انظر بقلمك

أخبرنا بما ترى

قال الشاعر الفرنسي بول فاليري: «هناك فرقٌ بين أنْ نرى شيئًا ما ونحن نمسك بقلم رصاص في يدنا، وبين أن نراه دون ذلك.» فكأننا لا نرى بأعيننا فقط، وكأنَّ مجرد إمساكنا بقلم رصاص يمكنه أن يمنح فعل الرؤية امتدادًا آخَر؛ بحيث ينفتح على المفرَدات التي بداخلنا، وعلى الآخَرين من حولنا كذلك.

ككاتب، يجب ألَّا تكتفي باستخدام عينَيْك فقط في النظر، تذكَّرْ خيالَك، وكُنْ واثقًا أن لكل شيءٍ حكاية يمكنك أن تحكيها إذا ما طرحت الأسئلة المناسبة؛ اسألْ نفسَك عن أصل هذا النَّدَب القديم على وجه عابر في الطريق، أشعِلْ فضولَك حولَ تلك السيارة القديمة التي يتراكم عليها الغُبَار منذ سنوات، اخلقْ حكايةً لشُرْفة تراها دائمًا محتشِدة بالنباتات والزهور دون أن ترى فيها أيَّ إنسان بالمرة.

مجرد النظر إلى الأشياء يغيِّر منها

ربما لا يمكنك أن ترى شيئًا ما حقًّا إلا حين تشرع في كتابته؛ على سبيل المثال: توقَّفْ عن القراءة الآن وتأمَّلِ المكانَ الذي تجلس فيه للحظات، ثم أنعِمِ النظرَ فيه من جديد بينما تكتب وصفًا بسيطًا له. انظر، ماذا ترى؟ ابحث وراء ما هو ظاهر وواضح كل الوضوح، ثم اسمح للبصر أن يقودك ربما إلى حواسَّ أخرى شقيقة كالسمع والشم واللمس؛ ليتجلَّى المكان بكل أبعاده الحسِّيَّة على سطورك. أغلب الظن أن المكان ذاته لن يظلَّ بعد هذا التمرين كما كان يبدو قبل كتابته، وهو ما يَصدُق على كل شيءٍ آخَر تنظر إليه بقلمك، وتعيد رؤيته بكلماتك. سوف نتناول مهارةَ الوصف بمزيدٍ من التفصيل فيما بعدُ، لكن يكفي الآن مبدئيًّا أن نربط فعلَ الرؤية بفعل الكتابة.

احترس من هواية تجميع كل شيء

قد يفهم البعض أن على الكاتب أن يلملم كلَّ ما يظهر حوله ويحشره في إطار نصِّه، وهذا فَهْمٌ قاصرٌ بالطبع لفكرة الرؤية وكتابة ما نراه؛ أولًا: لأن مشهدًا واحدًا فقط — مهما كان محدودَ المساحة زمنيًّا ومكانيًّا — قد نحتاج إلى صفحات عديدة لكتابة كل عناصره، وكل ما يظهر فيه من تفاصيل مرئية، فلن نستطيع بالمرة نقْلَ كل شيء من الصورة التي نراها إلى الورق، وثانيًا وهو الأهم: على كل كاتب أن ينتقي ويختار أي تفاصيل يريد تقديمها للقارئ؛ أيُّ التفاصيل البصرية تنقُل حالةً بعينها، وأيها تميِّز هذا المشهد تحديدًا عن كل مشهد آخَر مشابِه؟

إنها أقرب لعملية غربلة؛ لأنَّ استبعاد كلِّ ما هو غير أساسيٍّ أو ضروريٍّ للصورة هو ما يصنع إطارًا لما تبقى فيها، يبرزه ويُضِيئه ويشير إليه. إنها تلك التفاصيل المهمة والمتبقية التي تصنع الصورة الكلية، وتحدِّد خصوصيةَ كل كاتب؛ أيْ خصوصية «نظرته». في المرة التالية التي تجلس فيها لقراءة قصة أو رواية أحد كبار الكتاب، أبطِئ من إيقاعك قليلًا، وضَعْ علامات على العبارات والجُمَل التي تخلق صورًا بصرية قوية للقصة في خيالك. انتبه لاختياراته، وتأمَّلْ ما الذي قد يكون دَعَاه إلى تلك الاختيارات بعينها، وماذا قد استبعده من المشهد لانعدام قيمته بالنسبة إلى حكايته وغرضه المقصود هنا. إن مجرد تراكُم التفاصيل في أحد المشاهد لا يعني شيئًا في حَدِّ ذاته؛ المهم هو أن تشكِّل تلك التفاصيلُ حضورًا ما، معنًى مراوغًا، مجازًا دالًّا أو حالةً غامضة تعكس ما لا يُمكن أن يقال صراحةً عن شخصياتك.

قمصان ملوَّنة

في رواية «جاتسبي العظيم» للأمريكي ف. سكوت فيتزجيرالد، يلعب الوصف البصري دورًا مهمًّا على طول السرد، ويمكننا أن نتوقَّف عند واحد من أهم وأعذب مشاهد الرواية لتأمُّل التفاصيل التي قدَّمَها فيتزجيرالد من خلال عين راويه.

يَرِدُ هذا المشهد في الفصل الخامس من الرواية، بعد نحو مائة صفحة، حين يتمكَّن جاي جاتسبي من إقناع نيك كاراوي بدعوة بنت عمه ديزي على الشاي، في مسكنه الصغير الذي هو أقرب إلى كوخٍ مُقَام بجوار حدائق قصر جاتسبي. تلبِّي ديزي الدعوةَ بأريحية دون أن تعرف أنها سوف تلتقي هناك حبيبها القديم، المرتبك الذي كاد صبره ينفد حتى أتت، وقد أعدَّ كلَّ شيء؛ الأزهارَ البيضاء التي تحبها، جزَّ العشبِ، تلميعَ الفضَّة، ثم ارتدى خيرَ بِدَلِه وراح ينتظر إلى أنْ فقد أعصابه، ثم وصلت ديزي أخيرًا.

وبعد أن توقَّفَ المطر يأخذها هي ونيك — الذي نطَّلع على الحكاية كلها من وجهة نظره — ليريهما قصرَه بكل ما يحتوي من تحف وكنوز وعجائب، إلى أن يصل بهما المطاف حتى غرفة نومه؛ حيث «فتح لنا صوانين مصقولين يضمان مجموعةً هائلة من الحلل والأردية وأربطة العنق، وقمصانُه مرصوصةٌ كأنها قوالب الطوب في أكوام عالية.» ثم يبدأ في إخراج تلك القمصان واحدًا بعد الآخَر، ويُلقِي بها نحوهما. ولا يفوت الراوي الانتباه إلى أوصاف تلك القِطَع؛ قمصان من الكَتَّان الشفيف، ومن الحرير السميك، ومن قماش الفانلة الناعم الحر، وراحت تلك القمصان تفقد طيَّات كيِّها وتتناثر ويسقط بعضها فوق بعض على الطاولة في فوضى من الألوان العديدة؛ حيث أخذت تعلو في كومة. ثم سرعان ما يلتفت الراوي أيضًا إلى الألوان؛ فقد كان من بينها قمصان مقلَّمة وموشَّاة بالنقوش، وكاروهات، وذات اللون الأحمر المرجاني، والأخضر التفاحي، والبنفسجي الفاتح بلون اللافندر، والبرتقالي الخفيف، وكلها كُتِبتْ عليها الحروف الأولى من اسم الوجيه الجديد بلون أزرق بحري داكن.

إن الوصف في هذا المشهد يتجاوز مجرد نقل أبعاد حسية وبصرية؛ إنه رحلة سريعة للجمال المدوِّخ، للثراء الفاحش، لأناقة الألوان والأشكال وملمس الأقمشة. بالطبع كل هذا يكون أقوى تأثيرًا في سياق أحداث الراوية ذاتها؛ لذا لا تتردَّد في البحث عنها وقراءتها كاملة، وستجد فيها وفي غيرها من أعمال روائية عظيمة منابعَ متجدِّدة على براعة انتقاء تفاصيل المشهد البصري وقوة دلالتها.

•••

في الفصل التالي نستكشف ذلك الخيطَ الواصل بين القصص والصور الفوتوغرافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤