أنت بُستانيُّ أفكارك

حُلْمٌ مُوجَّه

في جامعة كولومبيا، قبل عقود عديدة، وفي أحد فصول تدريس الكتابة السردية، كان يجلس صامتًا وشارِدَ اللُّبِّ شابٌّ أسود العينين، لا يبدو عليه الإنصات لما يُقال ولا يدوِّن ملاحظات، مكتفيًا بالنظر خارج النافذة. ما هو إلا أسبوعٌ واحدٌ بعد انتهاء هذا الفصل الدراسيِّ حتى بَدَا وكأنَّ هذا الشاب ظهر من العدم، فكتب العديد من القصص التي وجَدَ أغلبُها طريقَه إلى النشر. ولم يكن هذا الشاب سوى «جي دي سالينجر» صاحب الرواية المدوية «الحارس في حقل الشوفان»، ويبدو أنه كان يهيم في نوعٍ من «أحلام اليقظة الموجَّهة»؛ فالكتابة وفقًا للأرجنتيني «بورخيس»: «ليست إلا حُلْمًا موجَّهًا.» فكيف توجِّه حُلمَك وهو ما زال فكرةً في المهد؟

مع الوقت والرعاية

البذرة التي غرستَها في خيالك وهِمتَ بها شاردًا لأيامٍ أو أسابيعَ أو ربما شهور، سوف تخرج منها ساقٌ رفيعة للغاية في يومها الأول من الحياة، ساقٌ لا تظن أنها من القوة بحيث يمكنها أن تواجِه الحياةَ وتنجو وتكبر وتزدهر، وتكسوها الأوراق والبراعم، وتستدير في أغصانها البتلات بألوانها وروائحها وعجائبها. لكن، صدِّق أو لا تصدِّق، فإن هذا ما سيحدث، فقط لو تعهدتَها بالرعاية والمحبة كأيِّ بستانيٍّ رقيق القلب.

من أين نبدأ؟

لنفترض أنك الآن قد اصطدتَ الفراشة؛ أيْ وضعتَ يدك على الفكرة التي تودُّ كتابتها، وبعد أن وضعتها جانبًا لفترةٍ أخرجتَها من بنك الأفكار وقرَّرت أنه قد حان الوقت للعمل عليها، من أين تبدأ؟ ولعلَّنا نجد جوابًا مبدئيًّا في شرود «سالينجر» مع أحلام يقظته الموجَّهة؛ ومع ذلك يظلُّ السؤال قائمًا: ماذا بعد الهيام مع الفكرة وتأمُّلها في خيالاتنا؟

من ناحية يقول البعض: إنه ليس من المهم تحديد من أين نبدأ، لكنَّ المهم أن تبدأ، ولو من أيِّ نقطة. ومع ذلك فهناك دائمًا بعض الاقتراحات والحلول؛ فإذا كنتَ قد قمتَ بصياغة فكرتك في عبارات قليلة، على طريقة ملخَّصات الأفلام كما تتمُّ كتابتها في الدعاية أو في نشرات المهرجانات السينمائية، يمكنكَ الآن العودة لهذه السطور المعدودة وتغذيتها تدريجيًّا، بإعادة كتابتها؛ على طريقة التوسُّع التدريجيِّ التي ألمحنا إليها في فصلٍ سابق، بعنوان «في مديح الأسئلة الصغيرة».

هل الملخَّص لا بدَّ منه؟

ليس بالضرورة، وليس دائمًا؛ ربما تكون قصتك قصيرةً للغاية، يدور موقفها الأساسيُّ في مساحة محدودة للغاية زمنيًّا ومكانيًّا، ثم إنك قد تجد نفسك مندفِعًا لكتابتها مباشَرةً كما خطرَتْ لك دون مقدمات وتمهيد وتمتين للفكرة الأساسية بالمرة؛ لكن، في أحيان أخرى، قد يكون مشروعك أطول قليلًا؛ قصة طويلة أو رواية أو سيناريو فيلم طويل، في هذه الحالة يكون لا غنى لك عن كتابة الفكرة وإعادة صياغتها في ملخص واضح المعالم، تُدرِج فيه كلَّ المعلومات الأساسية عن مشروعك، من قبيل: مَن شخصيتك الرئيسية؟ وما ملامحها الأساسية؟ (سالم: فلَّاح بسيط بالكاد يقرأ ويكتب)، وما الحدث الرئيسي الذي يقع له؟ (يجد ذات صباحٍ جسمًا معدنيًّا مجهولًا في غيطه)، وأيضًا ما المكان والزمان؟ (دلتا مصر في نهاية الألفية الثانية — أو فَلْتكن محددًا أكثر إذا كنتَ بحاجةٍ إلى ذلك)، ثم نتيجة الحدث الرئيسي دون إسهاب في التفاصيل (فتنقلب حياته رأسًا على عقب، وتنصب وسائلُ الإعلام سيركًا مبتذلًا في قلب حياته اليومية البسيطة).

«ماذا لو؟» السؤال الذهبي

في كل مراحل عملك المبدئيِّ على صياغة وتمتين فكرتك، ثمة أداة سحرية تتمثَّل في السؤال الذهبي: ماذا لو؟ لا تتوقَّف بالمرة — في هذه المرحلة، وربما في لحظات بعينها من مراحل تالية — عن طرح ذلك السؤال؛ ماذا لو أن قصة سالم مع الجسم المجهول الذي سقط من السماء كانت تدور بكاملها في العصور الوسطى؟ كيف سيكون ردُّ فعل الناس؟ ماذا لو أن ابن سالم الصغير اختفى تمامًا في الليلة ذاتها لظهور الجسم الغريب؟ ماذا لو أن جهاتٍ عُليا أخذت تضغط على سالم لإخفاء حقيقة ذلك الجسم الغريب وتكذيب الخبر، والاعتراف بأنه اختلَقَ الأمرَ لغرضٍ ما؟ عشرات الأبواب — وربما مئات — يفتحها لك هذا المفتاح الذهبي الصغير، وكل باب منها يفضي إلى عالَم مختلف وتصوُّر آخَر لمشروعك. ولكن في لحظةٍ ما عليك أن تختار بابًا واحدًا من بينها، وتستقرَّ عليه وتدخل منه، فتستريح هاتفًا: «وجدتُها! هذه هي …»

البحث ثم البحث ثم البحث

تخيَّلْ كاتبًا شابًّا يريد أن يكتب قصةَ حبٍّ بين فتًى وفتاةٍ ينتميان إلى عائلتين متحاربتين، دون أن يقرأ مسرحية شكسبير «روميو وجولييت»، أو حتى يرى فيلمًا عنها. تخيَّلْ آخَر يريد أن يكتب روايةً عن أسرة يموت عائلها الموظَّف فتتدهور أحوالها بسرعةٍ، وتختلف مصائر أبنائها دون أن يطَّلِع على رائعة نجيب محفوظ «بداية ونهاية».

بينما تعمل على غرس بذرةِ نصِّك في أرض خيالك، قلِّبِ التربة جيدًا، اكشفها للهواء والشمس، وافحص البذرة نفسها جيدًا؛ هل هذه الفكرة مستهلَكة؟ فإن كانت، فكيف يمكنك تجديدها واكتشاف وجهةِ نظرٍ أو زاويةٍ جديدةٍ تتناول منها الموضوعَ القديم نفسه؟ اسأل أصدقاءك ومعارفك حول أعمال أدبية وفنية تدور في الأجواء نفسها، ربما تتذكر أنت بعض تلك الأعمال، فلو استطعتَ فعُدْ إليها وانظر خطوطَ التَّماس بين مشروعك وبينها، ونقاطَ الاختلاف كذلك.

مرحلة البحث ليست ترفًا أو رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل شيءٌ لا بدَّ منه؛ إذ لا بدَّ أن تتعرَّف على الأرض التي تودُّ أن تسير فيها، أن تعرف المزيدَ عن عالَم قصتك، بالقراءة أولًا، والبحث على الإنترنت ثانيًا، ثم سؤال بعض المتخصِّصين في مجالاتٍ بعينها تحتاج إليها. يكون من المفيد لك ككاتبٍ أن يكون لك على الدوام أصدقاء من مِهَن وحِرَف مختلفة (سوف تحتاج إلى الميكانيكي والطاهي وبائع العرقسوس، بنفس قدر احتياجك إلى المحامي والطبيب والسفير)، فإنْ لم يكن لك صديق منهم، فاسأل آخَرين ليوصلوك بأحدهم؛ المهم ألَّا تتكاسل عن العثور على المعلومة الدقيقة لتضعها في المكان المناسب؛ لأن قارِئَك لن يسامحك أبدًا إذا استغفلتَه وتهاونتَ في درجةِ مصداقيتك مع التفاصيل الصغيرة، والفنُّ في نهاية الأمر هو تلك العناية بالتفاصيل الصغيرة.

وبعيدًا عن الخبرات المهنية الواضحة، هناك أيضًا الهوايات والغوايات: الجنون باﻟ «فيديو جيمز»، تربية الحمام، صيد السمك، تفصيل الثياب في المنزل، وإعداد قوالب الحلوى … تلك أشياء تعرفها عن أشخاص في محيطك بطبيعة الحال، لا تتردَّد في الرجوع إليهم وسؤالهم عن بعض التفاصيل، سوف يسرُّهم غالبًا أن يكونوا مفيدين لك، وأن يتحدَّثوا عن الأشياء التي يحبونها، وأن يكونوا جزءًا — ولو بقدرٍ محدود — من عملية إبداعك.

تمرين

استخرِجْ فكرةً قديمة كنتَ وضعتَها جانبًا منذ فترة لسبب أو لآخَر، ولتجرِّب معها — ولو على سبيل اللعب — قدرتَك على تطويرها وتمتينها وتغذيتها بالتفاصيل، وتقليبها على جميع الاحتمالات الممكنة، مستعينًا بالمفتاح الذهبي «ماذا لو؟» ومَن يدري؟ ربما تكون هذه بدايةَ مشروعِ الكتابة التالي لديك؛ فقط ابدأ دون تفكير طويل.

تذكَّرْ

لا تأتيني الأفكار عادةً وأنا جالسة أكتب، بل وأنا في قلب الحياة.

أناييس نن

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤