سبعة تمارين على الشخصية

حرِّكْ يدك

في الفصول السابقة، استكشفنا معًا مبادئَ وإرشاداتٍ أساسية تخصُّ العنصر الأبرز من بين عناصر اللُّعبة السردية؛ الشخصية. تلمَّسْنا سِرَّ فتنتِها والثِّقَلَ الذي تمثِّله في الحكاية، والمصادرَ التي يستمدُّ منها الكاتبُ شخصياتِه، بدايةً من ذاتِه ثم واقِعه وحياته وبالطبع خياله، وكيف يمزج بين تلك المصادر المختلفة في إنتاج الصورة (البورتريه) النهائي لشخصيته، ثم كيف يبثُّ الحياة في تلك الصورة في ثنايا السرد، وأي الطُّرُق التي يُمكِنه اتِّباعُها لتقديم شخصيته بصورةٍ حيوية، بعيدًا عن بطاقة التعريف الجامدة. وفي السياق قدَّمْنا أكثرَ من تمرينٍ مبدئي كلما استطعنا؛ مثل: التمرُّن على تتبُّع آثار الشخصيات البارزة في الأدب والفن، وتحليل تلك النماذج الشهيرة والوقوف على سِرِّ سحرِها، ثم رسم البورتريهات الشخصية، لنفسك أو لآخَرين، أو لنفسك بعيون آخَرين، ثم قَص ولَصْق صفاتٍ وخصالٍ من مصادر مختلفة وصَهْرها في نموذج واحد، ثم كيفية استكمال الأبعاد الثلاثة الرئيسية لرسم الشخصية (جسدية، واجتماعية، ونفسية)، إضافةً لذلك البُعْد الرابع الغامض، وأخيرًا عرض الشخصية في سياق المشهد والموقف من خلال الوصف والحركة والحوار، وهو ما حاولنا الاشتغال عليه في تمرين مدام باكينام.

ختامًا لتلك الرحلة السريعة والمكثَّفة مع رسم الشخصية وتقديمها في السرد، ندرج هنا المزيدَ من تمارين الكتابة المتعلِّقة بجوانب أخرى من مهارة رسم الشخصية. ولا بدَّ من التذكير بأن التمرُّن ليس شيئًا مقصورًا على المبتدئين في الحرفة، بقدر ما هو ضرورة لكل ممارِس للكتابة الأدبية، سواءٌ أكان التمرينُ خارجَ أيِّ مشروعِ كتابةٍ، أم جزءًا من تطوير هذه القصة أو تلك الرواية. وهكذا فلا تُوجَد تلك النقطة التي يتوقَّف فيها الكاتبُ عن التمرُّن، وسرُّ الصنعة أحيانًا يكمُن في دَمْج التمارين ذات الأهداف المحددة والواضحة بحُرِّيَّة اللَّعِب والاستكشاف في العمل على أحد المشاريع. الآن، هيَّا إلى التمارين:
  • (١)
    غيِّرْ نوْعَك: اكتب صفحةً بضمير المتكلم «أنا»، متبنِّيًا صوتَ شخصٍ من النوع المغاير لنوعك؛ أيْ أنثى إذا كنتَ ذكرًا والعكس. يمكن لهذه الصفحة أن تكون عَرْضًا ليومٍ في حياة المتحدِّث، أو قطعةً وصفيةً لموقف ما، المهمُّ أن تخرج عن أَسْرِ ذاتك (نوعك على الأقل) وتصير شخصًا آخَر. من شأن هذا أن يساعدك على بلوغ درجةٍ أعلى من الإقناع عند بِناء شخصية من النوع الآخَر، ورسمها في صورة حية وذات مصداقية.
  • (٢)
    قوائم علامات: في سياق الحرص على الإظهار كبديل سردي مفضَّل عن الإخبار السهل المباشِر، يحسُن بك أن تعرف أكبر عدد ممكن من العلامات البصرية والحسيَّة عمومًا، التي قد توحي بمعلومات عن شخصياتك دون التصريح بتلك المعلومات. ضَعْ قائمةً ببعض العلامات والطرق التي قد توحي بسِنِّ الشخصية التقريبية، طبعًا الشَّعْر الرمادي والتجاعيد من أسهل وأوضح تلك العلامات، ولكن حاوِلْ أن تَمضي إلى ما هو أكثر دقَّة ولطفًا. إلى جانب سِنِّ الشخصية، ضَعْ قوائمَ أخرى لأشياء توحي بالمستوى الاجتماعي، أو التعليم والثقافة، أو الطباع الأصيلة؛ إنها كل تلك الأشياء التي نراها ونستشفُّ منها ما وراءها، والهدف هنا هو الاستغلال الأمثل لقوة ملاحظتك، وكلما كانت التفاصيلُ دقيقةً وغير معتادة، كانت أشدَّ إقناعًا وأكثر جاذبيةً وتفرُّدًا.
  • (٣)
    في موقف: اختَرْ شخصيةً من حياتك تعرفها جيدًا، ودوِّن المعلومات الأساسية حولها من حيث الأبعاد الثلاثة الأساسية (الجسدي، الاجتماعي، النفسي)، ثم ابتكِرْ موقفًا قصصيًّا بسيطًا لتضع فيه شخصيتَك بحيث يتكشَّف من خلاله أكبر قدر ممكن من تلك الأبعاد الثلاثة، استعِنْ بالأدوات التي أشرنا إليها سابقًا (الوصف، الفعل، الحوار).
  • (٤)
    جدال: اكتبْ حوارًا بين شخصين يتجادلان حول أمرٍ ما، ومن خلال الجُمَل الحوارية فقط حاوِلْ أن تكشف عن طبيعة كلٍّ منهما، وقدر التناقض بينهما، وسبب الخلاف.
  • (٥)
    بين السطور: اكتب فقرةً سردية عن شخصية متخيَّلة؛ بحيث توحي في تصرُّفَاتها وحوارها بشيءٍ آخَر مضمَر بين السطور؛ شيء قد يكون مناقِضًا حتى لِمَا تحاوِل إظهارَه. من المهم هنا أن تتعلَّمَ سُبُلَ إظهار بعض العناصر لتوحي بتلك الحكاية الأخرى الخفية التي تنكرها شخصيتك، براعتُكَ تكمن في قوة الإيحاء دون أن يكون مباشِرًا ومكشوفًا.
  • (٦)
    رسالتان وموقفان: اكتب رسالتَيْن قصيرتَيْن من جنديَّيْن في إحدى الحروب؛ أحدهما موقفه إيجابي ويشعر بأنه يؤدِّي واجبًا ساميًا، والآخَر متشكِّك، ويشعر بالمرارة والندم. حاوِلْ أن تكتشف كيف يحدِّد موقفُ كلٍّ منهما تفاصيلَ ومفردات رسالته وطريقة تعبيره عن أفكاره ومشاعره.
  • (٧)
    كيف يبدو: بأسلوب بصري ومحايد، أقرب إلى كتابة المَشاهد في المسرح والسينما، اكتب مشهدَ جدالٍ بين أبٍ وابنه حول قرار مصيري، حاوِلْ أن تعكس بعضَ المشاعر والقِيَم المتناقضة داخل هذا الأب، من خلال وَصْف حركته وجسده وصوته وبعض عباراته فقط، متجنِّبًا تمامًا التسلُّلَ إلى داخل عقله، أو التصريح المباشِر بها بصوت السارد. تعلَّمْ كيف تعكس الصورةُ والحركةُ ونبراتُ الصوت وسائر العناصر الحسية مقدارَ التناقضات والصراع داخل الشخصية.

البحر واسع

مهما كرَّرْنَا فلن نستطيع التأكيدَ بما يكفي على محورية وثِقَل الشخصية في الكتابة السردية، وتبقى محاولتُنا المتواضِعة والمبدئية هنا مجرد قطرات في بحر، يظل عليك أن تخوض غمارَه كلَّمَا استطعتَ، وكلما عثرتَ على موادَّ مفيدة في هذا السياق. غير أن القراءة حول هذا العنصر الحيوي وحدها لن تكون كافيةً، فإلى جانب قراءة الأدب الجيد من جميع المدارس والعصور والبلاد، لا غنى لك عن الممارسة؛ أيِ استكشاف شخصياتٍ والكتابة عنها ورسمها على الورق، سواءٌ أكان ذلك من خلال تمارين كتابة بغرض تنمية عضلات الكتابة السردية فحسب، أم في إطار مشروع سردي واضح المعالم. ومن خلال هذه الممارسة فقط يمكنك أن تتأكَّد من مدى نفع وصحة كل ما تقرؤه هنا أو في أي موادَّ أخرى، وأن تعرف أيُّها قد يتوافق مع ميولك واختياراتك وعالَمك، وأيضًا أن تخترع إرشاداتك ومفاتيحك الخاصة نحو رسم شخصيات خيالية لا تُنسَى، ويمكن تصديقها، وأشد مصداقيةً وحضورًا من ملايين الناس ممَّن نسميهم «حقيقيين».

•••

في الفصول التالية سنستكشف المبادئ الأساسية لكتابة الحوار في السرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤