الفصل الثالث عشر

الطُّرق الثلاث إلى السَّكِينة: الأبيقورية والرواقية والشكوكية

تُوُفِّيَ أرسطو بعد عام واحد من وفاة تلميذه الإسكندر الأكبر. وبحسب الاعتقاد السائد فإن وفاة الإسكندر عام ٣٢٣ق.م. تُعَدُّ بدايةَ فصل جديد في التاريخ القديم وهو «العصر الهيليني». وبعد مُضِيِّ نحو ثلاثمائة عام من بزوغ هذا العصر جاءت نهايته بوفاة كليوباترا، وضَمِّ مصر إلى الإمبراطورية الرومانية التي قامت بعد أفول الإمبراطورية اليونانية. وتتمثل إنجازات الإسكندر في أنه استطاع أن يصل بالحضارة اليونانية إلى أقاليم نائية — مثل مصر جنوبًا والهند شرقًا — خلال فترة عنفوان قوامها عشرة أعوام. وتوفي الإسكندر الأكبر بعد أن أقام إمبراطورية مترامية الأطراف خلال فترة وجيزة جدًّا؛ بحيث كان من الصعب الحفاظ على وحدة تلك الإمبراطورية، خاصة أنه لم يترك خليفة له في الحكم. وبذلك تمزَّقت الإمبراطورية اليونانية حديثة التكوين إلى ممالكَ متفرقة استأثر بها القادةُ العسكريون في زمن الإسكندر (وكانت كليوباترا هي آخر حكام تلك السلالة التي بدأت ببطليموس أحد رجال الإسكندر). ونظرًا للانتشار الضئيل للثقافة اليونانية على تلك الرقعة الشاسعة من الأرض، فقد انصهرت — دون شَكٍّ — مع أفكار وديانات أجنبية. فقد صار العالَم الذي هيمن عليه الإسكندر هيلينستيًّا وليس هيلينيًّا؛ أي إنه لم يكن يونانيًّا صِرفًا. فلم تعُد أثينا مركز الخريطة الثقافية؛ إذ نافستها مراكز ثقافية أخرى كالإسكندرية في مصر وأنطاكية بسوريا ومدينة بيرجامون بآسيا الصغرى ثم مدينة رودس الواقعة شرقي بحر إيجة. ظلَّت أثينا عاصمة الفلسفة دون مُنازِع حتى العصور المسيحية، إلا أن الفلسفة ذاتها طرأت عليها بعض التغيُّرات؛ نظرًا لتزايد الإقبال عليها من أبناء الحضارات المختلفة؛ ممَّا استلزم من الفلسفة أن تُلَبِّي حاجاتهم. وبذلك فإن العصر الهيلينستي قد أدى إلى بزوغ عهد جديد في الفلسفة خصوصًا كما في التاريخ عمومًا.

نُظر للفلسفة الغربية في تلك الأيام باعتبارها سبيلَ الرشاد في الحياة ومصدرًا للراحة والسلوى، حيث يقول أبيقور:

إن الفلسفة التي لا تشفي آلام البشرية هي محض هباء. فالفلسفة التي لا تبرئ الرُّوح من معاناتها، لا تختلف عن طب لا يداوي مريضًا ولا يشفي عليلًا.

هكذا تحدَّث أبيقور (٣٤١–٢٧١ق.م.) أحد أشهر فلاسفة العصر الهيلينستي الحديث. وقد كان خطابه في هذه العبارة تحديدًا معبِّرًا عن فلاسفة العصر جميعهم. كانت هناك ثلاث مدارسَ فكرية سائدة وقتذاك هي: الأبيقورية والرواقية والشكوكية. وللتفريق بين هذه المدارس على وجه العموم يمكن القول إن الأبيقوريين إذا اتَّخذوا مسلكًا أو رأيًا معينًا، اتخذ الرواقيون ضده. أما عن الشكوكيين فقد كانوا يرفضون اتِّبَاع أيٍّ من المنهجين. ورغم هذا، ظل هناك ما يتَّفِقُون حوله، وهو اعتقادهم أن الفلسفة فنٌّ غرضه تحقيق الشفاء الرُّوحي وليس محض ملهاة يقضي بها الحاذقون أوقات الفراغ.

اكتسب الأبيقوريون والرواقيون شعبية لم تَحْظَ بها مذاهب أفلاطون وأرسطو الجافَّة. واستمرت المدارس الأفلاطونية والأرسطية خلال العصر الهيلينستي في البحث أو التدريس لصفوة المجتمع، وكان لديهم بالتأكيد ما يعين الناس على حياتهم، لكنهم لم يُيَسِّرُوهُ للعوام؛ بحيث يَسهُل فَهمه ومن ثَمَّ تطبيقه. على النقيض، كان فلاسفة الحقبة الهيلينستية الجُدُد قد نالوا قسطًا وافرًا من الشعبية، وهو ما دفع بعض النقاد إلى وصف تعاليمهم بالبساطة المُعِينة على الفهم. وقد كتب شيشرون — وهو خطيب ورجل دولة روماني كان يميل إلى مدرسة أفلاطون ذات الطابع الأكاديمي — قائلًا إن كون الفلسفة الأبيقورية «على هذه الدرجة من اليُسر بالنسبة للعوام» يُثبت مدى تفاهتها وعدم منطقيتها. إلا أن كثيرًا من أهل أثينا لم ينظروا إليها هكذا. فقد نال هؤلاء الفلاسفة تلك الشهرة لقدرتهم على تفسير الحياة تفسيرًا جليًّا مما جذب العامة إليهم، كما يظهر في مراسم تشييع جثامينهم.

وتَدين هذه المدارس الفلسفية الحديثة لسقراط أكثر ممَّا تدين لأفلاطون وأرسطو. فسقراط هو من أشار إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة، حيث كان يرى أن الهدف من الفلسفة هو تغيير أولويات الفرد في الحياة ومن ثَمَّ تغيير حياته ذاتها. فعملت المدارس الهيلينستية الفلسفية على تحقيق هذا الوعد السقراطي وتطبيقه. وزعموا أن بإمكانهم الوصول إلى حالة الصفاء الذهني والسكينة النفسية التي كانت لدى سقراط نفسه. لكنهم عدَّلوا في أفكار سقراط لتلائم البحث في أعماق النفس. فرغم أن سقراط كان يتحلَّى بالهدوء في وقت الشدة، فلم يدَّعِ يومًا أن هذه السكينة هي الهدف من الحياة. أما الأبيقوريون والرواقيون والشكوكيون فكان حديثهم يسعى إلى إثبات أن الوصول إلى حالة السكينة والصفاء هو الهدف من الحياة. وكانوا يُثنون أشد الثناء على حالة السكينة التي تُحرِّر الإنسان من الاضطراب والقلق، ويَرَوْنَ أن هذه هي الحالة المثالية التي يجب أن تكون العقول عليها. قال سقراط سابقًا إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق به الأذى؛ لأن الأذى الوحيد الذي يُؤخَذ في الاعتبار هو ذلك الذي يصيب به المرء نفسه بتحوُّله إلى شخص طالح. إلا أن فلاسفة العصر الهيلينستي عدَّلوا من الفكرة بعض الشيء قائلين إن الرجل الحكيم لا يجعل نفسه عُرضة للاضطراب؛ لأن مفتاح الحكمة هو تجاهل الأمور التي لا تستحق الاكتراث.

أشرنا آنفًا إلى أنه على الرغم من كون سقراط رجلًا صاحب رسالة، إلا أن هناك مجالًا للجدل بشأن مضمون هذه الرسالة (انظر الفصل العاشر). فقد استقى كلٌّ من أرسطيبوس وأنتيستنيس فلسفتيهما بشكل واضح من كلام معلمهما سقراط وحياته. كان أرسطيبوس — عاشق اللذة — رائدًا للفلسفة الأبيقورية، في حين كان أنتيستنيس — ذلك الرجل الزاهد المتقشف — رائدًا للفلسفة الرواقية. ولذا فكلتا المدرستين تدخلان في إطار الفلسفة السقراطية بشكل أو بآخر. وينطبق الأمر ذاته على الشكوكيين؛ حيث كان سقراط يردِّد دائمًا أنه لا يعرف شيئًا على الإطلاق. ورغم أنه يستخدم هذه العبارة على سبيل المجاز فقد حمل الشكوكيون العبارة على معناها الحرفي. وكان سقراط يَطرحُ كل مسألة أخلاقية تعترضه في الحياة على طاولة البحث، وقد سلك الشكوكيون مسلكه، ولكنهم لم يقِفوا في بحثهم عند حد مسائل الأخلاق فقط.

كانت هذه المدارس الهيلينستية الجديدة تعمل على نطاق أوسع من مدرسة سقراط، ولكن الأولويات المحدودة التي شغلتهم كانت انعكاسًا للاهتمامات المحدودة لفلسفة سقراط. فسقراط لم يَكُ يعبأ بالمسائل العلمية. كما لم يهتم بقضايا المنطق أو المعرفة أو العقل أو أيٍّ من المسائل الفلسفية التي كانت تُناقَش وتُدرَّس في المدارس الأفلاطونية والأرسطية. فالقضية الأهم التي شغلت سقراط كانت الطريقة المُثلى للحياة. ورغم اهتمام الأبيقوريين والرواقيين والشكوكيين بكل القضايا الفلسفية فتحقيق السعادة في الحياة كان هو هدفهم من دراسة هذه القضايا والبحث فيها. وبذلك احتلَّت قضايا الحكمة مكانةً ثانوية مقارَنةً بالقضايا الأخلاقية كما كان الحال لدى سقراط. فرغم أن الأبيقوريين والرواقيين طرحوا نظريات حول أمور شتى، ورغم أن الشكوكيين قد تكلموا في كل مسألة تَعِنُّ لهم، فإنهم جميعًا مشتركون في وجود دوافع مُضمَرة خلف أبحاثهم تهدف إلى المعالجة الرُّوحية للبشر.

اعتقد الأبيقوريون أن القضية الأساسية للبحث تتمثل في القضاء على كل الاعتقادات الخاطئة. فظنوا أن الخوف اللاعقلاني من أهم العقبات في طريق السعادة، وأن العلاج الأنجح لهذا الخوف يكمُن في قدر معقول من الفيزياء وبعض التدريبات المنطقية. فرأوا أن فكرتهم — على سبيل المثال — التي تزعم أن العقل يتكوَّن من ذَرَّات تتناثر مع خروج الرُّوح من الجسد تساعد على التخلص من الخوف من الموت؛ ومن ثَمَّ الاستمتاع بالحياة. أما الرواقيون فقالوا إن القضية كلها تتلخص في مساعدة الإنسان على الحياة «في وفاق مع الطبيعة»، وهنا يكمُن مفتاح السعادة في نظرهم. ومن المستحيل أن يحيا الإنسان حياة كهذه دون أن يفهم حقائق الطبيعة. فعلى سبيل المثال، يؤمن الرواقيون أن الأمور كلها تخضع للقدَر، وأن التسليم بهذه الحقيقة من شأنه أن يُفضي إلى سلوك الرضا والتسليم. ولذا كان عليهم أن يخوضوا في مسائلَ علمية متنوعة لإثبات أن كل شيء خاضع للقدر. أما الشكوكيون، فقد رأَوْا أن الغرض من البحث هو التوقف عن إصدار أحكام بشأن القضايا المختلفة؛ وذلك لتجنب القلق بشأنها. وفي سبيل ذلك قالوا إنه يمكن للشخص الواحد أن يتَّخذ طرفي الجدال حول مسألة ما. وبما أن ذلك ليس بالأمر الهيِّن فقد انهمك الشكوكيون في بحث المسائل الفكرية والخوض فيها شأنهم كشأنِ غيرهم. فأسفر هذا عن لجوء المدارس الثلاث إلى البحث في الفيزياء وفي الكثير من المسائل الأخرى التي لم يهتم بها سقراط، لكن دافعهم في النهاية كان تحقيق السعادة والسكينة.

إلا أن سعيَهم للوصول إلى السعادة كان له أثر على طريقة تناولهم للمسائل العلمية؛ فقد اهتم الأبيقوريون والرواقيون بالأمور التي تُسلِّط الضوء على الإنسان وموقعه في الطبيعة، وقد وجدوا سعادة غامرة في البحث في طبيعة الكون العامة أو في مسائل القَدَر والأسباب الطبيعية، بينما لم ينشغِلوا بالكائنات الحية وسلوكها كما فعل أرسطو. فقد كانت رؤيتُهم أن علم الحيوان غير ذي قيمة فلسفية. وقد كانت دوافعهم المضمَرة خلف أبحاثهم تظهر أحيانًا بشكل فَجٍّ. وكثيرًا ما كان الأبيقوريون يسرعون إلى قبول أي تفسير قديم بشأن ظاهرةٍ ما ما دام هذا التفسير يحول دون الوقوع في دائرة القلق. وقد بالغ الرواقيون في الاهتمام بالتنجيم لاعتقادهم أنه يؤكِّد إيمانهم بالقدر. ولم يكن لأيٍّ من هذه المدارس بوجه عام الفضول العقلي الذي تمتع به أرسطو أو رغبته في جمع المعلومات الدقيقة. ورغم أن بعض تلاميذ أرسطو اتبعوا طريقه في البحث العميق والمتفتح؛ فإنهم لم يمثلوا سوى حالات استثنائية بين فلاسفة أثينا في العصر الهيلينستي، كما أن إسهاماتهم كانت ضيئلة إذا ما قورنت بإسهامات غيرهم. ولم تَحْظَ المدارس الفلسفية بأثينا بمكانةٍ في تاريخ العلم حيث كان الاهتمام بأمور العلم يجري بمكانٍ آخر من العالم.

كانت الممالك الحديثة المُقتَطَعة من إمبراطورية الإسكندر أكبرَ مساحةً وأكثر ثراءً من المدن القديمة مثل مدينتي أثينا وإسبرطة، وكان بإمكان هذه المدن توفير دعمٍ مالي للعلوم والفنون من الخزانة الملكية التي جادت بالأموال في سبيل ذلك. وكان الملوك يتنافسون على جذب كل البارعين في مختلِف مجالات المعرفة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ نظرًا لما يعود به ذلك عليهم من شرفٍ ومكانة. ففي مصر قام البطالمة (الذين تقلَّدوا الحكم منذ وفاة الإسكندر حتى انضمام مصر للدولة الرومانية عام ٣٠ق.م.) بجمع كوكبة من المفكِّرين وأهل العلم للعمل في معهدٍ للبحوث أُقِيمَ بالإسكندرية. كما قاموا بجمع العديد من المخطوطات النادرة لإلحاقها بمكتبة الإسكندرية، وأغدقوا المِنَح والأموال على هؤلاء العلماء بجانب تقديم الكثير من المساعدات الأخرى (فمثلًا كانوا يزودون الأطباء بجُثَث المسجونين الذين قَضَوْا نحبهم كي يقوموا بتشريحها وفحصها). وقد أثمرت مثل هذه المِنَح نفعًا فنَجِدُ أن إقليدس وأرشميدس — اللذين كانا من فطاحل علماء القرن الثالث قبل الميلاد بل والتاريخ اليوناني القديم بأسره — زاوَلَا نشاطهما العلمي بالإسكندرية.

تحقَّقَت الإنجازات العلمية في العصر الهيلينستي في مجالات الرياضيات والفلك والطب (وكذلك في الهندسة بَدءًا بالمجانيق المستخدَمة في الحروب وانتهاءً بالمحركات البخارية البدائية) بعيدًا عن أثينا وعن فلاسفتها، وكان أسلوب التنظير الذي اتبعه الأبيقوريون والرواقيون في بحثهم في الطبيعة يُشبِه كثيرًا كتابات فلسفة العلم في عصرنا الحديث أكثر من كونه أبحاثًا تتبع الوسائل العلمية. وتناول الكثيرون من فلاسفة العصر الهيلينستي موضوعَ الطبيعة بنظرة عامة لا تهتم بالتفاصيل ولا تُدَقِّقُ فيها. ولذا كان يُنظر إلى هذه المرحلة من التاريخ الغربي على أنها مرحلة انفصال العلم عن الفلسفة؛ وبذلك ينتهي مشروع البحث المشترك بينهما الذي استهلَّه طاليس وأناكسيماندر قبل ثلاثة قرون من ذلك الحين.

ولكن هذا الانفصال المفاجئ بين العلم والفلسفة يُعطي صورة في غاية التبسيط عن شكل العَلَاقة بينهما. وإننا لنتساءَل عن تلك اللحظة الفارقة — إن وجدت — التي سار فيها كل فرع منهما في طريق بعيدٍ عن الآخر. وهنا، نجد أنفسنا بصَدَدِ العديد من الإجابات المتناقضة، فبينما يدَّعي البعض حدوث الانفصال في العصر الهيلينستي، يشير آخرون إلى وقوعه في زمن فيثاغورس في القرن السادس قبل الميلاد. ويجزم آخرون بأنه كان في بدايات القرن الخامس قبل الميلاد الذي عاش فيه بارمنيدس. وهناك من يَرُدُّهُ إلى عهد سقراط بعد ذلك بحوالَيْ خمسين عامًا. ويظن آخرون أن الانفصال بين العلم والفلسفة لم يحدث إلا في عصر جاليليو أوائل القرن السابع عشر، بل ويذهب أحد الكتاب إلى أن هذا الانفصال لم يحدث بشكل نهائي حتى عصر كانط في القرن الثامن عشر. ويقول آخر إن ذلك الانفصال قد وقع في القرن التاسع عشر.

نخلُص ممَّا سبق إلى أنه لا يوجد في التاريخ تلك اللحظة السحرية الفارقة على الإطلاق. لكن الإجابات سابقة الذكر تُخبِرنا عن مراحل تطوُّر الحياة الفكرية بصفة عامة. ولنبدأ على سبيل المثال بفيثاغورس الذي — على الرغم من الجوانب العديدة التي يمكن من خلالها تناوُل فكره — كان يقدِّم نفسه على أنه حكيم صوفي يستطيع تفسير معنَى الحياة والموت إلى مريديه، وهو ما لا يمت للعلم بصلة. وبهذا يتمثل أمامنا نموذج من القرن السادس قبل الميلاد لفيلسوف كان يَوَدُّ أن يكون أكثر من محض عالم. وهناك نموذج آخر مختلف وأعمق أثرًا هو للفيلسوف بارمنيدس الإيلي وتلميذه زينون؛ فقد سبقَا كثيرًا من فلاسفة العلم إلى نقد العديد من المصطلحات التي استخدمها علماء سابقون دون تحليل ودراسة، ونذكر منها على سبيل المثال مصطلحي الحركة والتغيُّر. وبذلك يكون الإيليون قد تناولوا جانبًا آخر من التفكير الفلسفي يختلف عن النشاط العلمي التقليدي، ألا وهو التفكير المجرد في المفاهيم الأساسية. أما سقراط فيحسب له أنه نزل بالفلسفة من بحث عالم السماء إلى بحث عالم البشر؛ حيث اشتغل بالنظر في الأخلاق والسياسة بدلًا من علم الفلك. ولكن هذا التحوُّل الكبير الذي قام به سقراط لم يَدُم طويلًا؛ فكما رأينا، قام فلاسفة آخرون بالرجوع بالفلسفة إلى مباحث السماء.

وقد شهد القرن السابع عشر تغييرات في الطريقة التي تناول بها الباحثون عن الحقيقة أعمالهم؛ فالعلم الطبيعي ازداد اعتمادًا على الرياضيات والتجريب والملاحظة المنهجية، وازدادت مجالات التخصُّص التي بدأت في العصر الهيلينستي، ولكن هذا لم يؤدِّ إلى حدوث صراع أو انفصال بين العلم والفلسفة؛ ففي هذا الوقت لم يكُن أحد ليُدرِك معنى حدوث مثل هذا الانفصال. وعلى الرغم من التغيُّرات الهائلة التي كانت تحدُث في هذا الوقت فإن «العلم» باعتباره البحث المنهجي في الطبيعة كان لا يزال فرعًا من الفلسفة، وكان يسمى الفلسفة الطبيعية (فكلمة «علم» كانت تعني فقط «المعرفة» أو المهارة). ويمكن أن تكون التطورات الرياضية والتجريبية التي حدثت في القرن السابع عشر هي الدافع وراء حدوث صراع بين الفلسفة الأرسطية والفلسفات المتأخِّرة عليها، ولا يمكن أن ندعي أن هذا الصراع كان بين الفلسفة في حَدِّ ذاتها والعلم في ذاته.

ولا يمكن أن نَقَعَ على مثل هذا الصراع بين الفلسفة والعلم كذلك في أعمال كانط في القرن الثامن عشر، على الرغم من أن بعض القراءات السطحية لأعماله ادَّعَت عكس ذلك. لا شك أن كانط قد فرَّق بين المعرفة التي تُكتَسب عن طريق التجربة (أي من خلال الملاحظة والتجريب) والمعرفة التي تُكتَسب من التفكير المجرَّد الذي سمَّاه «العقل المحض». ولكنه لم يُصَرِّحْ قَطُّ بأن العلم مهتمٌّ بالنوع الأول والفلسفة مختصة بالنوع الثاني، بل كان كانط يرى أن أعمال نيوتن تُعَدُّ بمنزلة تزاوج بين العلم والفلسفة. ولعل التراكُم الكبير للمعرفة هو الذي دفع إلى وجود نوع من التخصُّص يشابه ما في عصرنا الحالي. ففي عام ١٨٤٠م صاغ الفيلسوف والمؤرخ ويليام ويويل مصطلح «العالِم» ليميز بين هؤلاء الذين ينتجون المادة الخام للبحث في الطبيعة، وهؤلاء الذين ينظرون للأمور من بعيد ويخرجون بالنظريات العامة. إلا أن دمج المجالين معًا لا يزال أمرًا ممكنًا؛ فحتى يومنا هذا لا يمكن الفصل التام بين العلم والفلسفة من خلال تعريف كذاك الذي وضعه ويويل؛ فلا يزال الغموض يكتنف بعض الحدود الفاصلة بين العلم والفلسفة.

لقد وضع العصر الهيلينستي في مُجملِه حجر الأساس للتخصُّص، وإن لم يمثل نقطة تحوُّل تِجَاهَ الانفصال بين العلم والفلسفة. فرغم أن الفلسفة تصدرت المشهد في ذلك الوقت بتقديمها علاجًا غير علمي للرُّوح، ورغم أن كثرةً من العلوم في ذلك الوقت كانت تَضَعُ لنفسها الخطوط العريضة للبحث، فمن الخطأ القول إن الفلسفة والعلم قد انفصلا كانفصال الأميبا بصورة تامة وأبدية في هذه اللحظة من التاريخ. صحيح أن الفلسفة أضحت ذات طابع شخصي وتأمُّلي بشكل أكبر، وأصبحت بعض العلوم أشبه بالوظائف كاملة الدوام، ولكن هذا الوضع لم يكُن جديدًا أو دائمًا، فقد كان هناك متخصصون قبل ذلك الوقت، كما سيظهر مفكرون موسوعيون فيما بعد.

وإذا لم تكُن المدارس الهيلينستية قد أحدثت ثورة كبرى، فقد كان لها تأثير عميق على الفِكر فيما بعد عَبْرَ مذاهبها؛ فقد استطاعت من خلال تقديمها لفلسفات شاملة ومنتشرة انتشارًا واسعًا، ومن خلال انقسامها إلى فِرَقٍ يجادل بعضها بعضًا أن تؤثِّر على رؤية الحضارات التالية للفلسفة. فعندما كان يكتب مشاهير العصر الروماني مثل شيشرون أو بلوتارخ عن الفلسفة، كانت معظم كتاباتهما تتناول الصراعات الفكرية في أثينا الهيلينستية. وقامت الإمبراطورية الرومانية بنشر الفلسفات الهيلينستية (من خلال كتابات لوكريتيوس وسينيكا وماركوس أوريليوس على سبيل المثال) حتى أصبحت من أكثر الفلسفات التي يُقبِل القرَّاء عليها في الأدب الأوروبي.

وقد ظلَّت الأخلاق الرواقية لفترة من الزمن الفلسفة السائدة والمعترَف بها رسميًّا بشكل أو بآخر لدى الطبقات العُليا في الإمبراطورية الرومانية، وكان للرواقية كذلك صدًى في المسيحية. ولكن الأهم من ذلك أن نذكُر أنه من قبيل المبالغة أن ندَّعي أن العصر الحديث في العلم والفلسفة بدأ مع إعادة اكتشاف أفكار المدارس الهيلينستية القديمة (الأبيقورية والرواقية)؛ فقد كانت للفلسفات التي ظهرت في القرن السابع عشر لمُنَاهضة الفلسفة الأرسطية جذورٌ في الفكر اليوناني القديم. فقد أُدخِلت تعديلات على الفيزياء بفضل إعادة اكتشاف أفكار أبيقور حول النظرية الذَّرية في بدايات هذا القرن — حيث كان يرى أن الكون لانهائي ويسير بشكل ميكانيكي يتمثَّل في تفاعل الذَّرَّات — وكذلك بفضل تناوُلِه للمعرفة من جانب تجريبي يعتمد على التجرِبة والملاحظة. وقد كانت هذه هي مقومات الثورة العلمية التي أطاحت بالتصوُّرات الأرسطية للعالم. هذا بالإضافة إلى التأثير المتزايد للشكوكية؛ فلو أردنا أن نُحَدِّدَ تاريخًا لميلاد الفلسفة الحديثة لكان أقرب إلى عام ١٥٦٢م عندما نُشِرَ نَصٌّ من الفلسفة الشكوكية باللغة اللاتينية؛ ما أدَّى إلى إحياء الفلسفة بعد خمود أدامه المذهب المدرسي عليها طيلة العصور الوسطى. وبعد ذلك بخمسة وستين عامًا، بدأ ديكارت في تطبيق «الشك المنهجي» الذي تعلَّمه من الفلسفة الشكوكية القديمة. وأخذت الفلسفة منذ ذلك التاريخ تتشكل وتُصاغ من الأسئلة التي يثيرها الشكوكيون، وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الفصل التالي، ولكننا نرسم أولًا الخطوط العريضة للمدارس الفلسفية الهيلينستية الثلاث التي ظهرت في أثينا عقب وفاة أرسطو.

•••

خرج أبيقور (٣٤١–٢٧١ق.م.) مثل فيثاغورس الذي سبقه بقرنين من الزمان من مدينة ساموس وهي جزيرة أيونية على الساحل الواقع جنوب غربِيِّ آسيا الصُّغرى. وكما فعل فيثاغورس فقد أنشأ مجلسًا انشغل روادُه بالقيل والقال. وقد قام أحد الأعضاء السابقين ممَّن تمردوا على الأبيقورية بنشر قصته عن أبيقور تحت عنوان «ليالي الفلسفة سيِّئة السمعة». وزعم أن أبيقور كان يتقيَّأ مرتين في اليوم الواحد من فرط الأكل. وكتب كذلك أن صداقات أبيقور من الفلاسفة كانت قليلة وأن معرفته بالحياة اليومية ضئيلة وسطحية، كما زعم أن حالته الصحية كانت سيئة لدرجة أنه لم يستطع أن يقوم من كُرسيِّه لمدة أربعة أعوام، وأنه رغم ذلك كانت له علاقات مع أربع سيدات كُنَّ يترددنَ على المجلس وكُنَّ يُعرفن بأسمائهن المستعارة «هيديا» (الفطيرة الحلوة)، و«إيروشن» (الحبوبة)، و«نيكيديون» (النصر الصغير)، و«ماماريون» (ذات الثدي الكبير).

لازمت مثل هذه الأقاويل الخبيثة أبيقور منذ ذلك الحين — ومن بعده لوكريتيوس (٩٩–٥٥ق.م.) وهو أهم أتباعه. كان اليونانيون يلقبون أبيقور ﺑ «الخنزير». وزعم القديس جيروم (٣٤٠–٤٢٠) بلا دليل أن لوكريتيوس قد أصابه الجنون بَعْدَ أنِ احتسى شراب الحب ثم كتب قصيدته الأبيقورية العظيمة في لحظات من النشوة قبل أن ينتحر. وقال كذلك الأسقف جون السالزبوري في القرن الثاني عشر إن العالم مليء بأمثال أبيقور لسبب بسيط، وهو أن من بين هذه الأعداد الكبيرة من الرجال قلة قليلة هم من ليسوا عبيدًا للشهوة. هذا وقد أصبح اسم أبيقور في نهاية المطاف مقترنًا بالإفراط في تناوُل الطعام، كما نرى في الأبيات الفكاهية البريطانية التي كتبها سيدني سميث (١٧٧١–١٨٤٥م):

سيقول الأبيقوري في هدوءٍ وقد شبع:
لا يقوى القدر على إيذائي، فلقد حصلت على كُلِّ غذائي.
figure
أبيقور.

ولكن ليست هذه هي حقيقة أبيقور ورفاقه. ففي الواقع كان المجلس الذي أنشأه أبيقور بعد وصوله إلى أثينا في منزل به حديقة بجوار أكاديمية أفلاطون مكرسًا للحياة البسيطة. حيث كان يُشَدِّدُ فيه أبيقور على تجنُّب الإسراف في الطعام، وكان يشجُب كل مظاهر الانغماس في اللَّذَّات، أما ما قيل عنه فيما يَخُصُّ الجنس فمن ذا الذي يعلم يقينًا ما وقع بين أبيقور وفطيرته الحلوة في الحديقة؟ ولا بد أن نذكِّر أن مذهبه كان على عكس ما يتردد عنه، حيث لم يكن يُحَبِّذُ الجنس، فكما يقول: «إن الجنس لا يجلب أية فضائل للإنسان، وللإنسان أن يسعد إذا لم يتسبب له الجنس في أي أذى.» وقد وافقه لوكريتيوس في هذا كما سنرى فيما بعد، ولعل شجبه العنيف للحب القائم على الجنس هو ما أدَّى إلى ذيوع فكرة أنه تناول جرعة من شراب الحب وصلت به إلى حَدِّ الجنون.

وهكذا يمكننا أن ندرك بسهولة مصدر الشائعات التي ردَّدها علماء الأخلاق ورجال الدين المسيحي فيما بعدُ، فقد قال أبيقور إن على الإنسان أن يتناول الطعام أولًا ليحيا حياةً سعيدة، ومن السهل انتزاعُ هذا الكلام من سياقه، وهو ما حدث بالفعل. أما عن الدين، فلم يكُن أبيقور متوافقًا مع اللاهوت، فآلهته كانت عبارة عن مجموعات متنافِرَة من الذَّرَّاتِ. كما كان يحتقر جميع المعتقدات الدينية التي سادَتْ عصره، وكان هذا الأمر في حَدِّ ذاته سببًا للعديد من المشكلات، وعلاوة على ذلك، كانت فلسفته في الحياة ترتكز على مبدأ اللَّذَّة وهو ما يبدو منافيًا للفضيلة.

وربما كان صحيحًا ما ذُكِرَ في أحد كتب تاريخ الأخلاق الأوروبية أن «الخطيئة الرومانية استترت خلف اسم أبيقور»، ولكن إذا نظرنا عن كثب لما قاله بشأن اللذة نجِد ما قد يذهل هؤلاء الذين لم يعرفوا عن أبيقور إلا الشائعات، فهو يقول:

عندما نقول إن اللذة هي المقصد (بمعنى: الهدف من الحياة)، فنحن لا نعني بذلك لذة المنغمسين في الشهوات أو من يقضون أوقاتًا في المتعة كما يدَّعي البعض نتيجةً لجهلهم ورفضهم فَهم ما نقول، بل اللذة هي التحرُّر من ألم الجسد وقلق الروح. فما يَهَبُ الحياة سعادتها ليس الانغماس في الشراب والحفلات، ولا إقامة العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء، ولا التلذذ بالأسماك والمأكولات غالية الثمن … وإنما العتق من الأفكار التي تسبب اضطراب الروح.

إن دفاع أبيقور عن اللَّذَّة كان أكثر نضجًا من الحب المُترَف الذي تناوله حديث أرسطيبوس الفلسفي على مأدبة ديونيسيوس الأول. فعلى خلاف أرسطيبوس لم ينصرف أبيقور إلى التلذُّذ بالمتع الآنية، وإنما كان مهتمًّا بخلق توازن يحقق الرضا في الحياة والخلاص من مصاعبها بصورة عامة؛ فقد كان على علم بما يمكن أن يسببه الانغماس في اللَّذَّات الآنية من خسارة فادحة لمتع أعظم على المدى البعيد.

كما أن أبيقور نظر إلى اللذة نظرة سلبية عندما رأى أنها تَعنِي فقط غياب الألم. فالألم ليس فقط أن يدهس أحدهم قدمك، كما أن اللذة ليست في أن تنال قبلة من «الفطيرة الحلوة»، فأبيقور يرى أننا إذا أمعنَّا النظر في القضية أدركنا أن اللَّذَّة والألم يتقاذفان الإنسان فيما بينهما على الدوام؛ فإمَّا أن ينعم المرء بالسرور جرَّاء شيء ما فيتذوق فيه اللذة، وإما أن يسقط في براثن الجزع والقنوط فيطمع أن يحوز شيئًا آخر أو يرغب في المزيد من الشيء نفسه؛ أي يشعر بحالة من الألم بسبب شعور الحرمان الذي انتابه. وبذلك نجِد أن الألم يكمُن في نواحي الحياة كافة لا سِيَّمَا إذا ما حرص الإنسان على توفير حياة قوامها السعادة أو غيرها من المشاعر التي تُدخِل المتعة على الإنسان. فالألم لا يقَع فقط نتيجة بعض الاضطرابات في المعِدة أو نتيجة تجرِبة عاطفية فاشلة، وإنما ينشأ عن الرغبة الجامحة التي تنتاب الإنسان وتجعله يلهَث وراء كل ما يعنُّ له من شهوات؛ ولهذا فإن الحياة التي تقوم على اللَّذَّة الخالصة من منغصات المتع الحسية هي حياة هادئة هانئة. إنها حياة تخلو من مجالب الألم أو بواعث الكدر، أو هي — كما أجمَلَ أبيقور — حياة خالية من «الألم الجسدي أو القلق الرُّوحي»، وهذه هي الغاية القصوى للَّذَّة في نظر أبيقور.

وبما أن أبيقور انشغل في المقام الأول بالتخلُّص من أشكال الحزن والهم كافة، فلم يكن دفاعه عن مبدأ «اللذة» هو ما مَثَّلَ تهديدًا لمفهوم الفضيلة التقليدي الذي نقَع عليه في الفلسفات التي تشجع على الإشباع الذاتي. كان أبيقور يرى أن سعي المرء للتخلُّص من الألم والقلق والخوف يُهَيِّئُ له حياة فاضلة؛ لأنك إذا نظرت في الطرق التي قد تُكدِّرُ عليك حياتك فستعرف حينها أنه «من المحال أن تنعم بالسعادة والمتعة دون أن تحيا حياة قوامها الحكمة والعدل والشرف، ولن تتمكن من ذلك ما لم تكن هذه الفضائل الثلاث (الحكمة والعدل والشرف) مرتبطة باللذة؛ فهذا من ذاك.»

ولذلك فإذا أردت أن تحيا وَفقًا لمبدأ اللَّذَّة الذي ينادي به أبيقور فعليك ألا تأتي بأي ظلم؛ لأن «الحياة العادلة هي أكثر الحيوات خلوًّا من الكدر.» أما حياة الظلم فهي تعج بأسباب التوتر والقلق. وهذا يذكرنا بما قاله أفلاطون في «الجمهورية» عندما بيَّن أن حياة الطغاة تخلو من السعادة. علاوة على ذلك، فإن الشخص الحكيم الذي يتبع أبيقور يحرص على التحلِّي بقيمة الصداقة التي أثنى عليها أبيقور مرارًا وتَكرارًا في كتاباته. حيث ذكر أنها الفضيلة الخالدة التي تمنح المرء متعًا دائمة تخفِّف من وطأة الآلام التي تحملها الحياة. وبشكل عام، فإن المجتمع الأبيقوري مجتمع تغمُره المَوَدَّةُ ويقوم على الكرم الفطري وحب الخير؛ فقد نَصَّ أحد تعاليمه على «أن نفع الآخرين يحقق لَذَّةً أكبر من نيل الهبات.»

إن وصف أبيقور للفضيلة بأنها طريق إلى الحكمة يجني المرء منه منافع هائلة قد يجعل الأبيقورية تبدو كأنها فلسفة متمركزة حول نفسها. ولنا أن نعترف أنها كذلك لأنها تُركِّز على رغبة الفرد في اتِّبَاع اللَّذَّة والتخلص من الألم، وإن كان هذا التركيز على رغبة الفرد يوضِّح ببساطة أن أبيقور كان يسعى إلى اكتشاف سِرِّ السعادة الشخصية، فلم يكُن المجتمع أو الحياة الاجتماعية بصفة عامة مَحَطَّ اهتمامه. وقد ذكر أن عدم اهتمامه بالمجتمع يرجع لرؤيته أن إصلاح كل فرد وفقًا للمذهب الأبيقوري عن طريق إرشاده إلى مكامن الرضا والهدوء الدائم، سيؤدي في النهاية إلى صلاح المجتمع ككل، فكما يقول: «إن الإنسان الهادئ لا يُسبِّب توترًا أو إزعاجًا لغيره.» وبذلك يصبح الإنسان السعيد مواطنًا صالحًا. ونجِد أنه عندما بدأ الأبيقوريون في الاهتمام بالشئون المجتمعية والقانونية تلاشت عنهم هذه النظرة المتمركزة حول الذات، وكان تناولهم لهذه القضايا في إطار تحقيق اللذة والرفاهة للمجتمع بأسره.

لا جدال أن تعامل الفلسفة الأبيقورية مع الشئون المجتمعية بهذا الشكل هو الأساس الذي خرجت منه نظرية «النفعية» لدى كلٍّ من جيرمي بنثام (١٧٤٨–١٨٣٢م) وجون ستيوارت مِل (١٨٠٦–١٨٧٣م)؛ فبنثام يستهل رسالته التي تدور حول الأخلاق والتشريع بذكر المقولة الأبيقورية: «إن الطبيعة قد وضعت الإنسان تحت حكم سيدين متسلطين هما «الألم» و«اللذة».» ومبدأ المنفعة الذي صاغه بنثام من فكرة «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد ممكن من البشر» يقود الفرد إلى محاولة تحقيق أكبر قدرٍ من اللَّذَّة وأقل قدرٍ من الألم. وهذا المبدأ من شأنه أن يقود الشخص النفعي إلى حساب نتائج أفعاله قبل الشروع في أي عمل مثلما تحدث أبيقور من قبلُ عن حساب مزايا الأفعال ومراجعة مساوِئِها. ويجب هنا أن نشير إلى أن الاختلافات الرئيسة بين أبيقور وأصحاب المذهب النفعي هي اختلافات في الدافع ومواطن الاهتمام. ولعلها تكمُن فيما يلي؛ أولًا: اهتم الأبيقوريون بالتخلص من الخوف والقلق في المقام الأول، في حين أن أصحاب المذهب النفعي أَوْلَوُا اهتمامهم بالخطوات والأساليب التي تساعد على تحقيق الرفاهة. ثانيًا: في الوقت الذي انصرف فيه أصحاب المذهب النفعي إلى المُشرِّعين والسياسيين، كان أبيقور يحذر أتباعه من الانخراط في الشأن العام، حيث قال: «يجب أن نُحرِّر أنفسنا من قيود العمل الروتيني وأغلال السياسة.» وبهذا نرى أنه كان من الممكن للأبيقورية أن تضع نظامًا جيدًا لإدارة العالم لولا انصراف أبيقور ورفاقه إلى اهتمامات أقل إثارة للقلق.

كان أبيقور يهتم بمقاومة الأفكار والمعتقدات الخاطئة بدلًا من الدخول في تنافس مع أرباب السياسة، حيث كان ممارسًا للفلسفة التي يقول عنها إنها «نشاط يقود من خلال الحوارات والمناقشات إلى تحقيق السعادة.» والخطوة الأولى على طريق السعادة تتمثَّل في توفير الاحتياجات الأساسية كالتحرر من الجوع مثلًا. ورغم أن «الحوارات والمناقشات» في حَدِّ ذاتها لا تُغني من جوع، يرى أبيقور أنها تظل نافعة رغم ذلك، حيث يقنعنا بأننا لسنَا في حاجة للكثير من الطعام. ولمزيد من التوضيح، يرى أبيقور أن معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها. فكما يقول: «إن المعدة ليست في حالة من النهم، وإنما تكمن المشكلة في اعتقادنا الخاطئ أنها تحتاج إلى الامتلاء دائمًا.» كما يرى أننا لا نكافح فقط من أجل الحصول على أمور وأشياء لا نحتاجها ولا نرغب فيها، وإنما نحن نخاف دائمًا من أشياء ليست موجودة، ونقلق من أمور لن تحدث؛ فنحن متوتِّرون بفعل الخرافات لأننا لا نعلم شيئًا عن كيفية عمل الكون، وهو ما يجعلنا مُثقَلون بفكرة القدَر وفكرة الموت لأننا لم ندرك معنى الحياة، فمثل هذه الأفكار والهموم هي التي تطيح بسعادتنا. والفلسفة بوصفها نوعًا من المعرفة العلمية، تُعَدُّ خير مجيب على مثل «هذه المخاوف التي تثيرها الظواهر السماوية والموت والقلق.»

كان التخلص من مخاوف الموت من الأمور التي عمِل عليها أبيقور ورفاقه. فقال إن القصص التي تدورُ حول الأرواح الشريرة للموتى تبعث على الخوف والرعب لأن العقل أو الرُّوح أشياء مادية لا تبقى بعد وفاة الجسد. كان لوكريتيوس قد ذهب إلى أن «العقل والروح كيانان ماديان»؛ ولذلك فلا بد أن يصيبهما ما يصيب الجسد لأن «العقل والرُّوح يُحَرِّكَانِ الأطراف، ويُوقِظَانِ الجسد من النوم، ويغيران تعبيرات وجه الإنسان كما يُسَيِّرَانِ جميع نشاطات الإنسان التي تنطوي بشكل أو بآخر على حاسة اللمس، واللمس يتضمن الإحساس بالمادة. وما دام الأمر كذلك فكيف لنا أن نُنكر طبيعتهما المادية؟» ولعل ما يجب الإلمام به في هذه الجزئية هو رؤية ديموقريطس للحياة على أنها تمثيل للتفاعل الميكانيكي للذَّرَّات. فوفقًا لهذه الرؤية يؤدِّي انتظام الذَّرَّات في شكل معين إلى وجود كائن حي يستطيع التفكير والإحساس والتحرك وغير ذلك من أفعال. وعندما يتفكَّك هذا الانتظام ويحدث الموت لن يبقى هناك تفكير أو شعور؛ وعليه فإن حالة الموت لا يمكن أن تتمثل فيها المتعة أو الألم. فالمرور بتجرِبة الموت ومنازعة آلام الاحتضار قد لا ينطوي على أي قسط من اللَّذَّة، ولكن حالة الموت نفسها ليست كذلك؛ «فما دمنا نحن موجودين وأحياء فالموت غائب، فإذا حضر الموت غبنا نحن.»

كان لوكريتيوس قد أشار إلى أن الإنسان المتوفَّى لا يختلف حالُه بعد الموت عن حاله قبل الميلاد. وللأبيقوريين كثيرٌ من الملاحظات التي تؤكِّد هذا الأمر: «إن الفهم الصحيح للموت على أنه بلا معنًى يجعلنا نستمتع بفكرة الخلود، وهذا لا يحدث بإضافة وقت لانهائي للحياة، وإنما من خلال تحريرنا من رغبة الخلود نفسها.» وبذلك فإن الرجل الحكيم لا يحتقر الحياة ولا يهاب الموت، ولكن كما أن هذا الحكيم يختار نوع الطعام الذي يُدخل عليه أكبر قدرٍ من اللذة ولا ينشغل باختيار الكَمِّيَّة الكبرى من هذا الطعام؛ فإنه كذلك يجد السعادة في أفضل الأوقات لا أطولها. وعند التفكير في الأمر سندرك أننا لسنا في حاجة إلى حياة أبدية لنحظى بحياة كاملة. إن التفكير في الموت والرغبة في الخلود هي الأمور التي تُذهِب وقتنا سُدًى. وكذلك الحالُ بالنسبة للخوف من الخرافات التي عالجتها نظرية ديموقريطس الذَّرية، فتتلخص رؤيته في أن العالم العلوي بعجائبه هو مادة بحث في العلم الذَّرِّي ولا علاقة لها بطقوس خرافية كحرق الدجاج أو البكاء تضرُّعًا للسماء بها. فالكون لا تتحكم فيه الآلهة وإنما الذَّرَّات، والذَّرَّات لا تحتاج إلى من يتضرع لها بالصلوات أو من يتقرَّب إليها بالأضاحي، بل إن الآلهة نفسها لا تُلقي بالًا لهذه الممارسات؛ فهي منهمكة في حياةٍ من السكينة والهدوء. أما الاستماع إلى توسُّلات البشر أو التدخُّل في إدارة العالم وتصريف شئونِه بإحداث رَعْدٍ هنا أو برق هناك، فهو آخر شيء يمكن أن يشغل الآلهة.

ورغم أن أبيقور يتحدَّث عن الآلهة فإن شكل اعتقاده فيها أمرٌ يكتنفه الغموض؛ إذ لا شك أنه قد رفض الأقاويل التي تذهب إلى أن الآلهة تتدخل في الشئون اليومية، وكذلك قصة الخلق التي وردت في محاورة أفلاطون «طيمايوس». وقد كانت النظرية الذَّرية تفتخر أنها تُثبت عدم وجود داعٍ لتدخلِ الآلهة في عمل العالم الطبيعي، وهو الفخر الذي تكبَّد لوكريتيوس كثيرًا من العناء كي يُعَلِّلَ له من خلال نظرياته التي تُنعت بالعبقرية أحيانًا وبالغرابة أحيانًا أخرى، وهي التي ناقشت العديد من القضايا والأمور بدءًا بالمغناطيس وانتهاءً بالحليب. وتبنى الأبيقوريون لتفسير التنظيم المحكم للكائنات الحية رأيًا يُشبه نظرية الانتخاب الطبيعي لدى داروين، حيث أخذها الأبيقوريون عن إمبيدوكليس. فالآلهة الأبيقورية لم تكن حتى بحاجة إلى الاحتفاظ بالسماء في حالة من الحركة السرمدية كما كانت في العالم الأرسطي. ورغم ذلك فإن أبيقور ذهب إلى ما ذهب إليه أرسطو من أن الاعتقاد في وجود الآلهة أمر منتشر بدرجة واسعة وكبيرة يستحيل معها أن يكون مخطئًا تمامًا، وإن كان لا يتَّصف كذلك بالصحة والكمال التامَّيْن.

ويبدو أن آلهة أبيقور ليست سوى مجموعات خيالية من الذَّرَّات؛ فهي ليست أجسامًا صُلبة مثلنا وإنما تشبه كثيرًا التيارات الذَّرية التي تَحدَّثَ عنها أبيقور ولوكريتيوس عندما حاوَلَا تفسير الإدراك والخيال؛ فعندما ننظر إلى شجرة مثلًا فإن ما يحدث — وفقًا لنظريتهما — هو أن الشجرة تُطلِق هالةً من الذَّرَّات التي تتخذ شكل الشجرة قبل أن تدخل إلى أعيننا؛ وبهذا فإن كل شيء حولنا يطلق طبقات رقيقة من الذَّرَّات تُشبه الدُّخَان المنبعث من كتلة خشبية محترقة، ومن خلال هذه العملية تحدُث الرؤية. وتختلط أحيانًا هذه الأغشية الرقيقة بالرياح — «فهي رقيقة وناعمة بحيث يسهل اختلاطها بالهواء عند مصادفته» — وهو ما ينتج عنه تجمُّع هجين من الذَّرَّات يكون مسئولًا عن حدوث الهلوسة عند دخوله إلى عقولنا، أو يجعلنا نرى كائنات خرافية كالقنطور والحصان وحيد القرن. كما يرجع حدوث الأحلام ووجود الخيال أيضًا إلى وجود أسراب من الذَّرَّات تدخل إلى الرأس؛ فرؤية شبح أو كابوس تحدُث نتيجة دخول مجموعات من ذَرَّاتٍ حُرَّةِ الحركة من الهواء إلى الرأس، واختلاطها به اختلاطًا قويًّا. وفكرة الآلهة كذلك كما يراها أبيقور ما هي إلا ضرب من الأحلام الرقيقة المُرهَفَة. فأفكار الإنسان اليوناني القديم عن الآلهة هي أفكارٌ مثالية تُصوِّر الآلهة على صور شبيهة بالإنسان، فتتدفق هذه الصور من الخارج إلى الداخل لتمتزج ببعض أفكار الكمال الموجودة بالنفس الإنسانية. فصورة الآلهة لدى الإنسان اليوناني القديم تُشبِه البشر لدرجة كبيرة؛ لأنه هكذا كان يتصورها. فكان يتصور الآلهة في حالة من السكينة والهدوء التَّامَّيْن لأن هذه الحالة — في نظر أبيقور — هي التي ظَنَّ الإنسان اليوناني أنها صورة الحياة المُثلى، بيد أن هذا الحديث من شأنه أن يثير سؤالًا محوريًّا وهو: هل هذه الآلهة موجودة بالفعل أم أنها محض صور تقبع في دهاليز الخيال؟

أما إجابة أبيقور فكانت مثيرةً للدهشة حيث رأى أنها تتضمن كِلَا الأمرين، فأبيقور كان يرى أن جميع الأفكار والصور المنطبعة في الذهن حقيقية؛ أي إن كل ما تستقبله حواسُّنا لا بد له من أساس في الواقع، فلا يمكن أن تكون هذه الأفكار خاطئة تمامًا. ومن ثَمَّ، فما تخبرنا به حواسنا من وجود آلهة — يرى أبيقور أنها توجد في أحلامنا ورؤانا — لا بد أن يكون موجودًا في الحقيقة. ولكن رغم ذلك علينا أن نتعامل مع هذه الأفكار بشكل من الحرص؛ لأنه من السهل أن تُفسَّر الرسائل التي ترسلها لنا الحواس بشكل خاطئ. وعلى الرغم من أن جميع أفكارنا حقيقية؛ «فإن آراءنا ليست كذلك، حيث إنها أحكام نصدرها وفقًا لأفكارنا وانطباعاتنا. وهذه الأحكام قد تصيب وقد تخطئ اعتمادًا على ما نضيفه إلى أفكارنا أو ما نقتطعه منها.» فعلى سبيل المثال، عندما يراودنا حُلم عن الحصان وحيد القرن لا ينبغي أن نتعجَّل الأمر ونُطلِق حكمًا بوجود كائن مادي يتجول في الجوار وله قرن بارز من جبهته التي تشبه جبهة الفرس؛ فهنا يكون حكمنا أو رأينا قد بُني على غير دليل. فربما استقبلت حواسنا مجموعات من الذَّرَّات على شكل الحصان وحيد القرن، ثم تدفَّقت هذه الذَّرَّات إلى داخل رءوسنا. ومن ثَمَّ فإنه بالرغم من إمداد حواسنا لنا بصور ورُؤًى حول الآلهة (كما يرى أبيقور) فهذا لا يعني أنها كائنات مادية تتجوَّل في الكون وتُحدِث الرعد والصواعق. فالآلهة حقيقية بالطريقة التي تتكوَّن عليها جميع صورنا الحسية؛ أي إنها محض مجموعة من الذَّرَّات التي تدخل عقولنا؛ فهي صور ذَرِّيَّة حقيقية ولكنها ليست أجسادًا مادية حقيقية؛ ولهذا السبب يمكننا أن نصف الآلهة على أنها موجودة بالفعل ونسج من خيال في آنٍ واحد.

ولكن إذا كانت الآلهة موجودة فعلًا بنفس الطريقة التي توجد بها الكائنات الخرافية فلماذا لم يختصر أبيقور الطريق ويعترف أنه مُلحد؟ فلو أقام مجموعة من المجانين معبدًا لبعض الكائنات الخرافية كالحصان وحيد القرن مثلًا، لم يكن أبيقور ليذهب للصلاة فيه، فلماذا اعترف أبيقور إذن بالآلهة ولو شِفاهيًّا؟ يرجع ذلك — ضمن أمور أخرى — إلى أن من يُنكِر وجود الآلهة في أثينا في القرن الثالث لم يكن لِينعم بعِيشة هادئة. كما أن الآلهة كانت تُعَدُّ وسيلة نافعة لبيان مفاهيم أبيقور، فالحديث عن الآلهة التي تحيا حياة السكينة والسلام كان من أنجع الأساليب للتعبير عن معتقداته حول الحياة.

ربما كان الشك يخالج أبيقور سرًّا بشأن الآلهة، ولكنه لم يكُن لديه من الوقت ما يضيعه في مذهب الشكوكية الذي كان آخذًا في الانتشار بين جموع الفلاسفة آنذاك. وبذلك فاعتقاده في حقيقة ما تُخبِرُه الحواس كان يُعَدُّ ردًّا على الشكوكية. وهذه المسألة التي حاول أبيقور معالجتها ترجِع إلى عهد ديموقريطس الذي قال إن الحواس تُعطِينَا صورةً مُضلِّلة عن العالم لأنها تُصوِّر لنا الأشياء حُلوةً أو مُرَّةً أو ساخنة أو باردة أو غير ذلك من الصفات، في حين أنه في الحقيقة لا يوجد سوى ذَّرَّات وفراغ. كان ديموقريطس يرى أن بعض الخصائص مثل المذاق واللون تنشأ في العقل، فهي مجرد انطباعات تتكون في عقولنا تأثُّرًا بتجمُّع الذَّرَّات. ورغم أن ديموقريطس لم يتطرَّق إلى النتيجة التي توصل إليها، وفحواها أننا لا يوجد يقين ثابت نتعرف من خلالِه على العالم، فقد قام فلاسفة آخرون بإعلان هذه النتيجة وتبنَّوْها؛ ممَّا دفع أبيقور إلى التصدي لهذا الهراء.

قال أبيقور إن المرء لو شك في كل ما تُمليه عليه الحواس فسيكون أشبه بمن يركب قاربًا دون مِجداف، أو كما يقول: «إذا شككت في جميع الحواس فلن يبقى لديك معيار تعرِف من خلاله صِدقَ الحواس أو كذبها.» فلنفترض على سبيل المثال أن شخصًا يرى برجًا على مرمى البصر يبدو دائريًّا، ولكن كلما اقترب تَبَيَّنَ له أن البُرج على شكل مربَّع، فعرف أن شكله الدائري الظاهر كان محض خداع بصري، فهل يمكن أن نقول إن الحواس هي التي خدعته؟ يرى أبيقور أن هذا ليس صحيحًا؛ لأنه رغم أن الحواس هي التي جعلته في بداية الأمر يظن أن شكل البرج دائري، فهي أيضًا التي جعلته يدرك أنه على شكل مربع عندما نظرَ إليه عن قُربٍ. وانتهى إلى أن تنحية الحواس جانبًا دون الاعتماد عليها نهائيًّا تعني ضرورة التوصُّل إلى بديل، وطالَمَا أننا نفتقد البديل فليس أمامنا — كما يقول أبيقور — سوى الاعتماد على الحواس في تلقِّي المعرفة رغم كل شيء.

ويتلخَّص الحل لديه في معرفة طبيعة عمل الحواس وحدود قدرتها؛ فهي تعمل ببساطةٍ من خلال تخزينِ الأشكال الذَّرية التي تستقبلها، وهي وظيفة ليس هناك داعٍ إلى التشكيك في قيام الحواس بها على الوجه الأكمل. ولكن على الرغم من أنه يُمكِن الثقة فيما تستقبله الحواس بوصفها مصدرًا للمعلومات عن موجات الذَّرَّات التي تُؤثِّرُ على مراكز الإحساس في الجسم، فلا يمكن الاعتماد عليها بوصفها مصدرًا للمعلومات عن الأجسام الصُّلبة أو المادية التي تقوم ببَثِّ هذه الذَّرَّات، ويرجع ذلك إلى أن الأشكال التي تتخذها الذَّرَّات كما رأينا يمكن أن يحدُث لها تشوه خلال عملية الانتقال أو حال دخولها إلى العقل. وقد تناول لوكريتيوس مثال البرج بالدراسة وقال إن موجات الذَّرَّات المرتَّبة والمنظمة التي تخرج من الأجسام تتشوه عندما تنتقل لمسافات طويلة عبر الهواء حتى تصل إلى أعيننا، وهي تتبلور على شكل دائرة عند الأطراف خلال انتقالها، وهذا هو سبب ظهور البرج مستديرًا في المثال السابق، وبالنظر إلى البرج عن قرب فإن الذَّرَّات تنتقل عبر مسافة قصيرة بالشكل الذي يَحُولُ دون حدوث تشوُّه لها. وقال أبيقور إن بعض الانطباعات التي تتكوَّن من خلال الحواس تكون أكثر وضوحًا وتميُّزًا عن غيرها. وتلك هي الانطباعات التي يمكن الاعتماد عليها، أما أحلامنا ورؤيتنا المتذبذِبة الضبابية حول الآلهة والأشياء البعيدة فلا يمكن الاعتمادُ عليها أو الوثوق في النتائج التي تخبرها بشأن العالم الخارجي، في حين أن هناك انطباعاتٍ أخرى يمكن الاعتماد عليها. ولم يوضِّح أبيقور تمامًا المقياسَ الذي من خلاله يُمكِن الاعتماد على انطباع معين من عدمه، ولكنه ترَك لنا بعض القواعد البسيطة المساعِدة التي بيَّن في أحدها أنه كلما حدث الاقتراب من الشيء زادت إمكانية الاعتماد على الانطباعات التي نستقبلها منه.

ويرى أبيقور أن التعامل الحريص مع الانطباعات التي نكوِّنها يُمكِّننا من تفادي التفسير الخاطئ لها؛ ومن ثَمَّ تجنُّب تكوين آراء أو اعتقادات خاطئة عن العالم. وقد ارتكب أبيقور نفسه خطأً كبيرًا عندما اعتنق إحدى هذه الاعتقادات. فقد قال إن طول قطر الشمس يُقَدَّرُ بقدم واحد؛ لأن الشمس تبدو له هكذا، ولأنه لم يجِد مبررًا للدفع ببُعدها البالغ الذي يحُول دون الحكم عليها، وهذا لا يُعَدُّ عوارًا في مبادئه وقواعده ذاتها، وإنما الخطأ يكمن في كيفية تطبيقه لهذه المبادئ وتلك القواعد. فخطأ أبيقور بشأن الشمس لا يعني أن الحواس دائمًا ما ترتكب مثل هذه الأخطاء، فهو يرى أن مصدر الخطأ دائمًا هو الناس لا الحواس، حيث يقول لوكريتيوس: «لا تُلصق هذه التهمة بالعين، فالعقل هو المخطئ.»

وهذه الملاحظة تُلقِي الضوء على المنهج الذي تستند إليه فلسفة أبيقور، فالعقل دائمًا هو محل الخطأ؛ ومن ثَمَّ فإن العقل هو ما يحتاج إلى علاج بطريقة أو بأخرى، تمامًا كما تنبع تعاستنا من المعتقدات والآراء الخاطئة التي نكوِّنها عن الأشياء لا من طبيعة الأشياء نفسها. وبهذا فإن اللائمة تقع على تفسيراتنا الخاطئة لا على ما تنقله لنا الحواس المجرَّدة. وفي كلتا الحالتين ليست الطبيعة هي مصدر مشكلاتنا؛ لأن الطبيعة في الأصل هي مصدر كل خير، بل إن الطبيعة ترشدنا إلى الطريقة التي نعيش بها عن طريق وضعنا تحت إمرة سيدين عظيمين هما اللذة والألم — وهو ما قاله بنثام فيما بعدُ — إذ غرست الطبيعة فينا غريزة اتِّبَاع أحد السيدين وتجنُّب الآخر، ومن خلال اتباع هذا النهج الطبيعي سنحيا في ازدهار وسعادة. وبما أننا لا نعرف دومًا كيف نتبع هذه الطريقة لما نعانيه من تلوُّث في الأفكار، فعلينا إذن اتباع العلاج الأبيقوري لكي نبتعد عن مصادر الخوف والقلق والكرب.

وإذا كان الأخذ بعلاج أبيقور هو مسألة مرتبطة بعلم الذَّرَّات المتجرِّد من الاعتبارات الشخصية بما فيه من تفسيرات مطمئنة حول الموت والأحلام والكوارث؛ فمن الممكن كذلك أن نركَن إلى استشارته بين حينٍ وآخر، ولنأخذ تناوله لقضية الجنس مثالًا على هذا. فقد حاول لوكريتيوس أن يشخص ويُقَدِّمَ علاجًا لما أسماه بمرض العاطفة الجنسية. وكان يَعُدُّ هذا المرض أمرًا في غاية السوء لأنه يناقض مبدأ السكينة الأبيقوري. إن هذه العاطفة الجنسية — كما يقول — «تتقاذفها رياح الوهم حتى في أكثر لحظاتها إمتاعًا.» ويكتب أيضًا: «إن تشبثك بالعاطفة الجنسية يزيدها اشتعالًا بجوانحك؛ ومن ثَمَّ يزيدك ألمًا، وإن الجرح ليتفاقم ويزداد عمقًا مع مرور الأيام.»

ويرى لوكريتيوس أن العاطفة الجنسية تتبدَّلُ حزنًا وكدرًا لأنها تُعَدُّ تشويهًا للدوافع الطبيعية عبر رغبات غير واقعية ومعتقدات خاطئة. فهي مسئولة عن وجود رغبات عارمة لا يمكن إشباعها لأنها أخذت شريعتها من الوهم والخيال، حيث يرغب المُحِبُّون في التوحُّد معًا (ويعتقدون أن بإمكانهم تحقيق ذلك) وهو أمر مستحيل قطعًا، وعن هذا يقول:

إن الأجساد لتتعانَق، والشفاه لتلتئِمُ، ثم تندفع الأنفاس الحارَّة من الحلوق، دون هدفٍ أو غايةٍ، فلا يمكن لأي طرفٍ أن ينتزع من محبوبه جزءًا، ولا يمكن كذلك أن يدخل إلى جسد الآخر فيذوب بداخله، ورغم التصاق الجسدين ببعضهما فإنهما يَظُنَّانِ أن هذه هي الغاية والمُنتَهَى. وحال انقضاء الشهوة، تزول حالة السعار، التي لا تلبث أن تتجدد مرة أخرى.

ويميل الإنسان المغرم إلى عدم إدراك صفات محبوبته الجسدية والعقلية، فيتغنَّى كثيرًا بصفاتها الحميدة ويغض الطرف عن عيوبها، (كان لوكريتيوس يشير دائمًا للمُحب على أنه ذَكَر أما المحبوبة فتكون دائمًا أنثى). وهذا لا يتسبب فقط في الاضطراب والإحباط والقلق والشك الذي تخالطه الغَيْرة، ولكن يؤدي أيضًا إلى تدهوُر الصحة وإهمال الأعمال الواجب أداؤها بالإضافة إلى ضياع المال والوقت وتشويه السمعة.

والحرمان في رأيه هو الحلُّ الأمثل لمشكلة العاطفة الجنسية. وهنا يخبر بضرورة أن يتوخَّى المرءُ الحذر لظهور العلامات الأولى قبل أن تُغوِيَه الإغراءات. وإذا وقع المرء فريسةً لهذه العاطفة فإن أفضل نُصحٍ يمكن إسداؤه له هو أن ينظر إلى عيوب حبيبته ويُولِيها النصيب الأوفر من تركيزه. فإذا كان يرى في محبوبته «رُوحًا» فلينظر إليها باعتبارها في الحقيقة محض «قزم بهلواني»، أو إذا كان يراها «رقيقة» فلربما تكون «إنسانًا شبه ميت مصابًا بالسعال»، وإذا كان يميل إلى وصفها بأنها «تذيب القلب بألقٍ يشبه ألق الجواهر» فإنها قد تكون في الواقع «امرأة سليطة اللسان عصِيَّة على الترويض». وينصحه أن يضع جميع هذه الأشياء دائمًا نُصب عينيه. فإذا كانت المحبوبة بالفعل نموذجًا طيبًا وتستحق المدح والثناء، فيجب أن يتذكر أيضًا أن هناك الكثير ممن هُنَّ على شاكلتها، وأنه كان يحيا بشكل طبيعي قبل أن يصادفها، وأخيرًا ينصحه ألا ينسى «أنها لا تختلف في تكوينها الطبيعي عن أيٍّ من بنات جنسها، وأنها تستخدم العطور والبخور ذا الرائحة المزعجة، وأن خادماتها يحاولن البقاء بعيدًا عنها ويسخرن منها في غيابها.»

وهذه هي نصيحة لوكريتيوس للمحب، فلا يمكن للعاطفة بعدها أن تنجو من هذه المصائد. ومن النصائح المهمة كذلك التي يقدمها لوكريتيوس: «انثر بذور الحب على أشياء أخرى.» وصورة لوكريتيوس ليست مجازية فهو يرى أن المشكلة تكمُن في وجود فائض من بذور الحب في أعضاء التناسل، وهذا الفائض يجب التخلُّص منه، وفي هذه الحالة فإن المومس قد تكون السبيل الأمثل لإفراغ هذه الشحنة الفائضة. ولكنه يوضح أنه ليس من الممكن نثر بذور الحب على أي شيء؛ لأن الأعضاء لا تثار إلا برؤية أشكال معينة من الناس كالوجوه الفاتنة أو القَسَمات الجميلة، فلا يلفت شيء انتباهنا سوى مثل هذه الأشياء، وما يحدث هو أن السُّحُب الذَّرية التي تُكوِّن هذه الأشكال والصور تتسلل إلى أجسادنا في الأحلام. وكما يحدث عادةً مع الأحلام فإننا نظن أنها صور لأناس حقيقيين؛ وذلك لأن القُوَى العقلية التي تحمينا من هذه الهواجس تكون قد خمدت بفعل النوم. ولكن يتضح أن الرغبة الجنسية ليست محض مطاردة لأشباح خيالية في الأحلام فحسب، فحقيقة كون هذه الشهوات الغرامية تشتعل بفعل مجموعة مختلطة من الصور البشرية سواء في النوم أو في اليقظة تفسِّر لنا عدم قابلية هذه الشهوات المغوية للإشباع وتسببها في مشكلات جمة، وكما قال:

إن الطعام والسوائل تدخل إلى أجسادنا حيث تملأ الجزء المخصص لها؛ وبذلك فإن الحاجة إلى اللحم والسوائل يمكن إشباعها بسهولة، ولكن الوجه الجميل أو القَسَمات الفاتنة لا يمنح الجسد شيئًا يُستمتع به سوى مجموعة صور لا قيمة لها عادة ما تذهب هباءً.

وبما أن الإنسان لا يمكنه أن يلتهم حبيبته كالتهامه الطعام؛ فإن محاولة إشباع عاطفته محكوم عليها بالإخفاق.

قد ننتهي بعد هذا الحديث إلى القول إن لوكريتيوس — وليس المحب — هو مَن بحاجة إلى العلاج، فبعض قصص الحب تنتهي نهاية سعيدة، كما أن كثيرًا من تلك القصص يكون نماذجَ رائعة لعلاقات الحب في بداياتها وفي منتصف أحداثها. وقد يرد لوكريتيوس قائلًا إنه لم يقصد مهاجمة جميع صور العلاقات الودية بين الأحِبة وإنما العاطفة التي تصِل إلى حَدِّ الجنون فحسب، أو إدانة «فينوس» كما يحلو له تسميتُها؛ فهو لا يسعى إلا لعلاج حالات الحب المبالَغ فيها. ولكن مع ذلك نجِد أنه لا يبدو مخطئًا تمامًا في حذرِه من العَلَاقات الشخصية، حيث إنه يُفَضِّلُ الهدوء والسَّكِينَة والاستقرار على كل ما عداها، فلا توجد أيَّة إشارة لديه تؤكِّد أن لحظة من الهدوء يمكن أن يُضَحَّى بها في سبيل أي شيء آخر في الوجود. ولم يكُن الشعار القائل: «يفوز باللذات كل مغامر.» من الشعارات التي تروق له هو وغيره من الأبيقوريين. وقد وصف أفلاطون ذات مَرَّةٍ أنَّ هَجْر الحب ونبذه يُعَدُّ في ذاته من أسرار الحُبِّ التي تُسَبِّبُ الهُيام به، فقد يكون الحبُّ ضربًا من الجنون المرغوب. وعلى العكس من أفلاطون، يرى أبيقور ولوكريتيوس أن الأمر الذي سينتهي بالدموع لا يستحق حتى الوقوف على عتباته.

تطلب الأمر إدخال تغيير أو أكثر على نظريات ديموقريطس الخاصة بالذَّرَّات كي يستخدمها أبيقور ولوكريتيوس في تفسير العالم لمرضاهم المصابين بالحيرة والاضطراب. ومن أهم إضافات أبيقور في هذا الصدد فكرة «الانحراف»، وكان يعني بها انحراف الذَّرَّات في مسارات وطرق جانبية، وهذا من شأنِه أن يحُلَّ اثنين من تعقيدات الصورة التي رسمها ديموقريطس للعالم. المسألة الأولى تتعلَّق مباشرةً بالفيزياء، أما الثانية فلها تأثيرات مهمة ومباشرة أيضًا على الحياة البشرية. والمسألة الأولى هي فكرة تصادم الذَّرَّات، فقد قال أبيقور إن ذَرَّات ديموقريطس يمكن أن تسقط في الفراغ بالسرعة نفسها، وكثيرًا ما تسلك الطريق لأسفل مباشرة، وخلال هذا تتخذ كلُّ ذَرَّة مسارًا خاصًّا بها، ولكن السؤال هو كيف إذن لهذه الذَّرَّات أن تصطدم ببعضها البعض ثُمَّ تلتحم لتكوِّن الأجسام المادية العادية؟ وهنا نجد لوكريتيوس يجيب: «إن عدم وجود انحرافات من وقت لآخر يعني عدم وقوع تصادُم؛ ومن ثَمَّ ينعدم تأثير أي ذرَّة على أخرى.» وقال أبيقور إنه لا مَفَرَّ من وجود قسط من العشوائية في عمل الطبيعة من خلال قفزات تضع ذَرَّة في طريق أخرى. وقد علَّق شيشرون على هذه الفكرة قائلًا: «إنها محض وهم طفولي.» ولكنها رغم ذلك تشبه فكرة اللاحتمية أو فكرة العشوائية الموجودة في الفيزياء الكَمِّيَّة. أما المسألة الثانية التي وَجَدَ لها حلًّا من خلال فكرة «الانحراف» فإنها مسألة تستحثُّ الفضول، وقد كان أبيقور أوَّل من أثارها لتُصبِح من بعده من أكثر المسائل المحورية في الفلسفة.

إنها مسألة الإرادة الحُرَّة في مواجهة الحتمية. فإذا كانت جميع الظواهر والأحداث تُمَثِّلُ نتيجةً حتمية وآلية لحركة الذَّرَّات، فكيف يتسنى لأي شخص أن يَدَّعِي الحرية؟ بل وكيف يمكن أن ندَّعي أن كل إنسان مسئول أخلاقيًّا عن أفعاله؟ فإذا سلَّمنا بهذه الفكرة فلن تكون حركة كل إنسان نابعةً من إرادته بأي حال من الأحوال، وإنما محض نتيجة حتمية لحركة الذَّرَّات الموجودة بجسده. وكانت هذه من الأفكار التي أثارت حفيظة أبيقور، وإن كان الأبيقوريون قد وقفوا في وجه التنجيم قائلين إنه محض هراء لا طائل منه؛ فإن عليهم الآن التسليم بأن النظرية الذَّرية جعلت المستقبل يُمكِن بسطه وعرضه كورق اللعب. وهكذا بعد أن حاول أبيقور أن يُقدِّم صورته التي تقوم على المنهج العلمي وكأنها ترياق للبشرية يُثبت من خلاله أن حياة البشر ليست في يد الآلهة أو تخضع لسطوة القدر؛ فإنه قد وجد أن الذَّرَّات مثل القدَر لا تختلف عنه في شيء، بل إن أبيقور يقرر أن ذَرَّات ديموقريطس أسوأ من فكرة القدر نفسها؛ إذ يقول:

من الأفضل أن نكون أسرى لفكرة الآلهة في علم الأساطير عن أن نكون عبيدًا لفكرة «القدر» عند الفلاسفة الطبيعيين؛ فالأولى تسمح على الأقل بفُسحة من الأمل عبر التقرُّب للآلهة بالعبادة، في حين أن الأخرى تنطوي على ضرورة لا سبيل للفكاك منها.

ويضع لوكريتيوس الفكرة ذاتها في إطار الحديث عن القدر فيقول:

إذا افترضنا أن طبيعة سير الحركة تقوم على الترابط؛ فإن الحركة الجديدة ستكون نتيجة للحركة القديمة وفقًا لترتيب حتميٍّ، وما دامت الذَّرَّات لا تنحرف مطلقًا لكي تنشأ حركة جديدة تكسر روابط القدر والسلسلة الأبدية القائمة على السبب والنتيجة؛ فما هو إذن مصدر حرية الإرادة التي تمتلكها كافة الأشياء على سطح الأرض؟ وما هو مصدر الإرادة التي تنتزع من براثن القدر والتي نسلك خلالها الطريق نحو المتع والملذَّات، أو ننأى عن ذاك الطريق دون تقيُّدٍ بزمان أو مكان عدا ما تمليه عليه قلوبنا؟

إذا كانت الذَّرَّات تنحرف أحيانًا دون القدرة على التنبُّؤ بحركتها، على حَدِّ زعم أبيقور ولوكريتيوس؛ إذن فإن «روابط القدر» يمكن أن تُحَلَّ، و«التسلسل الأبدي للسبب والنتيجة» لن يُصبح دائمًا على هذا النحو حيث يمكن اعتراض سيره. وهنا نجد أن أبيقور ظَنَّ أن فكرة «انحراف» الذَّرَّات التي قدَّمها يمكنها أن تُجنِّبَنا فكرة الحتمية غير الإنسانية التي توجد في نظرية ديموقريطس. وقد ذكر بعض علماء الفيزياء الكَمِّيَّة في القرن العشرين فكرة وجود قدرٍ من الحرية في الفيزياء الكَمِّيَّة، فكتب السير آرثر إدنجتون عام ١٩٢٨م على إثر اكتشاف نظرية اللاحتمية قائلًا: «وبذلك فإن العلم يتراجع عن اعتراضه على فكرة حرية الإرادة.»

إن فكرة كون العشوائية هي سر وجود حرية الإرادة تبدو فكرة مغرية حقًّا، ولكنها محيرة في ذات الوقت؛ حيث يطالعنا سؤال: ماذا يعني أبيقور ولوكريتيوس حقًّا بهذا الحديث؟ هل يعني حديثهما أن الأفعال التي تُحدثها الإرادة الحرة ما هي إلا انحرافات للذَّرَّات عن مسارها في المخ؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يعني أن الإنسان حر الإرادة ولكن لا يمكن التنبؤ بسلوكياته أو أفعاله. ولكن هذا أمر يجانب الصَّواب؛ لأن فكرة العشوائية لا تستوي مطلقًا مع أفكار مثل الاستقلال والمسئولية الشخصية، فكما يوضح الفيلسوف الإنجليزي الحديث ألفريد جول آير (١٩١٠–١٩٨٩م):

إذا كان سلوك الإنسان وتصرُّفه من قبيل الصدفة، فإن هذا يعني أنه حُرٌّ بَيْدَ أنه غير مسئولٍ، حيث لا يمكن التنبُّؤ بأفعاله؛ ومن ثمَّ لا يمكن اعتباره مسئولًا أخلاقيًّا، وإنما يُعَدُّ مجنونًا.

إذا كان أبيقور يعتقد أن الأفعال الحرة تنتج عن انحرافات الذَّرَّات في الجسد وأن هذا هو ما يعطي الإنسان تحكُّمًا في أفعاله، فلا بد إذن أنه كان واقعًا في حَيْرَةٍ واضطراب كبيرين بشأن هذه الفكرة. ولكن ربما لم يكن هذا ما عناه أبيقور، فربما كان يعني أن وجود قفزات عشوائية في حركة الذَّرَّات يُبَيِّنُ أن الطبيعة تسمح بوجود مساحة من الإمكانات المتاحة، وأنها لا تحدد كل شيء بدقة وصرامة، فإذا كانت للذَّرَّة الحرية في التحرُّك في الاتجاهات كافة، فلربما لنا نحن أيضًا حرية التحكم في أجسادنا؛ وبذلك فإنه ليس صحيحًا أن كُلَّ أفعالنا ناتجة عن قانون السبب والنتيجة. وإذا كان هذا هو ما يرمي إليه أبيقور فعلًا؛ فهذا يَدُلُّ على أنه لم يكُن يخلط بين فكرتَي العشوائية والحرية، إلا أننا لا يمكننا ادِّعَاء أن إجابته عن مسألة حرية الإرادة شافية كافية، فلم يبذُل أدنى جهدٍ في محاولة توضيح طبيعة الأفعال الحرة. وتبقى فكرته في هذا المقام مبهَمَةً وغامضة ولا نعرف كيف لها أن تتَّسِقَ مع صورة العالم في النظرية الذَّرية. ولكن على كل حال، ربما كان تصورنا أن أبيقور قد حل مشكلة حرية الإرادة ينطوي على قَدْرٍ من المبالغة؛ حيث إنه نجح فقط في تسليط الضوء على هذه القضية.

ولعله قد تناول هذه المسألة في كتاب من كتبه التي تلفت وضاعت. فكُتُب أبيقور الرئيسة ضاعت — شأنها في ذلك شأن كثير من المؤلفات الهيلينستية — دون أن تصل إلى الأجيال التالية التي تقدر هذه المؤلفات وتُجِلُّهَا أكثر من أصحابها حينئذٍ. أما ما بين أيدينا من كتبه فهي التي تتناول المسائل بشكلٍ شمولي؛ «حيث إن الرؤية العامة الشاملة مطلوبة دومًا، أما التفاصيل فالحاجة إليها نادرة». بالإضافة إلى بعض الكتب التي تجمع مقولاته المتفرقة. وهذا يجعل من الصعب تقييم مشروعه وعمله الفكري مقارنةً بأعمال أفلاطون وأرسطو. ولكن من الواضح أن طريقة تفكيره وأسلوبه يختلفان إلى حَدٍّ كبير عنهما، فلم يكُن مهتمًّا بالمصطلحات التقنية ولا البراهين المعقدة ولا استخلاص الاستنتاجات منها ولا التعريفات الملتوية، ولم يكن يعيرها اهتمامه، وهذا ليس فقط على مستوى أعماله الشهيرة بل في أعماله كافة، فكان يظن أن هذه الأمور من شأنها أن تشتت العقل بعيدًا عن عالم الطبيعة الحقيقي الذي يمكن اكتشافه بالحواس وتفسيره بعلم الذَّرَّات.

ولم يكن أبيقور مهتمًّا بما شغل كُلًّا من أفلاطون وأرسطو، بل لم يُكَلِّفْ نفسه عناء تفنيد كلامهما. ففي الوقت الذي كان على المرء فيه أن يسعى إلى العلم والدراسة الشاقَّة في سبيل الوصول إلى الحكمة والحقيقة التي تنطوي عليهما فلسفة أفلاطون وأرسطو؛ لم تكن فلسفة أبيقور تحتاج إلى سابق معرفة أو علم للإلمام بها. وفي الحقيقة، إن تعليمًا فلسفيًّا على طريقة أفلاطون وأرسطو يُعَدُّ عائقًا أمام الكثيرين؛ فالأسلوب الفلسفي الذي يقوم على الإطناب قد يُضل الإنسان ويُشَتِّتُ تفكيره: «يجب أن نضع أيدينا على المعاني التي تشير إليها الكلمات؛ وبذلك يمكننا أن نستخدمها مرجعًا نعود إليه للحكم على أمور الرأي والتساؤلات المسبِّبة للحيرة.» إن الفيلسوف بحاجة إلى تثبيت أقدامه بقوَّةٍ في الأرض؛ حتى لا تغمره موجات الكلمات وتقذفه بعيدًا فيغرق في دوامة من الجدل العقيم. كان أبيقور على حَدِّ قول أحد الشارحين المحدثين يهدف إلى «المحافظة على الفكر قريبًا من الواقع ومرتبطًا به قدر الاستطاعة.» وهو ما تشير إليه كلمات أبيقور: «إن جميع أفكارنا مستمدَّة من التصورات، سواء من خلال الاتصال المباشر بها أو من خلال القياس عليها أو التشابُه معها أو تركيبها مع بعضها، مع مساعدة بسيطة من العقل.» وإن العقل وأفكاره ما هي إلا أشياء مادية، فهي مجموعة من الذَّرَّات مثل أي شيء آخر، وهي تتأثر في الأساس بتدفُّق الذَّرَّات من مراكز الحس؛ ومن ثَمَّ فإن أي وجه لصحة أفكارنا بوصفها مصدرًا من مصادر المعرفة لا بد أن ينبع من هذه الحقيقة، فخبرتنا وتجاربنا في الحياة هي «الأمور التي تشير إليها الكلمات». ولذلك فإن جُلَّ حديثنا وتنظيرنا لا بُدَّ أن يوضع موضع الاختبار عن طريق التجربة.

وهذا هو فحوى نظرية «التجريبية» التي تطورت في عدة أشكال في القرن السابع عشر، مع الإشارة إلى أن الأبيقوريين لم يَسْعَوْا يومًا إلى الوصول إلى نظرية حول المعرفة أو الفيزياء، وكان إرثهم الأساسي يتمثَّل في فلسفة الحياة التي وصف لوكريتيوس طبيعتها ومزاياها بحفاوة بعد وفاة أبيقور ورفاق حديقته بمائتي عام:

إنه لأمر طيب أن تقف على اليابسة وأنت تشاهد رجلًا ما يُجابِهُ الأمواج العاتية بعدما أثارتها الريح. ولا يعني هذا أنك إنسان سادي تسعَد بعذاب الآخرين، وإنما يجعلك هذا الموقف تدرك قيمة الأمان من المصاعب والمشاقِّ التي يتكبدها غيرك. وكذلك الأمر عندما تشاهد المعارك الطاحنة تدور رحاها في السهول بينما تمكُث أنت بعيدًا عنها دون اشتراك فيها. ولكن هذه الأمور جميعًا لا تضاهي السعادة التي تنعَم بها عندما تكون أنت سيد إحدى تلك البقاع الهادئة المطمئنَّة التي تقف شامخة عالية عمَّا حولها محصَّنةً بتعاليم الحكماء؛ فمن ثَمَّ يمكنك أن تنظر إلى الناس من تحتك يهيمون على وجوههم بلا هدف أو غاية بحثًا عن طريقة للحياة، وهم يتنافسون قدر طاقتهم محاولين التغلب بعضهم على بعض وارتقاء السلم الاجتماعي، فيبذلون قصارى جهودهم ليلًا ونهارًا ويكدُّون من أجل تراكُمِ ثرواتهم وتعزيز سلطانهم. فيا لبؤس عقول هؤلاء الرجال! ويا لَعَمَى قلوبهم! ويا له من ظلام دامس! وكم من أهوال ومخاطر نهدر في سبيلها حياتنا القصيرة هذه! ألا ترى أن الطبيعة لا تهدف لشيء سوى تخليص الجسد من الألم وتحقيق راحة العقل بعد إزالة القلق والخوف منه؟

ولذلك فالجسد لا يحتاج سِوَى ما يدفع عنه الألم ويجلب له متعًا جَمَّة. والطبيعة تسعى للأمر ذاته، فهل هناك ما هو أكثر إمتاعًا من تماثيلَ ذهبية لشباب في مداخِلِ الأروقة يحملون مشاعل النار في أيديهم ليُضيئوا مأدبات الليل، أو منزل يبرق بالفضة ويتلألأ بالذهب، أو سقف ذهبي مقوس يعكس صوت العود، أو رجال يفترشون العشب الأخضر على ضفة إحدى البحيرات في ظل شجرة سامقة ليُنعشوا أجسادهم باللَّذَّة والسعادة دون كلفة، وتكتمل السعادة إذا ابتسم لهم الطقس وتناثرت حولهم الأزهار على البساط الأخضر.

لقد كانت الأبيقورية عقيدة شخصية واستمرت كذلك حتى بعد وفاة المعلِّم نفسه. وكان أتباع أبيقور يقيمون احتفالًا في العشرين من كل شهر لإحياء ذكراه في المنزل والحديقة التي تركها لخليفته عندما تُوُفِّيَ عام ٢٧١ق.م. فكانوا يتلون بعض كتبه التي يحفظونها عن ظهر قلب، كما كانوا يفعلون عندما كان معلمهم العظيم حيًّا يُرزق. وقد عملوا على نشر عقيدته واتبعوا سَمْتَهُ في العيش والحياة. ولم يكن أحدٌ أعظمَ إجلالًا وتقديرًا له من لوكريتيوس الذي كتب يخاطبه بعد قرنين من وفاته قائلًا: «أنت يا أول من خرج من جوف الظلام حاملًا قبسًا يُشِعُّ ضوءًا وضَّاحًا يكشف عن ملذَّات الحياة ويزيح عنها الظلام، أنت مرشدي، يا فخر الإغريق ومجدهم، وإني أسير واثقًا مهتديًا بخطاك وأثرك.»

•••

أما الرواقية فلم تكن تتمحور حول رجل واحد؛ إذ مرت الرواقية بثلاث مراحل خلال الخمسمائة عام التي تطورت خلالها، ولم يتزعم أيًّا منها رجل واحد منفردًا. ويستمد الرواقيون الأوائل اسمهم من «الرواق» الواقع في ساحة السوق، حيث كان معلمهم ومؤسس الجماعة الرسمي زينون (حوالي ٣٣٣–٢٦٢ق.م.) المولود في مدينة «سيتيم» يجتمع بهم، إلا أن كريسيبوس (حوالي ٢٨٠–٢٠٧ق.م.) — وهو فيلسوف عبقري تخصص في المنطق والفيزياء — كان له تأثير على المرحلة الأولى من الرواقية لا يقل عن تأثير زينون، فكما تقول إحدى العبارات القديمة: «لولا كريسيبوس لما كانت الرواقية.» ويُعتقد أن كريسيبوس كتب حوالي ٧٠٥ كتبٍ لم ينجُ منها كتاب واحد، وإنما عُثر على قطع متفرِّقات من أقواله في أحشاء بعض الكتب الأخرى. أما أفضل الكتابات الرواقية فهي تلك التي كتبها ثلاثة كُتَّاب رومان: سينيكا وإبيكتيتوس وماركوس أوريليوس، وتقدم كتاباتهم في المقام الأول تعاليمَ أخلاقية وسلوى للنفوس، وهم يمثلون الرواقيين المتقاعدين كما نقول في هذه الأيام. كان ماركوس إمبراطورًا سمحًا حكم خلال القرن الثاني الميلادي، وكان عهده محفلًا للنزاعات والصراعات حتى أصبح يرى أن الحياة مثيرة للغثيان. أما إبيكتيتوس (٥٠–١٢٠م) فكان في سابق عهده عبدًا، وكان مهتمًّا بالتفكير في طبيعة الحرية والأمور غير القابلة للاستعباد في الطبيعة مثل أفكار الإنسان. أما سينيكا (٤ق.م.–٦٥م) فكان موظفًا حكوميًّا وخطيبًا وكاتبًا مسرحيًّا، نُفِيَ إلى كورسيكا بعد أن اتُّهِمَ — زورًا على ما يبدو — بالزنا مع أخت الإمبراطور، ثم دُعي فيما بعدُ لتعليم نيرون الصغير الذي أمره لاحقًا بالانتحار، واشتهر بالعديد من الصفات الرواقية. ثم يأتي الرواق الأوسط — وهو مرحلة وسيطة بين الرواق الأول لزينون وكريسيبوس والرواقيين المتأخرين من الإمبراطورية الرومانية — الخاص بكلٍّ من بانيتيوس وبوسيدونيوس، المفكرَيْن المبدعَيْن اللذَيْن قدَّمَا الرواقية إلى العالم الروماني في القرن الثاني قبل الميلاد.

كان على من يتبع الرواقية أثناء العصر الروماني أن يسلُك إحدى هذه الطرق الثلاث، وإن كانت الطرق كلها تؤدي إلى مكان واحد؛ لوجود سمات عامة مشتركة تجمع بينها. تتكون هذه السمات من مزيج من أفكار زينون التي كوَّنَها خلال رحلته الفكرية عبر المدارس الفلسفية الأثينية. وكان الكلبيون من أبرز معلِّميه، حيث قالوا إن الفضيلة هي الشيء الوحيد الجدير بالاهتمام، وكانوا يعنون بذلك أن القيم التي يقوم عليها المجتمع التقليدي أمور غير ذات جدوى، وأنه يجب أن يُعادَ النظر في أهميتها وإنزالها منزلة ثانوية. وقد اعتنق زينون هذه الطريقة الانطوائية الانعزالية للحياة التي أَخَذَهَا من الكلبيين، وهو ما جعل فلسفته تبدو جافَّةً وعسيرة بالنسبة للطبقات العليا في الإمبراطورية الرومانية (لم يهتم أهل السلطة والنفوذ داخل الإمبراطورية كثيرًا بالأسلوب غير التقليدي الفَجِّ الذي تبنَّاه الكلبيون مثل ديوجين في حوضه الشهير، وكذلك لم ينجذبوا إلى الأفكار الثورية الأخرى التي تأثَّرَت بالفكر الكلبي في الأعمال السياسية الأولى للرواقيين، ورسمت هذه الكتب الطوباوية — المُعَنْوَنَة عادة «الجمهورية» قياسًا على جمهورية أفلاطون — صورة لعالم يحظر فيه دخول المباني العامة، في حين يجوز فيه سِفَاحُ ذوي القربى وأكل لحوم البشر وإنتاج ملابس موحدة للجنسين).

ويدين زينون بكثير من علمه للأفلاطونيين كما يدين للكلبيين. ويبدو أنه أُعْجِبَ بفكر أفلاطون وقصته عن كيفية الخلق التي ذكرها أفلاطون في محاورة «طيمايوس»، والتي تحكي أن العالم قد تكوَّنَ وصُمِّمَ بفعل عبقرية خَيِّرَة. فوجد زينون في هذه القصة ما يُخَفِّفُ من مصاعب الحياة ومتاعبها؛ حيث جعلت من الممكن احتمال المشاقِّ والصبر عليها ما دام كل شيء مصممًا ليسير العالم للأفضل، حتى وإن بدا على السطح خلاف ذلك. ويرى الرواقيون — كما يرى هرقليطس — أن أحد أهم أسباب السعادة يكمُن في تعلُّم كيفية العيش في ظل الظروف المختلفة والتكيُّف معها، ما دامت الحياة في ظِلِّهَا أمرًا لا مَفَرَّ منه، أو كما يقول أحد الرواقيين اللاحقين: «لا تتوقع أن يحدث كُلُّ أمرٍ على هواك، وليكن هواك مع الأمر كيفما يحدث، وساعتها ستنعم بحياة هادئة.»

وهذا التَّوْقُ إلى الهدوء يذكرنا بفكرة السكينة لدى الأبيقوريين؛ حيث نرى تأكيد الكاتب نفسه على أن المشكلات الحقيقية محلها العقل:

الأشياء في حدِّ ذاتها لا تُسَبِّبُ الكرب للإنسان، وإنما آراؤه فيها؛ فليس الموت أمرًا مخيفًا، فسقراط نفسه لم يعتقد في ذلك، وإنما مَكْمَنُ المشكلة في اعتقادنا أن الموت كذلك؛ ولذلك إذا ما أصابنا العجز أو القلق أو الحزن، فلا يجب أن نلقي باللائمة على أَيِّ شيء أو شخص سوى أنفسنا؛ أي إن علينا أن نلوم اعتقاداتنا.

ولكن التعامل الرواقي مع الأحكام الخاطئة كان مختلفًا تمامًا عن تعامل أبيقور، سواء من حيث المادة أو الأسلوب، على الأقل خلال الأيام الأولى للرواقية. وعلى خلاف الأبيقورية كان للرواقية جانب أكاديمي؛ فقد درس زينون في أكاديمية أفلاطون واقتبس من طريقتها. وكان الرواقيون مسئولين عن شيوع استخدام المصطلحات الفلسفية، في حين أن أبيقور كان يفضل استخدام الكلمات المألوفة العادية؛ حتى لا يقع المرء في دوامة من المصطلحات المتخصصة. وكان كثير من الرواقيين الأوائل يهتمُّون بالأسئلة الفنية للمنطق، التي انصرف عنها الأبيقوريون (وإن اشتغلوا لفترة بالأسئلة المجرَّدة التي تدور حول اللغة)، فنجد أن ٣٠٠ كتاب من كتب كريسيبوس تناقش مسائل في المنطق. وهذا الموضوع كان ذا أهمية لدى الرواقيين نظرًا للدور الذي لعِبه في إنتاج المعرفة، فالمنطق يساعدك على استخراج استدلالات من أمور تدركها بالفعل؛ وبذلك فإنه يَهديك إلى الأحكام السديدة، وقد وجد كريسيبوس متعةً في المنطق لذاته، فكتب طائفة كبيرة من الألغاز والأحاجي، مثل ذلك اللغز الذي يحكي عن رجل يقول: «إن حديثي الآن هو محض زيف.»

وفضلًا عن اختلافات الأسلوب والمنهج؛ فإن قسطًا كبيرًا من الاختلاف بين الرواقية والأبيقورية يرجع إلى آرائهم المتعارضة بشأن الطبيعة. فعلى الرغم من اتفاق الرواقيين مع الأبيقوريين على أن الناس لا يدركون كُنْهَ العالم الذي يعيشون فيه، وهو ما يُوقِعُهُم في براثن القلق والاضطراب بشأن الطرق التي يستطيعون بها العَيْشَ ويسلكون بها في الحياة، فقد كانوا يعتقدون أن الأبيقوريين لا يَقِلُّون عن غيرهم جهلًا بهذه الأمور، إن لم يكونوا هم أكثر الناس جهلًا بها. ويرى الرواقيون أن الأبيقوريين قد أصابوا في أمرٍ واحد فقط، هو أن الأشياء كلها مادية؛ فقد كان الأبيقوريون والرواقيون من المؤمنين بالمادية على عكس أفلاطون وأرسطو، فهم يرون أنه ليس هناك عالمان — كما اعتقد أفلاطون — يتكون أحدهما من الأشياء المادية والآخر من انعكاساتها المثالية أو الأرواح، فيعتقد الرواقيون أن المُثُل الأفلاطونية محض مصطلحات عقلية. وبما أن العقل مادة في الأساس فإن هذه الأفكار مادية هي الأخرى. أما فيما يخص الروح فإن أفلاطون قد أخطأ — في نظرهم — حين اعتقد أنها تتكون من شيء غير مادي، كما أن أرسطو أخطأ في نظر الرواقيين كذلك عندما نفى أن تكون الرُّوح مصنوعة من أي شيء على الإطلاق؛ فالأبيقوريون والرواقيون يَظُنُّون أن الرُّوح مصنوعة من المادة التي خُلِق منها سائر الأشياء. وفيما عدا ذلك تتناقض المدرستان الهيلينستيتان فيما عدا ذلك من مسائل وقضايا.

قال الأبيقوريون إن العالم هو نتاج عشوائي لقوًى غير منتظمة، أما الرواقيون فرأوا أن العالم مصمَّم بنظام دقيق يراعي أدق التفاصيل. وكذلك ظن الأبيقوريون أن آلية العمل في الكون لا تراعي هدفًا محددًا وإنما تعمل بعشوائية، وأن الآلهة في راحة أبدية، أما الرواقيون فقد اعتقدوا في أن ربًّا خيِّرًا يحيط العالم برعايته، فيما زعم الأبيقوريون أن عمل الطبيعة ليس محددًا سلفًا؛ فهي تعمل وَفقًا للانحرافات العشوائية للذَّرَّات، أما الرواقيون فأكَّدُوا أن جميع الأشياء تسير تَبَعًا للقدر على هيئة سلاسل متتالية من الأسباب والنتائج، وأن هذه العمليات ستستمر دومًا في حلقة كونية من التكوُّن والضمور. وذهب الأبيقوريون إلى أن كل فرد حر تمامًا في أفعاله وسلوكه، أما الرواقيون فنفوا تلك الحرية لإيمانهم بفكرة القدر (ولكنهم مع ذلك قالوا إن كل فرد مسئول أخلاقيًّا عن تصرُّفَاته). كما ظَنَّ الأبيقوريون أن الواقع يتكون من ذَرَّاتٍ تلتحم ببعضها عن طريق الصدفة في الفراغ لتكوين كل ما نراه، أما الرواقيون فجَزَمُوا بأن المادة تنصهر بفعل حرارة نارٍ تقوم بتشكيلها وتصميمها وتوجيهها لتكوين أشكال مختلفة، وأن الذَّرَّات ليس لها علاقة بهذا الأمر.

وكما هو الحال في قضية الأخلاق، نجد أن آراء الرواقيين في الفيزياء والفلك مستقاة من خليط من المصادر القديمة؛ فقد استبدلوا العناصر الأربعة القديمة من تراب وماء وهواء ونار بفكرة الذَّرَّات، وكانت قصصهم السطحية التي تدور حول الظواهر الفلكية والطقس والموضوعات الأخرى — التي كان من شأنها جذب الفضول اليوناني — مجموعةً من الأفكار التي كانت سائدة لدى فلاسفة الطبيعة الأوائل قبل ذلك بقرنين من الزمان. ويبدو كذلك أن الرواقيين قد اعتمدوا كثيرًا على صورة هرقليطس التي رسمها للعالم؛ فقد كان يضع النار في مكانة تعلو بقية العناصر. وقد رأى الرواقيون أن هواءها الساخن (الذي كانوا يسمونه «نيوما») له أهمية كبرى. فقد كانوا يتحدثون عن هذا الهواء وعن الإله وعن المبدأ المنظِّم للطبيعة، كما لو كانوا يتحدثون عن شيء واحد، وهو ما يذكرنا بفكرة هرقليطس الغامضة حول عقل على شكل النار أو روح تبُثُّ الحياةَ في العالم. كان هرقليطس على ما يبدو يعتقد أن الكون يُدمَّر ثم يُبنَى بشكل دائم، حيث يَلقى العالم مصيره من الدمار عن طريق نار كونية قبل أن يبدأ في التكوُّن من جديد. وسواء أكان هذا اعتقاده بالفعل أم أن هذه الفكرة قد نُسبت إليه فيما بعدُ، فقد رحب الرواقيون بالفكرة بكل تأكيد. وبما أنهم كانوا يعتقدون في سير الكون وَفقًا للعناية الإلهية فإن هذا يعني أن كل دورة من دورات تاريخ العالم من المفترض أن تكون متساوية، لأنه لا يوجد سوى طريقة واحدة تعمل بها الأشياء؛ لذا فإن العناية الإلهية ستسلك نفس الطريق في كل مرة، وما من جدوى وراء محاولة العبث بالطريقة المثلى لعمل الأشياء.

ولعل الجديد في فيزياء الرواقيين هو استخدامهم لفكرة الاختلاط التام أو التداخل؛ من أجل شرح الطريقة التي يدخل بها الهواء الساخن إلى أشكال المادة فيتخللها ليبُث فيها الحياة. ولفهم هذه العملية يمكن أن ننظر إلى الاختلاف بين نوعين من المركبات المادية: في النوع الأول تلتصق بعض الأجزاء الصغيرة بالبعض مثلما تلتصق الحجارة ببعضها عند بناء المنازل، والنوع الثاني تختلط فيه المواد معًا كامتزاج الماء بالخمر. ويعتقد الأبيقوريون وغيرهم من الذَّرِّيِّين أن الأشياء العادية كالأشجار والناس والمنازل على سبيل المثال تشكَّلت بالطريقة الأولى، فالذَّرَّات الداخلة في تكوين مثل هذه الأشياء في اعتقادهم تلتحِم ولكنها لا تتداخل أو تختلط. أما الرواقيون فكانوا يَرَوْنَ أن العالم الفيزيقي ما هو إلا خليط مُحكَم الخلط تتداخل فيه العناصر، فكانوا يعتقدون أن المواد المختلفة يمكنها الاختلاط والتداخُل لتنتج كُلًّا متجانسًا، وبنفس الطريقة يتخلَّل الهواء الساخن المواد الأخرى ويمتزج بها، ليصبح العالم وجودًا مركَّبًا من أشكال المادة المختلفة يوجد فيه هذا الهواء الساخن في كل مكان.

أما عن الطريقة التي يشكل بها هذا الهواء الساخن العالم ويتحكم في سيره، فإننا لا نقع إلا على حجج وتفسيرات مضطربة. فلم يرغب الرواقيون في الاستغراق في التفاصيل، إلا أن بعض أفكارهم استحثَّت بعض مؤرخي العلم إلى البحث في الطريقة التي استطاعوا من خلالها التنبُّؤ ببعض الاكتشافات الحديثة. فقد قِيلَ إن تموُّجات الطاقة التي يُحدِثها الهواء الساخن المنتشر في العالم الفيزيقي تُشبِه «مجالات القوة» الفيزيائية المكتَشَفة في القرن التاسع عشر، كما أن اختلاط الهواء الساخن النشط بالمادة السالبة يُذَكِّرُنَا بفكرة توازُن الطاقة والمادة الموجودة في نظريات أينشتاين، بل إن بعض العلماء الذين جاءوا من بعد أينشتاين قدَّموا أوصافًا للعالم لو رآها الرواقيون لصدَّقوا عليها:

إن وَحدة الطاقة موجودة تحت جميع أشكال المادة وتجلياتها في الحياة كما تقول نظرية أينشتاين. ولكن هذه الوحدة لا تتشكَّل فقط لتظهر في أشكال هائلة التنوع من الموجودات، بل يمكنها أن تُنتِج أنماطًا من الحياة أكثر تعقيدًا، بدءًا بفُقَّاعَةِ الغاز الموجودة في البلازما البدائية وانتهاءً بتركيب المخ الإنساني المتناهي التعقيد.

وكما حدث في فيزياء أرسطو فإن فيزياء الرواقيين شهِدت أعظم لحظاتها عندما شرعت في البحث في مصطلحات المكان والزمان والأبدية أو اللانهائية، ولكن هذه المسائل شبه الرياضية يجب ألَّا تَشغَلَنا عن اهتمامنا الرئيس، ألا وهو نظرة الرواقيين الكلية للطبيعة وتأثيرها على فلسفة الحياة لديهم، ما دامت تلك الفلسفة تحتل القدر الأكبر من إرثهم الثقافي.

إن أهم ما يُمَيِّزُ الرواقية هو سلوك التسليم والإذعان الذي يُمكِن فَهمُه وإدراكه إذا كان الكون يسير بالفعل وفقًا للرؤية الرواقية. فإذا كان القدر يحكم العالم بحيث لا يصبح في مقدورنا أن نُغيِّر فيه أو نُبدِّل، فمن الأفضل أن نكون واقعيين ولا نتنبأ إلا بحدوث ما يمكن حدوثُه كما يقول أبيقور: «أن تتمنى حدوث الشيء على الوجه الذي يحدث به فعلًا.» فلا داعي أبدًا أن يشغل الإنسانُ نفسَه بتغيير أمور لن تتغير، كما أنه لا داعي إلى التعلُّق بأشياء لا مَفَرَّ من زوالها. وينبغي ألا نتعلق بشيء هو رهينة للأقدار؛ فأي شيء من شأنه أن يسبب للإنسان الحزن يجب التخلي عنه راضيًا قبل أن ينتزعه القدر منه رغمًا عنه ويصيِّره هباءً. والمقصود من التخلِّي عن الشيء هو عدم الاكتراث به؛ فلا ينال هذا الشيء حظًّا من رعاية الإنسان واهتمامه:

لا تقُل عن شيء أبدًا: «لقد فقدت هذا الشيء»، بل قل: «لقد أعدتُه مكانه.» فإذا ما مات ولدك فقد عاد إلى مكانه، وإذا ماتت زوجك فقد عادت إلى مكانها، ولا تقُل: «لقد خسرت مزرعتي.» بل قل إنها عادت إلى مكانها. ولا تقل: «إن من أخذ ممتلكاتي وغدٌ.» فأنت لا يهمك من امتلك الشيء ما دام مَن أعطاك إياه قد استردَّه. فما دام قد منحك شيئًا فلتعتنِ به كأنه أمانةٌ بين يديك، بالضبط كحال المسافر مع النُّزُل.

إن أفضل الطرق التي تساعدك على تقبُّل فكرة القدَر هو أن تسافر بحمولة خفيفة، فاعتبر أنك قد فقدت بالفعل الأشياء التي من الممكن أن تفقدها، عندئذٍ ستجد نفسك في مأمن من صروف الدهر. لقد فرَّق إبيكتيتوس بين الأشياء الواقعة في نطاق قدرتنا — ألا وهي أفكارنا ورغباتنا — والأشياء التي ليس لنا عليها سلطان مثل الحوادث التي تتعرض لها أجسادُنا أو عائلتنا وأهلونا أو ممتلكاتنا أو سمعتنا أو ثرواتنا. وقال إنك لو كبحت مشاعرك أو أعدت توجيهها بحيث تستطيع التركيز على ما يقع في نطاق قدرتك وتجاهل ما عدا ذلك؛ «فلن يتمكن أحد من إكراهك على فعلٍ ما أو صرفك عن فعل آخر، ولن يلحق بك أي ضرر.»

«انسحب إلى داخل نفسك.» هكذا يقول ماركوس أوريليوس الذي قضى قسطًا كبيرًا من عمره إمبراطورًا يُبعِد الغزاة عن مملكته، ويبدو أنه قد رأى في الفلسفة سلاحًا للدفاع عن النفس. كما شجَّع سينيكا على تنفيذ انسحاب تكتيكي إلى مواقع أكثر أمنًا في النفس: «إن الرجل السعيد ليس ذاك الذي يحسبُه العامة سعيدًا؛ أي ليس ذاك الرجل الذي تكتظ خزائنه بالأموال، ولكنه هذا الذي فاضت نفسُهُ ثراءً.» وهذا يذكرنا بحديث سقراط الذي كان يرى أن سعادة الرُّوح ورخاءها أهم ما في الحياة قاطبةً. والسعادة الروحية تعني السعادة الأخلاقية؛ فالفضيلة هي الشيء الوحيد الذي يُزَكِّي النفس، والخطيئة هي الشيء الوحيد الذي يُلحق بها الأذى. وقد اعتقد بعض الكلبيين أن هذا يعني رفضًا كاملًا للحياة التقليدية، عن طريق السخرية من هؤلاء الذين لا يَرَوْنَ معنى للحياة، وكان الرواقيون يتَّفقون مع الكلبيين في رؤيتهم للأشياء الظاهرية، فيكتب سينيكا: «إنني أنكر تمامًا أن تكون الثروة أمرًا صالحًا أو طيبًا؛ لأنها لو كانت كذلك لأصلحت أحوال الناس. وبما أن الثروة قد تكون أحيانًا في أيدي أراذل البشر؛ فلا يمكن أن نعتبرها شيئًا صالحًا.» ولكنَّ الرواقيين أخذوا موقفًا أكثر جديةً وحكمةً تجاه الأخلاق مقارنةً بالكلبيين. كما حظي موقفهم بقَبولٍ شعبي أكثر من موقف سقراط. ولم تكن السخرية من الذين لم يتمكَّنوا من معرفة أهمية نقاء الروح كافية مثلَما فعل ديوجين عندما ارتدى ثيابًا باليةً، وأخذ يصرخ من داخل حوضه. كما لم يكُن كافيًا إقناع رجل أو رجلين بهذه الفكرة كما كان يفعل سقراط. بل رأى الرواقيون أنه ينبغي اقتحام الحياة العامة لنشر الفضيلة ودحر الرذيلة.

أمَّا النفس التي قال ماركوس إن على المرء الانسحابَ إلى داخلها فهي نفس «عقلانية ذات قوة وسلطان»؛ فهي تشبه العقل الكوني الذي يُسَيِّرُ العالَم ويُنظِّمه، وهي تُعَدُّ في الحقيقة جزءًا من هذا العقل الشامل. فالرُّوح هي الحصن الأمامي لإمبراطورية الطبيعة، تمامًا كما يتحكَّم الهواء الساخن في تسيِير الكون على الوجه الأكمل؛ ولذلك يجب على الرجل الحكيم الفاضل أن تُوَجِّهَهُ رُوحُه العاقلة، فإذا استمع إليها ولم ينحرف عن الطريق بفعل العواطف الجانحة، فإن هذا يتَّفق مع الوصية الأولى من وصايا الأخلاق الرواقية، وهي الحياة في انسجام مع الطبيعة. وبذلك يعرف دَوْرَهُ في خُطَّةِ عمل الكون وكيف يؤدِّيه على الوجه الأكمل؛ فالإنسان الذي استطاع أن ينسجم مع نوازل القدر، وخاض رحلة الحياة خفيفًا دون متاع، واقتصرت اهتماماتُه على أمور الرُّوح والفضيلة، وأدى دَورَهُ وواجبه في خُطَّةِ العالم؛ يستحق أن يُصبِح نموذجًا وبطلًا يفتخِر به البشر أجمعون.

وقد ترك الرواقيون من خلفهم إرثًا ضخمًا فيما يتعلَّق بالتناوُل السليم لمسألة الموت، شأنهم في ذلك شأن الأبيقوريين. ولكن في الوقت الذي قال فيه الأبيقوريون إن الموقف الأمثل من الموت هو تجاهُلُه حين قالوا: «إن الموت لا يعنينا ولا نُلقِي له بالًا.» فإن الرواقيين وجدوا أن الموت تذكِرة للإنسان بالقدَر وبانعدام قيمة كل ما هو دنيوي. فرأى ماركيوس أن قصر الحياة من الأمور التي تمنحنا السُّلْوان، حيث قال: «لا تحزن؛ فكلُّ أمر يمضي وَفقًا لسنة الكون، وعمَّا قريب ستصير عدمًا تمامًا كما هو حال هادريان وأغسطس.» وجديرٌ بالذكر أن الرواقيين يرون أنه حين تستحيل الحياةُ وَفْق مبادئ الفضيلة الرواقية، فإن الموت يُصبح دائمًا خِيارًا متاحًا. فقد ورِث الرواقيون من أساتذتهم الكلبيين الانشغال بفكرة الانتحار؛ فالكلبيون قالوا إن الإنسان الذي لا يقدر على حياة عاقلة رشيدة، له أن يلجأ للموت بوصفه ملاذًا نهائيًّا، وبهذه الطريقة فإن الفضيلة لا تقع إلا في أحد هذين الاختيارين. ويبدو أن بعض معاصريهم حين أخذوا منهم الفكرة غَلَوْا فيها غُلُوًّا كبيرًا؛ فقد قال بعض الفلاسفة من مدرسة قريبة من الفكر الرواقي إن ثمة طريقة واحدة لا خلاف عليها لتجنُّب مصاعب الحياة التي لا مَفَرَّ منها، ألا وهي الانتحار دون تردُّد. وكان هناك فيلسوف يُدعَى هيجيسياس لُقِّبَ ﺑ «خطيب الموت» لتأييده الشديد لهذه الفكرة، وحُرِّمت محاضراتُه بعد تَفَشِّي ظاهرة الانتحار بين الناس. لم يذهب أحدٌ من الرواقيين إلى هذا الحَدِّ، وإن كان سينيكا قد انشغل بهذه الفكرة كثيرًا، فقال إنها تأكيد على حرية الإنسان. فكان يتساءل عن الطريق المُفضي إلى الحرية، ولاحقًا توصل إلى إجابة مفادها أنَّ قطع أي عرق في جسدك هو الطريق إليها.

لم يصعب على سينيكا أن يجد الأسباب التي تمنعه من الإقدام على الانتحار — على الأقل في كتاباته — وهو ما جعل فكره لا يتناغم مع فكر الرواقية بشكل عامٍّ. وعلى ما يبدو أنه لم يلجأ إليه إلا بعد أن اضْطُرَّ إلى ذلك، ولكن يبدو أنه آثَرَ الهروب من ساحة القتال ببساطة. أما سلوك إبيكتيتوس فكان أكثر اتساقًا بالنسبة للإنسان الرواقي؛ فقد قال إنه ما دام الإنسان لا ينبغي أن ينشغل بما يُصِيبُ جسده فإن سائر أشكال المعاناة التي يسببها الجسد لا تُمَثِّلُ مبررًا للانتحار، وإن وُجدت بعض الظروف التي تُغرِي به، فلا يمكن — في رأيه — أن يُقدِمَ الإنسان على مثل هذه الخُطوة الخطيرة إلا بأمرٍ من الإله. ولكن يبدو أن إبيكتيتوس كان ينسى هذا الكلام أحيانًا فيرى أن الموت هو السبيل للخلاص من المشكلات القديمة المتراكمة. وقد شبَّه ذات مرة الانتحار بأنه ليس سِوَى خروج من غرفة مختنقة بالدخان. وهناك قصة قديمة تذكر أنَّ زينون — وهو رائد المذهب الرواقي — أتى على ذكر فكرة الانتحار، فيقال إنه قد تعثَّر يومًا ما وانكسر إصبع قدمه فانتحر لهذا السبب على الفور.

ربما أُلِّفت هذه القصة للتهكُّم على آراء الرواقية. أما السبب الرئيس الذي جعل الرواقيين مهتمين بقضية الانتحار هو كونها تُعَدُّ رمزًا قويًّا للفلسفة التي استطاعت أن تعلو فوق أساليب المجتمع الأنانية المُسرِفة، فالإنسان الرواقي كان يزعم أنه لا يرى أهمية تُذكر للمفاضلة بين الحياة والموت إذا ما قورنت بالمفاضلة بين الفضيلة والرذيلة. فوجود الرغبة في الانتحار يُبَيِّنُ أن للمرء مُثُلًا عُلْيَا لا يمكن التضحية بها تحت أي ظرف، وأن المرء على استعداد دائم لطاعة الإله أو «الطبيعة الكونية»، مهما كانت الأوامر. وإذا كانت قصة زينون صحيحة فلنا أن نعتقد أنه ظنَّ أن تعثُّره هذا يُعَدُّ علامة على أنه قد حان أجله.

وهناك العديد من القصص والحكايات التي تدور حول فكرة الانتحار في الأدب الرواقي المتأخر، ومن إحدى قصص البطولة القديمة عند الرواقيين قصة كاتو الأصغر (٩٥–٤٦ق.م.) كما وصفها بلوتارخ في كتابه الشهير «حيوات». أقدم كاتو — الذي كان من أكبر خصوم قيصر وكان يُوصَفُ بأنه رجل يَحظى بالنزاهة المطلقة — على الانتحار مُفَضِّلًا إياه على الخضوع لحاكم مستبد، بعدما رأى رجوح كِفَّتِه عليه. وفي الليلة الأخيرة كما يروي بلوتارخ قام كاتو بالدفاع عن كثير من الأفكار الرواقية أثناء عشائه، ثم ذهب إلى غرفته وقرأ في محاورة أفلاطون «فيدون» — التي يذهب فيها سقراط إلى أن الفيلسوف الحقيقي هو الذي يقضي حياته كلها استعدادًا للموت — ثم قام بعدها بقتل نفسه، فأصبح منذ ذلك الحين قديسًا رواقيًّا. وبعد أن أصبحت الرواقية مذهبًا فلسفيًّا عتيقًا خلال القرن الثالث الميلادي، كان ينظر إلى كاتو على أنه نموذج للشخصية الصالحة الأَبِيَّة، كما أصبح رمزًا للواجب والإحسان والصبر، وأثبتت رباطة جأشه أن إخلاص الرواقي إلى الفضيلة هو أمر ممكن؛ فقد وضعت الرواقية المبادئ الأخلاقية الرفيعة، أما كاتو فقد برهن على أنه ليس من العسير الوصول إلى هذه المبادئ والتحلي بها.

إلا أن الحديث عن الأخلاق لدى الرواقيين باعثٌ على الحَيْرَةِ لما فيه من تناقُض. فإذا كان كل شيء يعمل وَفق القدر فما الفائدة من إسداء النُّصح أو محاولة إصلاح النفس أو الاقتداء بنموذج صالح؟ فليس بمقدور الإنسان أن يُبدِّل من نفسه أو من أي شيء من حوله، وإذا كانت الأشياء كلها تعمل وفقًا لسلسلة من الأسباب والنتائج، وإذا كان العقل نفسه شيئًا ماديًّا كما يرى الرواقيون؛ فكيف إذن لأفكارنا ومشاعرنا أن تتحرر من أغلال هذه الحتمية؟ لا شك أن الرواقيين كانوا متناقضين حين قالوا إن بعض الأشياء تقع تحت تصرفنا وسيطرتنا، وبعضها الآخر ليس كذلك، فإذا صدق قولهم عن القدر، فلم يَعُدْ هناك ما يقع تحت تصرفنا.

وقد استغل بعض معارضي الرواقية هذه النقطة وحاولوا أن ينصبوا للرواقية المشانق. فقالوا إنه وَفقًا لرؤية الرواقيين فإن فكرة القدَر تعني أن الإنسان غير مَلُومٍ على أفعال الشر التي يرتكبها، وإنه:

من المفتَرَض أن تقع اللائمة على ضرورة حتمية نابعة من القدَر تتحكم في كل شيء، ومن خلال هذه الضرورة يحدُث كل ما ينبغي له أن يحدث، وعلى هذا الأساس فإن العقوبات التي يُوقِعُها القانون على المجرمين ليست عادلة، ما دام الناس لا يُقدِمون على ارتكاب الشرور بمحض إرادتهم، لكن القدر يحملهم على ذلك.

ولكن الرواقيين رفضوا هذا التحليل دون أدنى شَكٍّ. فقد أكدوا على أهمية وجود مسئولية واقعة على الناس فيما يَخُصُّ أفعالَهم وسلوكهم، تمامًا كما قال الأبيقوريون. فإذا لم يكونوا مسئولين فلا داعي إذن لأن تُقدَّم إليهم النصائح الفلسفية أو العلاج الرُّوحي. وقد أنكر الأبيقوريون ببساطة فكرة القدر مستعيضين عنها بفكرة الانحراف العشوائي للذَّرَّات لكسر سلسلة الأسباب والنتائج، فرفضوا فكرة حدوث الشيء لحتمية حدوثه، أما الرواقيون فقد شددوا على هذه الحتمية؛ ولذلك فقد حاولوا البحث عن مَخرَج يُخلِّصُهم من المشكلة التي تستدعيها فكرة القَدَر. وهنا نجد أن جزءًا من إجابتهم عن هذا التساؤل يأتي بشكل مختزَلٍ في قصة أخرى صغيرة عن زينون، وتقول القصة إن زينون كان يَجلِد عبدًا بتهمة السرقة، فقال له العبد: «إنما القدَر هو الذي جعلني أسرق.» فرد عليه زينون: «وإنما القدر هو من جعلك تُجلَد.» والمغزى أن وجود القدر ليس من شأنه تغيير كل أنماط السلوك، فيمكنك أن تستمر في العقاب وإلقاء المواعظ ولَوْم الآخرين ومدحهم بشكل طبيعي، وكل ما في الأمر أنه على الإنسان أن يعترف أن كل شيء يحدث في الوجود — بما في ذلك أفعاله — إنما يقع تحت إمرة القدر. وبهذا فقد كان قَدَرُ كاتو أن يصبح بطلًا، أما قيصر فقدره أن صار طاغيةً. أما زينون وكريسيبوس وإبيكتيتوس والفلاسفة الرواقيون الآخرون فقُدِّرَ لهم أن يبحثوا في مسائل الفضيلة والواجب والعقل وما إلى ذلك.

ولكن حكاية جَلْدِ ذلك العبد لا تُعطي سوى صورة هزلية لإجابة الرواقيين عن مسألة القدَر. وأدرك كريسيبوس أنه من أجل إحراز أي تقدُّم في هذه المسألة فإنه يجب على المرء أن ينظر بشكل أَدَقَّ إلى طبيعة عمل القدَر والغرضِ الذي وُجِدَ من أجله. فكان يرى أن فكرة القدَر تعني أن كل شيء يحدث ما هو إلا نتيجة لسلسلة من المقدمات. وأشار أنه لو كان هذا بالفِعلِ معنى القدر، فإن كثيرًا من الهجوم على الرواقية يمكن دفعُه وتنحيته جانبًا. فعلى سبيل المثال كان كثير من خلفاء أفلاطون في الأكاديمية يسخرون من الرواقية ناعِتِين إياها باسم «الجدل الخامل»؛ وذلك لأنهم ظَنُّوا أنه ما دام هناك ما يُسَمَّى بالقَدَر فليس من المعقول إذن أن نحاول القيام بأي شيء. واستمر الجدال على هذه الشاكلة، فضربوا مثالًا ذكَروا فيه أن قدَر الإنسان إذا كان مريضًا إما أن يُشفى أو ألَّا يُشفى دون أن تكون له حيلة في ذلك. فإذا كان قدَره أن يُشفَى فليس من الضروري استدعاء الطبيب، وإذا كان مُقدَّرًا له ألا يُشفَى فاستدعاء الطبيب سيكون ضربًا من العبث. ومن ثَمَّ ففي كلتا الحالتين ليست هناك ضرورة تستدعي أن يحصل الإنسان على رعاية طبية. وهذا يشبه الفكرة القائلة إنه ليس من داعٍ لحذر الجندي خلال الحرب، فإما كُتب عليه الموت أو لم يُكتب، فلا يمنع حذرٌ من قدَرٍ.

وقد وضع كريسيبوس يدَه على موضع الخطأ في هذه القضية المنطقية. فقال إنه لا شك أن للإنسان أحد مصيرين: إما شفاء أو سقم. ولكنه أشار إلى أن الرعاية التي يُقدِّمها الطبيب قد تكون سببًا في تحقيق الشفاء؛ ومن ثَمَّ فلا يصح أن ندَّعِي أن الاستعانة بالطبيب لن تُغنِي عن الإنسان شيئًا. ومكمن الخدعة في ذلك «الجدل الخامل» هو أنه يغُضُّ الطرف عن أن أفعال البشر — شأنها شأن سائر الأحداث الأخرى التي تقع في العالم — قد تكون لها تأثيرات من شأنها صياغة المستقبل. فالإنسان عندما يستدعي الطبيب لا يعرف إذا ما كان سيبرَأ من مرضه أم سيموت، ولكنه رغم ذلك يدرك أن أفعاله يمكن أن تُرجِّح كفة أحد الاحتمالين. وهذه الأفعال قد تكون مُقدَّرةً سلفًا بشكل من الأشكال؛ وبذلك لا يُمكِن أن ندَّعي أن أفعال البشر لا تؤثِّر ولا تأتي بجديد.

وكذلك يُمكِنُنا الرَّدُّ على فكرة عدم جدوى استدعاء الطبيب بالقول إن هناك أهمية للاستعانة بالطبيب لأن هذا يزيد من نسبة الشفاء. كما أن هناك أهمية لعقاب الناس؛ لأن هذا من شأنه أن يجعلهم يُحجِمون عن فعل الشر في المستقبل، كما أن هناك أهمية لإسداء النُّصح وتقديم العلاج؛ لأن هذا يساعد الناس على تحقيق السعادة. بَيْدَ أن المسألة لا تُحَلُّ بهذه البساطة، فلو كانت أفعالنا ستُغيِّر من مَجرَيَات الأمور فإنه لا يزال من الصعب تصوُّر كيف يمكن أن نكون مسئولين عنها. فكيف أكون مسئولًا عن أفعالي وأفكاري ما دامت هي محض نتائج لأسباب سابقة؟ ولكن كريسيبوس قال إن بحث هذه المسألة يتطلب مزيدًا من الدقة؛ فقد كان يعتقد كغيره من الرواقيين أننا أحرار ومخيَّرون من ناحية ومسيَّرون من ناحية أخرى، فقبل تفكيرنا بأمر أو إقدامنا على فعل، يتوقَّف ما نفكر فيه أو نُنفذه على مسبِّبات سابقة؛ ولهذا فإننا لسنا أحرارًا. وعلى الجانب الآخر نَجِدُ أن بعض هذه الأسباب يتعلق بشخصياتنا، ومن هذا المنطلق فإننا مسئولون عن أفكارنا وأفعالنا.

وقد شرح كريسيبوس مقصده بمثال بسيط. فقد قال: خذ أسطوانة وادفعها إلى أسفل منحدر. لماذا تستمر في الدوران؟ إن سبب دورانها يعود جزئيًّا إلى دفعك لها؛ فهي تدور استجابةً لهذه الدفعة، ولكنَّ هناك سببًا آخر وراء دورانها يتمثَّل في كونها أسطوانية الشكل وليست مكعَّبةً على سبيل المثال، فلو كانت مكعَّبةً لما كانت دفعتك اليسيرة كافية لدورانها إلى أسفل المنحدر؛ لأن شكلها سيَحُول دون دورانها، وبذلك فإن جزءًا من سبب دورانها يقع في طبيعة تكوينها؛ فهي تدور لكونِهَا أسطوانة وليس لمجرد الدفع، الأمر نفسه ينطبِق على أفعالنا وأفكارنا، حيث إن بعضها يُعَدُّ جزءًا من طبيعتنا، ويمكن تفسيرها في إطار شخصيتنا تمامًا، كما أن سلوك الأسطوانة يمكن عزوه إلى شكلها؛ وبذلك فإن حياتنا لا يمكن تفسيرُها فقط من خلال القوى الخارجية.

وبذلك استطاع كريسيبوس أن يَصُدَّ جانبًا من هجوم خصومه، ورغم ذلك نتساءل عن مدى نجاحه في تحرير المسئولية الأخلاقية من شِبَاك القدَر. فقيصر قد يكون طاغيةً بسبب شخصيته، ولكن الرواقيين يرون أن الشخصية من فعل القدر، فكيف يمكن إذن أن نقول إن قيصر كان مسئولًا عن شخصيته أو عن تصرُّفاته؟ نخلص في النهاية إلى أن محاولة الرواقيين الجمع بين الإيمان بالقدر والمسئولية الشخصية ليست مُقنِعَة بشكل تامٍّ. فلا يزال هناك تناقض بين الفكرتين. ولكن للإنصاف ينبغي ألَّا نُغفِل حقيقة أن الرواقيين لم يكونوا الوحيدين الذين وقعوا في تناقض كهذا. ففي مسرحية أسخيلوس التراجيدية «أجاممنون» تتحدَّث الجوقة عن زيوس المسيطِر على قوى الطبيعة، وتصِفُه بأنه «فاعل كل أمر ومصدر كل شيء»، وتسأل الجوقة عن مقتل أجاممنون: «هل يمكن أن يحدث هذا دون إرادة زيوس العليا؟» ولكن حتى بعد عزو الفعل إلى مشيئة زيوس — فقد استخدم الرواقيون اسم زيوس كثيرًا للإشارة إلى القدر — أدانت الجوقة كذلك كليتمنسترا لمسئوليتها عن الإقدام على قتل أجاممنون؛ فلقد أنشدوا قائلين: «من يمكن أن يغفر لكِ إراقة هذه الدماء؟» وهنا نرى أنه لو كان زيوس (القدَر) هو المسئول عن قتل أجاممنون فلا معنى لإدانة كليتمنسترا، ولكن بالنظر في حقائق القضية نَجِدُ أنه لا مفر من إدانتها لتورُّطها في القتل. «فيا له من لغز مثير للشفقة!» كما تقول الجوقة.

وممَّا جعل الرواقيين يؤمنون بفكرة القدر إيمانُهم بفكرة العناية الإلهية. وفي الحقيقة إن كلتا الفكرتين تنبعان من محيط واحد، وهو أن العقل المدبِّر للعالم يتَّصف بالحكمة ويرعى دائمًا مصلحة الإنسان، فكل شيء مخلوق على الوجه الأكمل. ويوضح الرواقيون أنه حتى إن بدا الأمر خلاف ذلك ظاهريًّا فإن الفهم العميق للطبيعة يقودنا إلى حقيقة كل شيء. لقد قال سينيكا إن المِحَن ما هي إلا اختبارات. فالمِحَن تحمل في باطنها مِنَحًا. والمِحَن والشدائد تساعدنا على تنمية قدراتنا على التحمُّل والصبر وتُساعدنا كذلك على تنمية الفضائل الرواقية، وعن هذا يقول:

لماذا يصيب الرَّبُّ خِيار الناس بالمرض أو بالأسى أو بأيٍّ من المصائب الأخرى؟ الإجابة تكمن في أن هذا يشبه تكليف أشجع الرجال بالمهامِّ الخطيرة والشاقة في الجيش. وعلى نفس الشاكلة فإن الشجعان إذا ما تعرَّضوا لمحنة كتلك التي تُبكي الجبناء يقولون: «لقد حبانا الرب أسلحة من لَدُنْهُ كي يختبر قوة تحمل البشر» … فالآلهة يتعاملون مع الرجال الصالحين تعامُل الأساتذة مع تلاميذهم، فهم يكلفون هؤلاء الذين تنعقد عليهم الآمال بمزيد من الواجبات والمهام.

وبذلك فإن جميع ما ينزل بالإنسان من مصائبَ هو محض فرص جيدة لتطوير الذات. قال كريسيبوس إن الكائنات البسيطة مثل الفئران أو حشرات الفراش التي قد تُزعج الإنسان تُعَدُّ مثالًا على ذلك؛ فالفئران تجعل الإنسان يحافظ على النظافة، وحشرات الفراش تمنعنا من النوم بالقدر الزائد عن الحاجة. وكان يعتقد أن هذه الحشرات قد وُجِدَتْ عن طريق العناية الإلهية لتحقيق هذه الفوائد الغريبة. ويرى الرواقيون أنَّ جميع الأشياء صُمِّمَتْ في الأصل لمصلحة الإنسان وخيرِه، فقد قال كريسيبوس إن الخنازير قد خُلِقَتْ وَلُودَةً من أجل إمدادنا بالكثير من الوجبات الشهية. وإن هذا الطَّرح لنموذج دقيق لمنهج التفكير الذي يضع الإنسان في مركز الكون، وهو الفكرة المنسوبة زُورًا لأرسطو. كان الرواقيون — لا الأرسطيون — هم من رَأَوْا أن العناية الإلهية تتدخَّل في جميع آليات الحياة، وقد استخدموا الفكرةَ المتعلِّقة بوجود نظام للعالم دليلًا على وجود الإله.

أيضًا لم يرَ الرواقيون العالم كِيَانًا سيئًا على أي حال؛ لأنهم لم يعتقدوا في وجود حياة آخرة يصلح فيها كلُّ ما فسد في الحياة الأولى، فالعناية موجودة بالفعل هنا في الدنيا، وهي تتكفَّل بإصلاح كافة شئوننا وتَهدينا إلى الخير، وبذلك فلا حاجة لوجود حسابٍ في السماء بعد ذلك. والعناية الإلهية لا ترعى مصالح الناس وحسبُ ولكنها سخية وكريمة كذلك تجاه الصالحين من الناس حتى وهم على قيد الحياة.

ولعل هذه من أكبر الاختلافات بين المسيحية الأولى واللاهوت الرواقي. فالمسيحيون لا يقبلون فكرة تحقُّق العدالة على الأرض؛ فهم يعتقدون كغيرهم أن الأخيار قد يعانون البؤس أحيانًا فيما يتقلب الأرذلون في النعيم، ولكن الرواقيين يعتقدون أن الرَّبَّ أو العناية الإلهية يحفَظ أصحاب الفضيلة من الأمور الأعظم خطرًا، فيقولون:

إن الرب يحميهم من جميع أنواع الشرور مثل الخطيئة والجريمة والتضليل والطمع والشهوة العمياء والجشع والإضرار بالغير. وإنه يحقق للإنسان الحماية والخلاص. وهنا يثار تساؤل: هل يطلب الإنسان الصالح من الإله أن يحمي أمتعته له أيضًا؟ لا، بل الإنسان الصالح ينوب عن الإله في أداء هذه المهمة.

إن أسوأ شيء قد يحدث للإنسان على الإطلاق هو الإقدام على الشرور التي تتنافى مع سلوك الإنسان الصالح. فالإنسان الصالح لا يَلحق به الأذى كما قال سقراط. وربما تُنتزع منه بعض الأشياء التافهة التي لن يعيرها اهتمامًا نظرًا لصلاح فطرته. ومن خلال هذا التفسير فإن الرواقية تكفل حياة سعيدة للإنسان الصالح. ولكن المسيحيين لم يكُن ليقنعهم هذا الحديث عن وجود مِنَحٍ عادلة على الأرض؛ لذا حبَّذوا أفكارًا أكثر قدمًا كتلك التي توجد في الديانات اليونانية الغامضة، والتي تقول إن الدار الآخرة هي دار الثواب والعقاب التي يتحقق فيها العدل على جميع الخلق.

ولكن أوجُه الشبه بين الرواقية والمسيحية تلفِت الانتباه مثلما تفعل أوجه الاختلاف. فبعد استثناء فكرة البعث بعد الموت للحساب، نرى أن الرواقيين استخدموا جميع الأفكار التي يستخدمها المسيحيون في تفسير الألم والمعاناة في العالم الذي يحكمه إلهٌ مُطلَقُ القوة. وفي الحقيقة إن كثيرًا من المبادئ الأخلاقية لدى الرواقيين يشبه إلى حَدٍّ كبير مبادئ الأخلاق المسيحية؛ حتى إن إحدى أساطير العصور الوسطى تقول إنهما قد صارا شيئًا واحدًا.

لقد كان العالم الرواقي أكثر قابليةً لمبادئ الدين المسيحي قياسًا بأي مذهب فلسفي آخر. صحيح أن الرواقيين لم يعتقدوا أن الرب قد خلق الكون من العدم — فهذه مسألة لم تكن تَرِدُ على بالِ أحد من اليونانيين القدماء، حيث كانوا يؤمنون بأزلية الكون — وأن الآلهة ليسوا سوى جزء من هذا الكون، كما أن التفكير المادي الرواقي لا يسمح بفكرة وجود أرواح خالدة. ولكنهم كانوا يرون أن الكون منظم ومحكم الصنع ويعمل وفقًا لعناية إلهية ترعَى الإنسان على وجه الخصوص وتشجع على التحلي بالأخلاق القويمة. ويمكننا أن نقع على كثيرٍ من القواعد الأخلاقية المميزة في المسيحية في كتابات الرواقيين الأخلاقية، فكانوا يقولون إن الثروة والمكانة والسلطة — بل وجميع الأشياء التي من شأنها أن تفرق بين البشر — لا قيمة لها على الإطلاق. فجميع الناس سواسية أمام الرعاية الإلهية، ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالفضيلة التي لا يُمكِن للجميع التحلي بها. ومن هنا كان الرواقيون يؤمنون بفكرة الأخوة الإنسانية؛ فقد كتب سينيكا قائلًا: «جعلتنا الطبيعة مترابطين بخلقنا من مادة واحدة ولمصير واحد، وقد غرست فينا مشاعر حب تجاه بعضنا البعض.» وهذا الحب هو أساس الأخلاق. ويقول إبيكتيتوس إنه لا يجب أن تعتبر مصالحك منفصلة عن مصالح الآخرين.

لم يهتم النظام الرواقي فقط بالإيثار والبذل من أجل الآخرين، بل قام على فكرة زيف الحياة وكذبها، وشدَّد على أهمية دور الضمير في إرشاد الفرد. وأكد إبيكتيتوس كذلك على أهمية نقاء القلب؛ فعلى سبيل المثال: إن مرت من بين يديك امرأة فاتنة، فينبغي ألَّا تدع لنفسك المجال كي تحدثك قائلة: «يا لحظ زوجها!» وهذه الفكرة تتناغم مع تراث المفكرين المسيحيين الأوائل شأنها شأن العديد من الأفكار الرواقية الأخرى، كفكرة كبت العواطف الجامحة التي يمكن أن تشتت الإنسان عن حياته الهادئة.

وقد شجَّع الأبيقوريون كذلك فكرة الحياة الهادئة والبسيطة كما رأينا سلفًا. وفي الحقيقة، كان جميع المفكِّرين اليونانيين يسعَوْن خلف هذه الغاية (إلى الدرجة التي تجعلنا نتساءَل إن كان أيٌّ منهم قد عاش هذه الحياة بالفعل!) ولكن رغم أن الطبيعة قد أوحَتْ بفكرة الحياة الهادئة تلك إلى الرواقيين والأبيقوريين على حَدٍّ سواء، فثمة اختلاف بين مفهوم الطبيعة لدى كلٍّ من الرواقيين والأبيقوريين. فالطبيعة الرواقية أو الرب أو العناية الإلهية كانت عبارة عن عقل يدير الكون لغاية ما، أما الطبيعة لدى الأبيقوريين فكانت كريمة سخية لا تمانع في وجود قليل من المتعة شريطة عدم الإسراف فيها؛ حتى لا يحول ذلك دون نيل الملذَّات الأكثر رقيًّا والمتع طويلة الأمد.

وقد قيل إن كُلًّا من الرواقية والأبيقورية يُلائم نوعين مختلفين من الشخصيات:

فهناك في عالمنا أولئك الذين يتَّصفون بالحزم والاستقامة وضبط النفس والشجاعة، الذين يدفعهم دائمًا الشعور بالواجب فيقدمون التضحيات، ولا يتسامحون مع ضعف النفوس، ويتعاملون أحيانًا بقسوة مع المحيطين بهم، ويصعدون جبال البطولة الشاهقة حيث تخضع لهم الرياح، وهم على استعداد لترك الحياة أكثر من استعدادهم للتخلي عن القضية التي يؤمنون بصحتها. وعلى الجانب الآخر، هناك دائمًا رجال يتَّسِمون بالوداعة واعتدال المِزاج واللطف والطِّيبة واللين، ويتحلَّوْن بمشاعر الصداقة الحارة. فهم يتسامحون مع أعدائهم كما أنهم على استعداد دائم لمشاركة الغير في المسرَّات، ويمقتون الحماسة والتصوُّف وأوهام اليوتوبيا والخرافات. وتفتقر شخصياتهم إلى العمق وتُعوزهم خِصَالُ التضحية من أجل الآخرين. ولكنهم مع ذلك يحرِصون على إسعاد الآخرين لتُصبح الحياة أكثر راحة وانسجامًا؛ فالنوع الأول من الرجال رواقيون بالطبيعة، أما النوع الثاني فهم أبيقوريون.

هذه الأنماط التي وُضِعَتْ أوصافها في العصر الفيكتوري تجعل محاولة التعرُّف على الشخصيات الرواقية والأبيقورية في محيط صداقات المرء بمنزلة لعبة مسلية. وهذه التوصيفات تلقي الضوء على جانب من الرُّوح السائدة في هاتين الفلسفتين، ولكنها توصيفات منمَّقة ونمطية جدًّا لدرجة لا تعطينا فكرة عن شخصيات المفكرين الحقيقيين الذين عاشوا منذ ٢٠٠٠ عامٍ؛ فعلى سبيل المثال لا شك أن كبار الرواقيين كانوا في الحقيقة من ذوي الشخصيات الطيبة التي تُضَحِّي من أجل الآخرين، إلا أن سينيكا الذي جمع ثروةً طائلة تحت رعاية نيرون لم يكن كذلك؛ فقد طالب فجأة أعيان البريطانيين برَدِّ مبالغَ طائلة كانوا قد اقترضوها (بعد أن كان قد ضغط عليهم لقبولها)، وهو ما كان أحد أسباب ثورة الملكة بوديكا وتمرُّدها الشهير على الرومان عام ٦٠م. فقد دافع سينيكا في واقع الأمر عن النظرة الرواقية التي لا ترى في الأغنياء — بالمعنى الدقيق للكلمة — صلاحًا أو فضيلة تُذكر لأن الفضيلة وحدها هي القيمة العُظمى، ولكنه كان حريصًا على توضيح أنه ليس ثمة سبب لشعور الإنسان بالاستياء من كونه ثريًّا — على غرار كرويسوس — ما دام يدرك أن الفضيلة هي القيمة الأسمى، حيث يقول سينيكا بكل فخر: «ضع بين يديَّ ثروة ضخمة وأموالًا طائلة، ولن أشعر أنني ازددت معشارًا من السعادة.» ولكنه ينصح كذلك بعدم التعجُّل في إصدار هذا الحكم؛ ولا يُفهم من حديثه أن على الإنسان أن يتخلى عن ثروته، إذ ما الذي قد يدفعه لهذا؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا إذن على سينيكا أن ينبذ الغنى إذا كان باستطاعة الإنسان أن يكون فاضلًا سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا؟

كان ماركوس أوريليوس — إذا ما قورن بسينيكا — مثالًا أكثر نبلًا على ذلك الجانب الطيب والمتسامح الذي تتصف به الرواقية، بل إنه كان في بعض الجوانب أيضًا نموذجًا طيبًا للشخصية الأبيقورية بشكل يفوق الأبيقوريين أنفسهم؛ فقد كان شخصًا ودودًا طيبًا متسامحًا (لا سيما بالنسبة لكونه إمبراطورًا) في حين أن أبيقور نفسه لم يكن يُمثِّل نمط الشخصية الأبيقورية تمام التمثيل. فربما كان أبيقور شخصًا لطيفًا وطَيِّعًا بين تلاميذه وأصدقائه، ولكنه كان سريع الغضب مع خصومه من الفلاسفة، وكانت الشخصية المرحة الهادئة تفارقه عند تناول الأمور الجادة؛ فكان يَعُدُّ جميع الفلاسفة الآخرين خصومًا له، بل كان جلفًا غليظًا تجاه هؤلاء الذين تعلَّم منهم الكثير على غرار ديموقريطس.

•••

وإذا وجد الرواقيون والأبيقوريون صعوبة في العيش وفقًا لفلسفاتهم، فلا بد أن الشكوكيين رأَوُا استحالة الالتزام بفلسفتهم الشكوكية. فكيف يمكن للإنسان أن يَشُكَّ في كل أمر ويَدَّعِي أنه حائر ومرتبك بشأن كل شيء؟ وكيف يمكن أن يُحجِم عن إصدار الأحكام على جميع المسائل وأن يعيش متخليًا عن كافة المعتقدات؟ بل لماذا قد يرغب أي إنسان في هذا؟

ظهرت المدرسة الفلسفية الشكوكية على يَدِ بيرو الإيلي الذي يسبق مولده مولد أبيقور بعشرين عامًا، مع أن وفاته تتزامن تقريبًا مع وفاة أبيقور (حوالي عام ٢٧٠ق.م.) ومن الطبيعي أن يَصِلَ إلينا القليلُ عن إنسان يَدَّعِي عدم معرفة شيء، فلم يُدوِّن الكتابات والنصوص الشكوكية سوى سيكستوس إمبيريكوس الذي عاش إبان القرنين الثاني والثالث الميلاديين بعد ٥٠٠ عام من وفاة بيرو؛ أي بعد انتهاء الحقبة الهيلينستية. ولكن حافظت الشخصية الشكوكية رغم مرور هذه الفترة الطويلة على رونقها الهيلينستي. وكانت الشكوكية فلسفة حياة تهدف للوصول إلى حالة التحرُّر من الحزن، من خلال إرشاد الناس إلى ما يجب عدم الاكتراث به، ويقال إن الشكوكية احتفظت بتأثير بيرو عليها حتى في أطوارها المتأخرة والأكثر نضجًا.

أما بيرو نفسه فلم يكتب شيئًا، ولكنه كان ذا تأثير كبير على معاصريه في أثينا. ويشهد على ذلك ما يُروى في الحكايات المعهودة التي تغيب عنها الموضوعية والمعقولية؛ حيث ركزت هذه الحكايات بشكل كبير على تطرُّفه المزعوم في حب العزلة والانزواء: «كان دائمًا في نفس الحالة العقلية؛ لدرجة أنه إذا تركه شخص في منتصف حواره فإنه يستكمل الحوار مع نفسه.» وإذا وقع صديق في حفرة ما، كان بيرو يمر عليه مرور الكرام دون أن يلتفت إليه أو يعيره أدنى اهتمام. ونظرًا لأن هذا الصديق يتبع مذهب الشكوكية نفسه، فكان يثني على سلوك بيرو الذي لم يُعكِّر الحادث صفو مزاجه. وتحكي قصة أخرى أن بيرو تجاهل جميع المخاطر التي كانت تتردَّد في وقته لأنه كان يشك في خطورتها، «كان لا يتجنب شيئًا ولا يأخذ حذره من أي أمر، وكان يواجه كل أمر كيفما جاءه وأيًّا كان، سواء أكان عربات تسري في الطريق أو منحدرات أو كلابًا تمر به.» ولكن لحسن حظه كان دائمًا في صحبة أصدقائه الذين لم يكونوا على نفس الدرجة من عدم الاكتراث؛ وبذلك كانوا يعتنون به فيجذبونه بعيدًا عن العربات والمركبات القادمة تجاهه. ولا شك أن مهمتهم كانت صعبة؛ لأنه كان «كثير … الخروج من بيته دون إخبار أحد، هائمًا على وجهه دون هدف، ومتجولًا مع أي شخص يصادفه في طريقه.»

figure
بيرو.

قام أحد المدافعين عنه بعد مرور قرنين على وفاته بنفي كل هذه القصص، وقال إنه على الرغم من أن بيرو قد مارس الفلسفة على أساس الشك في كل شيء، فإنه لم يمارس عدم الاكتراث في تفاصيل حياته اليومية. ومن المؤكد أن هذه هي الحقيقة؛ فربما كان بيرو شديد الهدوء ما جعل أبيقور يُثني على هدوئه وسكينته، كما أنه كان يثير الإعجاب لقدرته «على تفنيد كل الحجج والأساليب الإقناعية». لم يكن بيرو أحمق كما ترسمه هذه القصص، فقد عاش حتى قارب عمرُه التسعين وهو ما يُلقي بظلال الشك على القصص التي رُوِيَتْ عن تهوُّره. إلا أننا لا يمكن أن نلوم أحاديث السخرية والتهكُّم التي كانت نتيجةً منطقية لفلسفته. أما المحيِّر حقًّا هو أن القصص التي تناولت حياته بشكل اتَّسَم بالجِدِّيَّة تحكي أنه كان يحث الناس على عدم الالتزام برأي واحد أو الثبات عليه، وكان يحذرهم من فكرة ادِّعاء معرفة أي شيء. وقد عرض لوقيان في القرن الثاني الميلادي في كتابه الساخر «بيع الحيوات» فكرةَ بيع الكثير من الفلاسفة في السوق، ووضع سعرًا ضئيلًا لديوجين الكلبي كسعر حيوان منزلي، وأما عن هرقليطس الفيلسوف الغامض فقال إنه لا يُباع أبدًا حتى بأبخس الأسعار، أما بيرو فقد صوَّره وهو يشك في أمر بيعه رغم أنه كان محمولًا على ظهر شاريه.

بدت الشكوكية المتطرِّفة فكرةً غاية في الغرابة؛ لدرجة جعلت البعض يظن أنها ليست يونانية الأصل. فلا شك أن بيرو صاحَبَ الإسكندر الأكبر في رحلاته إلى الشرق حتى وصل الهند التي يقال إنه قد اكتسب قدرًا من شكوكية من كان يطلق عليهم «الفلاسفة العراة» الذين قابلهم هنالك. وفي الحقيقة نَجِدُ أن ثَمَّةَ خيطًا يجمع بين نمط عيشِ هؤلاء الهنود ونمط الحياة الذي يُزكِّيه بيرو. والفلاسفة العُراة هم مجموعة من الحكماء الزاهدين، يتبعون ديانة «جين» — وهي فرع من الهندوسية اختلطت به بعض الهرطقات — وكانت هذه الديانة تَعُدُّ الطعام والملابس من معوِّقات التفكير السليم؛ ولذلك كانوا يعيشون في الغابات دائمًا فرارًا من الطعام والملابس، ولم يَرَوْا غضاضة في أن تتناقض أقوال المَرءِ عند وصفه للعالم اليومي المَعِيشِ (وربما لهذا السبب خَفَتَ تأثيرهم على الفلسفة الهندية بشدة)؛ وذلك لاعتقادهم أن العبارات العابرة التي يستخدمها الناس تحتمل الصِّحَّةَ في بعض الحالات والكذب في حالات أخرى. كما رَأَوْا أنه من الأهمية بمكانٍ تقليص الأثر الذي تلعبه الحواس على الرُّوح، وقالوا إنه لا ينبغي للإنسان أن يعبأ بمشاعر الجوع أو الألم، وعليه كذلك ألا يُعَوِّلَ على كثير ممَّا يسمع أو يرى. وكانوا يرون أن القديس المثالي هو ذلك الرجل الذي يأخُذُ على عاتقه هذه المهمة حتى يصل بها إلى أعلى درجات الإتقان، فيحقق السكينة والصفاء والطمأنينة.

وعند النظر إلى بعض تعاليم بيرو نجد أنها تبدو شبيهة بذلك إلى حَدٍّ بعيد:

لا ينبغي لنا الوثوق في حواسِّنَا أو الاعتماد على آرائنا في التفريق بين الحقيقة والكذب، فلا يمكنهما أن يرشدانا إلى الحقيقة، بل علينا أن نتجرد من الآراء ونتحرر من الانحياز وألا نستقر على أمر واحد بخصوص شيءٍ ما، سواء بالإثبات أو النفي، وسيمتنع كلُّ من يأخذ بهذه النصيحة ويلتزم بها عن الكلامِ بصفة دائمة؛ ومن ثَمَّ سيتحرر من كل ما يجلب له الانزعاج أو الضرر.

ورغم أن فلاسفة الهند العراة «تحرروا من الآراء والانحياز» في العديد من الموضوعات، فإنهم كانوا جامدي الفكر متعصبين بشأن المسائل الدينية والكونية، للدرجة التي لا تجعلهم يدخلون في عداد الشكوكيين على النحو الذي يتفق مع الدلالة اليونانية للكلمة. فقد ادَّعَوْا معرفة العديد من الأمور كان منها على سبيل المثال هجرة الروح بعد الموت، ومنها أن الكون أزلي وغير مخلوق، وأن كل الأشياء تحيَا حاملة قبسًا إلهيًّا بداخلها، وغيرها من الأمور التي يصر الشكوكي الحقيقي على تقبُّل جميع الآراء بشأنها.

وليس على المرءِ الذَّهَابُ إلى الهند كي يتتبع آراء الشكوكية؛ فكان لدى العديد من فلاسفة اليونان ميول شكوكية عديدة تمثَّلت في إخضاعهم كل المعتقدات اليومية الشائعة لسلطان البحث. ففي القرن السادس قبل الميلاد، قال زينوفان: «لا يدرك أحدٌ، ولن يدرك أحدٌ أبدًا، الحقيقةَ بشأن الآلهة أو بشأن ما أقول، حتى لو تبين له صحة ما يقول؛ فليس له أن يدرك ذلك في الحقيقة على وجه اليقين، فالأمر لا يعدو كونه مجرد رأي.» وقد لاحظ زينوفان أن الشعوب المختلفة تصف الآلهة وفقًا لرؤيتها وخيالها، «يظن أهل إثيوبيا أن آلهتهم لها أنوف فطساء وبشرة سوداء، وأما أهل تراقيا فيظنون أن آلهتهم لها عيون زرقاء وشعور حمراء.» وما هذه سوى تذكرة بعدم عصمة المعتقدات البسيطة التي يؤمن بها الناس؛ إذ لا يمكن بالبديهة أن تصح معتقدات أهل إثيوبيا وأهل تراقيا في نفس الوقت. وقد مهَّد كلٌّ من بارمنيدس وزينون المجال لظهور الشكوكية؛ فقد قال كلٌّ منهما إن المعتقدات العادية التي يُؤمِن بها الناس بشأن العالم غير صحيحة، فرغم أن الجميع كان يظُن أن العالم مليء بالحركة والتغيُّر فإن شيئًا لم يتغير وظل كل شيء كما هو على حاله. وقد دفعت هذه العقيدة الراسخة بتيمون الفيلياسي — وهو من أشد المؤمنين بشكوكية بيرو — إلى مديح أهل إيليا؛ لأنهم كشفوا الغِطاء عن زيف جميع الظواهر التي نقابلها في عالمنا. (وقد صَبَّ تيمون جام نقدِه على الفلاسفة الذين لم تتوافق رؤيتهم والفلسفة الشكوكية بعدما نعتهم بالثرثرة والهذر، وقال إن مؤسس الرواقية الذي لم يترُك مذهبًا من المذاهب إلا واعتنقه كان أقل ذكاءً من آلة البانجو.)

وللسفسطائيين دور كذلك في التمهيد لظهور الشكوكية من خلال هدمهم للأسس التي انبنت عليها آراء العوامِّ من الناس. حيث اشتهر عنهم تبنِّيهم لنظرة نسبية فيما يخص مسائل الأخلاق والسياسة؛ فيرون أن لكل مجتمع قيمَه الخاصة وأنه من السذاجة بمكانٍ أن يظُنَّ شخص أن قيم مجتمعٍ ما هي الصحيحة وما عداها خطأ. وقد ثار بعض السفسطائيين — من أمثال بروتاجوراس — على الكم الهائل من النظريات التي دارت حول رؤية العالم والأخلاق، حيث عارضوا تلك النظريات مؤكِّدِين أن معتقدات كل شخص لا يمكن أن تكون صحيحة ومناسبة إلا لنفسه فحسب، وهو ما يعني أن المعرفة المجرَّدة أمر مستحيل، فليس بالوسع الاستقرار على حقائقَ واقعية تحدد كُنهَ الأشياء؛ لأن كل اعتقاد قديم لا يختلف كثيرًا عن غيره. ونفَى زينيادس الكورينثي (الذي عاش إبان عصر بارمنيدس) وجود أي شيء حقيقي. وتبدو هذه الفكرة على نقيض فكرة بروتاجوراس، وإن كان أثر الفكرتين متساويًا إلى حَدٍّ بعيد؛ فسواء أكانت جميع الآراء والمعتقدات جَيِّدَةً على حَدِّ قول بروتاجوراس أم أنها جميعًا سيئة كما يقول زينيادس؛ فلا يوجد معيار ثابت يؤكد صحة هذه أو خطأ تلك. وتقول بعض المصادر إن سقراط انتهى إلى نظرة شكوكية في نهاية المطاف على الأقل فيما يتعلَّق بالأمور والمسائل العلمية، حيث لم يجِد ما يبرِّر له تفضيل آراء إمبيدوكليس على آراء أناكساجوراس إذا ما نحَّيْنا كل الأفكار التي تتناول الفيزياء والفلك والأحياء جانبًا، ثم أعلن كما هو مشهور عنه أنه لا يعرف أي شيء حتى بشأنِ المسائل الأخلاقية التي راقت له. ولقد رأينا أنه يجب ألا يحمل هذا الاعتراف على معناه الظاهري، ولكن رغم ذلك نجِد على جانب آخر أن طريقة سقراط في البحث ومنهجه في السؤال كان لهما تأثير واضح على مناهج الشكوكيين اليونانيين فيما بعد.

كانت آراء ديموقريطس كذلك من المنابع التي وردها الشكوكيون كما رأينا؛ فقد وافق ديموقريطس على آراء بارمنيدس وزينون الإيلي التي تشير إلى أن العالم ليس في الحقيقة أبدًا على الشاكلة التي يتبدَّى عليها، وأكد على وجه الخصوص أن الألوان والروائح والطعوم التي ندركها لا تعكس حقيقة الأشياء في جوهرها وإنما الطريقة التي تؤثِّر بها الذَّرَّات الداخلة في تكوينها على حواسِّنَا، فعندما نقول إن السماء زرقاء على سبيل المثال، لا يُعَدُّ ذلك جزءًا من المعرفة وإنما تقليد مقبول فحسب. وهذا البَوْن الشاسع بين المظهر والجوهر هو ما استغله الشكوكيون لتقويض أساس أي محاولة للمعرفة، فإذا كانت الحواس لا يُعوَّلُ عليها فعلام يكون الاعتماد إذن؟ من الجَلِيِّ أن هذا السؤال لم يشغل بالَ ديموقريطس وإنْ كان من الأَوْلى أن يشغله قبل أي شيء، فكيف له أن يتحقق من صحة نظريته الذَّرية؟ وما الدليل القاطع الذي يتجاوز بنا ساحة الشك والرأي إلى أرض المعرفة واليقين؟ والإجابة لدى بيرو وأتباعه أنه «ما من دليل قاطع»؛ ومن ثَمَّ فالبقاء في ساحة الشك والرأي أمر لا مناصَ منه.

ولكن يبدو أن بيرو قد أقدم على فعلٍ ما يتعارض مع آرائه دون وعي، فإذا كانت الشكوكية تَضَعُ جميع الأشياء والظواهر قيد البحث؛ فهناك بعض الأمور التي قالها بيرو لا تبدو متَّسقة مع هذا الرأي. فكما يقول البعض لقد بيَّن بيرو أنه «لا شيء قيِّم ولا شيء منحط ولا عادل ولا ظالم، وما من شيء موجود في الحقيقة. فسلوك الإنسان وتصرُّفاته يعتمدان على العادة والتقاليد، فالحكم على الأشياء مستحيل.» وهو ما يعني أنه لا سبيل إلى المعرفة، ولكن الإشكالية الحقيقية هي أن الشكوكية تعني عدم الإيمان بأي أمر بما في ذلك القول إنه يستحيل الحكم على الأشياء. فكيف إذن لشكوكيٍّ أن يدَّعي أن العادات والتقاليد هي أساس كل شيء؟ ألم يكُن من الأجدر به أن يقول إن العادات والتقاليد «قد» تكون الأساس الذي تنبني عليه الأمور كلها؟ وأن يستحيل «بحَدِّ معرفته» الحكم على الأشياء؟ وعلى نفس الشاكلة نجِد أن صديق بيرو الذي يُدعى أناكسارخوس (الذي تركه في الحفرة المذكورة في القصة آنفًا) قال إن جميع الأشياء التي يراها تبدو كلوحات مرسومة؛ أي إنها أوهام، وهو ما يعني أنها ليست فقط محض أشياء يستحيل التأكد من حقيقتها، بل إنها بالقطع ليست حقيقية أساسًا، وهذا أيضًا ممَّا لا يتفق مع مبادئ الشكوكي الحقيقي. فأنَّى له أن يعلم أن الأشياء مثل اللوحات المرسومة؟ أوَليس من شأن الشكوكي ألَّا يقطع بصحة هذا الأمر أيضًا وأن الأشياء لا يمكن التأكُّد من كونها حقيقية أو زائفة بطريقة أو بأخرى؟

وهذا ما قال به بعض الشكوكيين المتأخرين من أمثال سيكستوس إمبيريكوس حيث حاول هؤلاء الشكوكيون الالتزام بمنهج شكوكي أكثر تفتحًا واتساقًا. فقال سيكستوس إن وظيفة الشكوكي هي جعل الناس يمتنعون عن إصدار الأحكام ويعيشون «بلا آراء». وذلك يتأتَّى من خلال مقارنة جميع الأسباب التي قد تحمل إنسانًا على الإيمان بأمرٍ ما والأسباب الأخرى التي قد تحمله على العدول عنه؛ ومن هنا يصِل به البحث إلى طريق مسدود. فالشكوكي لا يُقَدِّمُ أي نظرية ولا رأي للعالم — حتى إن كان هذا الرأي يقول باستحالة الحكم على الأشياء — وإنما عمله هو التوصل إلى علاج لجميع النظريات وتفكيكها، فكما يقول: «الشكوكيون أناس يملؤهم حب البشر ويتمنَّوْنَ معالجة خداع الدوجمائيين جامدي الفكر (ويقصد بهؤلاء كل من يعتنق فكرة أو رأيًا بشكل قاطع) وتهورهم، والحوار هو سبيلهم؛ فهم يستخدمونه ما وسعتهم الطاقة.» وفكرة التوقُّف عن إصدار الأحكام بالشكل الذي يجعل الناس أكثر استقرارًا وسعادةً تأتي من بيرو، ولكن الطريقة التي يمكن من خلالها الوصول إلى هذه الحياة الخالية من أية اعتقادات والقائمة على تفنيد كل النظريات الظاهرة على الساحة باستخدام الاعتراضات والحجج المضادة؛ تدين بشطر من فلسفتها إلى أكاديمية أفلاطون.

ترأَّس فيلسوف يُدعَى أركسيلاوس (حوالي ٣١٥–٢٤٠ق.م.) أكاديمية أفلاطون قبل وفاة بيرو بفترة وجيزة؛ حيث ابتدأ ما يعرف بالمرحلة «الشكوكية» في الأكاديمية. وقد سبق له أن درس في ليسيوم أرسطو، حيث تقول الأسطورة إنه ترك الليسيوم إلى الأكاديمية؛ لأنه أَحَبَّ أحد رجالها الكبار. وقد عكف كل من سبقه إلى رئاسة الأكاديمية طيلة ٧٥ عامًا بعد وفاة أفلاطون على دراسة كل مذاهب أفلاطون واعتناقها، مثل قصة الخلق في محاورة «طيمايوس» ونظرية المثل. ولكن هذا المنهج لم يرُق أركسيلاوس؛ فقد رأى أن أفضل طريقة يمكن بها الإخلاص لمذهب أفلاطون هي عن طريق الانكباب على منهج سقراط؛ أي من خلال البحث والاستقصاء. وقد أَحَبَّ أن يفعل كما فعل سقراط من الجدال الشديد مع الناس حتى يجعلهم ينطقون بمتعارض القول، وعلى هذا المنهج سارت الأكاديمية لمائتي عامٍ من بعدُ. وقد أضاف هذا بُعدًا فكريًّا أكثر عمقًا للشكوكية، رغم أن سقراط كان ليُدِين جانبًا كبيرًا من هذا المنهج على أنه هراء لا طائل منه.

خصص أركسيلاوس جانبًا كبيرًا من بحثه واستقصائه لدراسة منهج الرواقيين، لا سيما فيما اعتقدوه بشأن المعرفة والإدراك. وكان زينون على رأس الرواقيين الذين بحث أركسيلاوس في مناهجهم (زينون الرواقي وليس زينون تلميذ بارمنيدس). يرى زينون أن بعض الأفكار والمُدرَكات من الوضوح والجلاء بمكانٍ لا تقوم معه الحاجة للتدليل والإثبات؛ فهي بدَهية حيث يمكن للمرء الاعتماد عليها في معرفة العالم من حوله، وبذلك فإن اتِّبَاع هذه الأفكار والانطباعات وعدم الشرود بعيدًا عنها يُمَكِّن الإنسان من أن يحظى بقدرٍ وافر من المعرفة الصحيحة. ولكن أركسيلاوس سرعان ما رفض فكرة الأفكار البدَهِية، فقال: «إن أي انطباعٍ يأتينا من شيءٍ ما لا يقل صحة أو زيفًا عن غيره.» أي إننا يمكن أن نقتنع بالوهم مثلما نُسَلِّم بالأمر الصحيح (وهذه هي النقطة التي تجعلنا نُدرِك الأوهام على أنها حقيقة). ولذلك لا يمكن للمرء أن يُدرِك الفارق بينهما في الحقيقة. فتفاحة مصنوعة من الشمع الأحمر قد تبدو مثل التفاحة الحقيقية دون أدنى فرق، وبذلك سيكون لها نفس الأثر والانطباع على العقل. ومن هنا لنا أن نسأل كيف لنا أن نسلم بصحة الأمور «البدَهِية»؟

اشتهرت هذه الطريقة القائمة على تفكيك المذاهب الفلسفية في الأكاديمية. ولم يمضِ كثيرٌ من الوقت حتى خضعت كل النظريات للفحص؛ ومن ثمَّ ظهر الكثير من المشكلات في هذه النظريات، وبرزت متناقضات عديدة أدَّت إلى عدة استنتاجات غير مُرضِيَة. وعمل الرواقيون وغيرهم من ضحايا هذا الهجوم على التعديل في نظرياتهم، فلم يلبَث أصحاب الأكاديمية حتى أعادوا الكَرَّة عليهم ليطيحوا بهم مجددًا. وهُدمت نظرية الرواقيين الخاصة بالقدَر من جميع زواياها، ونعني بها «الحوار الخامل» الذي كان يشير إلى أن الإيمان بالقدَر يعني أنه لا جدوى من قيام الإنسان بأي عمل. وكان هذا الرأي نتاجًا لهذه الفترة من الشكوكية التي تبنَّتها الأكاديمية يومئذٍ. ظن الرواقيون كما رأينا أن لديهم ما يقولونه بخصوص هذا «الحوار الخامل»، ولكنَّ الأكاديميِّين رَدُّوا على حجتهم؛ وهكذا استمر الجدال بينهم سِجالًا. وعمل الأكاديميون كذلك على الرد على العديد من الحجج التي ساقها الرواقيون للتدليل على سير العالم وفقًا للعناية الإلهية؛ فعندما ادَّعَى الرواقيون أن ظواهر الطبيعة والعالم ليس لها أن تكون إلا بحكم إلهي، قام الأكاديميون بمعارضتهم زاعمين أن قوى الطبيعة قد تكون مسئولة عن هذه الظواهر. وزعم الأكاديميون كذلك أن الرواقيين عند حديثهم عن عقلانية الكون لم يكُنْ لديهم أدنى فكرة عمَّا يتحدَّثُونَ عنه، وهذا صحيح إلى حَدٍّ كبير. كما قضى الأكاديميون أمدًا طويلًا يفنِّدون آراء الرواقيين في الفلك والمعارف الإلهية الأخرى، وقد استخدموا حُجَجًا قوية لا يزال البعض يستخدمها حتى الآن، واستعان بها القديس أوجستين من قبلُ، وإن كان لهذه الحجج تأثير بسيط على معتقدات العامة.

ورغم أن أركسيلاوس كان يشن هجومه على آراء الرواقيين فلم يَسْعَ إلى تدشين نظرية خاصة به أو معتقَد يتميز به. فجُلُّ ما يفعله هو التدليل على أن الحقيقة لا تكمُن في أي جانب من الجوانب، بل إنه أحجم عن ادِّعَاء أنه بالإمكان معرفة أي شيء، فكان يَرَى دائمًا أن أي أمر يُمكن أن يتضمَّن الحقيقة في أي زاوية من زواياه. ويقول بعض النقاد إنه كان ببساطة يسعى إلى استعراض قواه الحوارية عندما يعمد إلى تفنيد أقوال الآخرين؛ فقد قيل: «لم يكن له مثيل في الإقناع، وهذا ما جذب كثيرًا من التلاميذ إلى هذه المدرسة رغم أنهم كانوا يتفادَوْن دائمًا تهكمه اللاذع.» ومن الأوراق القليلة التي بقِيَت من حياته الشخصية يمكننا معرفة أنه كان مسرفًا وكانت له علاقات اجتماعية عديدة، كما كان على علاقات مع المومسات، وكان متعطشًا للشهرة دومًا. ولكن ليس هناك سبب يجعلنا ندَّعِي أن هذه الشخصية اللامعة لم تكن شكوكية مخلصة، بل إن هناك العديد من الأسباب التي تدعونا إلى الحكم عليه بالإخلاص في شكوكيَّته؛ وذلك لأنه حاول التدليل على إمكانية أن يحيا الإنسان دون أن يسبب أية مشكلات في الحياة اليومية.

وقد أجمع الفلاسفةُ منذ عهد أرسطو إلى ديفيد هيوم على أن الإغراق في الشكوكية يجعل الحياة مستحيلة. فقد كتب هيوم عام ١٧٤٨م:

إن متبع منهج بيرو … لا بد له من الاعتراف — إذا قُدِّرَ له الاعتراف بأي شيء — بأن الحياة البشرية لا بد لها من الهلاك عندما تسود فيها كل مبادئه، فسوف تتوقف كل مظاهر الحياة وينعدم الحديث، وسيمكث الناس في سُبَاتٍ عميق، حتى تقوم ضرورات الطبيعة بوضع نهاية لهذه المأساة الوجودية.

رأى هيوم أن أتباع بيرو لا يأكلون ولا يشربون ولا يحفظون أنفسهم من الأخطار؛ لأنه ليس بوسع أحدهم أن يعلم كيفية القيام بهذه الأمور، هل يجب عليه أن يضع الخبز في فمه أم عليه أن يَنْكَبَّ على الحجر فيقضِمه؟ فعامة البشر هم من يعتقدون أن الخبز هو الذي يمد الجسد بالغذاء، أما الشكوكي فيُفترض أنه لا يُقِرُّ بتلك الحقيقة. هل عليه أن يتنحَّى جانبًا إذا رأى فرسًا قادمًا نحوه أم يُلقِي نفسه تحت سنابكه؟ فالشكوكي يجب أن يُحجم عن إصدار أية آراء بشأن هذه الأمور وعليه أن يتحمل العواقب. وقد سَأل أحدُ الكتاب قديًما سؤالًا مشابهًا: «لماذا لا يُقدِم إنسانٌ يُحجم عن إصدار الأحكام على الدفع بنفسه من فوق حافة الجبل بدلًا من إلقاء نفسه في حوض؟ أو لماذا لا يسير ناحية الحائط إذا أراد أن يخرج من بيته بدلًا من التوجه ناحية الباب؟»

أما أركسيلاوس ومَن على شاكلته من الفلاسفة فكانت لديهم ردود على هذه الأسئلة. فالحوض هو المكان الذي يبدو ملائمًا لشخص يَوَدُّ أن ينظف جسده، وهذا يفسر لماذا يتوجه شكوكي إلى الحمام إذا أراد النظافة، وإذا كان الجبل يبدو كما يبدو الحوض فسيذهب الشكوكي إليه دون تردُّد، وبما أنه لا يبدو كذلك فإن الشكوكي لا يتوجَّه إليه. وكذلك فالباب يبدو هو المنفَذ الأنسب للخروج من المنزل، والخبز يبدو أنه يُغَذِّي الجسد، وكذلك فإن فكرة الدهس تحت سنابك الخيل لا تبدو جيدة. فأركسيلاوس يرى أنه على الرغم من أن الشكوكي يُحجِم عن القطع بحقيقة الأشياء فإن له قَدْرٌ من الحرية يُمَكِّنُهُ من الاعتراف بأنها «تظهر» على نحو أو آخر. وكما قال طيمايوس ذات يوم: «لا يمكنني التأكُّد من حلاوة مذاق العسل، ولكنني أوافق على أنه يبدو كذلك.» فالشكوكي تبدو له الأشياء كما تبدو لأي إنسان؛ ولذلك فهو يتصرف كغيره على الأقل في أمور الحياة الأساسية. فهو يتبع غريزته ويسلك وَفقًا للعادات ويتصرف في الغالب بشكل معقول، ولكنه لا يتبنَّى أيَّة آراء عن الحياة أو طبيعة العالم، أو كما يقول سيكستوس فيما بعدُ: «يتبع الشكوكي القوانين والعادات والمشاعر الطبيعية» ولكنه يعيش «بلا آراء أو أحكام»؛ ولذلك إذا سألته عما إذا كان الخبز بالقطع يُغَذِّي الجسد فإنه لن يجيبك؛ لأنه يُحجِم عن تكوين رأي عن هذا الأمر، ولكنك رغم ذلك ستجده دائمًا يجلس إلى موائد الطعام.

وكذلك يمكننا أن نسأل كيف لإنسان يُحجِم عن الحكم على كون الخبز مغذيًا للجسد أم لا، ما دام يضعه دائمًا في فَمِه؟ ولكننا سنؤجل الإجابة على هذا السؤال إلى موضع لاحق. حتى الآن رأينا كيف حاول أركسيلاوس شرح طبيعة حياة الشكوكي وسلوكه في تلك الحياة. وقد ذهب كارنيادس (حوالي ٢١٩–١٩٢ق.م.) أحد رؤساء الأكاديمية بعيدًا في محاولته شرح حياة الشكوكي إلا أن آراءه كانت أخف وطأةً من تلك التي اعتنقها بيرو. فرأى أنه ليس من الضروري ولا من الممكن أن يُحجِم الشكوكي عن إصدار الأحكام على الأمور كافة؛ فرغم أن الشكوكي لا يُمكِنه التسليم بصحة أمر أو رأي فمن المسموح له — كما يقول كارنيادس — أن يُبدِي رأيًا حول ما يبدو في بعض القضايا أو يعترف بصحة بعض الأشياء ظاهريًّا.

figure
كارنيادس.

كانت الأكاديمية تنحو نحوًا بعيدًا عن الشكوكية خلال هذه الفترة، أو هكذا بدا الأمر في أعيُن أتباع بيرو، واستمر كارنيادس في التصرُّف كالشكوكيين ظاهريًّا، فكان يتحاور ويجادل في كل الأمور والقضايا، وكان ينجح في تفنيد جميع الحجج التي يتسلح بها الآخرون. ولكن رغم استمرارِه في ممارسة بعض شعائر الشكوكية في حياته فقد تخلَّى عن الإيمان بها، كما فعل فيلو اللاريسي (حوالي ١٦٠–٨٣ق.م.) أحد قادة الأكاديمية، فيقال إنه أكَّد على صحة عدة أمور وصدَّقها، كما أبدى اهتمامًا ببعض النظريات والمذاهب، وهو ما لم يكن ليَصدُر من أحد أتباع بيرو المخلصين.

وقد كان أنيسيديموس أحد هؤلاء الأتباع المخلصين؛ فقد انفصل عن الأكاديمية في القرن الأول قبل الميلاد ليُؤَسِّسَ اتجاهًا أكثر التزامًا بالشكوكية. ولم يكُن لحركة إحياء أفكار بيرو التي قادها صدًى واسع أو تأثير كبير، بل لم تؤثِّر على عالم الفلسفة بشيء ذي خطر، فكتب شيشرون بعد عقدين من الزمان عن أفول نجم بيرو، ثُم جاء سينيكا بعد ذلك بقرن من الزمان ليؤكِّدَ على انقراضها تمامًا. ولكنهما كانا مخطئَيْن في هذا الشأن؛ فرغم أن البيرونية لم تكن حركةً منتشرة على مستوى شعبي واسع، فقد تطوَّرت بعد عهد أنيسيديموس، بل وصلت إلى ذروتها الفكرية في كتابات سيكستوس إمبيريكوس المولود تقريبًا في منتصف القرن الثاني الميلادي الذي كانت كتاباته من أكبر الذخائر التي أثَّرت على الفكر الأوروبي الشكوكي وشكَّلَته منذ القرن السابع عشر إلى يومنا هذا. فيُمكِن وصف الكثير من المواقف الفكرية طيلة القرون الأربعة المنصرمة بأنها كانت صدًى لهذه الآراء، سواء بمحاولة الرَّدِّ عليها أو بالاتفاق معها. ولكن سيكستوس لم يدَّعِ أصولية آرائه التي اعتقدها، فكثير من آرائه استقاها من أنيسيديموس وشخص آخر غير معروف بالمرة يدعى أجريبا، ولكن لم تصل إلينا آراء هذين الرجلين كما وصلت كتابات سيكستوس. وبما أن أركسيلاوس وبيرو لم يُكَلِّفَا نفسيهما عناءَ كتابة أيٍّ من أفكارهما، فإن سيكستوس هو الشكوكي الوحيد الذي واتته الفرصة للتعبير عن نفسه.

شهِد القرن الأول بعد الميلاد تسمية الفلاسفة الشكوكيين بهذا الاسم، فكانوا في السابق يُدْعَوْنَ البيرونيين أو أتباع بيرو، ولكن ابتداءً من زمن أجريبا أطلقوا على أنفسهم اسم الشكوكيين. وترجمة الكلمة من اللاتينية تعني «الباحثين» أو «المستقصين». عرَّف سيكستوس الفلسفة البيرونية التي أحياها في إطار ثلاث نقاط تتبدَّى لدى البحث في أي موضوع: فإما أن يظن الباحث أنه عثر على الحقيقة، أو أنه لا سبيل للوصول إلى الحقيقة، أو الاكتفاء بالبحث عنها. والشكوكيون هم هؤلاء القوم المنهمكون في بحثٍ دائم عن الحقيقة دون الاهتداء إليها، أما أرسطو وأبيقور والرواقيون فهم نماذج لهؤلاء الذين ادَّعَوُا العثور على إجابات على الأقل لبعض الظواهر، ويصِفُهم سيكستوس ﺑ «الدوجمائيين»، أما بيرو فكان مثالًا رائعًا على مقاومة إغراء الدوجمائيين في الإجابة عن أي أسئلة.

ولكن لماذا يلجأ الناس إلى الشكوكية ويُحجِمون عن التسليم ببعض الإجابات؟ يجيب سيكستوس قائلًا إن السبب يرجِع إلى القدْر الهائل من الطمأنينة والاستقرار الذي يوفِّره الإحجام عن التسليم بالإجابات، وهو ما وقع مصادفةً عندما كان الشكوكيون الأوائل (كما يقول سيكستوس) يسعَوْن إلى العثور على حقيقة الأشياء، فلما عجزوا عن الوصول إليها توقَّفُوا عن تبنِّي الآراء القاطعة أو إصدار الأحكام، فشعروا بعدها أنهم يَحْظَوْنَ بقدرٍ وافر من الطمأنينة؛ وبذلك وجدوا أن الطمأنينة تكمن في التوقف عن إصدار الأحكام وليس في البحث عن الحقيقة. وقد شرح سيكستوس هذه النقطة من خلال قصة تدور حول رسام يُدعَى أبيليس كان يرسم حصانًا وأراد رسم رغوة تخرج من فمه، فجرَّب جميع الأساليب والأدوات حتى كاد يفقد أعصابه، فالتقط من الأرض إسفنجة كان يستخدمها في مسح فرشاته، وألقى بها تجاه اللوحة، فصنعت الإسفنجة التي ألقاها الأثرَ الذي أراده تحديدًا في اللوحة على نحو مُذهِلٍ. وكذلك هو الأمر مع الشكوكيين، فإنهم دائمًا يُلقُون الإسفنجة التي تؤتي ثمارها دائمًا؛ «فعندما يتوقفون عن تبني الآراء تخيم عليهم الطمأنينة بفعل الصدفة.»

تكبَّد سيكستوس الكثير من العَنَاء في شرح فائدة الإحجام عن تبنِّي الآراء، فوضح أن الخطوة الأولى تكمُن في التسليم بأن جميع الشكوكيين لا يتبنَّوْنَ أية نظريات فلسفية، حتى تلك الأقوال التي من قَبِيل: «لا شيء يُمكِن معرفته»، أو القول إن «كل شيء نسبي.» فإذا وجدتَ شكوكيًّا ينادي بأن «لا يمكن الحكم على شيءٍ ما»، أو يقول «لكل نظرية تدور حول أمرٍ ما، توجد نظرية مختلفة على نفس الدرجة من الصحة تبحث في الأمر نفسه»، فلا يعبر ذلك إلا عن عدم اقتناعه بأيٍّ من الآراء المتداولة حول الأمر محل النقاش. وهذا يقودنا إلى أنه ليس بالإمكان وصف الشكوكي بالدوجمائية؛ فلا يمكن أن تحرجه بسؤال مثل: «أنَّى لك أن تعرف استحالة معرفة الحقيقة؟» أو «كيف لك بمعرفة أن هناك دائمًا بدائل عديدة وآراء بديلة؟» لأنه في الحقيقة لا يدَّعِي ذلك، فربما يُتوصَّل إلى معرفة حقيقية يومًا ما، وربما يأتي يوم يتوصل فيه شخص ما إلى نظرية تبدو مقنعة أكثر من غيرها، إلا أن الشكوكي لا يعتقد وصول هذا اليوم بعد.

وعندما يعارض الشكوكي أحدَهُم بعرض وجهةِ نظرٍ معارضةٍ، فهو في الحقيقة لا يتبنَّى وجهة النظر الأخرى، فكل ما يقوم به هو عرض البدائل على سبيل الجدال، فعندما يستشهد سيكستوس بالعقائد العديدة الموجودة لدى مختلف الأمم، فهو لا يُحاوِل إثبات صحة هذه العقائد أو إثبات خطأ اليونانيين، وإنما يسعى إلى زعزعة إيمان اليونانيين ليجعلهم أكثر استعدادًا لقَبُول آراء الآخرين. وهو ما يفسر عدم نجاح هجوم أبيقور على الشكوكية، فقد قال أبيقور ولوكريتيوس إن الشكوكي الذي يمارس الشك في جميع الأمور لن تكون لديه أرضية ثابتة يقِف عليها؛ أي ليس لديه معايير يقيس بها صحة الأمور وبذلك فلا جدوى من ادِّعائِه زيف المعتقدات الأخرى. أما الشكوكي الحق فهو الذي لا يسعى إلى تكذيب المعتقدات والآراء الأخرى، فهو يحاول أن يجعلنا نتساءل بشأنها فحسب، على أساس أن هذا سيجنبنا الوقوع في شَرَك الدوجمائية؛ وبذلك فالشكوكي لا يحتاج إلى أرضية يقف عليها بل يريد أن يُوقِف الأحكام والآراء من الذيوع والانتشار وحسب.

وقد حاول سيكستوس كذلك إيضاح كيفية انسجام هذا التحليق الفكري مع الحياة العادية؛ فقال إن هذا التوقُّف عن تبنِّي الآراء والأحكام لن ينطبق على كل صغيرة وكبيرة في الحياة، وإنما على الأمور التي يكثُر الخلاف حولها. كما يرى سيكستوس ضرورة ترك الشكوكي لكل الأمور التي يتجادل الناس بشأنها أو الموضوعات التي تحتاج إلى البحث والتفكير على حالها قيد البحث. إلا أن فكرة عدم إصدار أحكام على الأمور أو القطع بصحة أحدها دون غيره لا تعني نبذ الشكوكي للتعبير عن الأشياء كما تظهر له، فيمكن أن يقول على سبيل المثال إنه «يشعر» بالحر أو البرد (أو كما يقول تيمون: العسل «يبدو» حُلوَ المذاق)، وله أن يقول كذلك إن الخبز «يبدو» مغذيًا للجسد، أو أن يقول إن الطقس «يبدو» وكأنه يوشك أن يسوء. ففكرة عدم القطع بصحة دليل ما أو اعتناق رأي ما لا تُثني الشكوكي عن الحديث عن أمور بسيطة وتافهة كتلك؛ لأن مثل هذه الأحاديث عن الطقس أو تغذية الخبز للجسد لا تُعدُّ من قبيل اعتناق الآراء:

عندما نقول إن الشكوكيين لا يتبنَّوْن آراءً فإننا لا نعني بذلك … أنهم يرفضون كل الأمور وينبذون كل شيء، فالشكوكيون يُذعِنون للمشاعر التي تستقبلها أعضاء حِسِّهِم من مختلف الظواهر؛ ولذلك فإنهم عندما يشعرون بالبرد أو الحر لن يقولوا: «أعتقد أنني لا أشعر بالحرارة أو البرودة.» وإنما الشكوكيون هم من يرفضون تبنِّي آراء بخصوص المسائل العلمية التي لا تبدو واضحة وجلية.

والعلوم لا تبحث في الأمور الشخصية مثل شعور الفرد بالحرارة أو البرودة، فهذه الأمور ليست محلًّا لنزاع أو خلاف، ولا يعتريها غموض ولا التباس يجعل الشكوكي يلقي لها بالًا. يقول سيكستوس إن الشكوكيين يسيرون خلف المظاهر اليومية العادية كما يسير الطفل الصغير خلف وَصِيِّه، والوصي في هذه الحالة هو الطبيعة التي تَمُدُّنَا ببعض الأفكار والخبرات والدوافع؛ فللإنسان من الغرائز الطبيعية ما يدفعه إلى السُّبُل التي تمكنه من إشباع هذه الغرائز، فالجوع كما يقول سيكستوس يقودنا إلى الطعام؛ ولهذا السبب يتناول الشكوكي الطعام كأي إنسان، فالإقدام على مثل هذا السلوك يُعَدُّ من قبيل الاستجابة الآلية للمظاهر، وليس للرأي أو الحكم دور في هذه الحالة، فهذا السلوك يُشبِه إقدام البقرة على تناوُل العشب دون تفكير أو اكتراثٍ بأسباب أخرى، وهو ما يعني أنه في هذه الأحوال لا توجد مساحة للآراء ليُحجِم عن الإدلاء بها.

وكما يكون الشكوكي على استعداد إلى السير خلف المظاهر فيقول إن الخبز يغذي الجسد، فهو كذلك يرى أن السير على المنحدرات أو في وسط الطريق أفكار لا صحة لها، وكما قال أركسيلاوس حينما كان يدافع عن بيرو، فإن الشكوكية لا تَحُول دون أن يحيا الشكوكي حياةً آمنة خالية من الإصابات، بل إن الشكوكي يعيش حياة تقليدية طبيعية وفق القوانين التي يسير عليها المجتمع، كي لا يُسَبِّبَ قلقًا أو اضطرابًا. ولا شك أن الشكوكي يُضْطَرُّ إلى التصدي لأي محاولة يقوم بها من لا يتحلى بالقدر الكافي من الحكمة، فيحاول الدفاع عن التفسير العقلي لهذه القوانين أو حتى تفنيدها أو معارضتها، فكان الشكوكي ليتصدى بالرد على هذا الشخص أيًّا كان موقفه من هذه القوانين؛ ليبرهن أن المرء عليه أن يتوقف عن إصدار الأحكام أو تبنِّي الآراء بخصوص صحة أي نوع من القوانين؛ لأن هناك دائمًا ما يعضد آراء الطرفين، ومن الأفضل ألا يختلق المرء هذه النزاعات من الأساس ليعيش في وفاق مع مظاهر الحياة اليومية دون أن يُكَدِّرَ فكره بها. وليس الدين عن ذلك ببعيد، حيث يقول سيكستوس: «لن يرفض الشكوكي — من منطلق التوافق مع عاداته القديمة والأفكار العامة التي يتبعها الجميع — فكرة وجود الآلهة ما دامت القوانين العامة تعتقد في وجودها، ولكن إذا دخل في نقاش فلسفي بشأن وجودها فإنه لن يتسرع في الحكم.» فالأدلة الدوجمائية والتأمُّلات اللاهوتية لا مفر من مناقشتها. والشكوكيون رغم ذلك سيُقَدِّرُونَ مسألة الطاعة والولاء التي يَرَوْنَ أنها أمرٌ طبيعيٌّ للإنسان المتحضِّر من منطلق كونها فكرة شائعة في المجتمع.

ولا يمتد تسليم الشكوكيين ﺑ «المشاهدات اليومية» إلى العادات والتقاليد وأمور الولاء والطاعة فقط أو «الأمور المعتمدة على المشاعر السلبية والأشياء التي لا تقع على طاولة البحث»، وإنما يمتد كذلك إلى بعض أشكال الخبرة في العلوم التطبيقية، فيرى سيكستوس أن على الشكوكي الاعتماد إلى حَدٍّ ما على بعض نتائج العلوم التطبيقية، بشرط أن تكون هذ العلوم مهتمَّةً بجمع المعلومات والبيانات دون أن تتضمن أي نوع من التنظير الدوجمائي. فبينما تقَع التأمُّلات المجرَّدة التي لا تستند إلى أدلة في مجال علم التنجيم في دائرة الشك لدى الشكوكيين، لا يَلْقى الفلكُ الذي يدرسُ بعضُ الباحثين المهرة سماءَهُ وأفلاكَه اعتراضًا من جانب الشكوكيين؛ «لأنه يتضمَّن جمعًا للمعلومات عن ظاهرةٍ ما كما يحدث في الزراعة والملاحة حيث يمكن — عبر جمع المعلومات — التنبؤ بالفيضانات والزلازل والعواصف والطاعون»، وكذلك فإن الشكوكي قد يستخدم الهندسة والرياضيات للقياس والحساب (مثل نظرية أفلاطون التي تقول إن الخط المستقيم يتكوَّن من مجموعة من النقاط)، أو الأفكار الفيثاغورية المتعلقة بأهمية الأرقام.

كان سيكستوس طبيبًا متمرِّسًا في الطب شأنه شأن كبار الفلاسفة الشكوكيين، وكان من أنصار ما يُسَمَّى بالمنهج التجريبي في الطب، الذي يُعَدُّ مثالًا جيدًا على نوع المعرفة التي كان الشكوكيون على استعداد لقَبُوله. كانت التجريبية رد فعلٍ على المأزق الذي ألمَّ بعالم الطب؛ فحين قال الطبيب الكبير أبقراط إن ممارسة الطب يجب أن تعتمد على نظرية تُشَرِّحُ تكوين الجسد وأسباب الأمراض التي تصيبه، ورغم ما في هذه النصيحة من حكمة، فسرعان ما ظهر العديد من النظريات المختلفة المتضارِبَة في الطب. وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي ضرب فريق من الأطِبَّاء صفحًا عن هذه النظريات موضِّحِين أنهم ليسوا في حاجة إلى أيٍّ منها، وكان هذا الفريق من الأطباء التجريبيين. كان الطب التجريبي الجيد يعتمد على الخبرة في المقام الأول، فعلى الطبيب أن يلاحظ أنواع الدواء التي أثبتت جدارةً في علاج أعراض مرض ما في الماضي، فيعتمد على نتائج هذه التجربة دون الاعتداد بأي أمرٍ آخر؛ وبذلك فلا حاجة إلى الانشغال بالنظريات المعقدة التي وضعها الأطباء الدوجمائيون (المعروفون كذلك بالعقلانيين) التي تتضمن مزاعمهم عن التوازن بين «الأخلاط» الأربعة بالجسد وهي: الدم والبلغم والصفراء والسوداء، أو حديثهم عن حركة ذَرَّات غير مرئية خلال ثغرات غير مرئية كذلك بالجلد، وكذلك ليس على الطبيب أن يبحث عن الأسباب الخَفِيَّة للمرض عند التشخيص، فعلى سبيل المثال إذا حدث أن أصيب إنسان بمرض داء الكلب، وكانت أعراض هذا المرض تظهر دائمًا عقب عضة كلب مسعور، فليست هناك حاجة لتشخيص المرض ما دامت لدينا تجربة سابقة تقول إن هذه الأعراض لا تظهر إلا مع هذا المرض، واعتمادًا على هذه الطريقة يمكن استخدام أيٍّ من أساليب العلاج القديمة.

كانت هناك مدرسة أخرى تعارض الآراء الدوجمائية ولكنها كانت تقبل النظريات بصدرٍ رحب، وترى العثور على الأسباب الخفية أمرًا ممكنًا. وقد توافق الأطباء الذي عُرِفُوا ﺑ «المنهجيين» مع الأطِبَّاء التجريبيين على أن الخبرة البسيطة تكفي لعلاج مريضٍ ما، ولكنهم اعتقدوا أن بمقدور الإنسان العثور على الأسباب غير الواضحة المسبِّبة للأمراض ذات يومٍ. وأشار سيكستوس إلى أن المدرسة المنهجية هي التي وفَّرت مادة علمية جَيِّدَة للفلسفة الطبية التي اعتمدها الشكوكيون، (وربما كان من الأفضل أن يُسمَّى سيكستوس المنهجي بدلًا من سيكستوس التجريبي). ففي الوقت الذي كان التجريبيون يعارضون بشدة فكرة أن معرفة الأسباب الخفية أو النظريات الخفية تساعد في العلاج، أحجم المنهجيون عن إصدار حكم معين.

وقد يدعونا هذا إلى التساؤل بخصوص متى يمكن لأحد الأطباء المنهجيين أو التجريبيين التفريقُ بين الأسباب الغامضة والأخرى الواضحة؟ فكان على الفريقين أن يُحَدِّدَا دور العوامل الداخلة في مجال البحث، كما كان عليهما أن يوضحا الأساس الذي تقوم عليه التفرِقة بين الملاحظة المقبولة للظواهر والبحث غير المقبول في الأمور المبهمة، فلا شك أنَّ ما قد يبدو جليًّا لشخص ما قد يكون غامضًا لآخر، فما يُمكِن أن يدركه أحد الخبراء بسرعة فائقة قد يستدعي من غيره إطالة التدبُّر والتفكير؛ وبذلك فإنَّ الحَدَّ الذي تنتهي عنده حقائق الخبرات الواضحة لتبدأ عنده النظريات القابلة للبحث ليس واضحًا. ومثل هذه الألغاز يمكن أن تتسبَّب في مشكلة للنظرية الشكوكية برُمَّتِهَا؛ لأن الشكوكيين يعتمدون دائمًا على التفريق بين الخبرة اليومية (أو «المظاهر») وبين المسائل العقلية الفلسفية، ولا شَكَّ أن الشكوكيين في حاجة للتفريق بينهما؛ لأنهم يُحجِمون عن إصدار الأحكام عن الأخيرة فقط. ولنأخذ على سبيل المثال معتقَدًا دينيًّا منتشرًا إلى حَدٍّ كبير في أحد المجتمعات، ولنفترض أن بعض الناس يُسلِّمُون بصحة هذا المعتقد في حين أن آخرين يتجادلون في أمره، ماذا على الشكوكي أن يفعل في هذه الحالة؟ هل عليه التوقُّف عن تبنِّي رأيٍّ ما بخصوص هذه المسألة أم عليه السير خلف رأي العامة البسطاء؟ وكيف يمكنه تحديد ما إذا كان هذا المعتقد يمت إلى عالم العقل بصلة تكفي للشك فيه؟

يبدو أن الشكوكيين لم يتصدَّوْا لهذه المشكلة، وربما لم تكن هناك حاجة تدعوهم لهذا. تذكر أن الشكوكية ظهرت بوصفها علاجًا للتهور والقلق الفكري والعقلي، ولذلك فإن الإجابة عن هذا السؤال يجب أن تكون عملية؛ فالشكوكية تنطبق على كل من يحتاج العلاج، فإذا تَبَيَّنَ للشكوكي أن الناس أصبحوا متعصبين لأمرٍ ما يقلق سكينتهم وطمأنينتهم، فإنه سيسعى إلى علاجهم من خلالِ تفنيد هذا المعتقد، وكذلك إذا وَجَدَ نفسه قلقًا بشأن أمر ما فإنه سيستخدم أدواته الشكوكية لعلاج نفسه والتوقُّف عن تبني هذا الموقف، وإذا كان الأطباء لا يستطيعون التوقُّف عن الشجار بخصوص أسباب أمر ما، فإن الشكوكي سيحاول إقناعهم بالعدول عن البحث عن الأمور الخفية والاكتفاء بالظاهر منها؛ لأن الحديث عن هذه الأمور يقود إلى نزاع لا نهاية له. وبصفة عامة فإنه سيحدد الأمر الذي ينبغي أن يُلقِي عليه ظلال الشك بالبحث عمَّا يسبب القلق أو الاضطراب، وربما يبدأ بأسوأ هذه الحالات التي يأتي على رأسها نزاع الفلاسفة والعلماء الذين يسعَوْن إلى إلقاء الضوء على الأجزاء الغامضة التي تكمن خلف الظواهر اليومية، وهذا بلا شك أمر يحتاج إلى علاجٍ؛ ولذلك فإن عقائدهم ستكون محل كتابات الشكوكيين، أما فيما يخص المعتقدات العامة مثل المسائل الدينية فلن يتناولوها إلا إذا سببت نزاعًا.

قال سيكستوس إن الحجج التي يستخدمها الشكوكي هي كالعلاج الذي يطهر البدن؛ فهي تخرج جميع الاضطرابات الفكرية من تكوين الإنسان. فعلاج الشكوكي يُشبِه العلاج الطبيعي لما له من فعالية متفاوتة حيث «يستخدم الشكوكيون حججًا قوية تستطيع علاج من أُصِيبَ بغرور دوجمائي، وكذلك المصابون بالتهور الشديد، ويستخدمون حججًا أقل قوة في علاج المصاب بغرور سطحي نظرًا لسهولة علاجه». ومن المهارات الواجب توافُرُها في المعالج أيًّا كانت الحالة التي بين يديه المقدرةُ على صياغة الاعتراضات، بمعنى أنه ينبغي له أن يكون ماهرًا في عرض مختلف الأفكار والمعتقدات والسلوكيات والقيم وتوضيحها بكل تنوعاتها واختلافاتها، بالطريقة التي تساعد على توسيع آفاق العقل كثيرًا حتى يتوقف عن إطلاق الأحكام.

وكثيرٌ من هذه «الاعتراضات» يجب أن يراعي الظروف الخارجية التي تحدث فيها عملية الإدراك، بجانب مراعاة الحالة الفسيولوجية والعقلية للمستقبِل، فضلًا عن مراعاة الحالة الجسدية له. وقد شدَّد آخرون على أهمية الدور الذي تلعبه التنشئة والبيئة في تكوين آراء الناس واختلاف أذواقهم، واهتم آخرون بالأساطير والقوانين السائدة في بعض الأماكن، ولكن الهدف كان واحدًا من كل هذا؛ فالفكرة من عرض كل هذا الاختلاف هي التدليل على أن ما يعتقده الناس أو يشعرون به — أي ما يبدو لهم حقيقيًّا أو جيدًا أو مرغوبًا فيه — يختلف باختلاف الظروف؛ أي كما يقول سيكستوس: «لا شك أنه من السهل أن نقول كيف يبدو أمرٌ ما بالنسبة لشخص ما، ولكن ليس من الممكن القطع بإمكانية معرفته في جوهره.»

وبعد أن يوضح الشكوكي أن المظاهر تختلف اختلافًا كبيرًا، وأنها تعتمد على الظروف المختلِفة التي تنبع منها؛ فإنه يشكك في الأسباب العقلانية التي تجعل أحد الدوجمائيين يقطع بصحة أحد المظاهر ويضعه في مرتبة أعلى من غيره، أو يدَّعي أن هذه المظاهر تُعَبِّرُ عن الكون حقيقةً. حيث يتساءل الشكوكي عن السبب الذي يدفع الدوجمائي إلى القول إن المعتقدات التي يراها من وجهة نظره ووفق ظروفه هي الصحيحة دومًا؟ وأيًّا كانت إجابة الدوجمائي على هذه الأسئلة فإن الشكوكي دائمًا على استعداد بحجج مضادة. ولنفترض أن هذا الدوجمائي حاول أن يعضد موقفه بشأن حقيقة الأشياء عبر الاستشهاد برأي آخر على أنه دليل على صحة رأيه؛ فإن الشكوكي سيسعى إلى تعجيز هذا الدوجمائي بأن يطلب منه إثبات صحة هذا الدليل، ليسير الجدال على هذه الشاكلة. فالشكوكي يرى أن هذه السلسلة من التبريرات لا بد لها من الوصول إلى نقطة نهاية يعجز بعدها الدوجمائي عن التبرير وسَوْقِ الأدلة، فعندما يحاول الدوجمائي أن يستقر على رأي أخير؛ فإن الشكوكي سيثبت أنه لا يستند إلا إلى حجة واهية، بل ويمكن أن يثبت الشكوكي أن الدوجمائي كان على خطأ عندما طرح السؤال للمرة الأولى. وبهذا نرى أن الحوار يسير في دائرة مغلقة، (وقد هاجم أحد الفلاسفة كريسيبوس لاستشهاده بالكهانة على أنها تدل على وجود القدر وأن وجود القدر يُعَدُّ دليلًا على الكهانة.)

لا تخلو جعبة الشكوكي من الحجج التي يستخدمها لعلاج خصمه ليجعله يتوقف عن إصدار الأحكام، فإذا فشلت جميع هذه الحجج فإن الشكوكي يستعين بحقيقة أن البشر لا يمكن أن يُجمِعوا كلهم على رأي واحد؛ أملًا في أن تخفف هذه المحاولة من تسرُّع خصمه الدوجمائي. فكما يقول سيكستوس حتى إذا وافق الناسُ جميعًا على أمرٍ ما فقد يكون هناك عرق ما أو جنس غريب يرى الأمور من منظور مغاير؛ فأنَّى له أن يقنعهم أنه على صواب وأنهم على خطأ. والناس لا يختلفون فقط في آرائهم السببية وملاحظاتهم، فالخبراء أنفسهم يظلون في خلاف حتى بعد بَذْلِ الكثير من الجهد، وكما يقول أحد دارسي الشكوكية:

إن هؤلاء الذين يُجِيدُونَ اصطياد الجوهر البيِّن في الأشياء ينقسمون إلى كتائب وفصائل، ويضعون قواعد لا تتعارض فقط مع رؤية شخص ما حول نقطة معينة بل مع جميع النقاط، صغيرها وكبيرها، التي تقع في نطاق أبحاثهم.

ففي آلاف الموضوعات التي تعج بها فروع المعرفة كافة بما فيها العلوم «يوجد العديد من التساؤلات، ولكن حتى هذه اللحظة لم يُتوصل إلى اتفاق بشأن أيٍّ منها»، وإذا كان الخبراء لا يستطيعون النفاذ إلى باطن الأشياء فكيف يكون الأمر مع العامة؛ ولذلك فالأفضل هو التوقُّف عن تبني الآراء أو إصدار الأحكام.

•••

ومن الحقائق الواضحة التي تعضد جانب الشكوكيين في ادِّعَائِهِم أن الدوجمائيين لا يعلمون شيئًا؛ أنهم كانوا مُحِقِّينَ في هذا الشأن. فمن خلال المعايير التي نتبناها الآن نستطيع الحكم على خطأ جميع النظريات القديمة (عدا نظريات الرياضيات)، وهؤلاء الذين ظَنُّوا أنهم يعرفون الكثير من الأشياء لم يكونوا هكذا بالفعل كما قال الشكوكيون. ورغم ذلك سيقال إن الوضع مختلف اليوم؛ فربما كان اليونانيون مخطئين بشأن جميع الأمور، في حين أن الإنسان المعاصر يحظى بقدر وافر من المعرفة، وإذا كان للشكوكيين موقف ما في العصور القديمة فلا بد أن هذا الموقف قد ضعف هذه الأيام.

وسواءٌ توصلنا إلى معرفة الحقائق المتعلقة بقضية فلسفية تاريخية أم لا، فإن الجدل والحديث بشأنها لن ينقطع ما دامت الحياة. ورغم ذلك فمن الجدير بالملاحظة أن نوع الخلاف الناشب بين الخبراء من سالف الزمان لا يزال عالقًا معنا حتى يومنا هذا. فالكثير من الأمور التي أثارت فضول القدماء وحيَّرتهم لم نصِل فيه إلى نتائج حاسمة، وإن تغيَّر شكل الخلاف حوله بعض الشيء. فالفيزيائيون ربما لا يختلفون هذه الأيام بشأن عدد العناصر أو فكرة وجود العدم بقدر الخلاف بشأن نظرية الأكوان المتوازية أو نظرية الثقوب الدودية في الزمكان وشكل الكون القديم، وكلها أمور لم يتوصل فيها أحد لنتائج حاسمة بشأنها بعدُ. وبالانتقال من الطب إلى الفلك نقابل العديد من الأسئلة التي تنتظر إجابات. يؤمن خبراء العصر الحالي أنهم باتوا على بعد خطواتٍ من سبر أغوار الحقيقة، ولكن هذا دأب الخبراء والعلماء وديدنهم. ولا يقتصر الأمر على الموضوعات العلمية فحسب، فقد استخدم سيكستوس عدته من حججه الشكوكية ضد علوم الإنسانيات التي ظهرت في عصره (ضد نظريات الموسيقى واللغة على سبيل المثال)، ولكن لم تكن لديه المقدرة على صياغة الكثير من الاعتراضات على العلوم الأحدث مثل الاقتصاد وعلم النفس والاجتماع.

وسواء أكانت حجج الشكوكيين ذات تأثير فعَّال في التصدي للدوجمائيين المعاصرين أم لا، فإن هناك الكثير من علامات الاستفهام حول الشكوكيين القدماء وأساليبهم، منها على سبيل المثال: كيف يمكن أن يؤدِّي الدخول في جِدال مستمر مع الناس إلى إحداث الهدوء والسكينة؟ فإذا كان الشكوكي يقدر السكينة كما يقول دائمًا فلماذا يقضي وقتًا طويلًا في النقاش والجدال؟ كما أن ثمة أمرًا يدعونا للتشكُّك في صدق دعوى البحث والاستقصاء إذا كان الباحث يرفض جميع الآراء. فقد كتب بيير بايل في «القاموس التاريخي النقدي (١٦٩٧م)» مبينًا: «أن (بيرو) بحث طِيلة حياته عن الحقيقة، ولكنه كان دائمًا يصوغ الأمور بشكل يجعله يبدو وكأنه لم يعثُر على شيء ولم يهتدِ إلى برٍّ.»

وقد يجيب أحد أتباع بيرو قائلًا إن القلق والاضطراب الذي يُحدثه الانشغال بالبحث عن جوهر جميع الأشياء لا يُعادِل الطمأنينة الناتجة عن التوقُّف عن إصدار الأحكام وتبنِّي الآراء. ويبدو أن الشكوكيين وجدوا أنَّ لَذَّةَ الاحتفاظ بعقل متفتِّح تجاه الأمور كافة تفوق سعادة العثور على الحقيقة. ويرى سيكستوس أن ثمة أخطارًا تكمن في الاعتقاد في التوصُّل إلى حقائق الأشياء؛ فهذا يجعل المرء يدرك الأمور الصالحة من الفاسدة، وهي حالة تجعله في قلق أبدي. فالإنسان الذي لا يعرف الحقيقة يظل ساعيًا وراءها، وإذا عثر عليها فإنه لن يكون مطمئنًّا، فعندما يصل الناس إلى ما كانوا يسعون إليه «فإنهم يسعدون بذلك أيما سعادة، فيبذلون قصارى جهدهم خشية فقدان ما يرونه خيرًا وصلاحًا». والشكوكية هي الحل الوحيد للخلاص من هذه الدوامة، فالناس الذين يتمتعون بالحكمة التي تجعلهم يُحجمون عن إصدار الأحكام بشأن صحة الأشياء أو زيفها «لا تجدهم منشغلين بشدة بهذه القضايا ولذلك فهم ينعمون بالسكينة».

وقد اعترف سيكستوس بأن المنهج الشكوكي لا يمكن أن يخلص الحياة من كافة أشكال المحن وألوان الشدائد، فبما أن الشكوكيين بشرٌ فإنهم سيكونون عُرضة لصروف الدهر، «نحن نوافق على أنهم أحيانًا يرتعدون ويعطشون وينتابهم الكثير من المشاعر المشابهة لذلك». ورغم ذلك نجد الشكوكيين يقللون من حجم المِحَن التي تصيبهم بأن يُنَحُّوا جانبًا جميع الآراء التي قد تجعلهم أسوأ حالًا مما هُمْ عليه.

ولكن لسوء الحظ، على الشكوكيين التخلِّي كذلك عن كثير من الآراء التي تجعل الحياة سعيدة، فبجانب الإحجام عن الحكم على الأشياء بالسوء فإنهم لا يحكمون عليها بالخير أيضًا، ويبدو هذا ثمنًا غاليًا للغاية في مقابل الطمأنينة؛ لأنه يعني التخلِّي عن الكثير من متع الحياة اليومية. فلن يكون هناك مجال كي يسعدَ إنسان بحصوله على ترقية في وظيفته؛ فأنَّى له أن يعرف أن هذه الترقية تحمل له خيرًا؟ سيقول الشكوكي إنه من الأفضل التوقُّف عن الحكم على القضية برُمَّتِها ومن ثم يضحي الإنسان بسعادته التي تنشأ عن التفكير في أنه تمكَّن أخيرًا من تحقيق حلمه. فالشكوكي يقول إنه حتى في حالة التأكُّد من حجم الخير الذي تحمله هذه الوظيفة فإن ذلك سيدفع المرء إلى القلق خوفًا على فقدها. ولكن هذا رأي فيه نوع من المغالاة، والكثير من الناس سيعترضون على هذه الفكرة؛ لأنه من المستحيل علينا كبشر تَبَنِّي موقف منعزل عن آلام الحياة ومتعها.

وربما هذه هي النقطة الرئيسة في الموضوع. ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن العديد من الفلسفات الهيلينستية كان يسعى لسد حاجات الإنسان البسيط، فإن جانبًا كبيرًا من الأمور التي حاولوا أن يوصلوها له كان أفكارًا ملهمة ومثالية. فلم يكن من المفترض أن تُكتسَب الحكمة بسهولة ويسر، فلكي يحيا الإنسان حياة الحكماء كان لا بد أن يتكبد في سبيل ذلك ألوانًا من المشقَّة والعناء. أما الأفكار المثالية فلم تُجعل كي تُطَبَّقَ كما هي بل نتخفف منها بعض الشيء، وقد كانت الشكوكية إحداها. وعندما رجع الناس إلى آراء الشكوكيين القدماء بعد أعوام مؤلَّفَةٍ من الإهمال، كان الفلاسفة والعلماء ينتقون منها ما يمكنهم من معرفة البيرونية في الوقت الذي غَضُّوا الطرف فيه عن أجزاء أخرى من هذه الفلسفة. وقد كانوا بحاجة إلى وراثة خصال التفتُّح الذهني والتسامُح والاحتراس الفكري من الانسياق خلف أي فكرة، وكذلك ترحيب الشكوكيين بالاعتماد على التجربة، ومقاومتهم الصحية للتعصب. في حين أنهم لم يهتموا كثيرًا بالفكر البيروني الذي «يؤثِر الحياة دون اعتناق آراء». وسنرى في نهاية الفصل التالي كيف نضج هذا الميراث الشكوكي، ولكن لا بد أولًا من إلقاء الضوء على ما حدث قبل ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤