أشياء كبيرة وعدسات صغيرة

اعتذار

أعتذر للأسئلة الكبيرة عن الأجوبة الصغيرة.

الشاعرة البولندية «فيسوافا شيمبروسكا»

عن «هذه المسائل الكبيرة»

إنْ لم تكن قد قرأتَ حتى الآن كتابَ «شيء من هذا القبيل» للأديب المصري الكبير الراحل «إبراهيم أصلان»، فقد فاتَكَ الكثيرُ من المتعة والفائدة. في إحدى القطع الأدبية الصغيرة من هذا الكتاب، وتحت عنوان «هذه المسائل الكبيرة»، يتعرَّض أصلان لطريقة الفن في التعبير عن القضايا الكبيرة التي نعيشها بالتلميح والمشهد والصورة، دون مُباشَرة ووعظ. يقول:

… أرجوك، إذا ما صادفَكَ رجلٌ في قصةٍ أو روايةٍ قد جلس صامتًا، أو طَفِق يضحك دونما سبب، أو رأيتَ أحدًا يمشي في الشارع وهو يتبادَلُ الكلامَ مع نفسه، أو لمحتَ امرأةً تزيَّنت ووقفت أمام المرآة لا تعرف ماذا تفعل بنفسها؛ إذا صادفَتْكَ مثل هذه التفاصيل العابرة، فلا تظنَّها غير ذات صلة بهذه المسائل الكبيرة؛ لأنَّ في تطلُّع طفلٍ إلى الطعام في يد الغير تعبيرًا عن محنة عظيمة، وارتجافة خوفٍ تعتري إنسانًا من لحم ودم لمجرد مروره أمام قسم شرطة لَهِي اختزالٌ لتاريخٍ كاملٍ من المهانة والقهر.

ما الحب؟

نُشِر على مواقع التواصل الاجتماعي تعريفٌ للحب، من طفلة ذات ستة أعوام، تقول فيه إنه «عدم الخجل من الابتسام أمام أصدقائك، حتى إن كنتَ فقدتَ إحدى أسنانك.» هذا مثال نموذجي على ما نحاول توضيحه فيما يلي، تحويل المعنى المجرد إلى شيءٍ محسوس وواضح. من السهل — والمكرور كذلك — أن تضع أعقد وأغرب التعريفات للحب، لكنَّ الصعبَ — والمبتكَر كذلك — أن تعثر على تعريفه الخاص بك، من خلال التقاط لحظةٍ صغيرة كهذه. لقد حوَّلتْ هذه الطفلة، ببساطة وذكاء، المعنى المجردَ إلى دراما، إلى موقفٍ بسيطٍ وكاشف، دون اضطرار إلى أيِّ كلام كبير قد يكون أجوفَ تمامًا.

تلك المعاني الكبرى

في بدايات تجارب الكتابة، ومع المحاولات الأولى في سنٍّ صغيرة، تُساوِرنا جميعًا الرغبةُ في الكتابة عن معانٍ كبرى، أفكارٍ مجرَّدة، قِيَمٍ عامة، أشياء نعرفها بالظن، لا نعرف لها ملمسًا أو لونًا أو شكلًا؛ نريد أن نكتب عن الخير، عن العدل، وبالطبع عن الحب (دون أن نفكِّر في احتمال الابتسام على الرغم من السن المفقودة للأسف). ما يشجِّع رغبتَنا هذه كلُّ ما تلقَّيْناه في مراحل التعليم خلال دروس التعبير والإنشاء أو مهارات الخطابة وما شابَهَ ذلك؛ أي الكتابة عن «موضوع» مهمٍّ وكبير، لكن هل يمكن أن يكون هذا مفيدًا أو سائغًا في الكتابة الإبداعية عمومًا، وفي القصة والرواية خصوصًا؟ غالبيةُ الكُتَّاب لا ينصحون بالانطلاق من معانٍ مجردة للكتابة عنها، ويشجِّعون على العكس؛ أي الانطلاق من شيءٍ صغير، محسوس ومرئي؛ صورة مثلًا، وجه شخص، موقف صغير … إلى آخِره.

ما ضرورة هذا؟

من ناحيةٍ، الانطلاقُ من معنًى مجرَّد قد يؤدِّي بسهولة إلى الخطابة والزعيق والمباشرة (أريد أن أتكلم عن الفضيلة، لا بدَّ أن أُقْنِع القارئَ بقيمة الفضيلة، لا بدَّ أن أستعين بكل الشواهد الأدبية والتاريخية الممكنة لأُثبِتَ قضيتي)، وهكذا قد يقع الكاتب في فخِّ الوعظ أو المباشرة على الأقل. ومن ناحيةٍ أخرى، الكتابة الإبداعية تعتمد بدرجات مختلفة، وبحسب أنواعها وطُرُقها، على التصوير والعَرْض، على الحِيَل الفنية وألعاب الإخفاء والإظهار، وهو ما لن يتحقَّق إذا اعتمدنا على التحدُّث المباشِر حول هذا المعنى أو ذاك. وعلى الرغم من صحَّة ذلك كله، ثَمَّةَ طرائق وحِيَل يمكنكَ الاستعانة بها إذا أصررتَ على الانطلاق من بعض المعاني المجرَّدة في كتابتك، وكيف يمكن لكَ أن تحوِّلها إلى أشياء ملموسة وحسِّيَّة، يمكن للقارئ أن يتفاعل معها بخياله وأحاسيسه، لا أن يتلقَّاها بوعيه وفكره فحسب؛ أيْ أَنْ تحوِّلها إلى فن. عندما يتخلَّى القارئ عن منطقه الرياضي وحساباته العقلية الصارمة، عندما يترك نفسه للاندياح مع محطَّات حكايتكَ، وللتماهي شبه التام مع شخصيتكَ، عندئذٍ فقط يمكن أن تتسلَّل إلى نفسه كلُّ تلك المعاني الحلوة والكبرى التي تحاول أن تنقلها إليه، دون أن يكون عليكَ أن تسمِّيها حتى.

عمليًّا

استخدِمِ استيعابك الحسِّي للعالَم من حولك لتكتشف كيف يمكن أن تصنع من المجرَّدات شيئًا ملموسًا. لا شكَّ أنكَ سمعتَ كثيرًا فكرةَ أنَّ «الإظهار — في السرد — خيرٌ من الإخبار»، وهي فكرةٌ لها مقدار الصدق والوجاهة نفسه هنا أيضًا؛ لا يكفي أن تقول إن شخصيتكَ — وقد ارتمَتْ على الفراش — «راحت تمضغ الشفقةَ على ذاتها، وتشقُّ طريقَها بصعوبة وسط حنينٍ غامرٍ، قبل أن يبتلعها تمامًا ذلك الذي لم يَعُدْ له وجود.» على الرغم ممَّا قد تبذله من جهدٍ في رسْمِ صورتكَ البلاغية، لكن قد يبقى الشعورُ غامضًا للقارئ. استعِنْ بالمجاز، إن شئتَ، بقدر ما يكون كاشفًا: «تكوَّرتْ على نفسها مثل يرقة.» واهتمَّ بالوصف الحسي أكثر من النقل المباشِر لطبيعة مشاعر شخصيتك: «تكوَّرتْ على نفسها حتى كادت ركبتاها أن تمسَّا ذقنها.» قدِّمْ لقارئكَ صورةً، تفاصيلَ بصريةً، والأهم من ذلك أن تتجنَّب «الكليشيهات»؛ أي العبارات المبتذلة المكرورة التي يتم استهلاكها مرارًا وتَكرارًا حتى تفقد معناها ورونقها.

تمرين

ضَعْ قائمةً بكلمات مجردة؛ مشاعر وانفعالات وأحاسيس، ثم حاوِلْ أن تصفها من خلال الحواس. على سبيل اللعب والتجريب: ما لون الحب؟ ما رائحة الغيرة؟ ما مذاق التعب؟ ما ملمس الغضب؟ ما صوت النفاق؟

فاجِئْ نفسَك وغامِرْ والعب، متجنِّبًا الكليشيهات الجاهزة، فليس بالضرورة أن تكون صورةُ الحب على الدوام هي زهورٌ وقلوبٌ وشموسٌ غاربة، بل قد تكون أيضًا «سِنَّة مكسورة».

•••

في الفصل التالي المزيد عن كتابة المعاني والمجردات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤