كلام يؤدي ويجيب

شيء ثمين، ولكن …

يشبِّه الروائي الكولومبي الشهير «جابرييل جارثيا ماركيز» الحوارَ بمزهرية عتيقة وَرِثناها عن الجدَّة، ويضيف أنها تكون ثمينةَ القيمة فقط إذا عرفنا أين نضعها.

ليس مجرد كلام

لسنا بحاجةٍ إلى التأكيد على أهمية الكلمة ودورها المحوري في تشكيل المعرفة الإنسانية، لكن لا بأسَ من أن تتأمَّل قليلًا إلى أي حَدٍّ يعتمد الناس في حياتهم اليومية على الكلام، من أجل التواصل والتفاعل والتعلُّم، ونقل التجارب والخبرات، والتعبير عن الأفكار والمشاعر والانفعالات، حتى نبدو وكأننا أحيانًا مخلوقات مصنوعة من كلمات.

السردُ مرآةُ الحياة، يعكسها على طريقته بواسطة اللغة، يحرِّف صورتَها ويُعِيد تشكيلها، ويقترب أو يبتعد عن نسختها الأصلية كما يشاء، لكنه يظَلُّ يستمد منها نُورَه؛ ولهذا يبقى للكلام بين شخصياتِ كلِّ حكايةٍ الأهميةُ ذاتها تقريبًا التي له بين الناس في الحياة.

هل معنى هذا أننا في فنون السرد والدراما يتوجَّب علينا أن ننقل بأمانة حرفية ما قد يقوله الناس في حياتهم اليومية؟ ربما يكون هذا هو رأي البعض الذين لا يَرَوْنَ في الفن إلا انعكاسًا أمينًا للحياة، وحتى هؤلاء لن يستطيعوا أن ينقلوا حوارًا استمرَّ لساعة واحدة بين شخصين فقط بالحرف الواحد؛ لأن ذلك قد يعني فصلًا طويلًا من رواية، أو نصف الزمن المحدَّد لأحد الأفلام.

المصداقية لا تعني بالمرة وضْعَ عشوائيةِ الحياة اليومية وترهُّلِها بين قوسَيْ عملٍ فنِّي.

لنعترِفْ أننا في الحياة اليومية نتكلَّم أكثر مما يلزم في أحيان كثيرة، ربما لمجرد أن نتكلم، نثرثر، ننتقل كيفما اتفق من موضوعٍ إلى آخَر، وربما يتعمَّد أحدُ صُنَّاع السينما أو الروائيين أن ينقل تلك الحالة من الثرثرة وانعدام الهدف الواضح من التواصل، لغرضٍ جمالي أو فني ما، أو لمتعة خاصة يريد تحقيقَها في مشهدٍ أو عملٍ كامل، لكن ذلك يبقى خيارًا هامشيًّا له أسبابه ومقاصده؛ والأغلب الأعم أن الحوار في العمل الفني لا بدَّ أن يعنيَ شيئًا، أن يلعب دورًا حيويًّا شأنه شأن سائر عناصر وأدوات الفن.

إشارة

متى تشرع في كتابة حوار بين شخصياتك؟ بالتأكيد بعد أن صار لديكَ شخصيات بالفعل. لا يمكنكَ أن تكتب حوارًا بين أطياف مموَّهة لا تعرف عنها شيئًا؛ لذلك فإن كتابةَ حوارٍ في مشهدٍ خطوةٌ تالية على تحديد الملامح الأساسية لشخصياتك، وكذلك طبيعة الحكاية التي تودُّ أن ترويها؛ بعد ذلك يمكنكَ أن تسترِقَ السمع، في عقلك، إلى تلك الشخصيات وهي تهمس بالأسرار أو الاعترافات أو الأكاذيب.

دَعْه يتكلم

يمكن للحوار أن يكون وسيلةً لكي تبوح الشخصيةُ بمكنونها، أن تقدِّم نفسَها للآخَرين وللقارئ في اللحظة ذاتها. شخصية تقول إنها نباتية وضد قتل الحيوانات، وأخرى تعلن عن حُلمها بالهجرة، وأخرى تحكي عن وَلَعها بالروايات البوليسية. إننا نقدِّم أنفسَنا طوال الوقت بهذه الطريقة للآخَرين؛ نحب أن نفعل ذلك، وكذلك يحبُّ القارئ أن ينصت مباشَرةً إلى أصوات شخصياتك، دون أن يقف الكاتب (الراوي العليم أحيانًا) وسيطًا بينه وبين الشخصيات، لينقل عنها ميلها لهذا ونفورها من ذاك، إلى آخِره.

من شأن الحوار الجيد أيضًا أن يطوِّر حبكتك، ويدفع الأحداثَ إلى الأمام. إنها تلك الحوارات الحَرِجة، التي تحدِّد اتجاه السرد؛ شخص يعترف أخيرًا بالحب، شخص يبتزُّ آخَر، زوجان يحاولان التوصُّلَ إلى حلِّ مشكلةٍ تهدِّد حياتهما معًا.

ثمة وظائف أخرى جمالية للحوار؛ فهو يخفِّف من رتابة السرد؛ السرد بمعنى حكاية حركات وأفعال الشخصيات على طريقة: دخَلَ وجلَسَ وفكَّرَ … فحتى على المستوى البصري قد يتوق القارئ لاستراحة من الفقرات السردية المصمتة المتتالية، عن طريق هدنة الجُمَل الحوارية ومساحة البياض المحيطة بها.

كما يضفي الحوارُ المزيدَ من المصداقية إلى الشخصيات، فحينما تمرُّ عينَا القارئ على العبارات التي تنطق بها شخصياتك، بعد أن شكَّلَ لها صورةً في خياله بالفعل، يسمع تلك الجُمَل وهي تتردَّد في ذهنه، ويضفي عليها صوتَه الخاصَّ وطريقتَه في التعبير، فيقترب بذلك أكثر من الشخصيات، متوحِّدًا بها في أحسن الأحوال. لا شيء يوحي بأن شخصيتك حيَّة وحقيقية أكثر من جملةِ حوارٍ جيدةِ الصياغة.

الحوار الرائع هو ما يؤدي كلَّ تلك الوظائف معًا؛ يكشف الشخصيات في الوقت نفسه الذي يطوِّر فيه الحبكةَ والصراعَ، ثم إن توقيته الجيد يجعل منه فرصةً لالتقاط الأنفاس بعد كُتَل السرد والوصف والأحداث، ثم إنه يضخُّ حياةً في الشخصيات بإنطاقها.

كما أن الحوار العظيم هو ذلك الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإنْ كان هذا المعيارُ يصدق على كل فقرة وكل جملة تقريبًا في سردك؛ فإنه يصير مع الحوار أكثر إلحاحًا وأهميةً. أيُّ جملةٍ زائدة في الحوار مجازَفةٌ بالانتقال إلى الثرثرة والابتذال وأجواء المسلسلات التليفزيونية المملة، التي تُكثِر فيها الشخصياتُ من التحيات والسلامات وترديد بعضها أسماءَ بعض بلا أيِّ داعٍ. احذف كلَّ ما يمكن حذْفُه من جُمَلك الحوارية؛ ليبقى الحوارُ على العَظْم تقريبًا، بحيث يكون لكلِّ كلمة فيه ثِقَلها وأهميتها، وإلَّا عبرَتْ عينَا القارئ على سطور الحوار وهو نصف نعسان، بلا اكتراثٍ، قبل أن يتثاءب ويستسلم للنوم.

احذِفْ وكثِّفْ

قال المخرج الإنجليزي الشهير «ألفريد هيتشكوك»: «القصة الجيدة هي الحياة نفسها، وقد نزعنا منها الأجزاء المملة.» يصدق قوله هذا على الحوار الجيد بالقدر نفسه. الآن، تذكَّرْ حوارًا مهمًّا سمعته، أو كنتَ شاهدًا عليه، أو تبادلْتَه مع شخصٍ آخَر منذ فترة قريبة؛ المهم أنك ما زلتَ تذكره جيدًا. حاوِلْ أن تكتب الحوارَ كما دار تمامًا، أو على وجه التقريب. أعِدْ قراءتَه، واحذِفْ منه ما عبَّرَ عنه هيتشكوك بقوله «الأجزاء المملة»؛ احذِفْ كلَّ تكرار، كلَّ معلومة لا قيمةَ لها، كلَّ خروجٍ عن موضوع الحديث الأساسي، وتأمَّلِ النتيجة. هذه هي (تقريبًا) الصورةُ التي يحسن أن يكون عليها حوارُك في الحكاية.

•••

في الفصل التالي المزيد حول تقنيات كتابة الحوار ووسائل صقله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤