بين قوسين

عتبة دارك

لكل بيتٍ باب، وللنص الأدبي أكثر من عتبةٍ وباب، أهمُّها بعد العنوان مباشَرةً البدايةُ والنهاية، بابٌ للخروج وآخَر للدخول، السطور الأولى والسطور الأخيرة، كلٌّ منهما يلعبُ دورًا حاسمًا في تشكيل علاقة القارئ بقصتك أو روايتك، فيمكن لبدايةٍ غير موفَّقة أن تنفره من دخول عالَمِك تمامًا، وتكون طاردةً للسكَّان من حكايتك. وفي المقابل، للنغمة الأخيرة في النهاية أهميتُها في تحديد الأثر الأخير لِلَّحن، وإشباع توق القارئ وفضوله، وقد تكون أحيانًا عتبةً لقراءة النص نفسه من جديد، أو اتخاذ قرار إما بقراءة جميع أعمال الكاتب الأخرى، وإما عدم الاقتراب منه مجددًا؛ لذلك كلِّه لا بد من الانتباه الشديد لعتبات بيوتنا؛ قوسَيِ البداية والنهاية.

باب الدخول

تتناسب كلُّ بدايةٍ مع مساحة النص، فإن قصةً قصيرةً للغاية مكتوبة في فقرة واحدة، لا تزيد بدايتها عن الجملة الأولى؛ وهكذا تتزايد مساحة البداية مع امتداد مساحة كلِّ نصٍ، فقد تكون الفصلَ الأول لرواية كبيرة. لذلك فَلْتكن مَرِنًا مع مفهوم البداية (والنهاية بقدرٍ كبير أيضًا) بحيث تربطها بطول النص وطبيعته.

على البداية المكتوبة جيدًا أن تصيب أكثرَ من هدف برمية واحدة، عليها أن تستولي على انتباه القارئ، بأن تجعله يتساءل أسئلة مثل: «وكيف حدث هذا؟ وما الذي حدث بعدها؟ ومَن هؤلاء الأشخاص؟» لا بدَّ أن تثير البدايةُ في نفسه الفضولَ، وتبثَّ في نفسه وعودًا بمُتَعٍ وشيكة. ثم إن البداية نفسها تقود القارئ إلى عالَم الحكاية وخصوصيتها وشخصياتها، إلى زمنٍ ومكانٍ وجوٍّ عام، كما تؤسِّس لنبرة السرد، فيظهر من الجملة الأولى تقريبًا إذا كنا بصدد دخول عالَم شبحي غامض، أم واقع اجتماعي مباشِر، أم أجواء نفسية وعاطفية مشحونة بالصراعات، إلى آخِر نغمات لا نهائية محتملة لقصتك. ويمكن للبداية كذلك أن تطرح، منذ السطور الأولى، بذورَ الصراع — إنْ كان ثمة صراعٌ خارجي واضح في حبكتك — أو الأهدافَ والرغبات المستحوذة على شخصياتك.

أمَّا كيف نستحوذ على انتباه القارئ من السطور الأولى، فلا توجد إجابة نهائية محدَّدة على هذا السؤال، بقدر ما عليك أن تكتشف الإجابة الأقرب إليك، والأنسب لعالَم نصِّكَ، وعليك أن تكتب سطورَ البداية مرةً بعد أخرى حتى تعثر على المدخل الصحيح، وبعضُ الكتَّاب مثل التركي أورهان باموق يقول: إنه يُعِيد كتابةَ الجملة الأولى أكثر من خمسين مرة حتى يعثر على النبرة المناسبة، كما يمكنك أن تؤجِّل كتابةَ جملة البداية حتى الانتهاء من النص تمامًا، فربما تصير الصورةُ أوضحَ أمامك حينئذٍ، وتستطيع أن تحدِّد النقطةَ الأجمل والأكثر سخونةً لتكون عتبةَ دارِكَ.

باب الخروج

لأسباب مختلفة، قد يستهين البعض بصياغة نهاية نصوصهم؛ منها مثلًا أن القارئ قد وقع في الفخِّ وقطَعَ الشوطَ كاملًا، فلا داعيَ إذن إلى مزيدٍ من المُغريات، أو ربما لأن الإنهاك قد نال منهم، فلم تَعُدْ بهم طاقة للاشتغال على سطور النهاية. وهذا خطأ لا يقلُّ جسامةً عن إهمال سطور النهاية، وبالذات في القصة القصيرة، التي تشكِّل سطورُها الأخيرة لحظةً حاسمةً في بنيتها ككلٍّ، أو ما يُسمَّى بلحظة التنوير، وما تحمله من كشْفٍ قد يدعوك لإعادة القراءة من جديد.

إنها النغمة التي يتمُّ بها اللحنُ، والتي تحدِّد أثرَه النهائي. وإذا كنتَ قد أجهدتَ نفسك في حَبْكِ مؤامرة طويلة على القارئ، فلا بدَّ أن تقدِّم له مكافأةً في نهاية رحلته معك؛ لا نقصد هنا ضرورةَ أن تُحَلَّ جميعُ العُقَد وأن تحدث الأشياء السعيدة للأبطال، بقدر ما نعني أن يشعر بنوعٍ من الإشباع في نهاية الطريق، أن ينظر وراءه في تلك اللحظة راضيًا ومستعِدًّا لمرافقتك في الرحلة ذاتها من جديد، أو في رحلات أخرى بلا كللٍ أو مللٍ.

يمكن لنهايتك — وهي أيضًا قد تكون جملةً أو فقرةً أو فصلًا كاملًا، وفقًا لمساحة نصك — أن تنجز خطةَ الحبكة التقليدية، فتصل الشخصيةُ لهدفها أو لا تصل، ويمكن لها أن توحي بما طرَأَ على شخصياتك من تغيُّرٍ نتيجةَ كلِّ ما مرَّتْ به، ويمكن أن تلمِّح للقارئ بأن كل شيء سوف يتكرَّر من جديدٍ في تركيب دائري؛ حيث تنتهي الأمورُ من حيث بدأت تمامًا.

المراد أن احتمالات صياغة النهاية بلا نهاية، والمهم أن تُرضِي خيالَ القارئ وتُشبِع فضولَه وإنْ لم يكن بدرجة تامة، وأن تتفق كذلك مع منطق النص والشخصيات، فلا يُنصَح بلَيِّ عُنقِ الأحداث من أجل تقديم نهاية مُبهِرة وصاعقة ولا نظيرَ لها، فهنا أيضًا سيشعر قارئك بأنه قد خُدِع. البعض يحدِّد نهايتَه سلفًا في عمله على الحبكة، والبعض يفضِّل أن يترك العملَ يقود نفسَه نحو النهاية الأنسب له، وفي الحالتين لا تجعل الخطةَ التي رسمتَها بنفسك قيدًا على خيالك وحرية إبداعك. تخيَّلْ نقطةً مبدئيةً للنهاية، ولكن كُنْ مستعِدًّا للتغيير في كل لحظة؛ فقد تكتشف في نهاية هذا الممر أو ذاك البابَ الأروع للخروج.

أَعِدْ رسْمَ الأقواس

  • اختَرْ روايةً، أو فيلمًا، وتسلَّ بتغيير النهاية والبداية. العبْ بالاحتمالات كيفما تشاء. تأمَّلْ ما قد يترتَّب على هذا من تغيير في بنية وأحداث العمل نفسه، ثم اختَرْ قصةً لكاتب تحبه وأَعِدْ كتابتها مع تغيير البداية والنهاية.

  • استعِدْ قصةً قديمة لك، واقترِحْ لها عدةَ بدايات وعدةَ نهايات مختلفة عن الأصل. انتقِ من تلك الاقتراحات أنسبَ بدايةٍ وأنسبَ نهايةٍ وأعِدْ كتابةَ القصة بصورة مختلفة.

  • اقتبِسْ جملةً أو فقرةً صغيرة من بداية عمل تحبه، واتَّخِذْ منها بدايةً لنصٍّ خاص بك، يتجه بهذه البداية بعيدًا تمامًا عمَّا كانت عليه عند كاتِبِها الأصلي، واكتشِفْ إلى أين يمكن أن تذهب بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤