الأوروبية والأمريكية الحديثة. إنني أكتب وأتحدَّث عن أمورٍ أوسع نطاقًا من هذا لأنني باعتباري من «الهواة المُتواضِعين» أشعر بالالتزامات التي تُحفزني على تجاوز حياتي العملية المِهنية ذات النطاق الضيق، وأنا أبذل واعيًا، بطبيعة الحال، الجهد اللازم لاكتساب جمهورٍ جديد وأكبر حتى أُقدِّم إليه هذه الآراء، وهي التي أمتنِع تمامًا عن الإعراب عنها داخل قاعة الدرس.

ولكن تُرى ما موضوع انطلاقات الهواة المشار إليها في الحياة العامة؟ تُرى ما الذي يُحفز المثقف على النشاط الفكري؟ هل تُحفزه ضروب الولاء الأزلية والمحلية والغريزية — مثل الولاء لانتمائه العرقي، أو لشعبه أو لدِينه — أم أن مِن ورائه مجموعة من المبادئ التي تتَّسِم بالمزيد من العقلانية والطابع العالمي، وهي التي يمكن أن تُحفزه وربما كانت تتحكم فعلًا فيما يقول ويكتب؟ إنني أطرح بذلك السؤال الرئيسي الذي يُواجِه المثقف وهو كيف يقول المرء الحق؟ وأي حقٍّ تراه؟ ولمن وفي أي مكان؟

لا بدَّ أن نبدأ، مع الأسف في ردِّنا على هذه الأسئلة فنقول إنه لا يُوجَد مذهب أو منهج واسع النطاق ويَقينيٌّ إلى الحدِّ اللازم لتقديم إجابات مباشرة عن هذه الأسئلة إلى المثقف، ففي عالم الدنيا — عالمنا، أي العالم التاريخي والاجتماعي الذي صنعته الجهود البشرية — لن يجد المثقف بين يدَيه سوى أدواتٍ علمانية يتوسَّل بها في عمله؛ أما الوحي والإلهام، فهي وسائل أو طرائق لها جدواها التي لا شكَّ فيها لفَهم ما يجري في الحياة الخاصة، ولكنها قد تأتي بالكوارث بل قد تؤدي إلى أساليب همجية إذا استخدمها ذوو التفكير النظري من الرجال والنساء. بل إنني قد أذهب إلى القول بأن على المُفكر أن يشتبك في نزاعٍ مدى حياته مع الأوصياء على الرؤية المقدَّسة أو النص المقدَّس، فضروب عدوانهم لا يُحصيها العدُّ، وهراوتهم الغليظة لا تقبل أي خلافٍ ولا تسمح قطعًا بأي «تنويع» أو تعدُّدية. وأري أن حُرية الرأي والتعبير التي لا تقبل المُهادنة هي الحصن الرئيسيُّ للمُفكر العلماني، وأن التخلي عن الدفاع عنه أو السماح بأي عبثٍ بأيٍّ من الأُسس التي بُنيَ عليها يعني في الواقع خيانةً لعمل المفكر ورسالته.

ولا تقتصر القضية على فئةٍ دون فئة، كأن تخُصَّ أبناء العالم الإسلامي وحدَه، بل إنها تخصُّ الناس في العالَمَين اليهودي والمسيحي أيضًا؛ إذ لا يمكن نُشدان حُرية التعبير، من باب إثارة الضغينة، في ساحة من الساحات، وتجاهلها في ساحةٍ أخرى؛ فالسلطات التي تزعم لنفسها الحق العلماني في الدفاع عن الأوامر الإلهية يستحيل النقاش معها أينما تكون، وأما المثقف فإن المناقشة العميقة العنيدة هي جوهر نشاطه، وهي المسرح والمكان الذي يؤدي عمله فيه كل مُفكر لا يعتمِد على الوحي والإلهام في الواقع. ولكن هذا يعود بنا إلى نقطة البداية: ما هي الحقيقة وما هي المبادئ التي ينبغي على المرء الدفاع عنها ومناصرتها وتمثيلها؟ ليس هذا من قبيل مُحاكاة بونتيوس بيلاطوس، والتبرؤ من قضية شائكة، بل هو البداية الضرورية لاستقصاء المكان أو الأمكنة التي يشغلها المُفكرون اليوم، واستقصاء الميدان الذي يقِف فيه، وفي أرضه قد بُثَّت الألغام، فهو ميدان غدَّار لم يرْتَدْه أحد.

ولتكن نقطة انطلاقنا قضية الموضوعية أو الدقة: أو الحقائق، ولنتناول القضية برمَّتها هنا، رغم ما أصبحت عليه من إثارةٍ للخلاف. نشر المؤرخ الأمريكي بيتر نوفيك في عام ١٩٨٨م مجلَّدًا ضخمًا يُصوِّر عنوانه الحيرة أو المأزق الذي نُواجهه تصويرًا مُثيرًا وببراعةٍ فائقة، فالعنوان هو «الحلم النبيل» والعنوان الفرعي هو «مسألة الموضوعية» و«الاشتغال بالتاريخ في أمريكا» وهو يستنِد فيه إلى مادة علمية مُستقاة من جهود كتابة التاريخ على امتداد قرنٍ كامل في أمريكا، لتبيان أن جوهر البحث التاريخي نفسه — أي المَثل الأعلى للموضوعية الذي يدفع المؤرخ إلى رصد الحقائق بأكبر قدرٍ ممكن من الموضوعية والدقة — قد تَطوَّر وتغيَّر تدريجيًّا فأصبح مُستنقعًا مُوحلًا من المزاعم والمزاعم المضادَّة لها، وإزاءها جميعًا تتضاءل رقعة الاتفاق بين المؤرخِين حول حقيقة الموضوعية حتى لَتُصبح أقل حجمًا من ورقة التوت التي تستر العورة، بل وقد لا تبلغ لضآلتها حجم تلك الورقة أحيانًا. لقد قامت كلمة الموضوعية «بالخدمة» في وقت الحرب فتحوَّلت إلى الحقيقة التي نراها «نحن» في مقابل ما يقول الألمان الفاشيون إنه الحقيقة، وتحوَّلت في وقت السلم إلى «الحقيقة الموضوعية» للجماعات المُتنافِسة، كلٌّ منها على حِدة — أي كما تراها المرأة، وكما يراها الأمريكيون الأفريقيون، وكما يراها الأمريكيون الآسيويون، وكما يراها أصحاب البشرة البيضاء، وهلم جرًّا — وكما تراها كل مدرسة (الماركسية، والمؤسسة الاجتماعية، والمذهب التفكيكي، والمنهج الثقافي). ويتساءل نوفيك عما يُمكن أن نصِل إليه من اتفاقٍ في الرأي بعد هذه «المعارف» المتصارعة إلى حدِّ الهراء والهذْر، ويختتِم كتابه قائلًا «[بالنسبة لنا] باعتبارنا جماعة نتكلَّم، بصفةٍ عامة، لغةً واحدة، أي جماعة من الباحثين الذين تُوحِّدهم الأهداف المشتركة، والمعايير المشتركة، والأغراض المشتركة، لم يعُد مبحث التاريخ موجودًا … لقد ورد وصف أستاذ [التاريخ] في الآية الأخيرة من سفر القضاة: لم يكن لإسرائيل ملك في تلك الأيام، وكان كل إنسانٍ يفعل ما يبدو لعينَيه صحيحًا.»١

كان من الأنشطة الفكرية الرئيسية في القرن العشرين — على نحو ما ذكرتُ في محاضرتي السابقة — العمل على الطعن في السلطة أو التشكيك فيها، ناهيك بتقويضها. وهكذا فإذا أردْنا أن نُضيف شيئًا إلى ما اكتشفه نوفيك كان علينا أن نقول إن «اختفاء» اتفاق الآراء لم يقتصِر على ما يُمثِّل الواقع الموضوعي، ولكنه تجاوزَه إلى الكثير من السلطات التقليدية بصفةٍ أساسية، ومنها الخالق سبحانه. ولقد شهدنا مَدرسةً من الفلاسفة من ذوي النفوذ والتأثير الواسع (ويشغل ميشيل فوكوه بينهم منزلةً بالغة الرِّفعة) الذين يقولون إن مجرد الحديث عن وجود مؤلِّف لأي عمل (كقولك «مؤلف قصائد جون ملتون») يُعتبَر مُبالَغة مُغْرِضة إلى حدٍّ بعيد، إن لم تكن أيديولوجية أيضًا.

ولن يجدي، في مواجهة هذه الحملة الضارية، أن نُعرِب عن العجز والأسى وحسْب، فذلك هو نكوص المغلوب على أمره، لا بل ولا أن نستعرض ما تُمثله القِيَم التقليدية من قوة، على نحو ما تفعله حركة المحافظين الجُدد في شتَّى أنحاء العالم. وأعتقد أنه من الصحيح أن نقول إن نقد الموضوعية والسلطة قد أدَّى خدمةً إيجابية بتأكيد الأساليب والوسائل التي يستخدمها البشر في هذه الدنيا في بناء حقائقهم، وأن الحقيقة الموضوعية المزعومة، مثلًا،‏ عن تفوُّق الرجل الأبيض، وهي التي بنَتْها وحافظت على بقائها الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية الكلاسيكية، كانت تقوم هي الأخرى على إخضاع الشعوب الأفريقية والآسيوية بأساليب العُنف، وأنه من الصحيح أيضًا أن تلك الشعوب حاربت تلك «الحقيقة» الخاصة المفروضة عليها ابتغاء إنشاء نظامٍ مُستقل خاص بها. وهكذا نرى أن كل طرفٍ يتقدَّم الآن برأيٍ جديد ونظرةٍ جديدة إلى العالَم، وأن هذه الآراء والنظرات كثيرًا ما تتعارَض فيما بينها تعارُضًا شديدًا، فنحن نسمع من يتحدَّث حديثًا لا نهايةَ له عن القِيَم المسيحية اليهودية، وعن القِيَم الخاصة بأفريقيا، وعن الحقائق من وجهة نظر المسلمين، ومن وجهة نظر الشرقيين، والغربيين، وكلٌّ من هذه الأطراف يُقدِّم برنامجًا لاستبعاد الأطراف الأخرى جميعًا. لقد زاد التعصُّب الآن وزادت التأكيدات العالية النبرة في كل مكانٍ إلى الحد الذي لا يستطيع معه أيُّ مذهبٍ واحد أن يتناولها جميعًا.

والنتيجة هي الغياب شِبه الكامل للقِيَم العالمية، وإن كان الكلام الذي نسمعه كثيرًا ما يُوحي بأن قِيَمنا «نحن» (مهما يكن تعريفك لهذه القِيَم) عالمية في الواقع، ومن أبشع الحِيَل الفكرية أن يتكلَّم المرء كلام العليم بكلِّ شيءٍ عن المثالب في مجتمعٍ آخر ثم يلتمِس العُذر لها حين تقع في مجتمعه هو. والنموذج الكلاسيكي في رأيي لهذا هو المفكر الفرنسي الألمعي، ابن القرن التاسع عشر، ألكسيس دي توكفيل، وهو الذي كان يُمثِّل القِيَم الديمقراطية الغربية والليبرالية الكلاسيكية لكثيرٍ منَّا، نحن المُتعلمين الذين نؤمِن بها. فبعد أن كتب تقييمه للديمقراطية في أمريكا وانتقاده لسوء معاملة الأمريكيين للهنود الحمر والعبيد السود، تحوَّل في مرحلة لاحِقة إلى السياسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر، حين كان جيش الاحتلال الفرنسي بقيادة المارشال بيجو، يشنُّ حرب «تهدئة» وحشية ضد الجزائريين المسلمين. وهنا نُفاجأ ونحن نقرأ ما كتبه توكفيل عن الجزائر بأنه لا يُدين المحرمات التي ارتكبها الفرنسيون، وهي التي أثارت اعتراضه الإنساني العميق حين ارتكبها الأمريكيون. وهو لا يمتنِع عن ذِكر أسباب ذلك، بل يُقدِّم أسبابه التي لا تزيد عن لمسات «عرجاء» تُخفِّف من حدة وقْع الصورة وتهدف إلى «الترخيص» للفرنسيين بفعل ما يفعلونه باسم ما يُسمِّيه الكبرياء أو الكرامة القومية، فالمجازر لا تُثير مشاعره لأن المسلمين، كما يقول، ينتمون إلى دينٍ أدنى منزلةً ولا بد من تأديبهم. وهكذا نرى باختصارٍ إنكار الطابع العالمي الظاهر في اللغة التي يتحدَّث بها عن أمريكا، ونرى تعمُّد رفض تطبيق ما يقول على بلده، حتى حين يقوم بلده فرنسا باتباع سياساتٍ لا إنسانية مُماثلة.٢

ولكننا لا بد أن نُضيف أن توكفيل (بل وجون ستيوارت مِل الذي كان يقول إن آراءه الجديرة بالثناء عن الحُريات الديمقراطية في إنجلترا لا تنطبق على الهند) كان يعيش في فترةٍ كانت فيها الأفكار الخاصة بوجود مِعيار عالمي للسلوك الدولي تَعني في الواقع حقَّ السيادة للقوة الأوروبية والتصوير الأوروبي للشعوب الأخرى؛ إذ ما أتفَهَ ما كانت تبدو الشعوب غير البيضاء الأخرى في المنزلة الثانوية التي أُنزلت فيها! وإلى جانب ذلك فالغربيون في القرن التاسع عشر لم يكونوا يرَون بوجود شعوب أفريقية أو آسيوية مُستقلة ومُهمة حتى تتحدَّى الوحشية الصارمة للقوانين التي كانت تُطبقها الجيوش الاستعمارية، من طرفٍ واحد، على الأجناس ذوات البشرة السوداء أو السمراء، وهي التي يقضي مصيرها، في نظر الاستعمار الأوروبي، بأن تكون محكومةً وحسب، أما فرانتس فانون، وإيميه سيزار، وس. ل. ر جيمز — إذا اقتصرنا على ذكر ثلاثة فقط من المُفكرين السود المناهِضين للإمبريالية — فلم يعيشوا ويكتبوا ما كتبوه حتى القرن العشرين، ولذلك لم يكن في وسع أمثال توكفيل ومِلْ أن يَطَّلِعُوا عليه، ولا على ما أنجزه هؤلاء مع حركات التحرير التي كانوا ينتمون إليها، على الصعيدَين الثقافي والسياسي، من إرساءٍ لحقِّ الشعوب الخاضعة للاستعمار في المساواة والمُعاملة. ولكن هذه الرؤية المختلفة قد أصبحت متاحةً للمُفكرين المُعاصرين، وإن كانوا في كثيرٍ من الأحيان لم يستخلصوا النتيجة الحتمية وهي أنك إذا أردتَ إعلاء شأن العدالة الإنسانية الأساسية فلا بد أن تُطبِّق ذلك على الجميع، لا أن تقتصر على اختيار أولئك الذين يسمح لك بهم الطرف الذي تنتمي إليه، وتسمح بهم لك ثقافتك وأُمتك.

وإذن فإن المشكلة الأساسية تتمثل في كيفية التوفيق بين هُوية المرء الخاصة وحقائق ثقافته ومجتمعه وتاريخه من ناحية، وبين حقائق الهويات والثقافات والشعوب الأخرى. ولا يمكن أبدًا أن يتَّخذ ذلك فحسب صورةَ تفضيل المرء لما ينتمي إليه بالفعل؛ ولا يجدر بالمُفكر أن يهدر طاقته في الحديث الرنَّان الطَّنَّان حول أمجاد حضارتنا «نحن» أو انتصارات تاريخنا «نحن»، وخصوصًا في أيامنا هذه التي أصبح كثير مِن المجتمعات فيها يتكوَّن من أجناسٍ وخلفياتٍ مختلفة تستعصي على الاختزال في صِيغٍ مُحدَّدة. وعلى نحوٍ ما حاولتُ أن أبيِّن هنا، نجد أن الساحة العامة التي يُحاول المثقفون فيها تقديم احتجاجاتهم تتَّسِم بالتعقيد الشديد وبالتضاريس الوعرة، ولكن معنى التدخل الفعال في تلك الساحة يجب أن يستند إلى إيمان المُثقف الذي لا يتزحزح بمفهومٍ للعدل والإنصاف يسمح بوجود اختلافاتٍ بين الأمم والأفراد، دون أن نخضعهم في الوقت نفسه لمراتب هرمية أو تفضيلية أو تقييمية خفية. إن الجميع اليوم يتكلَّمون اللغة الليبرالية والتناغُم بين الجميع، ومشكلة المُثقف هي كيف يُطَبِّق هذه الأفكار على الحالات الواقعية حيث نجد أن الهوة التي تفصل بين القول بالمساواة والعدل من ناحية، وبين الواقع الأقل جمالًا وتهذيبًا، من ناحية أخرى، هوَّة شاسِعة إلى حدٍّ بعيد.

والتدليل على ذلك من أيسر الأمور في العلاقات الدولية، وهذا هو السبب الذي حدا بي إلى تأكيدها كلَّ هذا التأكيد في هذه المحاضرات، وهاك مِثالَين حديثَي العهد لِما أقصده. تركَّزت المناقشات العامة في الغرب، في الفترة التي تلت مباشرةً غزو العراق غير المشروع للكويت، وكانت مُحقَّةً في ذلك، على رفض ذلك العدوان الذي كان يسعى بوحشيةٍ بالِغة، إلى محو الكويت من الوجود، وعندما اتَّضح أن أمريكا كانت تعتزم في الواقع استعمال القوة العسكرية ضدَّ العراق، بدأت الشخصيات العامة تُشجِّع الخطوات المُتَّخذة في الأمم المتحدة لضمان «تمرير» قرارات — تستند إلى ميثاق الأمم المتحدة — وتُطالب بفرض العقوبات على العراق وإمكان استعمال القوة ضد العراق. وقد ارتفعت أصوات عددٍ محدود من المُثقَّفين الذين كانوا يَجمعون بين معارضة الغزو العراقي وما تلاه من تنفيذ ما يُسمَّى بعملية عاصفةِ الصحراء التي كانت تعتمِد أساسًا على القوات الأمريكية ضد العراق، ولكنني لم أعرف أن أحدًا من هؤلاء على الإطلاق قد قدَّم أي أدلةٍ أو حاول أدنى محاولة لتبرير الغزو «العراقي».

أما الملاحظة الصائبة التي أبداها البعض آنذاك فكانت تقول إن الموقف الأمريكي تجاه العراق قد تضرَّر كثيرًا عندما قامت إدارة الرئيس بوش، بما تتمتَّع به من قوةٍ جبارة، بالضغط على الأمم المتحدة ودفعِها نحو الحرب، مُتجاهلةً شتى الإمكانيات العديدة لإنهاء الغزو والرجوع عنه عن طريق المفاوضات قبل يوم ١٥‏ يناير، وهو تاريخ بداية الهجوم المضاد، ورافضةً مناقشة القرارات الأخرى التي اتَّخذتها الأمم المُتحدة بشأن الحالات الأخرى للغزو والاحتلال غير المشروع للأراضي، وهي الحالات التي تورَّطت فيها الولايات المتحدة نفسها أو بعض حلفائها المُقربين. كانت القضية الرئيسية في الخليج بالنسبة للولايات المتحدة هي قضية النفط والقوة الاستراتيجية، لا المبادئ التي أعلنتها إدارة بوش، بطبيعة الحال، ولكن الذي أضعف المناقشة الفكرية في شتى أرجاء البلد، وهي المناقشة التي دَأَبَتْ على تكرار القول بعدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة، كان يتمثَّل في عدم تطبيق هذه الفكرة على كل مكانٍ في العالم. وكان يبدو للكثير من المُثقفين الأمريكيين الذين أيَّدوا الحرب أن قيام الولايات المتحدة نفسها قبل ذلك بقليل، بغزو دولةٍ ذات سيادة، هي بَنَمَا، واحتلالها فترةً ما، أمرٌ لا علاقة له بالقضية. ولكن إذا كنَّا على حقٍّ في انتقاد العراق، أفلا يكون من المنطق أن يكون من حقِّنا توجيه الانتقاد نفسه إلى الولايات المتحدة؟ ولكن، لا! فإن دوافعنا «نحن» كانت أسمى وأرفع، وصدَّام كان هتلر، أما «نحن» فقد كنَّا نستجيب لدوافع أخرى تتميَّز بالإيثار والنزاهة في صُلبها، ومن ثَم فإن هذه الحرب كانت حربًا عادلة.

أو دعونا ننظُر مسألة الغزو السوفييتي لأفغانستان، وهو الذي يُمثِّل خطَّا مُساويًا (لخطأ صدام) وجديرًا بالإدانة مِثله، ولكن بعض حلفاء الولايات المتحدة، مثل إسرائيل وتركيا، كانوا قد احتلُّوا بعض الأراضي بصورةٍ غير مشروعة قبل أن يدخل الروس أفغانستان، وعلى غرار ذلك، قامت دولةٌ أخرى من حلفاء الولايات المتحدة، هي إندونيسيا، بارتكاب المذابح التي راح ضحيتها، دون مُبالغة، مئات الآلاف من أبناء جزيرة تيمور الشرقية في غزوها غير المشروع لها في منتصف السبعينيات. ولقد توافرت الأدلَّة على أن الولايات المتحدة كانت على عِلمٍ بألوان الفظائع المُقترَفة في حرب تيمور الشرقية، وتؤيدها، ولكن ما أقل المثقفين الأمريكيِّين الذين تعرَّضوا لذلك، بسبب انشغالهم الدائم بجرائم الاتحاد السوفييتي٣ فإذا عاد بنا الزمن أَطَلَّ علينا الغزو الأمريكي الهائل للهند الصينية، وهو الذي أدَّى إلى قدْرٍ من الدمار والهلاك ذي أبعادٍ مُذهلة لمجتمعاتٍ صغيرة تتكوَّن في معظمها من الفلاحين. ويبدو أن المبدأ هنا كان يقول بأن على المُثقفين من الخبراء في السياسات الخارجية والعسكرية للولايات المتحدة أن يقصروا اهتمامهم على كسب الحرب ضد الدولة العظمى الأخرى ونوَّابها في فيتنام أو أفغانستان، بغض النظر عما نرتكِب من خطايا. وذلك هو ما تمليه سياسة القوة، أو سياسة الواقع العملي، أو ما يُسمَّى «ريالبوليتيك».

ذلك حال مُثقَّفينا بالتأكيد، ولكن الذي أقول به هو أن المُثقف المعاصر (الذي يعيش في زمنٍ اختلطت فيه الأمور بسبب غياب ما يبدو أنه يُمثل المعايير الخلقية الموضوعية والسلطة العاقلة) يُواجِه السؤال التالي: هل يقبل المرء ببساطةٍ أن يدعم دعمًا أعمى كلَّ ما يفعله بلدُه ويتغاضى عن جرائمه، أم يقول، بدرجةٍ ما من الفتور «إن جميع الأطراف تفعل ذلك، وهذا حال الدنيا»؟ أما الذي لا بدَّ أن نقوله، بدلًا من هذا، فهو أن المُثقفين أو المُفكرين ليسوا من مُحترفي المهنة الذين يُصيبهم الفساد بسبب خِدمتهم القائمة على المَلَق والمُداهنة لسلطةٍ تَعيبها مثالبُ خطيرة، ولكنهم — ولأُكرِّر ما قُلته سلفًا — مفكرون يقفون موقفًا قائمًا على المبادئ، ويُعتبَر موقفًا بديلًا يُمَكِّنهم في الواقع من قول الحقيقة للسلطة.

لكنني لا أعنى بهذا ألوان الهجوم الهادرة التي تُشبه أقوال «العهد القديم» (في الكتاب المقدس) والتي تُعلِن أن الجميع خاطئون وأن الشر مُتأصِّل فيهم، بل أعنى شيئًا أشد تواضعًا إلى حدٍّ بعيد وأكبر في تأثيره كثيرًا، فالحديث عن ضرورة الالتزام بالاتِّساق (وعدم التناقض) في إعلاء شأن معايير السلوك الدولي، ودعم حقوق الإنسان،‏ لا يقتضي البحث في باطن المرء عن نُورٍ داخلي يَهديه ولا ينبع إلا من الوحي والحدْس «القُدسي». إن معظم بلدان العالم، إن لم تكُن كلُّها، من الدول التي وَقَّعَتْ على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الأمم المتحدة وأعلنته عام ١٩٤٨م، وتُعيد تأكيده كل دولة من الدول التي تنضمُّ إلى عضوية تلك المنظمة الدولية، ولدَينا كذلك اتفاقيات رسمية حول قواعد الحروب وحول معاملة السجناء، وحول حقوق العمَّال، والمرأة، والطفل، والمهاجرين واللاجئين. ولا تذكُر أي وثيقةٍ من هذه الوثائق أي شيءٍ عن وجود أجناسٍ أو شعوب غير مؤهلة أو أدنى منزلةً من غيرها. فالجميع يتمتَّعون بالحق في الحريات نفسها.٤ ولكن هذه الحقوق، بطبيعة الحال، تُنتهَك يوميًّا، على نحو ما تشهد بذلك اليوم أعمال الإبادة الجماعية في البوسنة. وأما المسئول في الحكومة الأمريكية أو المصرية أو الصينية فهو لا ينظُر إلى هذه الحقوق، في أفضل الحالات، إلا من الناحية «العملية»، لا نشدانًا للاتِّساق (في تطبيقها) ولكن هذه هي معايير السلطة، وهي تختلف، على وجه الدقة، عن معايير المُثقف أو المُفكر، الذي يتمثَّل دوره في أن يحاول، على الأقل، تطبيق معايير السلوك وأعرافه التي حظِيَت بقبول المجتمع الدولي كله على الورق.

ولدَينا بطبيعة الحال، مسائل تتعلق بالوطنية والولاء للبلد الذي ينتمي الفرد إليه، فالمُثقف ليس بطبيعة الحال آلة صماء بسيطة الصنع تقذف بالقوانين التي صُمِّمت تصميمًا رياضيًّا هنا وهناك وفي كل مكان. ومن الطبيعي أيضًا أن يحسَّ الإنسان الخوف،‏ وأن تؤدي الحدود الطبيعية المفروضة على وقتِه واهتمامه وطاقته، باعتباره صوتًا مفردًا، إلى التأثير فيه إلى حدٍّ مُخيف، لكننا إذا كنَّا مُحقِّين في نَعي غياب أو اختفاء اتفاق الآراء حول ما يُشكل الموضوعية، فنحن في الوقت نفسه لا ننساق انسياقًا كاملًا في تيار إرضاء نوازع ذاتيتنا الخاصة. فاللجوء إلى مأوى المهنة أو القومية (كما ذكرتُ آنفًا) لا يزيد عن كونه لجوءًا، وهو لا يُجيب على الحوافز التي نتلقَّاها جميعًا بمجرد قراءة أخبار الصباح.

لا يستطيع أحد أن يرفع صوته للتعليق طول الوقت على جميع القضايا، ولكنني أعتقد أن أمامنا واجبًا خاصًّا يتمثل في مُخاطبة السلطات التي يُنصِّبها المجتمع ويُخوِّل لها سلطة إدارة شئونه، وبذلك تُصبح مسئولةً عن مواطنيه، خصوصًا حين تمارس تلك السلطات عملها في شَنِّ حرب لا أخلاقية ولا تتناسب — بوضوح وجلاء — مع ما ينبغي للحرب أن تكونه، أو في تعمُّد تطبيق برنامج للتمييز والقمع والقسوة الجماعية. فكلٌّ مِنَّا، كما ذكرتُ في محاضرتي الثانية، يعيش داخل حدود وطنه، ويستخدِم لُغته القومية، ويُخاطب (معظم الوقت) مجتمعاته المحلية. وأما المُثقف الذي يعيش في أمريكا فعليه أن يُواجه الواقع التالي، ألا وهو أن بلدَنا قبل كلِّ شيءٍ يُمثل مجتمعًا من المهاجرين الذين يتَّسِمون بالتنوُّع الشديد، وبموارده وإنجازاته الخيالية، ولكن به كذلك مجموعة رهيبة من مظاهر الظُّلم الداخلي، ويقوم بالتدخُّل في غيره من البلدان، ومن المُحال تجاهُل هذا أو ذاك. وإذا لم أكن أستطيع أن أتكلَّم باسم المُثقفين في الخارج، فلا شكَّ أن المسألة الرئيسية التي أطرحها تنطبِق على البلدان الأخرى كذلك، مع فارقٍ واحد وهو أن الدولة في حدود تلك البلدان ليست «قوة» أو «سلطة» عالمية مثل الولايات المتحدة.

ونحن نستطيع في جميع هذه الحالات أن نستخلِص «الدلالة الفكرية» لموقفٍ من المواقف عن طريق قياس الحقائق المعروفة والمتاحة بمعيارٍ مُحدَّد، معروف ومتاح أيضًا، وليست هذه بالمهمة اليسيرة؛ فلا بدَّ من التوثيق وإجراء البحوث والاستقصاءات اللازمة لتجاوز الصورة التي عادة ما تتَّخذها «المعلومات» التي نَطلِّع عليها مُتفرقةً مُجزَّأة ومنفصلة بعضها عن بعض، وإذن فهي بالضرورة غير مُحْكَمةٍ، ولكنني أعتقد أننا نستطيع في مُعظم الحالات أن نعرف — بدرجةٍ ما من اليقين — إذا ما كان البعض قد ارتكب مذبحةً مثلًا، أو أن جهةً ما تتستَّر على ما حدث في الواقع؛ أي إن واجبنا الأول هو أن نكتشف ما حدث، وبعدها سبب حدوثه، لا باعتبار الحوادث وقائع مُنفصلة بل باعتبارها حلقاتٍ في سلسلةٍ تاريخية تتضمَّن ملامحها العريضة الدور الذي تلعبه الأمة التي ينتمي إليها الفرد، ويرجع عدم الاتساق في أي تحليل «مُعتمد» للسياسات الخارجية يقوم به واضعو الاستراتيجيات والخطط والمُبررات إلى أنه يُركز على الآخرين باعتبارهم الذين يُشكِّلون عناصر الحالة قيد الدرس والتحليل، ونادرًا ما يركز على الدور الذي قُمنا به «نحن» وما أدَّى ويؤدي إليه من نتائج، وما أندر أن يُقْدِم أحدٌ على قياس ذلك بمعيارٍ أخلاقي مُعين.

أما الغاية من ذكر الحقيقة في مجتمع يعتمد على الإدارة الجماعية مثل مجتمعنا، فهي، في المقام الأول، تقديم صورةٍ أفضل لِما ينبغي أن يكون عليه الواقع، وبحيث تقترِب هذه الصورة اقترابًا أكبر من تجسيد مجموعةٍ من المبادئ الخلقية — كالسلام، والتصالُح،‏ وتخفيف المُعاناة — وتطبيقها على الحقائق المعروفة، وقد أطلق الفيلسوف البراجماتي الأمريكي سي. إس. بيرس تعبير «الاختطاف» على هذا المنهج، كما نجح في استخدامه المُفكر المُعاصر الذائع الصيت نعوم تشومسكي.٥ فالغرَض من الكتابة أو الكلام لا يتمثَّل في تبيان أنَّ المرء على حقٍّ أو إثبات أنه مُصيب، بل في محاولة إحداث تغييرٍ في المناخ الخلقي يكفُل لنا أن نرى العدوان عدوانًا، وأن نمنع وقوع عقابٍ ظالِم بالشعوب أو بالأفراد، أو نضع له حدًّا إن كان قد بدأ، وأن نرسي معيار الإقرار بالحقوق والحريات الديمقراطية باعتباره معيارًا يُطبَّق على الجميع، لا إشباعًا لضغينة قلةٍ مُختارة. ولكنني اعترف مع ذلك بأن هذه أهدافٌ مثاليةٌ كثيرًا ما يستعصي تحقيقها، وهي من زاويةٍ مُعينة، لا تتَّصل اتصالًا مباشرًا بموضوعي هنا وهو الأداء الفردي للمُثقف أو المفكر، كما ذكرتُ آنفًا، ما دام الشائع هو المَيل للنكوص أو لاتباع الخطِّ الذي يرسُمه «الحزب».

وأنا لا أرى ما هو أجدر بالاستهجان مما يكتسِبه المُثقف من عاداتٍ فكرية تنزع به نحو ما يُسمَّى «التفادي» أي النكوص أو التخلِّي (الذي يُمارسه الكثيرون) عن الثبات في موقفه القائم على المبادئ، على صعوبة ذلك، وهو يعلَم عِلم اليقين أنه الموقف الصائب ولكنه يختار ألا يلتزم به، فهو لا يُريد أن يظهر في صورة من اكتسى لونًا سياسيًّا أكثر مما ينبغي له، وهو يُحاول ألَّا يظهر في صورة من يختلف الناس عليه،‏ وهو يحتاج إلى رضاء رئيسه عنه، أو رضاء من يُمثِّل السلطة، ويُريد الحفاظ على سُمعته باعتباره متوازنًا، موضوعيًّا، معتدلًا، وهو يأمُل أن يُطلَب من جديد لإسداء المشورة، أو للاشتراك في عضوية مجلسٍ أو لجنةٍ ذائعة الصيت، وأن يظلَّ من ثَم في التيار الرئيسي للقادرين على تحمُّل المسئولية، ويأمُل أن يحصل يومًا على شهادةٍ فخرية، أو جائزة كبرى، وربما منصب سفير في دولةٍ أجنبية.

هذه العادات الفكرية هي مصدر الفساد لدى المُثقف دون مُنازع، وإذا كان ثمَّة شيءٌ قادر على تشويه الحياة الفكرية المَشبوبة و«تحييدها» ثم قتلها في النهاية، فهو استيعاب المُثقف لهذه العادات. ولقد واجهتُها شخصيًّا في إطار قضيةٍ من أعسر وأشقِّ القضايا المعاصرة، وأعني بها قضية فلسطين؛ إذ إن الخوف من قول الحقيقة والإقرار بوجود حالةٍ من أقسى حالات الظلم في التاريخ الحديث قد قيَّد خُطى الكثيرين ممَّن يعرفون الحقيقة وتؤهِّلهم مواقعهم لإحقاق الحق، فوضَع الغمامة على الأعيُن وكَمَّمَ الأفواه. فعلى الرغم من السباب والقدح الذي ينال كل مَن يُناصر علنًا حقوق الفلسطينيين وحقَّهم في تقرير المصير، فإن الحقيقة تستحق الإفصاح عنها، وتستحقُّ أن «يُمثلها» من لا يراوِده الخوف ويدفعه التراحُم من المثقفين والمُفكرين. ويصدُق هذا إلى حدٍّ أبعد بسبب توقيع إعلان المبادئ في أوسلو يوم ١٣ سبتمبر١٩٩٣م بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، فالإحساس الغامر بالفرحة الذي نتج عن هذا التقدُّم المحدود إلى أبعد الحدود قد ستَر الحقيقة في أعينُ الكثيرين وهي أن هذه الوثيقة لا تكفُل الحقوق الفلسطينية، بل تضمن في الواقع إطالة أمدِ السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المُحتلة، وكان انتقادها يعني فعليًّا اتخاذ موقفٍ مضاد «للأمل» و«السلام».٦

وهذه أخيرًا كلمة عن أسلوب «التدخُّل» الفكري: إن المثقف لا يتسلَّق جبلًا أو يَعتلي مِنبرًا حتى يُعلن ما لدَيه من الأعالي. ولا شك أنك تُريد أن تقول ما لدَيك من المكان الذي يكفُل لك «خير استماع» وأن تتَّخذ الموقف الذي يضمن إعلاءك لقضية السلام والعدل مثلًا بصورةٍ مُستمرة وغير مُتقطعة في الواقع. نعم إن صوت المُفكر الفرد صوتٌ فردي واحد، وهو لا يكتسِب رناته الحقَّة إلا حين يرتبط ارتباطًا حُرًّا بحركةٍ ما، أو بآمال شعبٍ من الشعوب، أو بالسعي المشترك لتحقيق مثَلٍ أعلى يُشارك فيه آخرون.

والانتهازية تُملي عليك في الغرب — ما دام قد دأب كثيرًا على أمرٍ ما، كانتقاد الإرهاب أو التطرُّف الفلسطيني مثلًا — أن تستنكرهُما بشدَّةٍ ثُم تمضي في طريقك فتمتدِح الديمقراطية الإسرائيلية. ولا بدَّ أن تقول كلماتٍ طيبة عن السلام. والمسئولية الفكرية تُلزِمك بطبيعة الحال بأن تقول كل هذه الأشياء للفلسطينيين، ولكن أن تُقدِّم حُجتك الأساسية أيضًا في نيويورك وفي باريس وفي لندن، بشأن القضية التي تستطيع أن تُحْدِث في هذه الأماكن أكبرَ تأثيرٍ مُمكن، بتعزيز فكرة الحُرية الفلسطينية والتحرُّر من الإرهاب والتطرُّف عند جميع من يَعنيهم الأمر، لا عند أضعف الأطراف وأيسرها إيذاءً وتعرُّضًا للتضرُّر.

ليس قول الحقيقة للسلطة ضربًا من المِثالية الخيالية، بل إنه يعني إجراء موازنة دقيقة بين جميع البدائل المُتاحة، واختيار البديل الصحيح، ثُم تقديمه بذكاءٍ في المكان الذي يكون من الأرجح فيه أن يعود بأكبر فائدةٍ وأن يُحدِث التغيير الصائب.

١  Peter Novick, That Noble Dream: The Objectivity Question and the American Historical Profession (Cambridge University Press, 1988), p. 628.
٢  سبقت لي مناقشة السياق الإمبريالي لهذه القضية بالتفصيل في كتابي:
Culture and Imperialism (New York: Alfred A. Knof, 1993), pp. 169–90.
٣  انظر وصف هذه الممارسات الفكرية المُريبة في كتاب:
Noam Chomsky, Necessary Illusion: Thought Control in Democratic Societies (Boston: South End Press, 1989).
٤  عالجتُ هذه القضية معالجة أوفي في دراسةٍ بعنوان «القومية وحقوق الإنسان والتفسير» في كتاب بعنوان:
Freedom and Interpretation: The Oxford Amnesty Lectures, 1992, ed. Barbara Johnson (New York: Basic Books, 1993), pp. 172–205.
٥  Noam Chomsky, Language and Mind (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1972), pp. 90–99.
٦  انظر مقالي بعنوان الصباح التالي:
The Morning After, London Review of Books, 21 October 1993, Volume 15, No. 20, 3–5.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤