الفصل السادس

أرباب دائبة الخِذلان

كان مُفكِّرًا إيرانيًّا لمَّاع الفصاحة وذا شخصيةٍ جذَّابة تعرَّفت به أول مرة في الغرب في عام ١٩٧٨م. وكان كاتبًا ومُعلمًا ذا إنجازاتٍ كبيرة وعِلم غزير، ونهض بدور مُهم في نشر المعرفة بحُكم الشاه الذي يُبغضه الشعب، كما أصبح في وقتٍ لاحقٍ من العام نفسه من الشخصيات الجديدة التي سرعان ما تولَّت مقاليد السلطة في إيران، وكان يتحدَّث باحترامٍ آنذاك عن الإمام الخوميني، وقُدِّر له بعد قليلٍ أن يبرز لارتباطه بالرجال الذين كانوا في مُقتبل العمر، نسبيًّا، والتفوا حول الخوميني. كانوا مُسلمين، بطبيعة الحال، ولكنهم لم يكونوا، بكلِّ تأكيدٍ من دُعاة ما يُسمى «بالكفاح الإسلامي»، وأعني بهم أمثال أبو الحسن بني صدر وصادق قطب زاده.

وبعد عدة أسابيع من تدعيم الثورة الإيرانية لسُلطتها داخل البلد، عاد الذي أتحدَّث عنه من إيران (وكان قد ذهب إليها ليشهد تنصيب الحكومة الجديدة) إلى الغرب سفيرًا لبلده في مدينةٍ مُهمة. وأذكر أنني حضرت، وشاركته مرةً أو مرتَين بعض حلقات النقاش حول الشرق الأوسط بعد سقوط الشاه، ورأيتُه في أثناء أزمة الرهائن، كما كانوا يُطلِقون عليها في أمريكا، وكان دائمًا ما يُعرب عن الأسى العميق بل والغضب من أولئك الأوغاد الذين دبَّروا الاستيلاء على السفارة وما تلاه من احتجاز أكثر من خمسين أمريكيًّا رهائن. كانت الصورة التي انطبعت في ذهني بوضوحٍ له صورةَ رجلٍ مُهذب ألزم نفسه بالنظام الجديد، بل ذهب في التزامه إلى الحدِّ الذي جعله يُدافع عنه بل و«يخدمه» باعتباره مبعوثًا مُخلصًا له في الخارج. وقد عرفتُ أنه مُسلم يلتزِم بتعاليم دينه، لكنه كان أبعدَ ما يكون عن التعصُّب. وكان بارعًا في الردِّ على المُتشكِّكين والذين يُهاجمون حكومته، وكان يفعل ذلك كلَّه عن اقتناعٍ مُبديًا القدرة على التمييز الصحيح بين ما ينبغي وما لا ينبغي، لكنه لم يترُك مجالًا للشكِّ عند أحد — أو عندي على أية حال — في أنه كان يرى، رغم خلافه مع بعض زملائه في الحكومة الإيرانية، ورغم أنه كان يرى أن الأحوال على هذا المستوى لم تكن قد استقرَّت بعد، أن الإمام الخوميني كان، وكان يجب أن يكون، صاحب السلطة في إيران. ولقد بلغ من درجة ولائه أن حدث عندما زار بيروت، فيما ذكره لي، أنه رفض مصافحة أحد القادة الفلسطينيين (وكان هذا في إبَّان التحالُف بين منظمة التحرير الفلسطينية والثورة الإسلامية) لأن ذلك القائد «كان قد انتقد الإمام».

ثم استقال من منصب السفير، ولا بد أنَّ ذلك كان قبل إطلاق سراح الرهائن بعدَّة شهور إن أسعفتني الذاكرة، وعاد إلى إيران ليعمل هذه المرة مساعدًا خاصًّا للرئيس بني صدر. ولكن خطوط الخصومة بين الرئيس والإمام كان قد سبق تحديدها بدقَّة، وخسر الرئيس المعركة بطبيعة الحال. وبُعيد قيام الخوميني بطرد بني صدر لجأ الأخير إلى المنفى، وذهب إلى المنفى صديقي أيضًا، وإن كان قد لاقى مشقَّة في الخروج فعلًا من إيران، وبعد عام أو نحو ذلك أصبح ينتقِد أحوال إيران في ظلِّ الخوميني علنًا وبصوتٍ مُدَوٍّ، ويُهاجم الحكومة والرجل الذي سبق له أن «خدمه» على نفس المنصَّات في لندن ونيويورك وهي المنصَّات التي سبق له أن دافع عنه عليها، ولكنه لم يفقد موقفه النقدي للدور الأمريكي، وكان دائمًا وبانتظامٍ يتحدَّث عن الإمبريالية الأمريكية: كانت ذكرياته الأولى عن نظام حُكم الشاه والدعم الأمريكي له تُمثل ندوبًا في أعماقه لا تبرح أبدًا.

ولذلك شعرتُ بالأسى، بل بحزنٍ أعمق حين سمعتُه يتحدَّث بعد حرب الخليج في عام ‎١٩٩١م بعدة شهور عن الحرب، وكان هذه المرة يُدافع عن الحرب الأمريكية ضد العراق، كان يقول، مثل عددٍ من المثقفين اليساريين الأوروبيين، إنه إذا نشب الصراع بين الإمبريالية والفاشية فعلي المرء دائمًا أن يختار الإمبريالية. ودُهِشت لأن أحدًا ممَّن وضعوا هذه الصيغة (التي تتضمَّن تخفيفًا لا داعيَ له في رأيي للمواجهة بين الخيارَين) لم يُدرك أنه من الممكن بسهولة، بل ومن المُستحبِّ على أُسس فكرية وسياسية، أن نرفُض الفاشية والإمبريالية معًا.

وعلى أية حالٍ أرى أن هذه الأقصوصة تُلخِّص إحدى المعضلات التي تُواجِه المُثقف أو المفكر المعاصر الذي لا يقتصر اهتمامه بما أُسمِّيه الحياة العامة على الجانب النظري أو الأكاديمي بل يتضمن المشاركة المباشرة أيضًا. إلى أي مدى ينبغي للمُثقف أن يمضي في هذه المشاركة؟ هل عليه أن ينضمَّ إلى أحد الأحزاب، وأن «يخدم» فكرةً من الأفكار المُجسدة في بعض ما يتعلَّق بالسياسة العملية من خطواتٍ وشخصيات ووظائف، وأن يغدو مِن ثَمَّ مؤمنًا صحيح الإيمان؟ أم ترى أنَّ أمامه، في مُقابل ذلك، طريقًا أخرى للمشاركة — طريقًا أكثر فطنة وحذرًا وإن لم تكن تَقلُّ في طابعها الجِدِّيِّ والفعال — بحيث تكفُل له المساهمة وتُجنِّبه ألَمَ التعرُّض فيما بعدُ للخيانة وخيبة الأمل؟ إلى أي مدى ينبغي لولاء المرء لقضيةٍ ما أن يمضي به لضمان إخلاصِه المُتَّسِق والدائم لها؟ هل يستطيع المرء أن يحتفظ باستقلال فكره وأن يتجنَّب في الوقت نفسه التعرُّض للآلام المُبرِّحة التي تُصاحب الإقرار علنًا بارتداده واعترافه بذلك؟

وليس من قبيل المُصادفة المَحضة أن نرى في رحلة عودة صديقي الإيراني إلى الإيمان بالحكومة الإيرانية الإسلامية، ثم تَخلِّيه عن هذا الإيمان، قصةَ اعتناق عقيدةٍ شِبه دينية، وانقلاب مُثير إلى أقصى حدٍّ — بعد ذلك — في هذه العقيدة المُعتنَقة، ربما إلى حدِّ اعتناق عقيدةٍ مُضادة. وسواء نظرتُ إليه باعتباره من دُعاة الثورة الإسلامية ثُم باعتباره جُنديًّا في صفوفها أو بصفته ناقدًا لا يحبس رأيه — أو قُل شخصًا تركها بإحساس المُشمئزِّ الذي يكاد أن يتمزَّق — فإنني لم أسْتَرِبْ لحظةً واحدة في صِدق صاحبي وإخلاصه؛ فلقد كان مُقنعًا كلَّ الإقناع في دوره الأول مِثلما أصبح في دوره الثاني — كان مشبوب الإحساس، طلق اللسان، باهر الحُجَّة مُفحِمًا في المناقشات.

ولا ينبغي لي هنا أن أتظاهر بأنني اتَّخذتُ مَوقف الشاهد المُحايد في شتى مراحل محنة صديقي، فلقد كان مِثلما كنتُ من المؤيدين للقومية الفلسطينية في إبَّان السبعينيات، واشتركنا في قضيةٍ واحدة ألا وهي الاعتراض على الدور الذي لعبته الولايات المتحدة بتدخُّلها الشديد الوطأة، إذ بدا لكلَينا أنها كانت تُساند الشاه وتُرضي إسرائيل وتدعمها بصورةٍ ظالمة وتُمثل مفارقةً تاريخية. وكنا نرى أن هذَين الشعبَين (الفلسطيني والإيراني) من ضحايا سياساتٍ بارِدة الإحساس إلى حدِّ القسوة: وهي سياسات القمع، والحرمان من الحقوق،‏ والإلقاء في هوةِ الفقر، وكان كِلانا يعيش في المَنفى بطبيعةِ الحال، وإن كان لا بدَّ لي أن أعترف بأنني — حتى في تلك الأيام — كنتُ قد وطَّنتُ النفس على ذلك ما بقيَ لي من العمر، وعندما انتصر الفريق الذي ينتمي إليه صديقي، إن صحَّ هذا التعبير، طرتُ فرحًا، ولم يكن السبب يقتصِر على أنه يستطيع أخيرًا أن يعود إلى وطنه، بل لأن نجاح الثورة الإيرانية كان يُمثل أول ضربةٍ كبرى — منذ هزيمة العرب في ١٩٦٧م — تصيب الهيمنة الغربية في المنطقة، وهي التي أقامت حِلفًا غير مُتوقَّع بين رجال الدين وعامة الشعب، فحيَّرت بذلك أمهر خبراء الشرق الأوسط من الماركسيين، ومن ثَم كان كلٌّ منَّا يرى فيها انتصارًا.

أما بالنسبة لي، ربما باعتباري مُفكرًا علمانيًّا يتَّسِم بعنادٍ أحمق، فلم تبهرني في يومٍ من الأيام شخصية الخوميني نفسه، حتى قبل أن يكشف عن جانبها الآخر باعتباره حاكمًا مُطلقًا ومُستبدًّا، بصورةٍ مُبهمة، وذا رأي مُتصلِّب. ولمَّا كان من طبعي عدم الانخراط في أي فريقٍ أو الانضمام إلى أي حزب، لم أُجنِّد نفسي لخدمة أحدٍ طول عمري،‏ والحقيقة المؤكدة هي أنني أعتدتُ العيشَ على الحافة، خارج دائرة السلطة، وأقول أيضًا إنني (ربما بسبب افتقاري إلى المواهب التي تكفُل للمرء مَوقعًا داخل تلك الدائرة المسحورة) لم أستطع في يومٍ من الأيام أن أومِن إيمانًا كاملًا بالرجال والنساء — فما هم في آخر الأمر إلا رجال ونساء فحسْب — الذين يقودون القوات، ويتزعَّمون الأحزاب والبلدان، ويُمسكون بزمام سُلطة لا يتحدَّاها أحد أساسًا. أما عبادة الأبطال، بل وفكرة البطولة نفسها عندما تُنسَب إلى معظم الزعماء السياسيين، فلم تنجح يومًا في إثارة أدنى إحساسٍ لدي. وكنتُ أشاهد صديقي وهو ينضم إلى أحد الأطراف، ثم يتخلى عنه ثُم يُعيد الانضمام إليه، وكانت كثيرًا ما تُصاحب ذلك مراسم الارتباط أو مراسم الرفض (مثل تسليم جواز سفره الغربي ثم استعادته) فينتابُني فرَح غريب لأنني فلسطيني أحمل الجنسية الأمريكية، وأن ذلك هو قدَري على الأرجح، فليست أمامي بدائل أكبر جاذبيةً تُداعب أحلامي ما بقي لي من العمر.

لقد شغلتُ لمدة أربعَ عشرة سنةً موقع العضو المُستقل في البرلمان الفلسطيني في المنفى، وهو المجلس الوطني الفلسطيني، وكان المجموع الكلى لعددِ اجتماعاته، في حدود ما حضرتُه منها لا يزيد عن أسبوعٍ فقط. وظللتُ في المجلس تعبيرًا عن التضامُن، بل عن التحدي، لأنني كنتُ أحسُّ في الغرب بالأهمية الرمزية للكشف عن نفسي باعتباري فلسطينيًّا بهذا الأسلوب، أي باعتباري شخصًا يرتبط علنًا بالكفاح الذي يرمي إلى مقاومة السياسات الإسرائيلية وحصول الفلسطينيين على حقِّ تقرير المصير. ولقد رفضتُ كلَّ عرضٍ قُدِّم لي بأن أشغل مناصب رسمية؛ ولم أنضم في يومٍ من الأيام إلى أي حزبٍ أو فصيلة. وعندما انتابني القلق، في العام الثالث للانتفاضة، إزاء السياسات الفلسطينية الرسمية في الولايات المتحدة، نشرتُ آرائي على الملأ في المحافل العربية، ولم أتخلَّ يومًا عن الكفاح أو أنضم — كما هو واضح — إلى الطرف الإسرائيلي أو الأمريكي، رافضًا التعاون مع القوى التي لا أزال أراها المسئولة الأولى عن آلام شعبنا. وعلى غرار ذلك لم أُظاهِر يومًا سياسات الدول العربية ولا حتى قبلتُ دعواتها الرسمية لي.

إنني على أتمِّ استعدادٍ للاعتراف بأن هذه المواقف التي أتخِذُها (وقد يزيد طابع «الاحتجاج» فيها عن الحد) تُمثِّل امتدادًا لما يُسفر عنه كَوني فلسطينيًّا، أساسًا، من مواجهةٍ مع المُحال، ومِن نتائج خاسِرة بصفةٍ عامة: فليست لنا السيادة على أرضنا، ولم نُحرِز إلَّا انتصاراتٍ ضئيلة لا يُتاح لنا الاحتفال بها إلا في أضيق الحدود. وربما كانت هذه المواقف تُمثل أيضًا محاولةً لإضفاء طابعٍ عقلاني على عُزُوفي عن مجاراة الكثيرين في الالتزام الكامل بقضيةٍ ما أو حزبٍ ما، والانغماس التام في العقيدة وفي الالتزام. وقصارى القول إنني لم أستطع ذلك، وفضلت الاحتفاظ باستقلال اللَّامُنتمي والمُتشكِّك وتغليب هذا الاستقلال على ما أرى أنه يكتسي صبغةً دينيةً غامضة نُدركها في حماس الذي يتحوَّل إلى اعتناق عقيدةٍ أخرى وفي حماس المؤمن الحق. وقد وجدتُ أن هذا الإحساس بالانفصال «النقدي» قد أفادني (وإن لم أكُن واثقًا كل الثقة من درجة الفائدة) بعدَ إعلان الصفقة التي أُبرِمت بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في أغسطس ١٩٩٣م، إذ بدا لي أن إحساس الفرحة العارمة الذي أفرخته أجهزة الإعلام، ناهيك بما كان يُعلَن في الدوائر الرسمية من سعادةٍ ورضًا، كان يُناقِض الواقع الكئيب والحقيقة المرة وهي أن قيادة منظمة التحرير لم تفعل أكثر من الاستِسلام لإسرائيل، وكان إفصاحي عن مِثل تلك الآراء في ذلك الوقت يجعلني أنتمي إلى أقلِّيةٍ ضئيلة، ولكنني رأيتُ أن واجبي يُحتِّم عليَّ الإعراب عنها لأسبابٍ فكرية وخلقية، ومع ذلك فإن الأحداث الإيرانية التي رَويتُها يمكن مقارنتها مقارنةً مباشرة بغيرها من الأحداث التي تصور التحوُّل من عقيدةٍ إلى عقيدة، والارتداد علنًا عن عقيدةٍ ما، وهي الأحداث التي شاعت في تاريخ المُفكرين والمُثقفين في القرن العشرين، وهذه هي الأحداث التي أودُّ النظر فيها هنا، على نحو ما وقعت في العالَم الغربي والشرق الأوسط، وهما اللذان أعرفهما خير المعرفة.

لا أُريد المراوغة أو السماح لنفسي بقدْر كبيرٍ من الغموض في البداية: إنني أُعارِض التحوُّل إلى عبادة أي ربٍّ سياسي أو الإيمان به مهما يكُن نوع هذا الرب. فأنا أعتبِر أن هذا وذاك يُمثِّلان سلوكًا لا يليق بالمُفكر. ولا يعني هذا أن على المُفكر أن يظلَّ واقفًا على حافة الماء، وقد يغمس أصبع قدمِه فيه من حينٍ لآخر، بحيث لا يُصيبه البلل إلَّا لِمامًا؛ إذ إن كل ما كتبتُه في هذه المحاضرات يؤكد أهمية الالتزام المشبوب للمُفكر أو المُثقف، ومواجهة الأخطار، وقبول الإفصاح عمَّا لدَيه مهما يكُن، والاستمساك بالمبادئ، والتعرُّض للإساءة في المناقشة، والانغماس في القضايا الدنيوية. فالفروق التي سبق أن أشرتُ إليها، مثلًا، بين المُثقف المحترف والمُثقف الهاوي تستنِد إلى ذلك وهي أن المُحترف يزعُم الابتعاد والانفصال بسبب مِهنته ويزعُم الموضوعية، ولكن الهاوي لا تُحفِّزه مكافأة أو فائدة، ولا يُحفزه تحقيق الأهداف المباشرة لِحياته العملية، بل يدفعه «الاشتباك» المُلتزِم بالأفكار والقِيَم في الحياة العامة. والمثقف يتحوَّل بمرور الزمن إلى العالَم السياسي، ويرجع السبب في ذلك، إلى حدٍّ ما، إلى أنه عالَم يختلف عن حياة الجامعة أو المُختبر في أنه يستمدُّ روحه من اعتبارات السلطة والمصلحة التي تتميز ببروزها الشديد، وقُدرتها على تسيير دفَّة مُجتمع كاملٍ أو أُمَّةٍ بأسرِها، وهي الاعتبارات التي تجعل المثقف يتحوَّل، كما يقول ماركس بنبراته الحاسمة، عن قضايا التفسير غير المُترابطة نِسبيًّا إلى قضايا أهم كثيرًا وأكبر دلالةً وهي قضايا التغيُّر والتحوُّل الاجتماعي.

ومن المنطقي أن كلَّ مثقفٍ أو مفكر يرى أن «صنعته» هي الإعراب الدقيق عن آراء وأفكار وأيديولوجيات مُحدَّدة يطمح إلى تطبيقها بنجاحٍ في مجتمعٍ ما، وأما المُثقف أو المفكر الذي يزعم أنه يكتب لنفسه فقط، أو مِن أجل المعرفة الخالِصة أو العلوم المجردة، فلن يُصدِّقه أحد، ويجب ألا يُصدقه أحد. وكما قال كاتب القرن العشرين العظيم جان جينيه ذات يوم: إنك حين تنشر مقالاتٍ في مجتمعٍ ما تدخُل في التوِّ واللحظة دُنيا السياسة؛ ومِن ثَمَّ فإذا أردتَ ألا تكون سياسيًّا فلا تكتب مقالاتٍ ولا تتحدَّث علنًا.

ويكمُن صُلْب ظاهرة «التحوُّل» في خطوة الانضمام نفسها إلى صفوف فريقٍ مُعين، أي إنه ليس مجرد انحيازٍ بل إنه التحاق بخدمة هذا الفريق والتعاون معه، وإن كنتُ أكره استعمال هذه الكلمة، وقد أمدَّتنا الحرب الباردة بنماذج لهذا «الانضمام» يندُر أن تفوقها نماذج أخرى في سوئها وتشويه سُمعة أصحابها، في الغرب عمومًا وفي الولايات المتحدة بصفةٍ خاصة؛ إذ انضمَّت فيالِق من المُثقفين إلى صفوف المعركة التي كانت تُعتبَر معركةً في سبيل قلوب الناس وعقولهم في شتَّى أنحاء العالم. وقد صدر في عام ١٩٤٩ كتاب من تحرير ريتشارد كروسمان، وحظي بشهرةٍ كبيرة، يُلخص الجانب المانوي الغريب (والمانوِيَّةُ هي الاعتقاد بوجود ربٍّ للشرِّ وربٍّ للخير) للحرب الفكرية الباردة، وعنوانه «الربُّ الذي خَذَلَ عُبَّاده»، وقد كُتب لهذه العبارة، بما فيها من إيحاءٍ ديني صريح، أن تعيش عمرًا أطول ممَّا يذكره أي فردٍ عن مضمون الكتاب، ولكن هذا المضمون جدير بتلخيصٍ موجزٍ في هذا المقام.

كان القصد من الكتاب المذكور تقديم الشهادة على سذاجة بعض كبار المُفكرين الغربيين وسهولة انخداعهم، ومن بينهم إنياتسيو سيلوني، وأندريه جيد، وآرثر كوستلر، وستيفن سبندر، وغيرهم، فسُمح لكلٍّ منهم أن يَحكي خبراته الخاصة عن الطريق الذي سلكه إلى موسكو، وتحرُّره المحتوم بعد ذلك من أوهامه، وما تلا ذلك من العودة لاعتناق عقيدةٍ غير شيوعية. ويختتم كروسمان مُقدمته بعبارةٍ ذات دلالات دينية مؤكدة وهي «كان إبليس يعيش ذات يوم في الجنة، ومن الأرجح ألا يستطيع من قابلوه أن يتعرَّفوا على ملكٍ من الملائكة حين يُشاهدونه.»١ وليست هذه مسرحية سياسية فقط بل هي من مسرحيات الأخلاق أيضًا، وقد تحوَّلت المعركة في سبيل روح الإنسان إلى معركة للسيطرة على فكره؛ إذ كانت لهذه المعركة عواقب وخيمة على الحياة الفكرية. ولقد حدث ذلك فعلًا في الاتحاد السوفييتي وفي الدول الدائرة في فلكه، على نحو ما حدث في المحاكمات الصورية، وحملات التطهير الجماعية، والسجون الهائلة التي تشهد جميعًا على فظائع المحنة في الجانب الآخر من الستار الحديدي.

وأما في الغرب فقد كان المطلوب من الشيوعيين السابِقين أن يُكَفِّروا علنًا عن ذنبهم، وكان ذلك يكتسي ما يكفي من القُبح حين يكون التائب من المشاهير الذين جُمِعت شهاداتهم في كتاب «الربِّ الذي خذل عُبَّاده»، ويكتسي قُبحًا أكبر بكثير حين يؤدي إلى هستيريا جماعية، على نحوِ ما حدثت في الولايات المتحدة التي تُعتبر مثالًا جسيمًا على ذلك. وأما في حالتي، وأنا الذي أتيتُ للدراسة بمدارس الولايات المتحدة في الخمسينيَّات، وكانت الحملة المكارثية (أي مُطاردة وتصيُّد واضطهاد اليساريِّين) تجري على قدمٍ وساق، فلقد لاحظتُ كيف أدَّت هذه الحملة إلى تشكيل طبقةٍ شرسة من المثقفين الذين يُحفزهم الإحساس بوجود تهديد داخلي وخارجي بُولِغ في تصويره مُبالغة انفلت زِمامها. كان الموقف بِرُمَّته يُمثل أزمة تَفُتُّ في العضد وتُثبِّطُ الهمَّة، إلى جانب كونه أزمة أوجدها صاحبها، وتدل على انتصار العقيدة «المانوية» على التحليل العقلاني، والقائم على النقد الذاتي.

وبنى البعض حياتهم العملية كلها لا على الإنجاز الفكري بل على إثبات شرور الشيوعية، أو ضرورة التوبة، أو على الإبلاغ عن أصدقائهم أو زملائهم، أو التعاون من جديد مع أعداء أصدقائهم السابقين، وخرجت نظُم كاملة في التفكير والكلام (الخطاب) من رحم مُناهضة الشيوعية، وهي كثيرة تتراوح بين البرجماتية المُعترضة التي زعمتها لنفسها مدرسة «نهاية الأيديولوجيا»، وبين المدرسة التي ورثت هذه المدرسة، في السنوات القليلة الماضية، ولم يُقَدَّر لها أن تعيش طويلًا، أي مدرسة «نهاية التاريخ». ولكن الحملة المنظمة لمناهضة الشيوعية في الولايات المتحدة لم تكن بِحالٍ من الأحوال اتجاهًا سلبيًّا للدفاع عن الحرية، بل كانت ذات همَّةٍ ونشاط كفل توجيه الدعم المُستتِر من وكالة المخابرات المركزية إلى جماعاتٍ لم تكن لتتميَّز بشيءٍ لولا ذلك، مثل جماعة «مؤتمر الحرية الثقافية» وهي التي لم تقتصر على توزيع كتاب «الربِّ الذي خذل عُبَّاده» في شتَّى أنحاء العالَم أو على تقديم الدعم المالي لبعض المجلَّات مثل مجلة إنكاونتر (وهي التي كانت تصدُر في العالم العربي في الستينيات باسم حوار)، بل تمكَّنت أيضًا من التسلُّل إلى داخل صفوف النقابات العمالية، والمنظمات الطلابية، والكنائس والجامعات.

وقد نجح مناصروها بوضوحٍ في تسجيل النجاحات الكثيرة التي تحقَّقت باسم مناهضة الشيوعية باعتبارها حركة. وأما المَعالم التي لا تدعو إلى الإعجاب فكان من بينها، أولًا إفساد أجواء المناقشات الفكرية الحرة، وازدهار «مناظرة» فكرية من خلال «نظام» إنجيلي انتهى إلى منهج «لا عقلاني» من الأوامر والنواهي، أو ما يليق فعله وما لا يليق (ومن صُلب هذَين خرج ما نُسمِّيه اليوم «باللياقة الاجتماعية» أو «الصحة السياسية») وكان من بين المعالِم، ثانيًا بعض أشكال تشويه الذات علنًا، وهي التي لم تتوقَّف حتى اليوم. ولكن هذه الأمور كلها كانت تجرى جنبًا إلى جنبٍ مع بعض العادات البغيضة مثل حصول فردٍ من الأفراد على مكافآت ومزايا من أحد الفرق، ثم تحوُّله هو نفسه إلى مظاهرة الفريق الآخر، وحصوله على المكافآت من راعيه الجديد.

وأريد أن أؤكد الآن بعض الملامح البالِغة القُبح في ظاهرة التحول من عقيدةٍ إلى عقيدة ثم الارتداد عن العقيلة المُعتنقة، وكيف يؤدي قيام الفرد المعني علنًا بالتصديق والرِّدَّة بعد ذلك إلى لونٍ من النرجسية وحُب الاستعراض عند المثقف الذي يفقد ارتباطه بمن يُفترَض أن يعمل لصالحهم من الناس أو من إجراءات التغيير، ولقد قلتُ عدة مراتٍ في هذه المحاضرات إن المثل الأعلى للمُثقف أو المُفكر هو أن يُمثِّل التحرُّر والتنوير، ولكن دون أن يُصبح هذان مُطلقًا من المجردات أو من الأرباب النائية ذات اللون الشاحب التي تُعبد وحسْب، فكل ما يُمثله المفكر أو المثقف — أي ما يُمثله هو والصور التي يُقدِّم بها الأفكار إلى جمهورٍ ما — يرتبط دائمًا بحياة المجتمع وخبراته مُتَّصِلة الحلقات، بل ينبغي أن يظلَّ دائمًا عنصرًا حيًّا من عناصرها: من حياة الفقراء، والمحرومين، ومن لا يُمثلهم أحد ولا يسمع أصواتهم أحد، ومن حُرِموا من أي سلطة، فخبرات هؤلاء خبرات عملية ملموسة ومتواصلة معًا وهي لا يمكن أن يكتب لها البقاء إذا تعرضت لتغيير صورتها (وتشويهها) بحيث تتجمد بعد ذلك في عقائد أو بيانات دينية أو أساليب عمل مهنية.

إن تغيير الصورة (والتشويه) على هذا النحو يؤدي إلى قطْع العلاقة الحية بين المُثقف أو المُفكر وبين الحركة أو إجراءات التغيير التي ينتمي إليها. أضف إلى ذلك خطرًا رهيبًا آخر يكمُن في إيلاء الأهمية القصوى للذات، ولا يراه المرء، ولاستقامته، وللمواقف التي يُعلن عنها. وقراءة كتاب «الرب الذي خذل عُبَّاده»، بما يحتويه من شهادات، تدفع القارئ في نظري إلى الاكتئاب، وأريد أن أسأل: لماذا آمَنْتَ أصلًا، باعتبارك مُفكرًا، بأحد تلك الأرباب؟ وثانيًا، من ذا الذي مَنَحَك الحق في أن تتصوَّر أن إيمانك في البداية ثم انقِشاع أوهامك في النهاية يكتسي أهميةً بالِغة؟ وأنا أرى أن العقيدة الدينية في ذاتها، ومن أجل ذاتها، أمر مفهوم وشخصي في أعماقه، لكنه حين يحلُّ محلَّها مذهبٌ يتميز بالجمود التام في تقسيمه للدنيا إلى طرفَين، طرف الخير والبراءة وطرف الشر المتأصِّل، ويُصبح هذا المذهب بديلًا عن دينامية العيش، أو عن طابع الأخذ والعطاء الذي تتميز به المُبادلات الحيوية، فإن المُثقف أو المفكر العلماني يبدأ في الشعور بأن منهاجًا قد تعدَّى على منهاجٍ آخر، وهو غير مُستحَب وغير مُستحسَن؛ إذ تتحوَّل السياسة إلى حماسٍ ديني، على نحو ما نرى الآن في يوغسلافيا السابقة، وهو الذي قد يؤدي إلى التطهير العرقي، والمذابح الجماعية، والصراع الذي لا ينتهي — وهي نتائج تُفزع من يتأمَّلها.

ومن المفارقات أن الشخص الذي تحوَّل عن عقيدةٍ كان يعتنقها، يتساوى في حالات بالِغة الكثرة مع المؤمن حديثًا بها في مقدار تعصُّبه ومقدار الجمود المذهبي والعُنف لدَيه. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة ويا للأسف، أن الانتقال من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين قد أدَّى إلى نشاطٍ فكري وثقافي رتيب مُمل، يزعم أنه يدعو إلى الاستقلال والتنوير لكنه لا يُمثل، خصوصًا في الولايات المتحدة، إلا صعود نجم «الريجانية» (نسبة إلى رونالد ريجان الرئيس الأمريكي من الحزب الجمهوري) و«الثاتشرية» (نسبة إلى مارجريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية من حزب المحافظين)، وقد أطلق الفرع الأمريكي لهذا الضرب من نشدان المصلحة الشخصية على نفسه اسم مذهب «إعادة النظر»، بمعنى أن «النظرة الأولى» في عقد الستينيات «المتهور» كانت راديكالية ومخطئة، وفي غضون شهور معدودة في أواخر الثمانينيات، كان مذهب «إعادة النظر» يطمح إلى أن يُصبح «حركة»، تتلقَّى قدرًا مُفزعًا من التمويل من «الرعاة» اليمينيِّين الأسخياء مثل مؤسستَي برادلي وأولين. وأمَّا مهمة «وكيل أعمال» هذه «الحركة» فقد تولاها دافيد هوروفيتس وبيتر كوليار، إذ تدفَّق من أقلامهما نهر من الكتب، يتلو بعضها بعضًا، ومعظمها يدور حول الراديكاليين السابقين الذين رأوا «نور الحقيقة» وأصبحوا، كما وصفهم أحدُهم، يُناصرون أمريكا ويناهضون الشيوعية بشدَّةٍ وعزم.٢
وإذا كان الراديكاليون من أبناء الستينيات، بإشكالياتهم الخاصة بمعارضة حرب فيتنام ومعاداتهم للنعرة الأمريكية، ذوي أفكارٍ توحي باليقين المُطلق والميل إلى تمثيل أدوار البطولة، فإن خلفاءهم الذين «أعادوا النظر» كانوا يتَّسمون مثلهم بعلو النبرة والوقوف على اليقين المُطلق، وكانت المشكلة الوحيدة، بطبيعة الحال، أنه لم يعُد أمامهم الآن عالم شيوعي، أو إمبراطورية للشر، ومع ذلك فقد انطلقوا — في حدودٍ فيما يبدو — «يُطهرون» أقوالهم السابقة مما كان يشوبها من نقائص (الافتتان بالاشتراكية) ويُكرِّرون إلقاء الصِّيغ الجاهزة التي تُعرب عن ندمهم وتوبتهم عما سلف، برنَّات التقوى والورع. أما في جوهر الأمر فقد كان ما يحتفلون به حقًّا هو الانتقال من عبادة ربٍّ قديم إلى عبادة ربٍّ جديد. وأما ما كان في يومٍ من الأيام يُمثل «حركة» تقوم إلى حدٍّ ما على المثالية المشبوبة والاستياء الشديد من الوضع الراهن، فقد قام من «أعادوا النظر» بتبسيطه وإعادة صياغته، «بأثر رجعي» حتى يتَّخذ صورة الحط من قدْر الذات في مواجهة أعداء أمريكا وصورة التعامي «الجنائي» عن وحشية الشيوعية.٣

وأما في العالم العربي فإن دعوة القومية العربية التي اتسمت بالشجاعة،‏ وإن شابتها الأوهام واتَّخذت أحيانًا ملامح هدَّامة في فترة عبد الناصر، فقد حلَّت محلها، بعد أن خمدت في السبعينيات، مجموعات من العقائد المحلية والإقليمية التي تفرضها بغلظةٍ نظُم حُكم لا تمثل الأكثرية ولا تحظي بحُب الناس. وقد أصبحت الآن تواجِه التهديد من جانب شتَّى ألوان الحركات الإسلامية. ومع ذلك فلقد بقيت صور من المعارضة العلمانية والثقافية في كل بلدٍ عربي، وينتمي أكثر الموهوبين من الكتَّاب والفنانين والمُعلقين السياسيين والمفكرين، بصفةٍ عامة إليها، وإن كانوا يُمثلون أقلية، وقد تعرَّض الكثيرون منهم للملاحقة حتى اضطرُّوا إلى الصمت أو العيش في المنفى.

وأمامنا ظاهرة تُنذر بسوءٍ أكبر، ألا وهي قوة الدول النفطية وثراؤها، والواقع أن بعض أجهزة الإعلام الغربية التي تبغي الإثارة قد اهتمَّت اهتمامًا بالغًا بنظامَي حُكم البعث في سوريا وفي العراق وأغفلت إلى حدٍّ ما الضغوط الهادئة والخبيثة التي تُمارسها الحكومات الغنية لضمان السير في ركاب مبادئها، فلدَيها المال الذي تُنفقه في هذا السبيل وتقديم الرعاية المالية السخية للأكاديميين والكُتَّاب والفنانين، وقد تجلى هذا الضغط بصفةٍ خاصة في إبَّان أزمة الخليج وفي حرب الخليج أيضًا، فقبل الأزمة كانت القومية العربية تحظى بالتأييد والدفاع عنها دفاعًا مُطلقًا من جانب المُثقفين أو المُفكرين التقدُّمِيِّين الذين كانوا يرَون أنهم يناضلون في سبيل إعلاء شأن الناصرية، وفي سبيل مناهضة الإمبريالية وقضية الاستقلال على نحو ما حدَّدهما مؤتمر باندونج وحركة عدم الانحياز. وما إن قامت العراق باحتلال الكويت حتى رأينا تغيُّرا كبيرًا ومُثيرًا في المواقف التي يتخذها المثقفون، حتى لقد قيل إن أقسامًا كاملة في صناعة النشر المصرية (إلى جانب الكثير من الصحفيين) قد انقلبت إلى الاتجاه العكسي، وبدأ بعض القوميِّين العرب يتغنَّون بالمدائح للمملكة العربية السعودية والكويت، وهما اللذان كانا من الأعداء البغضاء في الماضي فأصبحا من الأصدقاء والرعاة الجدد.

ومِن المُحتمل أن المكافآت قد قُدِّمَت حتى يحدث هذا الانقلاب، ولكن بعض المثقفين العرب الذين «أعادوا النظر» قد اكتشفوا فجأة مشاعرهم المشبوبة تجاه الإسلام، إلى جانب الفضائل الفريدة لبعض أفراد الأُسَر الحاكمة في الخليج، وقبل ذلك بما لا يزيد عن عامٍ أو عامَين، كان الكثيرون منهم (بل وبعض النظم الحاكمة في الخليج التي كانت تدعم صدام حسين ماليًّا) يُنشئون قصائد التسبيح بأمجاد العراق ويعقدون المهرجانات تحيةً لها وهي تصدُّ غائلة أعداء العرب القدماء أي «الفرس». وعندما قدمت المملكة العربية السعودية الدعوة لجورج بوش وجيوشه لدخول أراضيها تحوَّلت وجهة هذه الأصوات، وكان ما أقاموه ونصبوه هذه المرة هو الرفض الرسمي للقومية العربية، بالصورة التي تَكرَّر ذلك بها كثيرًا (وإن تحول لديهم إلى مُحاكاة فجة) يغزوها التأييد المطلق للحكَّام الحاليين.

وقد ازداد تعقيد الأمور أمام المثقفين العرب بسبب بروز الولايات المتحدة أخيرًا باعتبارها القوة «الخارجية» الرئيسية ذات الوجود في الشرق الأوسط اليوم. وأما ما كان يُعتبر ذات يومٍ عداءً تلقائيًّا ودون تفكير لأمريكا — وإن اتسم بالجمود الفكري والبساطة المضحكة وغلبة القوالب الثابتة عليه — فقد تحوَّل إلى مناصرة لأمريكا بناء على أوامر سامية، وانخفض النقد الذي كان يُوَجَّه للولايات المتحدة، بل وتلاشى أحيانًا، في الكثير من الصحف والمجلات في العالم العربي، وخصوصًا في تلك التي اشتهر عنها تلقِّي الدعم المالي من الخليج، وهو الدعم الذي كان قريب المثال في جميع الأحوال، وقد صاحبت ذلك أوامر الحظر المفروض على انتقاد نظم الحُكم العربية بعضها بعضًا، وهو الذي كاد أن يصل في الواقع إلى حدِّ التأليه.

واكتشفت حفنة ضئيلة من المُثقفين العرب فجأة دورًا جديدًا لهم في أوروبا والولايات المتحدة، وكان هؤلاء في يومٍ من الأيام من المُناضلين الماركسيين، وكثيرًا ما كانوا من أتباع تروتسكي ومؤيدي الحركة الفلسطينية، وتحوَّل بعضهم، بعد الثورة الإيرانية، إلى إسلاميين. وعندما فرَّت أربابهم أو طُردت، خلد هؤلاء المثقفون إلى الصمت، على الرغم من بعض المحاولات التي بذلوها، هنا وهناك، بحثًا عن أربابٍ جديدة يعبدونها، وأعرف واحدًا منهم كان «تروتسكيًّا» مخلصًا ثم هجر اليسار وتحوَّل، مثل الكثير من الآخرين،‏ إلى الخليج، حيث استطاع أن يشقَّ طريقه بنجاح في مجال البناء والتشييد، وأعاد تقديم نفسه في صورةٍ جديدة قبَيلَ أزمة الخليج، وأصبح من النقاد المُتَّقِدين حماسًا لنظام حُكم عربي مُعين، ولم يكن يكتب باسمه الشخصي مُطلقًا، بل يستخدم عددًا من الأسماء المُستعارة التي تحمي هويته (ومصالحه) وانقض يُهاجم الثقافة العربية برمَّتها، دون تمييز وفي نبرات هستيرية، وأدى الأسلوب الذي اتبعَه في ذلك إلى اجتذاب اهتمام القرَّاء الغربيِّين.

لا يجهل أحد مدى الصعوبة البالِغة التي تكتنف محاولة انتقاد سياسات الولايات المتحدة أو إسرائيل في التيار الرئيسي لأجهزة الإعلام الغربية، كما يعرف الجميع أنك إذا حاولتَ أن تقول كلامًا مُعاديًا للعرب كشعبٍ أو كثقافة، أو للإسلام كدين، فسوف تجد ذلك يسيرًا إلى درجةٍ مذهلة. فالواقع أن حربًا ثقافية تدور رحاها بين المُتحدثين باسم الغرب والمُتحدثين باسم العالَم الإسلامي والعربي. وفي هذا الوضع «الملتهب» يُصبح من أشقِّ الأمور على المُثقف أن يتَّخِذ موقف الناقد، فيرفض استعمال الأسلوب البلاغي الذي يُمثل المعادل اللفظي لقصف منطقةٍ ما تمهيدًا لتقدُّم القوات الأرضية، ويركز بدلًا من ذلك على بعض القضايا الأخرى مثل دعم الولايات المتحدة لنُظم الحُكم العميلة التي لا تحظى بحُب الشعب، وهي التي يرى من ينشر كتاباته في الولايات المتحدة أنها أقرب إلى التأثر بالمناقشات النقدية.

وعلى العكس من ذلك، بطبيعة الحال، يكاد أن يكون من المؤكد أن تجد لك جمهورًا إذا كنتَ مُثقفًا عربيًّا وانطلقتَ تُناصر سياسات الولايات المتحدة بحماسٍ بل واستخذاء وتُهاجم مُنتقِديها، فإذا تصادف أن كانوا عربًا، اخترعت الأدلة التي تُبين شرورهم، وأما إذا كانوا من الأمريكيين فما عليك إلا أن تقوم بتجهيز القصص والمواقف التي تُثبت نفاق هؤلاء النقاد، وسرد حكايات كاذبة عن العرب والمُسلمين ترمي إلى التشهير بتُراثهم وتشويه تاريخهم وتأكيد وإبراز نقاط ضعفهم، ونقاط الضعف التي يرونها كثيرة بطبيعة الحال. والأهم من ذلك جميعًا أن تهاجم الأعداء «المتفق عليهم» رسميًّا — صدام حسين، حزب البعث، القومية العربية، الحركة الفلسطينية، آراء العرب في إسرائيل — وسوف يكسب لك هذا، بطبيعة الحال، آيات التكريم المُتوقعة: فيُقال إنك شجاع، وصريح، ومُتحمِّس، وهلمَّ جرًّا، أي إن الربَّ الجديد قد أصبح الغرب، فأنت تقول إن على العرب أن يُحاولوا أن يُحاكوا الغرب مُحاكاةً أكبر، وأن يعتبروا الغرب مصدرًا ومرجعًا يُرجَع إليه، وهنا يختفي عن الأنظار ما سبق أن فعله الغرب في الواقع وتختفي الآثار المُدمرة الناجمة عن حرب الخليج. فأنت تقول إننا نحن العرب والمسلمين مَرضى، ومشكلاتنا من صُنع أيدينا، ونحن الذين جلبناها لأنفسنا دون غيرنا.٤

ويبرز في أمثال هذا الموقف أو هذا السلوك عددٌ من الظواهر، أولها الافتقار الكامل إلى العالمية والشمول، فمن يعبُد أحد تلك الأرباب عبادة عمياء، يرى دائمًا جميع الشياطين في الجانب الآخر، ويصدُق هذا على المؤمن ﺑ «تروتسكي» مثلما يصدُق على من ارتدَّ عن إيمانه فنبذ تروتسكي، فهو لا يتناول السياسة فكريًّا من حيث العلاقات المُتداخلة والمتشابكة، أو من حيث التاريخ المشترك للشعوب، على رغم ما نعرفه مثلًا عن الطابع الديناميكي والمُعقد لارتباط العرب والمسلمين بالغرب وارتباط الغرب بهم، فالتحليل الفكري الصحيح والحقيقي لا يسمح بنسبة البراءة إلى طرفٍ والشرِّ إلى الطرف الآخر، ولا شكَّ أن فكرة «الأطراف» نفسها، في إطار البحث الثقافي، تُمثل إشكاليةً كبرى، لأن معظم الثقافات لا تُمثل حزمًا صغيرةً محكمة الإغلاق، أو مُتجانسة كل التجانس، أو تقتصر على الخير الخالص أو الشر الخالص، ولكن المثقف الذي يضع موقف من يَرعاه نُصب عينَيه لن يستطيع التفكير كما يُفكر المثقف الحق بل إما باعتباره من أتباع راعيه أو من حوارييه أو مُساعديه وشركائه، ففي مكانٍ ما في ذهنه يكمُن حدَبه على إرضائه وتجنُّب استيائه.

ونحن نرى ثانيًا أن مِثل هذا المُثقف سوف يطأ بأقدامه، بطبيعة الحال، قصة عبادته السابقة، هو نفسه، لسادته السابقين، أو يصِفها بأنها كانت شرًّا مُطلقًا، لكن تلك القصة لن تدفعه إلى أدنى قدرٍ من الشك في ذاته، ولن تُثير فيه أدنى رغبةٍ في التساؤل عن صحة عبادة ربٍّ من تلك الأرباب بأعلى النبرات والانتقال فجأةً بعدَها إلى عبادة ربٍّ جديد، ذلك أبعد ما يكون عن الواقع، فمِثلما انتقل من عبادة ربٍّ إلى عبادة ربٍّ آخر في الماضي، سوف يستمِر في ذلك في الوقت الحاضر، وقد يتَّسِم ذلك بزيادةٍ في بلادَة الشعور حقًّا، ولكن الأثر النهائي لن يختلف مُطلقًا.

وخلافًا لهذا أقول إن المُفكر أو المثقف الحق كائن علماني. فمهما يبلُغ تظاهر المفكرين أو المُثقفين بأن آراءهم تُمثل القيم القصوى أو المُثل العُليا، فإن الشرعة الأخلاقية تبدأ بسلوكهم في هذه الدنيا العلمانية التي نعيش فيها — أي بالتساؤل عن المكان الذي يُمارسون فيه هذا السلوك والمصالح التي يسعَون «لخدمتها»، وكيف يستهزئ هذا السلوك بشرائع الأخلاق المُتسقة والعالمية، ‏وكيف يُميز بين السلطة والعدالة، وكيف يفصح عن اختياراتٍ وأولويات مُعينة. إن تلك الأرباب التي دائمًا ما تخذل عُبَّادها تطلُب من المفكر، في النهاية، أن يتمتع باليقين المُطلَق، وبنظرة شاملة مُصمتة إلى الواقع لا ترى فيه إلا الحواريين أو الأعداء.

والأهم من ذلك في نظري هو قدرة المفكر أو المُثقف على الحفاظ على مساحةٍ مُعينة في ذهنه للشك،‏ وللدور الذي تنهض به السُّخرية اليقظة التي تستريب بما ترى (والأفضل أن يجمع إلى هذا سخريةً من ذاته أيضًا)، لا شك أن لديك قناعات وأنك تُصدر أحكامًا، ولكنك لا تصل إليها إلا بالعمل، وبالإحساس بارتباطك بالآخرين، بالمُثقفين الآخرين، وبحركة القاعدة الشعبية، وباستمرار التاريخ،‏ وبمجموعةٍ من خبرات الحياة التي عاشها الناس. وأما عن المجردات و«العقائد الصحيحة»، فالمشكلة التي تكتنِفها هي أنها تُمثل رعاةً يطلبون الإسعاد والاسترضاء طول الوقت. ويجب ألا تتَّخذ الشرعة الأخلاقية والمبادئ الخاصة بالمُثقف أو المفكر صورة «علبة التروس» مُحكمة الإغلاق في السيارة، وهي التي تُوجِّه مسار الفكر والعمل في تجاهٍ واحدٍ وتستمدُّ طاقاتها من مُحرك يعتمِد على مصدرٍ واحد للوقود، بل إن على المُفكر أو المُثقف أن يتجول كيفما شاء، وأن يتمتع بحُرية التوقُّف والرَّدِّ على السلطة، إذ إن الخضوع للسلطة في عالَم اليوم يمثل أكبر خطرٍ يُهدِّد الحياة الفكرية والخلقية النشطة.

ومن الصعب على المرء أن يُواجِه هذا التهديد وحدَه. والأصعب من ذلك أن يهتدي إلى ما يُمكِّنه من الاتساق مع مُعتقداته وما يُتيح له في الوقت نفسه أن ينمو ويتطور، وأن يُغير رأيه، ويكتشف أشياء جديدة، ويُعيد اكتشاف ما كان قد نحَّاه جانبًا. وأما أصعب جانب من جوانب حياة المثقف أو المفكر فهو تجسيد ما يقوله في عمله «وتدخُّلاته» دون أن يتصلَّب فيُصبح أشبه بالمؤسسة أو الآلة الصماء التي تتحرك بناء على توجيهات نظامٍ ما أو منهاجٍ ما. وكل من أحسَّ بالبهجة لنجاحه في تحقيق هذه الغاية ونجاحه أيضًا في الحفاظ على اليقظة والصلابة سوف يُقدِّر مدى نُدرة تحقيق الغايتَين معًا وفي الوقت نفسه. ولكن السبيل الوحيد إلى ذلك على نُدرته، هو ألا يتوقَّف المرء عن تذكير نفسه بأنه، باعتباره مُفكرًا أو مثقفًا، يتحمَّل دون غيره مسئولية الاختيار بين «تمثيل» الحقيقة بأقصى ما يستطيع من طاقةٍ وبين سلبية السماح لراعٍ من الرعاة، أو سلطةٍ من السلطات بتوجيهه. فمن وجهة نظر المثقف أو المفكر العلماني، أمثال تلك الأرباب دائمًا ما تخذل «عُبَّادها».

١  The God That Failed, ed. Richard Crossman (Washington, D.C: Regnery Gateway, 1987), p. vii.
٢  يقدم كريستوفر هتشينز وصفًا حذقًا وطريفًا لأحد مؤتمرات إعادة النظر في:
For the Sake of Argument: Essays and Minority Reports (London: Verso, 1993), pp. 111–14.
٣  تتعرض إحدى الدراسات القيمة لشتَّي أنواع التنكُّر والتنصُّل مما كان الفرد يقول به، انظر:
E.P. Thompson’s Disenchantment or Apostasy? A Lay Sermon in Power and Consciousness, ed. Conor Cruise O’Brien (New York: New York University Press, 1969), pp. 149–82.
٤  من الأعمال التي تُحدِّد أنماط بعض هذه المواقف الكتاب التالي:
Daryush Shayegan, Cultural Schizophrenia: Islamic Societies Confronting the West, trans. John Howe (London: Saqi Books, 1992).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤