من قُصاصةٍ إلى قِصة

بصراحة

نادرًا ما ستجد كاتبًا لم يبدأ مشواره مع الكتابة بشيءٍ آخَر غير الولع بالقراءة، وكثيرٌ من الكتَّاب يَمِيلون لوصف أنفسهم بالقرَّاء أساسًا قبل أن يكونوا أيَّ شيءٍ آخَر. إذا وجدتَ بداخلك هذا الولع فأنت على الطريق الصحيح، أمَّا إذا كنتَ تجد صعوبةً في القراءة، أو تضجر سريعًا ما إن تقلِّب بضع صفحات من أيِّ كتاب، فإنك — بصراحة — لستَ الشخص المناسب للسَّيْر على هذا الطريق، الذي لا يُخَفِّف من وعورته ومشقته إلا ذلك التوقُّد والشغف والفضول اللانهائي نحو قراءة كل كلمة مطبوعة تقريبًا، إلَّا إذا كنتَ معجزةً فريدة من نوعها، وهو ما يجب ألَّا نستبعده تمامًا.

قصاصات الصحف

تقول الكاتبة الأمريكية «جويس كارول أوتس» إنها حريصة على قراءة الصحف والمجلات، وخصوصًا أبواب الاعترافات والنميمة والشائعات والحوادث وبريد القراء؛ بحثًا عن مصادر لقصصها. تَرُوق لها تلك الطبيعة المجردة والعارية (على العظم) لأخبار وروايات الصحف، فهي تمكِّنها من تغطيتها باللحم والدَّمِ والأعصاب اعتمادًا على خيالها الحُرِّ. ولا يَفُوتنا التذكير باهتمام المُعلِّم الكبير «نجيب محفوظ» بقراءة ما يُنشَر أسبوعيًّا في بريد الأهرام، كأنها نافذة أخرى صغيرة نحو الناس وحكاياتهم وأزماتهم، وأوضح مَثَل على اهتمامه هذا هو متابعته في شغفٍ وتَأَمُّلٍ جميعَ ما تنشره الصحف من أخبار حول «محمود أمين سليمان» — اللص والقاتل الهارب الذي عُرِف ﺑ «السفَّاح» — ليصنع من تلك «القصاصات» تحفته الرائعة «اللص والكلاب»، ليتحوَّل «محمود أمين سليمان» إلى «سعيد مهران»، الذي يُواجِه وحده مجتمعًا شَوَّهَتْه الأكاذيب والخيانات.

تمرين دائم

جمِّعْ بانتظام ما يَلْفِتُ انتباهك من تلك الأخبار والمقالات الصغيرة، لا تُفَوِّتْ قراءةَ صفحة الحوادث، فذات يوم قد تَجِدُ ضالَّتك هناك، وبين الحين والآخَر حاوِلْ أن تعتمد على إحدى تلك القصاصات في كتابة قصة، ولو على سبيل التمرين. يمكنك أن تتخيَّل ما الذي أدَّى بالأحداث إلى تلك الخاتمة، أو ماذا سيحدث لبطل الخبر بعد هذا، أو ما تشاء؛ فخبر الصحيفة ليس إلَّا شرارة مبدئية قد تستلهم منها أنت غابةً تحترق على سطورك. من شأن هذا التمرين أن يقوِّي عضلاتك الدرامية في تحويل خبر بسيط إلى حكاية ذات قوام متماسك، بمَلْءِ فجواته ومساحاته البيضاء معتمِدًا على تجارِبك وخيالك؛ وأن يَشْحَذَ وَعْيَكَ بكل تلك الحكايات المتناثرة حولك في كل موضع، وأن يُدَرِّبَكَ أيضًا: كيف تقرِّر؟ من أين تبدأ؟ ومتى وأين تنتهي؟ وفوائده عديدة غير ذلك.

نوِّعْ غذاءك

لا بدَّ أنك قرأتَ أو سمعتَ في مكانٍ ما ذات مرَّة أهمية وضرورة تنويع ما نتناوله من طعام بقدر الإمكان؛ حتى نضمن حصول أجسادنا على أكبر قدر ممكن من العناصر الغذائية الضرورية للصحة والسلامة. المسألة لا تختلف كثيرًا في القراءة؛ فقراءة الأدب — على أهميتها — لن تكون وحدها كافيةً لتشكيل وعي كاتبٍ، ولو كان مختصًّا بنوعٍ أدبيٍّ واحدٍ وحيدٍ ومخلصًا له كلَّ الإخلاص؛ وعليه، فَلْتنوِّعْ قراءاتِك قدر ما استطعت، داخل وخارج نوعك الأدبيِّ الخاص، وفي العلوم الطبيعية والإنسانية، وحتى في الكتب الخفيفة التي تتناول العجائب والغرائب على طريقة «صدِّق أو لا تصدِّق».

مع الوقت يمكنك أن تحدِّد نوعية الكتابات (أدبية أو غير أدبية) التي تُزوِّدك بالإلهام والحافز للكتابة. اقرأ أيضًا رسائلَ الكُتَّاب وسِيَرَهم الذاتية، اقرأ المسرح والشعر والتاريخ والأديان؛ يمكنك أن تجد في هذا كله مصادرَ غير مُتوقَّعة للأفكار والاستلهام. بينما تقرأ، ضَعْ علامات على العبارات والفقرات التي تعجبك، فربما تجمعها في دفتر وحدها.

تمرين: جملة جميلة أساس لنَصِّك

راجِعْ بعض تلك العبارات والجُمَل الجميلة التي جمعتها خلال فترة، اختَرْ إحداها لتكون مقتطَفًا في مستهل قصة أو رواية لك، اسأل نفسك: كيف يمكن أن تفجِّر هذه العبارةُ عالَمَ قصتك وتتخلَّله تمامًا؟ أو العبْ مع تلك العبارة لُعْبة الأسئلة الصغيرة التي أشرنا إليها في فصلٍ سابق، اكتشِفْ ما فيها من فجوات ومناطق مسكوت عنها وإمكانات درامية خفية.

من كافكا إلى ماركيز

قال الكاتب الكولومبي الشهير «جابرييل جارثيا ماركيز» إن ما جعله يرغب في كتابة القصص والروايات طوال حياته، كان العبارةَ الأولى من قصة التحوُّل (أو المسخ) لفرانز كافكا، وهي كالتالي بترجمة محمد أبو رحمة عن الألمانية مباشَرةً:

ذات صباحٍ، أفاق جريجور سامسا من أحلامٍ مزعجة، ليجد نفسه وقد تحوَّلَ في فراشه إلى حشرة رهيبة …

أمام هذا التحوُّل المعروض بكل بساطة في السطر الأوَّل من القصة اقشعرَّ بدنُ ماركيز، وأدرك بداخله الشغفَ، الذي سيلتهم كِيَانه على مدى عشرات السنين بعد ذلك؛ أن يحكي الحكايات.

اعثر على أيقونتك

اختَرْ كاتبًا من الكبار تُعجَب به وتتابع أعماله وكتاباته كلها، اقرأها بلا ترتيب أو بترتيب النشر، اجمع حواراته وسِيَره وكل ما كُتِب عنه، اجمع صوره ومقالاته وأقواله، اتخذه مرشِدًا أو مثلًا أعلى، اجعل منه أيقونتك الخاصة التي ترمز لهوس الكتابة وتُغَذِّي وقودها في نفسك، الجأ إليه عند الحاجة، وتحاوَرْ معه (ولو كان بعيدًا عنك أو مُتَوَفًّى من زمن طويل) كلما واجهَتْك مشكلاتٌ في الكتابة. وإنْ لم يكن كاتبٌ واحدٌ كافيًا ليكون نموذجك، فاختر اثنين أو ثلاثة، المهم أن تعثر على مرجعية كتابية تساندك عند الحاجة. لا بأس من أن تحاكي أسلوبَه لفترة، ثم تسخر من أسلوبه في وقتٍ آخَر؛ في النهاية قد يتحوَّل إلى صديقٍ قديمٍ شاحب الصورة، لك معه ذكريات لا يمكن نسيانها.

حلِّلْ

ينصحنا القاصُّ والروائيُّ الكنديُّ «ويليام باتريك كينسلا» قائلًا:

اقرأ! اقرأ! اقرأ! ثم بعد ذلك فَلْتقرأ بعض المزيد؛ وحينما تعثُر على شيءٍ يهزُّ كيانَك، فَلْتعكف على تجزئته وتحليله فقرةً بعد فقرة، وسطرًا بعد سطر، وكلمةً بعد كلمة؛ لكي تعرف ما الذي يجعله بهذه الروعة؛ ومن ثَمَّ استخدِمْ بعضًا من تلك الحِيَل في المرة التالية التي تجلس فيها للكتابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤