ثلاث ملاحظات حول الوصف

البلاغة بحذر

الوصف لاعب أساسي وعنصر لا غنى عنه في اللعبة السردية، ينقل للقارئ الخبراتِ والتجاربَ الحسية عبر وسيط اللغة، وعبر جسور الحواس، ويُشعِل خيالَه بحيث يتورَّط في عالَم النص، غافلًا — أو يكاد — عن العالم المادي المحيط به، كما أنه، عند إجادة استخدامه، يضبط نبرةَ النصِّ، ويشي بخفايا الشخصيات، ويوحي بالجو العام لحكايتك دون تصريحٍ مباشِر.

يميل كثيرٌ من الكتَّاب إلى الاستعانة في فقرات وصفهم بالتعبيرات البلاغية، مثل المجاز والتشبيه إلى آخِر ذلك من مُحسِّنات وزخارف أسلوبية، بينما يميل بعضهم إلى تجنُّبها إلى أقصى حدٍّ ممكن، ووصف التجربة أو الشخصيات وصفًا تقريريًّا محايدًا. وسواء اتخذتَ هذا الجانبَ أم ذاك، فإن لغة الكاتب ما أن تقترب من الوصف حتى تميل بطبيعتها إلى الحُلي والزخرفة والبلاغة؛ فالناعم يصبح كالحرير، والبعيد يصير قمرًا، والسريع ريحًا، وهَلُمَّ جرًّا؛ لذلك يُنصَح بالانتباه إلى مثل تلك المحسِّنات؛ فإنْ كان ولا بدَّ منها، فَلْتكن جديدةً غيرَ مطروقة، ونابعةً من العالَم الخاص بالنصِّ وشخصياته، وليست آتيةً من تاريخ الأدب وتراث البلاغة كأنها محفوظات أو موضوعات إنشاء.

يجب أن نعترف أن لتلك الأساليب بعضَ المزايا إلى جانب دورها الجمالي الواضح بالطبع، فهي قد تقرِّب لخيال القارئ حالةً متخيَّلة ومركَّبة بدرجةٍ ما، حين تعبِّر عنها في صورة قريبة منه ومن مفردات عالَمه البصري. ويصدق هذا بصورة خاصة على استعراض الحالات الباطنية للشخصيات؛ عواطفها وهمومها الداخلية التي يصعب الإحساس بها دون تقريبها في صورٍ بلاغية، أيْ ببساطة تحويل المعنى المجرد إلى صورةٍ يمكن إدراكها بالحواس؛ ولهذا أهميتُه.

وإذا كانت الكاتبة الأمريكية «نانسي كريس»، في كتابها «تقنيات كتابة الرواية»، تربط ما بين القصة كاستعارة كبرى والاستعارات البلاغية الصغرى المستخدَمة في نقل مشاعر الشخصية، من مقارنةٍ واستعارةٍ ورمزٍ وغير ذلك، فإنها تحذِّر في الفصل نفسه من تحميل الجملة الواحدة قدرًا أكثر ممَّا يجب من المعاني، عبر صورة بلاغية واحدة، فتأتي النتيجة غير مؤثِّرة، بل مضحكة أيضًا دون قصد الإضحاك بالطبع؛ لذلك فالبساطة هي حليفك عند اللجوء إلى البلاغة، فكلَّما عقَّدْتَ الأمورَ وحاولتَ التوصُّل إلى صورٍ مركَّبة، زاد احتمالُ سقوطِ التعبير في الغموض أو السخافة.

وهكذا فَلْتكن حَذِرًا عند استعمال تلك الصور البلاغية في فقراتك الوصفية، سواء كنتَ تصف شيئًا ماديًّا مثل مكان أو شخص، أم كنتَ تصف ما يعتمل في داخل أحدهم من عواطف وأفكار، وبقدرِ ما يتوجب عليك الابتعاد عن التعبيرات الجاهزة والسهلة، وتحرِّي الأصالة والطرافة، يجب أن تبتعد عن الصور المركَّبة والمعقَّدة زيادةً عن اللزوم؛ وبين هذين الحدَّيْن، يظلُّ الأكثر أمنًا هو الاقتصاد في استعمال الصور البلاغية لأقصى درجة ممكنة.

ضد الوصف

بعد أن أكَّدنا إلى هذا الحد على أهمية الدور الذي يلعبه الوصف في السرد، يجب أن نلتفت نحو الجهة المقابلة، ونعترف أن بعض الكتَّاب لا يرون في الوصف هذه الأهميةَ، مُفضِّلين ترْكَ مساحةٍ واسعة خالية ليملأها القارئُ من ذاته وخياله وتجاربه؛ فعندهم يكفي مثلًا أن نقول «بيت»، وعلى القارئ أن يرسم البيتَ الذي يشاء في القصة.

وعلى الرغم من ضعف هذه الحجة، لأسباب عديدة، فإنَّ علينا الإقرار أن مهمة الوصف لم تَعُدْ من المهامِّ الأساسية للكاتب والأديب كما كانت في أزمنة سابقة قبل الفوتوغرافيا، ثم السينما بطبيعة الحال، فإن مشهدًا لا يتعدَّى الثواني المعدودة على الشاشة قد يحتاج نقله في كلماتٍ إلى ما لا يقلُّ عن ثلاث أو أربع صفحات من وصفٍ لأغلب تفاصيله وليس كلها؛ لهذا من الجيد أن ندرك الحدودَ التي صار يقف عندها الوصفُ في الكتابة السردية، واكتشاف إمكانياتٍ أخرى بداخله، جماليًّا ونفسيًّا، غير تلك الإمكانيات التي استولَتْ عليها الفنونُ البصرية وتجاوزته فيها. هنا يبرز دورُ اللغة من جديد، فإن اختيار مفردةٍ ما للتعبير عن نباح كلب جريح بعد أن أصابته سيارةٌ مُسرِعة؛ اختيار تلك المفردة يساوي في القيمة صوتَ الكلب وصورته على الشاشة. خصوصية الوسيط الذي تشتغل به هي نفسها نقطة قوته ومكمن تفرُّده عن بقية الوسائط والأنواع والفنون.

متى أصف؟

يحيِّر هذا السؤال كتَّابًا كثيرين، بسبب علمهم أنَّ الوصفَ يُبطِئ من حركة السرد، ويهدِّد المشهد بالجمود. ولعلَّنا نجد الإجابةَ المُثلَى في صفحات القصص والروايات العظيمة، التي لا نشعر فيها بأن السرد قد توقَّفَ من أجل وصف طفلةٍ أو جدارٍ أو شكل السحب، بل إنه قد زاد توتُّرًا وتوهُّجًا؛ لأن ذلك الوصف أتى مشتبكًا تمامًا باللحظة السردية التي تقف فيها الشخصيات وأحداث القصة.

وعلى وجه العموم، يُنصَح بتجنُّب الوصف المطوَّل في غمار مشهد حركة ساخن، أو حوارٍ متوتر، إلَّا إذا كنتَ بحاجةٍ إلى وقفة التقاط أنفاس، بالنسبة إلى شخصياتك وقارئك معًا. ومن الأفضل دائمًا أن تصف من خلال أعين شخصياتك، فبهذه الطريقة ستصيب أكثرَ من هدفٍ برميةٍ واحدة؛ ستكشف عن طبيعة شخصيتك، وترسم المشهد، وتحرك السرد إلى الأمام، ثم إنك لن تضطر لوصف كلِّ شيء إلَّا ما يجذب انتباهَ شخصيتك وفقًا لطبيعتها التي تعرفها جيدًا. ولا تصف شخصيةً إلَّا حين يكون لصورتها الخارجية تأثيرٌ على شخصٍ آخَر أو آخَرين؛ فقد تسرد فقرات طويلة من حكايتك عن امرأةٍ ما، دون أن نراها إلَّا حينما تدخل حفلة بصحبة زوجها ذات مساء، فيراها لأول مرة مديرُ زوجها في العمل؛ هنا ستجد اللحظة المواتية لتقديم صورتها جماليًّا ودراميًّا؛ هنا لن يراها القارئُ فحسب، بل سيرى أيضًا ما في نفس ذلك المدير، وكلَّ ما يشحن هذه اللحظة من توتُّرٍ واحتمالاتٍ ولعبٍ.

•••

في الفصل التالي مكونات المشهد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤