لوِّنْ أفكارَك بألوان السرد

سِحْر الكتابة

الكتابة هي طريقتنا في طرح الأسئلة عن العالَم والوجود. في وقتٍ متأخِّر من حياة الكاتبة البريطانية «آنجيلا كارتر» قالت إنها بهذه الطريقة (أي الكتابة) ما زالتْ قادرةً على أن تطرح «تلك الأسئلة الكبرى الخاصة بمرحلة المراهقة، عن طبيعة الواقع: ما سبب وجودنا هنا؟ ما الذي نفعله هنا؟ ومَن نكون؟»

يمكن لتلك الأسئلة ذاتها أن يطرحها ويجيب عنها فيلسوف أو رجل دين أو عالِم أو سياسي. الفن أيضًا لا يتوقف عن طرح الأسئلة القديمة (والكبيرة) ذاتها، وإنْ بطريقته الخاصة، وبالطبع دون أجوبة نهائية. يستعين الكاتب باللغة في رحلته الاستكشافية وصياغة تجاربه، وعلى اللغة هنا — بجانب دورها الجمالي في الأدب — أن تكون عنصرَ توصيلٍ فعَّالًا، في كشفها للأشياء وكل ما هو مادي وملموس في عالم الحياة اليومية، في محاولة دائمة لغرس تلك الأسئلة القديمة والمعاني الكبرى عميقًا في أرض الواقع، بمادته الصُّلبة، بحيث تتحوَّل في وعي القارئ إلى صورٍ لا تقِلُّ وضوحًا وحيويةً عمَّا يحيط به من موجودات. هنا يبتعد الأدب عن الفلسفة مثلًا، يصير أقربَ إلى الناس وأسهلَ في التلقِّي، وتتحوَّل المعاني الغامضة إلى صورٍ وأيقونات وألوان، هنا ينجح الساحرُ في تحويل طبقات السماء إلى لُعبة تضمُّها يدان، ويخفي ألغازَ الفكر الغامضة بين طيَّات جملةِ حوارٍ، أو إيماءةٍ لإحدى الشخصيات.

المُقامِر لا المقامَرة

لا أذكر أين أو متى سمعتُ مقولةَ أنه «لا يوجد مرض، يوجد فقط مرضى.» أي إننا لا نستطيع أن نَفصِل أيَّ مرض، في البدن أو في النفس، عن الشخص الذي يحمله ويقاومه أو يتكيَّف معه. في الكتابة الإبداعية أيضًا لا يمكننا أن نفصل أيَّ قضية عامة — مهما كانت جاذبيتها أمام الكتابة — عن الشخصية التي تحتويها وتعرضها، دراميًّا، عبر تطوُّر الحكاية. إنك لا تكتب عن المقامَرة، بل عن مقامِرٍ محدَّد، له صفات خاصة ومحدَّدة. مهما اجتهَدَ علماءُ النفس في وضع تحديدات وسمات عامة مشتركة لشخصية المقامِر، فلا بدَّ أن يبقى مقامِرُك الخاص بقصتك مختلفًا عن جميع الآخَرين، وإلَّا فما جدوى كتابة هذه الحكاية ومن ثَمَّ قراءتها، إذا كانَتْ مجردَ عرضٍ لوضعيةٍ نفسيةٍ، تتطابق فيها آلافُ النماذج الإنسانية؟ لذلك فإن أوَّل نصيحة قد تسمعها كثيرًا إذا ما قرَّرتَ الكتابةَ عن مثل تلك النماذج العامة، هو أن تكون محدَّدًا قدر المستطاع، وأن تنطلق من خصوصية واضحة لشخصيتك وحكايتك، أن تعرض للقارئ سببَ اختلافِ هذه الحالة تحديدًا عن سائر الآخَرين، وأن تستعين بالتخصيص والتحديد والتجسيد الدرامي لاستكشاف أي هموم إنسانية مشتركة، أو معانٍ وأفكار مجردة ترجو تناوُلَها.

لا بدَّ من الانتباه إلى أن الكتابة السردية الجيدة تتجنَّب — قدر المستطاع — جميعَ آليات التوجيه والتعليم والنُّصْحِ والإرشاد. هذا ليس دورها، ملعبُها هو الفتنة والجمال واللعب مع ذلك اللغز الذي لم يتبدَّدْ غموضُه قطُّ؛ الإنسان. الحقائق الوحيدة التي يدين بها سَرْدُكَ لقرَّائه هي تلك المتعلِّقة بشخصياتك وبهمومها وأحوالها، لا بأفكارك أنت ووجهات نظرك وآرائك حول هذه القضية أو تلك المسألة. لا تحاوِلِ التذاكيَ على القارئ ودَسَّ تلك الآراءِ والأفكارِ الخاصة بك هنا وهناك، عبر السرد، أو على ألسنة شخصياتك، بصرف النظر عن تكوينها ومنطقها الخاص، فسوف يكتشف خداعَك ويدرك أنك لا تزال تتحدَّث من منبر الواعظ، ولو تظاهَرْتَ بعكس ذلك.

الجميل والمدهش في مسألة تلوين أفكارنا الخاصة بألوان السرد وتحريكها على طول الحكاية هو مناقشتها ومساءلتها، بحيث إنها قد تتغيَّر، وقد تتحوَّل من النقيض إلى النقيض، فإن لم تكتشِفْ أنت شيئًا جديدًا خاصًّا بك في رحلة كتاباتك لنصِّك، فمِن المستبعَد أن يكتشفه القارئُ كذلك؛ أمَّا لو دخلتَ القصةَ أو الرواية بحُزمة مسبقة من الأفكار، فقد جعلتَ من الفن مجرد خادِمٍ لأفكارك، مهما كانت ساميةً ونبيلة، وهي مكانة لا يرضى بها أيُّ فَنٍّ جدير بهذه الكلمة؛ ولا نتحدَّث هنا عن عُلَبِ التسلية المغلَّفة بالدراما والمواعظ. سوف يشعر قارئك — على نحوٍ أو آخَر — أنك اتخذتَ من الأدب خادمًا لمذهبك أو عقيدتك، بدلًا من أن يكون الأدب — كالإنسان والإنسانية عمومًا في حركتها ونموِّها — أكبرَ من كل مذهب أو عقيدة.

تعالَ نتمرَّن

تنبِّهك الكتابة إلى ما يثير اهتمامك حقًّا، فأيًّا كان الموضوع الذي انطلقتَ في الكتابة منه، فسوف تظهر من بين كلماتك الأمورُ التي تشغلك مسبقًا وتستحوذ على ذهنك. اكتب بعضَ الأسماء المجرَّدة التي اكتشفتَ أنها تفرض ذاتها عليك كلما جلستَ للكتابة؛ مثلًا: خمس حالات ذهنية مختلفة تثير شغفك، اكتبها على رأس صفحات متفرِّقة واتركها جانبًا الآن لبعض الوقت. الآن فَلْتتصفَّحْ بعضَ كتبك المحبَّبة، اعثُرْ على أجزاء من قصص أو روايات أو مسرحيات تعجبك بصورة خاصة، حاوِلْ أن تكتشف المعنى المجرَّد الذي يتسلَّل عبر سطور هذا المشهد أو تلك الفقرة. اعمَلْ على أن تعتصر هذا الجزء في كلمة مفتاحية أساسية، قد تكون الغضب أو الشهوة أو الحسد أو نشوة النصر، إلى آخِره.

أَعِدْ قراءةَ الجزء المقتطَف مرةً أخرى بهدوء وتركيز، اكتشِفْ كيف تمَّ تقديمُ هذا المعنى — أو تلك الحالة الذهنية — وكيف تمَّ عرْضُه ومناقشته دراميًّا عبر حركة الشخصيات وأفعالها وأقوالها وأفكارها. هل عبَّرَ الكاتب عن هذا المعنى صراحةً؟ وإنْ لم يفعل فكيف وضعتَ يدك عليه؟ كيف أوحى لك به؟ ما العبارة التي أعطَتْكَ المفتاحَ إليه؟ ما الطريقة التي استخدَمَها هذا الكاتبُ أو ذاك حتى ينفخ رُوح الحياة في معانيه المجردة، ويجلبها إلى خشبة السرد ببساطة ودون كلام مباشِر أجوف؟

يمكنك الآن الرجوع إلى المعاني المجرَّدة والحالات الذهنية والشعورية الخاصة بك، والمكتوبة على رأس صفحاتك البيضاء؛ لتحاكي ما قام به هؤلاء الكُتَّابُ في تجسيد تلك المعاني من خلال مَشاهد وشخصيات وقِطَعٍ نثرية وصفية. ليكن هدفُك الأساسي هو أن تتجنَّب الحديث المباشِر عن تلك الكلمات المكتوبة على رأس الصفحة أو ذكرها صراحةً، دَعْها تتسلَّل إلى وعي القارئ خلسةً من بين سطورك.

كَرِّرِ المحاولةَ حتى تشعر أنك أصبتَ الهدف من التمرين. يبقى الأهم أن تتذكَّرَ تلك الحيلة كُلَّمَا وقعتَ فريسةَ إغواءِ الكتابة الصريحة عن معانٍ كبرى مباشَرةً، دون إيحاءٍ أو تلميح؛ أيْ دون حِيَل الفن.

•••

خلال الفصول التالية سنتناول عنصرًا من أهم وأمتع عناصر الكتابة السردية؛ وهو الشخصية: اكتشافها ورسمها واللعب معها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤