ما وراء الصور

لقطات

«أحِبُّ أن أتطلَّع إلى حياة الناس على مدار عددٍ من السنوات، من دون استمرارية، وكأني ألتقطهم في لقطات فوتوغرافية؛ وتروقني الطريقة التي ينتسبون بها — أو لا ينتسبون — إلى الأشخاص الذين كانوا إياهم في وقتٍ سابق.» هكذا عبَّرت القاصَّة الكندية الحاصلة على نوبل في الآداب «أليس مونرو»، في حوارٍ أُجرِي معها عن جانب الزمن فيما بين الفوتوغرافيا والسرد من علاقة؛ أيْ ما الذي يتبقَّى منَّا بعد سنوات؟ وأي خيوط ما زالت تربطنا بصورنا القديمة، أو انقطعت بيننا وبينها؟

والعلاقة بين الصورة والقصة أعقد وأعمق من هذا الجانب الزمني وحده، فكثيرًا ما نشعر إزاء إحدى القصص أنها لقطةٌ مأخوذة بعناية لتضع جزءًا من الحياة بداخل إطارٍ واضحٍ فتبرزه حين تفصله عن سياقه الأوسع، أو العكس؛ أنْ نتخيَّل وراء صورةٍ ما حكايةً طويلة عريضة تحتشد بالإمكانيات داخل هذه المساحة المحدودة. والآن، بعد أن أكَّدنا بما فيه الكفاية سابقًا على أهمية النظر إلى العالَم بأَعْيُن مفتوحة على اتساعها، كيف يمكننا أن ننتفع بهذه العلاقة بين الصورة والقصة في تحريك حوافز الكتابة بداخلنا؟

صورة وأَلْف كلمة

أغلب الظن أنك سمعتَ أو قرأتَ ذات يوم مقولة: «إن الصورة تساوي ألفَ كلمة.» الشائعة في عالم الصحافة بالأخص، وهنا يمكنك أن تترجم هذه المقولة فعليًّا بكتابة حوالي ألف كلمة عن صورة فوتوغرافية ما. يمكنك أن تبدأ بتحديد مصوِّرٍ تحب أعماله، أو أن تتصفَّح بعض مجموعات الصور القديمة في مجلدات خاصة بها، أو على مواقع على الإنترنت. واصِلْ تأمُّلَها إلى أن تستحوذ على عينَيْك إحداها، وإذا شئتَ يمكنك بالطبع أن تمارس هذه اللعبة مع صورة قديمة من ألبومات عائلتك، وسوف تندهش من مقدار الحكايات التي قد تناوش خيالك بمجرد تصفُّحها. لكنْ لكي يكون التمرين محايدًا قدر الإمكان، من الأحسن ألَّا تبدأ بصورة من تاريخك الشخصي، وأن تختار صورةً تراها لأول مرة؛ حتى تترك المجالَ مفتوحًا أمام خيالك. تأمَّلِ الصورةَ التي اخترتها جيدًا؛ تكوينها وخطوطها وما فيها من أضواء وظلال، وقفات الأشخاص (إنْ كانت تضمُّ بشرًا)، تعبيرات وجوههم، إشارات أيديهم، ما يرتدون من ثياب، ما يمسكون من أشياء، إلى آخِر كل تلك التفاصيل، حتى تشعر أنك أجريتَ مسحًا بصريًّا دقيقًا لكلِّ ما تحتوي عليه الصورة، ثم أَعْطِها عنوانًا ما.

الآن، وتحت هذا العنوان، ابدأ الكتابةَ الحرة (هل ما زلتَ تتذكر تلك الأداةَ الشديدة النفع؟)؛ أيْ أن تكتب بسرعةٍ، ودون توقُّف، ودون تفكيرٍ، كلَّ ما يخطر لك ببالٍ، لوقت محدَّد، أو لعدد محدود من السطور، عن انطباعك العام وإحساسك حيال هذه الصورة. لا داعي لتشغيل ماكينة الخيال في هذه الخطوة، فقط أطلق مشاعرك الأساسية في تفاعُلك معها، فهذا ما يهمُّ الآن؛ المزاج العام الذي وضعتك فيه، الحالة الوجدانية التي أثارتها.

اترك تلك السطور القليلة لبعض الوقت، وأعِدْ تأمُّلَ الصورة من جديد. اطرحْ على نفسك أكبر عدد ممكن من الأسئلة الصغيرة: هل يذكِّرك هذا بشيء؟ أين هذا المكان؟ في أي زمن؟ في أي وقت من اليوم؟ مَن هم هؤلاء الأشخاص؟ ما طبيعة العلاقات التي تجمعهم؟ ما ظروف التقاط هذه الصورة؟ ما الأفق الذي يمتدُّ خارجَ إطارها من حياة وتاريخ وطموحات وأسرار؟ لا توجد إجابات صحيحة أو دقيقة على هذه الأسئلة، فليس عليك أن تعرف الحقيقةَ وراء تلك الصورة، بل أن تخترعها، أن تغذِّي الانطباعَ الوجداني الذي أثارَتْه بداخلك بمعلوماتٍ يمكنك أن تغزلها فيما بعدُ داخل نسيجِ حكايةٍ لها ملامحُ واضحةٌ، بعد أن تختار مثلًا شخصيةً رئيسيةً من بين الشخصيات التي تظهر فيها، وتعطيها اسمًا وملخصَ حياةٍ وأزمةً مركزيةً. ماذا عن هذه الشخصية قبل عشر سنوات من تاريخ هذه الصورة، أو بعد عشرين سنة منها؟ إذا كنتَ تخشى ألَّا تتوصَّل إلى حكاية محكمة، فلا تشغل بالك بهذا بالمرة؛ كلُّ المطلوب أن تستفِزَّ خيالَك عن طريق العلاقة البصرية والوجدانية التي أقمْتَها مع الصورة القديمة بكل ما فيها ومَن فيها.

ثبِّتِ اللحظة

إذا كنَّا انطلقنا في المحاولة السابقة من صورة بصرية نحو السرد، فيمكنك أيضًا أن تمضي في الاتجاه المعاكس لذلك؛ أيْ من السرد إلى الصورة. إنها صورةٌ غير موجودة إلا في خيالك؛ صورةُ حدثٍ مهمٍّ وأساسيٍّ في حياة أحدهم؛ من حفلِ زفافٍ، أو من مراسم تأبين أو تكريم أو تخرُّج، أو من رحلة لا تُنسَى في مكان ساحر، أو لبعض مجرمين بعد القبض عليهم متلبِّسين.

في ألف كلمة هذه المرة أيضًا، ثبِّتِ اللحظةَ ثم صِفْ ما تراه بعين خيالك. حاوِلْ أن ترى بوضوحٍ قدرَ ما يمكنك. اكتشِفْ كيف يمكن لبعض التفاصيل المرئية في الصورة أن تنقل تاريخَ وزمنَ وملابسات وتناقضات: قطعة ثياب، إشارة يد، نظرة شاردة، نقطة دم. أنت الآن المصوِّر الفوتوغرافي المحترف، ولكنك تلتقط تحفتك السريعة بالكلمات، لستَ بحاجةٍ إلى أحداث أو حبكات أو تاريخ للشخصيات؛ فقط ملامح وأضواء وظلال، فقط أشياء وكائنات وجزئيات صغيرة وكاشفة. يُقاس نجاحُك في هذا التمرين بمقدار ما يمكن لصورتك القلمية هذه أن توحي به وتكشفه للقارئ عن المخفي والمكبوت، وكل ما لا يظهر بالمرة في الصورة؛ لذلك فَلْتكن حريصًا على أن تلتقط صورتك الفوتوغرافية الأدبية في لحظةٍ تَشِي بجوهرِ هذا الطقس الخاص أو الحدث المحدَّد، وتكشف الصراع أو الأزمة؛ فحتى إنْ خلَتْ قطعتُك النثرية من الحركة والدراما؛ لا يجب أن تخلو من هذا التوتُّر الداخلي المكبوح.

ألبوم عائلي

ماذا لو عدنا من جديدٍ إلى اقتراح «أليس مونرو» لتحويله إلى تمرينِ كتابةٍ بطريقةٍ ما؟ استدرِجْ شخصيةً ما — يمكنك الاستعانة بشخصيةٍ تعرفها في الواقع — إلى لحظةٍ تحاوِلُ فيها التسريةَ عن ضيفٍ بالفرجة على ألبوم الصور العائلية، اجعلْها تَتَتَّبع تغيُّرَ ملامحها عبر سنوات، أو تكتشف تفاصيلَ للمرة الأولى في حياتها، أو تستدعي لحظاتٍ وشخصياتٍ كان النسيان قد طواها. المقصد هنا هو أن تتعلَّمَ كيف تمدُّ خيطًا عابرًا للَّحظات وللأماكن بمعاونة هذا الفن الشقيق لفنون السرد؛ الفوتوغرافيا.

•••

في الفصل التالي نتناول مباشَرةً تقنيةَ الوصف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤