كُنْ صيَّاد فراشات

مقتطف

من الممكن أن يحدث عرضًا — ولو للحظات عابرة ليس أكثر — أن نجد الكلمات التي سوف تفتح أبوابَ كل تلك المنازل الكثيرة بداخل رءوسنا، وتعبِّر عن شيءٍ ما — ليس الكثير، ولكن شيء ما — من حشد المعلومات الذي يُلِحُّ علينا من كل جانب، شيء مثل الطريقة التي يطير بها غراب، وكيف يسير رجلٌ ما، ومنظر الشارع، وما فعلناه ذات يوم قبل عشرات السنين.

الشاعر الإنجليزي «تيد هيوز»

شكرًا سيِّد هيوز، والآن ليس المقصود من عنوان هذا المقال أن تمارسَ هواية صيد الفراشات حقًّا كما كان يفعل الروائي الروسي الأصل فلاديمير نابوكوف، ولا بالمعنى المجازي الذي قد تجده في عنوان رواية جون فاولز «جامع الفراشات»، والتي تحكي قصة شابٍّ مُختلٍّ نفسيًّا، يختطف فتاة بعد أخرى ويحبس كلًّا منهن في قبوه؛ فقط ليُصادِقَها. إننا نتكلم عن الأفكار، واسمح لنا أن نطلق عليها مجازًا «فراشات»، وأنت الآن صَيَّادُها المُخلِص الذي يمارس هوايته تلك ليلَ نهارَ، بصرف النظر عن مكانه أو صُحبته أو حالته الذهنية؛ فلا يحتاج صيد الخواطر للتفرُّغ أو لاعتزال الناس والتوغُّل في البراري والغابات.

هل تتذكر القول المبتذَل القديم بأن الأفكار ملقاة في الطرقات، المهم أن نعرف كيف نلتقطها ونصنع منها شيئًا؟ أحب أن أبشِّرك بشيء، هذا القول صحيح مائة في المائة؛ يمكنك العثور على أفكار قصائد وقصص وروايات وكتب غير سردية وأفلام ومسلسلات في كل ركن من حولك، في بيتك وبين أهلك، في الشارع وزحام المواصلات، في مكان عملك، في المقاهي وأماكن الترفيه، على شاشة التليفزيون، بين صفحات الكتب (لا نتحدَّث عن الاقتباس هنا؛ فهذه قصة أخرى)، وعلى صفحات المواقع الإلكترونية حاليًّا بطبيعة الحال؛ ما يهم هنا هو أن تُنَمِّي لديك — بالممارسة — تلك العين اليقِظة التي تستطيع تمييز الفراشة الملوَّنة الصغيرة من بين ركام الحياة اليومية وزحامها بعشوائيَّتها ونشازها، ثم أن تعمل — فيما بعدُ — على تغذيتها وتطويرها إلى أن تتحوَّل الفراشة ذات يومٍ إلى شيء آخَر: كرنفال أو كاتدرائية أو حتى غرفة لشخصين.

تمرين

اكتسِبْ عادةَ تحويلِ كلِّ شيء حولَك إلى قصة صغيرة في خيالك، دون أن تُضطَرَّ لكتابتها حتى، مستعينًا على الدوام بالسؤال السحري: «ماذا لو؟» ماذا لو أن هذا الرجل كان في شبابه يعمل مُرشدًا للشرطة؛ ولذلك فلا أحد يطيقه الآن على الرغم من كِبَره وعجزه؟ ماذا لو أن هذا الميدان في الحي الراقي احتَلَّتْه فرقةُ سيرك جوَّالة على الرغم من الفيلات والسفارات المحيطة به؟ ماذا لو أن عمتي المتدينة الطيِّبة ورِثت فجأةً ثروةً حقيقية؟ وهكذا، إلى ما لا نهاية. بدلًا من أن تسبَّ وتلعن إشارةَ المرور، أو تقلِّب بصرك في وجوه المزدحِمين بالمترو منزعجًا، الْعَبْ بخيالك معهم، ابتكِرْ، اخلُقْ، واسرَحْ مع المفتاح الذهبي: «ماذا لو؟»

حصَّالة الأفكار

اعثر على طريقةٍ للاحتفاظ بأفكارك: دفتر صغير، صندوق ورقي، ملف على الكمبيوتر، أي شيء يضمن لك عدم تبخُّرِها في الهواء. سوف ترجع إلى حَصَّالتك هذه من حينٍ إلى آخَر لتمسح الغبارَ عن خواطرك القديمة؛ لعلَّك تجد من بينها ما هو جدير بوقتك ومجهودك والعمل عليه نحو إنتاج نص جديد رائع. بعد تدوين فكرتك — أفكارك الصغيرة — ولو في سطرٍ أو سطرين، اركنها، انسَها، اصبر عليها لبعض الوقت؛ فالعجين بحاجةٍ لأن يختمر؛ وذلك الوقت تختلف مدته من شخصٍ إلى آخَر، ومن نوعٍ أدبي إلى آخَر، فَلْتُحَدِّدْ إيقاعَك بنفسك، فلكل فكرة مساحة زمنية كافية للاختمار، ربما يوم أو أسبوع أو شهر، أدعو الله ألَّا تصل إلى سنوات كما يَحدُثُ في بعض الحالات؛ المهم أن تعود إليها في الوقت المناسب وتشرع في العمل عليها وتطويرها قبل أن يتلاشى من داخلك الحماسُ لها.

تنبيه واجب

حاوِلْ أن تتحلَّى بالحرص والرأفة مع أفكارك، فمهما بدت لك إحدى الفِكَر لأول وهلة تافهةً وغيرَ جديرة بالتعب عليها، فَلْتسارع إلى تدوينها ما إن تخطر لك، أين دفترك الصغير وقلمك؟ لا تَنْسَهما في المرة القادمة من فضلك. لا تُعْرِضْ عن فكرةٍ خطرت لك مفترِضًا أنها غير أصيلة ولا جديدة بما فيه الكفاية، فأصالة الأفكار مسألة نسبية تمامًا، بل إن البعض يدَّعي أنه لا توجد فكرة جديدة أو أصيلة بالمرة، وأننا لا نفعل في الحقيقة غير إعادة إنتاج ما سبق علينا، مُضِيفين فقط أسلوبَنا ورؤيتنا ولحظتنا الخاصة، فهل غادَرَ الشعراءُ من متردَّم؟! احتفِظْ إذن بفكرتك مهما بدَتْ متكرِّرة ومبتذلة، واكتشف منظورك الخاص لها فيما بعدُ؛ فلا يوجد اثنان على وجه الأرض — فضلًا عن كاتِبَيْن — لهما وجهة نظر متطابِقة في أي تجرِبة حياتية أو موضوعٍ ما، قَلِّب الفكرة «المعروفة» على جميع جوانبها حتى تَعْثُرَ على الباب الذي لم يدخل منه أحدٌ قبلك قَطُّ. هذا الباب موجود بداخلك؛ لأنك مختلِف، لأنك نسخة فريدة من النموذج الإنساني، كل ما عليك هو أن تعثر على ذلك الباب وتفتحه بمفتاحك الخاص، وتدخل منه غير هَيَّاب ولا متردِّد.

تصحيح

عَلَّمونا خَطَأً أن الشرود عادةٌ غيرُ طيِّبة، في فصول الدراسة وعند عبور الشارع وربما في كل وقت أو مكان؛ هذا غير صحيح، اكتسِبْ عادةَ الشرود، كلما استطعتَ إليه سبيلًا، إلا عند ممارستك عملًا خطيرًا، قد يهدِّد شرودُك في أثنائه حياتَك أو حياةَ آخرين. لكن على وجه العموم، يُعَدُّ الشرودُ حديقةً تَسَعُ جميعَ أنواع الفراشات التي نبتغيها ونسعى وراءها، ويمكنك اصطيادها جالسًا في مكانك، مُنصِتًا للضجيج من حولك، مبتسِمًا، ومستسلِمًا لخيالك الذي ينشط في مطاردتها واللحاق بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤