الفصل الثاني

تناغم العالم: الفيثاغوريون

كانت الروايات حول فيثاغورس تطارده وتلتصق به كما تلتصق برادة الحديد بالمغناطيس؛ فقد قيل على سبيل المثال إنه ظهر في أماكن عدة في وقت واحد، وإن روحه قد تناسخت عدة مرات. وإذا أخذنا هذا الكلام على محمله يمكننا ضَمُّهُ إلى المجموعة الغفيرة نفسها من الروايات التي تشمل الادِّعاء بأنه كان يمتلك فخِذًا ذهبية، ولكن إذا فكرنا في هذا الكلام بشكل رمزي فهو تقليل من شأن الرجل؛ فقد كان فيثاغورس — أو على الأقل المذهب الفيثاغوري — موجودًا في كل مكان ولا يزال.

ولا يوجد طالب على وجه الأرض لم يسمع بهذا الاسم مرتين على الأقل في الهندسة (حيث تُنسب إليه النظرية الشهيرة حول أطوال أضلاع المثلثات قائمة الزاوية) وكذلك في مسرحية شكسبير «الليلة الثانية عشرة»:

المهرج : ماذا يقول فيثاغورس عن الطيور الجارحة؟
مالفوليو : يقول إن روح المرأة العجوز قد تسكن جسد طائر.
المهرج : وما قولك في رأيه؟
مالفوليو : إنني أقدر للروح مكانتها ولكني لا أوافق على رأيه مطلقًا.
المهرج : الوداع، ولتبقَ حيث أنت في الظلام. عليك أن تؤمن برأي فيثاغورس قبل أن تثق بعقلك، ولتخشَ قتل دجاجة على الأرض مخافة أن تضيع روح جدتك.

وكما لو أن المثلثات وتناسُخ الأرواح لم تكن موضوعات متنوِّعة بما فيه الكفاية، بوسعنا القول إننا نجد فيثاغورس أينما استخدمنا التعبيرات الحسابية مثل «مربعات» أو «مكعبات» أو مررنا بالصورة الشعرية ﻟ «الموسيقى السماوية» أو استخدمنا مصطلح «فيلسوف» بالمعنى الشائع لمحب الحكمة الذي يسعى إلى أن يسمو فوق المنغصات الدنيوية. والأهم من ذلك أن أفلاطون قد صاغ بعض معتقداته الأشد تأثيرًا على هدي من أفكار فيثاغورس.

وعندما يستشهد برتراند راسل بالمشهد السابق من مسرحية «الليلة الثانية عشرة» في الفصل الذي يتحدث فيه عن فيثاغورس في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية»، يقول مازحًا إن فيثاغورس قد أقام دينًا «عقائده الأساسية تناسُخ الأرواح وتأثيم تناوُل الفول.» يبالغ راسل في وصف أهمية مسألة الفول، وله بعض العذر في ذلك، إلا أنه لم يُقلِّل من شأن فيثاغورس بوجه عام، بل إنه على النقيض من ذلك قال إن فيثاغورس كان «واحدًا من أهم المفكرين الذين مشوا على الأرض.» ولفترة كان راسل نفسه فيثاغوريًّا متحمسًا في بعض الجوانب، وهو ما قد يفسر مغالاته في التقدير.

figure
فيثاغورس.

وإذا كان فيثاغورس موجودًا في كل مكان من الكتب المدرسية إلى عقل برتراند راسل؛ فقد أصبح كذلك أثرًا بعد عينٍ إذ لم يتبقَّ ممَّا قاله أو كتبه شيء اليوم (على الأقل لا شيء يحمل اسمه؛ ففي حقيقة الأمر قد يكون هو صاحب بعض القصائد التي يعود تاريخها للقرن السادس والتي نُسِبَتْ للشاعر الأسطوري أورفيوس). وفي الروايات القديمة عن الفيثاغوريين يتعذَّر التمييز بين أفكار فيثاغورس ذاته وبين أفكار أتباعه، ويرجع ذلك غالبًا إلى أن أتباع الطوائف الدينية التي استمدَّت إلهامها من فيثاغورس تراءى لهم أنه يجدر بهم نسب كل ما يتوصَّلون إليه إلى معلمهم، كما أن الفيثاغوريين كانوا يتفاخرون بحماية عقائدهم كما لو كانت أسرارًا لا يُفصحون عنها إلا لمن يركب سفينتهم. وقد تمكَّنوا من الحفاظ على تلك السرية إلى حَدٍّ ما ولكن بشكل غير مباشر؛ فقد أثارت الكثير من اللغط حول الفيثاغوريين حتى إنه يتعذر سماع صوت فيثاغورس الحقيقي وسط ضجيج الثرثرة.

وفيما يلي مثال تقليدي لسفاسف الأمور المتناقضة التي كُتِبَتْ في عصور قديمة حول حياة فيثاغورس:

أولًا منَع فيثاغورس تناول البربون وبعض أنواع الأسماك الأخرى، وفرض الامتناع عن تناول قلوب الحيوانات والفول وأحيانًا — طبقًا لرواية أرسطو — أمعاء الحيوانات وسمك الغرنار. ويقول البعض إنه قد اكتفى بتناول العسل أو شمع العسل أو الخبز، وإنه لم يُقَرِّبْ كأس الخمر من فيه قط وقت النهار، وإنه كان يضيف الخضراوات مسلوقة أو نيئة إذا أحب أن يتناول طعامًا شهيًّا، ونادرًا ما كان يتناول السمك … وكانت القرابين التي يقدمها دائمًا من الجماد رغم أن البعض قال إنه كان يقدم الديوك والجداء وصغار الخنزير، بيد أنه لم يذبح الحِملان قط. أما أريستوكزينس فيزعم أنه كان يوافق على تناوُل لحوم الحيوانات الأخرى، ولم يُحَرِّم على نفسه إلا لحوم الثيران التي تثير الأرض والكباش.

وبوسعنا أن نؤكِّد أن فيثاغورس كان يتبع أكثر النظم الغذائية إثارةً للجدل في العصور القديمة، وأكثر النظريات المثبتة صحتها عن هذا الأمر تقضي بأنه كان نباتيًّا؛ ذلك أنه اعتقد أن أرواح البشر تتناسخ أحيانًا في صورة حيوانات (أو كما قال مالفوليو إن روح المرأة العجوز قد تسكن جسد طائر).

ورغم أنه ليست ثمة علاقة بين نظام فيثاغورس الغذائي ونظرياته الهندسية فالجوانب العلمية والروحية في المذهب الفيثاغوري تتفق مع بعضها. وقبل توضيحها أود أن أسرد باختصار بعض المعلومات المتوفِّرة عن حياة فيثاغورس ومدرسته؛ إذ لا يتوفر لدينا منها سوى القليل ولكنه قيِّم.

•••

وُلِدَ فيثاغورس عام ٥٧٠ق.م. وتوفِّي عن عمر يناهز سبعين عامًا؛ أي إنه كان معاصرًا لأناكسيمينس. ورغم أنه كان أيونيًّا على غرار أناكسيمينس ووُلد في جزيرة ساموس التي تقع شمال غرب ملطية، فقد غادر موطنه نحو المستعمرات الإغريقية جنوبِيَّ إيطاليا عندما كان في الأربعين من عمره وقضى بها ما تبقَّى من حياته. وعندما هاجر كان صيتُه قد ذاع بالفعل بوصفه حكيمًا زاهدًا. ورغم أنه لا دليل على أن فيثاغورس الحكيم وأتباعه قد طُرِدُوا من جزيرة ساموس فلا تأخذنا الدهشة إذا علمنا أنهم غادروا مدينة آخذة في التدهور تحت حكم الطاغية الفاسق بوليكراتيس. إلا أن الاضطهاد الحقيقي بدأ بالفعل لاحقًا عندما استقر فيثاغورس في مدينة كروتون جنوبي إيطاليا وأنشأ مدرسته فيها حيث لعب فيثاغورس وأتباعه دورًا رئيسًا في سياسة المدينة، ولكن ماهية الأمر الذي تورط فيه والسبب الذي دعا إلى نشوب ثورة عنيفة ضده بعد عقدين من النجاح والشهرة هناك لا يزالان يكتنفهما الغموض. ألقي القبض على العديد من الفيثاغوريين الأوائل في مدينة كروتون والمدن المجاورة لها وقُتلوا في نهاية القرن السادس ومطلع القرن الخامس قبل الميلاد، وتعرض فيثاغورس نفسه للنفي. ويشير أحد المؤرخين إلى أن العداء الواضح تجاه فيثاغورس قد زاد من حدته «الغضب الذي شعر به رجل الشارع في تلك الأيام؛ لأن التشريعات الخاصة بهم كان يصدرها مجموعة من المتحذلِقين الذين أصروا على الامتناع عن تناول الفول ومنعوا رجل الشارع من ضرب كلبِه لأنهم ميَّزوا في نباحه صوت أحد الأصدقاء الراحلين.»

وبعد تلك الثورة رحل فيثاغورس حتى استقر به المُقام في مدينة ميتابونتو التي تقع على خليج تارانتو. وسرعان ما ازدهرت المجتمعات الفيثاغورية مرة أخرى وازدادت انتشارًا عبر جنوبِيِّ إيطاليا. ولكن في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد تعرض الفيثاغوريون إلى حملة تطهير أخرى أشد وطأة عليهم فرَّقت الكثير منهم وغادروا إيطاليا متَّجِهين إلى اليونان. واتخذت الأفرع المبتورة للمذهب الفيثاغوري صورًا مختلفة في الأراضي الجديدة التي أقاموا بها وبدأت تضعف شوكتهم. وبحلول مطلع القرن الرابع قبل الميلاد كانت كل الجماعات الفيثاغورية تقريبًا قد غادرت موطنها في إيطاليا حتى أصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم خلال هذا القرن.

رغم ذلك ظل تأثير أفكارهم يتزايد وخاصة عن طريق أفلاطون الذي كان له صديق مقرب من أتباع فيثاغورس وهو أرخيتاس التارانتومي. كان أرخيتاس التارانتومي رجل دولة ومفكرًا وعالم رياضيات، وربما كان أحد مصادر إلهام أفلاطون لفكرته الشهيرة الخاصة ﺑ «الملوك الفلاسفة». وقد كتب أرسطو بشيء من مبالغة لم تنطوِ على أية سخرية قائلًا إن فلسفة أفلاطون تسلك نهج فيثاغورس في معظم الجوانب. ومن المؤكَّد أن أفكار فيثاغورس قد استوعبها المذهب الأفلاطوني كاملة حتى صار من الصعب التمييز بين الفلسفتين. وربما كان على فيثاغورس أن يبتهج لذلك التناسخ العظيم.

figure
أرخيتاس.

•••

وفيما يلي صورة مركبة للفيثاغورية، ولن نقوم إلا بمحاولة يسيرة للتفريق بين صورها الأولى والأخيرة، ناهيك عن آراء الرجل نفسه وآراء أتباعه. بالنسبة لفيثاغورس نفسه يمكننا القول إنه كان يؤمن بالتناسخ وإنه كان يهتم بالأرقام ولو قليلًا، وما أثير عنه غير ذلك ليس إلا تخمينات. وسنزعم أيضًا أن الفيثاغوريين جميعهم نسيج واحد لا فرق بينهم، رغم أن بعضهم في حقيقة الأمر كان مهتمًّا بالأمور العلمية والعقلية بينما انغمس آخرون في شئون المحرمات والأقوال الغامضة والإرشادات الخرافية للحياة التي شكَّلت الجانب الديني من المنهج الفيثاغوري. وحتى في القرن العشرين كان ثمَّة نوعان مختلفان من الاهتمام بفيثاغورس؛ فمن ناحيةٍ نجد العلماء وفلاسفة العلم من أمثال فرنر هايزنبرج والسير كارل بوبر اللذين يؤكدان أن الفيزياء الحديثة تعيد إلى الأذهان فيثاغورس، ومن ناحية أخرى نجد كتبًا حول فيثاغورس نفسه قد نُشرت في سلسلة تتضمن أعمالًا عن الخيمياء وكهنة الدرويد وعلم التنجيم. وكان الأمر يتطلب عقلًا جريئًا كعقل فيثاغورس ليمزج بين هذين الجانبين.

ويسهل تبين العلاقة بين هذين الجانبين في مفهوم فيثاغورس الجديد عن الخلاص الروحي، وهو ما يمكن تلخيصه على النحو التالي: إذا أردت أن تحيا إلى الأبد فادرس الرياضيات. ولإدراك هذا المفهوم بمزيد من الجدية يجب أولًا أن نعلم بعض الشيء عن عقائد الديانة الأورفية.

لا نحتاج لمعرفة أي شيء عن أورفيوس ذاته أو عن تاريخ الأورفية؛ ذلك أن أحدًا لا يعلم الكثير عن أيٍّ منهما. فعندما تشير المصادر القديمة لأورفيوس أو للديانة الأورفية فهي غالبًا ما تشير إلى المعتقدات التي نشأت في تراقيا حول التناسُخ وفكرة حاجة الروح إلى التطهُّر من أجل الظفر بالسعادة في الآخرة. ويعتقد البعض أنه ثمة عقيدة رسمية مفصَّلة للديانة الأورفية كانت مدوَّنة بالفعل في زمن فيثاغورس، بينما يعتقد آخرون أن أفكار الأورفية كانت حينئذٍ أكثر تشتُّتًا ولم تتماسك إلا بعد مئات السنين. وأيًّا كان الأمر، فقد دُوِّنَتْ كل المفاهيم التي تعنينا هنا في إحدى نسخ أسطورة ديونيسيوس التي اتفقت النسخ العديدة من الديانة الأورفية على الإعجاب بها.

طبقًا للأسطورة، كان ديونيسيوس ثمرة علاقة مزدوجة الإثم بين زيوس وبيرسيفوني (وهي مزدوجة الإثم لأن بيرسيفوني نفسها كانت ثمرة علاقة غير شرعية بين زيوس ووالدته). ونَصَّب زيوسُ ديونيسيوسَ حاكمًا للعالم، ولكن الطفل سيئ الطالع قتله التيتان الذين التهموه فأخذهم زيوس بصاعقة من البرق. ومن رماد التيتان وُلِد الإنسان؛ ومن ثَمَّ فهو مزيج من الخير والشر، فجزء منه خيِّر بل في الواقع إلهي لأن البقايا المهضومة من ديونيسيوس كانت في الرماد، والجزء الآخر يحمل الشر لأن ذلك الرماد يأتي من التيتان؛ ولذلك فقد تلوَّث الإنسان بأفعالهم الآثمة. ويوازي العنصران — المدنس والإلهي — جسد الإنسان الفاني المدنس من ناحية وروحه الخالدة من ناحية أخرى، ولا يساعده على السُّمُوِّ على ما ورثه من إِثْمٍ سوى التطهُّر القاسي. ويعتبر الموت الأمل الوحيد للتحرُّر الكامل من الجسد الذي يُعَدُّ سجنًا يحبس الروح. ورغم ذلك يعتبر الموت أحيانًا انتقالًا من سيئ إلى أسوأ لأن الأرواح التي لم تتطهر تلقَى عقابًا شديدًا بعد الموت.

وتمثل تلك الأسطورة جوهر قصائد أورفيوس وكتاباته وقصائده الشعرية، وهي النص المقدس للدين الذي بُعث به أورفيوس. وكما تُعَدُّ الديانة الأورفية إحياءً أكثر عقلانية لديانة الطوائف الديونيسية والباخوسية فقد كان أيضًا أكثر تقشُّفًا منها؛ ولذلك يمكن اعتبار المذهب الفيثاغوري نسخة أكثر عقلانية من الديانة الأورفية.

في عبادة ديونيسيوس، كان الغرض الرئيس من الطقوس الدينية هو الوصول إلى درجة من الاتحاد مع الرب عن طريق إقامة الشعائر، وبعض الطقوس الأخرى التي اشتهرت بالانغماس في ممارسة الجنس أو معاقرة الخمر أو ارتكاب العنف أو أي مزيج بينها. لكن في الديانة الأورفية كانت الطقوس أكثر رسمية واحتشامًا واهتمامًا بإنكار الذات عوضًا عن الانغماس في الملذات، ولكنَّها كانت أيضًا هُرَاءً لا طائل منه. وثمة صورة نادرة لأتباع الديانة الأورفية — أو على الأقل كيف كان الآخرون يرونهم — في مسرحية يوريبيديس التي تحمل عنوان «هيبوليتوس» والتي قُدِّمَتْ على المسرح بعد وفاة فيثاغورس ببضعة وسبعين عامًا، فعندما غضب ثيسيوس من ابنه غير الشرعي هيبوليتوس سخر منه قائلًا:

والآن فلتَتِهْ فخرًا بطهارتك وتَزْهُ بغذائك الخالي من اللحوم، وتجعل من أورفيوس سيدك ونبيك، وتنغمس في الإعجاب المجنون بمباهاته الخطابية! نعم، لقد افتضح أمرك!

وهناك تطوُّر جديد في الصورة الفيثاغورية للديانة الأورفية ألا وهو أن التطهُّر ومن ثَمَّ الاتحاد مع الرَّبِّ يتطلبان أن يحيا الإنسان حياة التأمُّل والتساؤل. وكما قال الفيلسوف هرقليطس (حوالي ٥٤٠–٤٨٠ق.م.) فقد «كان فيثاغورس يتساءل أكثر من أي شخص آخر على وجه الأرض.» وقد شمل هذا العديد من الأمور من أهمِّها الرياضيات. فمن المفترض على الفيثاغوري المخلص قبل كل شيء أن يدرس الأرقام والهندسة وعلم الفلك والموسيقى لأن كلًّا من تلك العلوم توضح جانبًا من مبادئ النظام في الكون.

ولقد آمَنَ الفيثاغوريون بأهمية دراسة الطبيعة من أجل المعرفة المجرَّدَة فحسب لا من أجل أيَّةِ جائزة عملية. ويبدو أنَّهُم كانوا أوَّلَ من استخدم مصطلح «الفلسفة» للإشارة إلى حُبِّ الحكمة لذاتها كما أوضح شيشرون في القصة التالية:

طلب منه ليون (حاكم فليوس وهي أحد مراكز المذهب الفيثاغوري في جنوب شرق اليونان) … أن يحدِّدَ أكثر الفنون التي يعول عليها، ولكن فيثاغورس قال إنه لا يعلم أي شيء عن الفنون بل هو فيلسوف. فتعجَّبَ ليون من ذلك المصطلح الجديد وسأله عن ماهية الفلاسفة … فأجاب فيثاغورس قائلًا إن حياة الإنسان تشبه مهرجانًا تقام فيه أروع الألعاب … وإن بعض الرجال في هذا الحفل … يسعَوْن إلى الظَّفَر بالتاج المجيد، بينما ينجذب آخرون لاحتمال تحقيق الربح عن طريق البيع والشراء. وإن ثمة صنفًا معينًا من أفضل أصناف الرجال الأحرار الذين لا يسعَوْن لنيل الإطراء ولا لتحقيق الربح، ولكنهم أتَوْا من أجل مشاهدة الحفل ومعاينة ما يحدُث وكيف يحدث. وهكذا نحن البشر، فكأنما أتينا من إحدى المدن إلى حفلٍ مزدحم … ودخلنا هذه الدنيا فكان منَّا الطَّموح ومنَّا عابد المال، ولكن ثمة القليل ممَّن أمعنوا النظر في طبيعة الأمور ولم يرَوْا نفعًا في غير ذلك، وأطلق هؤلاء الرجال على أنفسهم اسم محبي الحكمة (وهو معنى كلمة فيلسوف). وكما يحدث في عالم الألعاب أخذ هؤلاء الرجال الصادقون يشاهدون الألعاب دون البحث عن أية مآرب لأنفسهم؛ إذ إن تأمُّل الطبيعة واكتشافها يفوق كل المساعي الأخرى في الحياة.

ثمة فكرة لا شك في انتمائها للديانة الأورفية تتغلغل في التفسيرات الفيثاغورية للتساؤل (وخاصة تلك المتعلِّقَة بأفلاطون في لحظاته الأكثر فيثاغورية) وهي التناقُض بين الجسد الفاني الملوث وما يمكن اكتشافه عن العالم من خلال الحواسِّ من ناحية وبين المعرفة الأسمى والأكثر نقاء، والتي يمكن للروح أن تصِل إليها من ناحية أخرى. ويمكننا أن نرى ذلك في إحدى الكتابات التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي والتي تصِف اهتمام فيثاغورس بالهندسة:

إنني أحاكي الفيثاغوريين الذين كانت لديهم عبارة تقليدية تعبِّر عمَّا أقصده وهي «شكل وقاعدة ارتقاء، لا شكل ومال.» وقد قصدوا بذلك أن الهندسة التي تستحق الدراسة هي تلك التي تقيم مع كل نظرية جديدة منصة للارتقاء عليها، وتسمو بالروح عاليًا بدلًا من تركها تتدنى إلى مرتبة (الأشياء المادية التي تدركها الحواس) ومن ثَمَّ تصبح تالية على الضروريات العامة للحياة الفانية.

وبعبارة أخرى، إذا استخدمت الهندسة لأغراض مادية دنيوية وحسب — كما فعل المصريون القدماء على سبيل المثال لحساب مساحة الأرض — فسوف تظل روحك رهينة الحبس في سجن الجسد المادي؛ فالهندسة بوسعها أيضًا أن تقدم للروح وسيلة للفرار إذا استُخدمت كموضوع للدراسة الموضوعية المجرَّدة؛ أي إذا دُرست أولًا لاكتشاف الصحيح من النظريات، وهي سلوى لا تجدر إلا بالأرواح الطاهرة. ورغم أن التساؤلات الرياضية للفيثاغوريين قد أتت ثمارها في نهاية الأمر من كل الجوانب العملية فإن دوافعهم لتَبَنِّيهَا كانت أخلاقية أو روحية إلى حَدٍّ كبير. وقد اعتقد الناس أن إدراك الترتيب المنظم للكون وجماله يسمح بنوع من المشاركة في ذلك النظام وهذا الجمال. ويمكننا القول باختصار إنَّ جزءًا من عظمة الكون ينتقل إلى من يدرسه.

وقد عبَّر سقراط عن تلك الفكرة التي أصبحت تمثِّل جوهر الفيثاغورية في «جمهورية» أفلاطون قائلًا:

لا ريب يا أديمانتس؛ فمن كان ذهنه ثابتًا على الحقائق الخارجية فليس لديه وقت للنظر للأشياء التافهة … ولكنه يُثَبِّت ناظريه على كل ما هو ذا طبيعة سرمدية لا تتبدَّل ولا تتغير، وحينما يرى الإنسان أن هذه الأشياء لا تَظلم بعضها بعضًا بل تنتظم في تناغم كما يتطلَّب العقل؛ سوف يسعى إلى تقليدها، وربما يسعى إلى التغيير من نفسه كي يصبح مشابهًا لها … وعند ذلك يصبح مُحِبُّ الحكمة المتوحد مع النظام الإلهي على القدر عينه من النظام والسمو.

وبعد مرور حوالي ٢٣٠٠ عام كتب برتراند راسل شيئًا مشابهًا في الفصل الأخير من أحد كتبه الأوائل والذي يحمل عنوان «مشكلات الفلسفة» حيث أكد أن الفلسفة تستحق الدراسة؛ «لأن العقل يغدو عظيمًا من خلال عظمة الكون التي تتأملها الفلسفة ويتمكن من تحقيق تلك الوحدة مع الكون التي تحقق له الخير الأسمى.»

يبدو كل ذلك رائعًا، ولكن ما الذي يُفترض أن يهتم به الفيلسوف ويُثَبِّت عليه ناظريه؟ بالنسبة للفيثاغوريين يبدو أن موضع الاهتمام كان الأجرام السماوية التي تدور في مساراتها المنظَّمة المتناغمة في السماء. أما بالنسبة لأفلاطون فقد كان موضع الاهتمام المذكور أمرًا أكثرَ تجرُّدًا ترمز إليه الأجرام السماوية، وهو الأشكال المثالية التي تُعتبر الأشياء الأرضية صورًا أدنى منها (وسوف نوضِّح المزيد عن تلك الأشكال في الحديث عن أفلاطون نفسه). أما راسل فيبدو أنه كان يتغنَّى بالحياة العقلانية ولكنه كان أقل وضوحًا فيما يتعلق بماهية تلك الحياة. وما يجمع بين تلك التفسيرات هو حقيقة أن تأمُّل شيءٍ ما قد يُكسِب المرء بعض صفاته الحسنة على ما يبدو عن طريق التأثُّر به ومحاولة محاكاته. فقد اعتقد أفلاطون على سبيل المثال فكرة أن الدراسة الفلسفية للكون السرمدي تُضفي على المرء نوعًا من الخلود حيث قال:

من كان جادًّا في حب المعرفة والحكمة الحقيقية يجب أن يتسم فكرُه بالخلود والطابع الإلهي إذا أراد بلوغ الحقيقة. وبقدر ما تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تشارك في هذا الخلود يجب أن يتسم هو أيضًا بالخلود بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

كان هذا جزءًا من محاورة «طيمايوس» الخاص بأفلاطون، وهي أكثر محاوراته اتسامًا بالطابع الفيثاغوري. ويردد برتراند راسل الكلام ذاته قائلًا: «من خلال الكون اللامحدود يحصل العقل الذي يتأمله على نصيب من اللامحدودية.»

ويُعَدُّ الحصول على «نصيب» من الخلود أو اللامحدودية فكرة فيها من الغموض ما يكفي لاعتبارها تعبيرًا مخففًا عن الإشادة بالفلسفة. بالطبع كان راسل، على سبيل المثال، لا يقصد سوى تلك الإشادة، رغم أن اختياره للإشارات اللغوية يشير إلى الماضي نحو فيثاغورس. ولا يتَّضح لنا على الفور كيف يمكن للمرء أن يصبح خالدًا بالمعنى الحرفي عن طريق تأمُّل شيء خالد (مثل الكون) فحسب طبقًا لمعتقد فيثاغورس. كما تبدو الفكرة الأساسية — بالقدر الذي يمكننا إيضاحها به — على النحو التالي: الروح مُثْقَلَةٌ بالهموم الدنيوية والعملية، وإذا ظلَّت على تلوثها هذا فلن تهرُب من قيد الجسد أبدًا، بل ستنتقل إلى جسد آخر عند الموت فحسب سواء أكان هذا الجسد لآدمي أو لحيوان، ولكن إذا اتَّبع الإنسان المنهج الصحيح للتطهُّر — وهو نوع من التمرينات الروحية التي تُدعى بناء الأرواح، على غرار تمرينات بناء الأجسام — فسوف تنطلق الروح حُرَّةً طليقة ويُفك أسرُها وتتمكن من الصعود إلى العالم الروحي السرمدي الذي يُعَدُّ موطنَها الحقيقي. ويتكوَّن هذا المنهج التطهُّري من شِقَّيْنِ؛ أولهما: اتِّقاء المحرمات (مثل الامتناع عن تناول الفول أو ما شابه) والآخر: أن تحيا حياة التدريبات الفلسفية الصارمة؛ حياة «التأمُّل» أو التساؤل الخالص.

•••

وكما رأينا، تُعَدُّ الرياضيات بالنسبة للفيثاغوريين مفتاح النظام والجمال في الكون، وتقع مسئولية اكتشافهما على عاتق الفلسفة. وطبقًا للروايات التي تناقلتها الأجيال، فقد بدأ الفيثاغوريون في ذلك بالاكتشاف العظيم للعلاقة بين الأرقام والأصوات الموسيقية. ومن دلائل إدانتنا بالفضل للفيثاغوريين أن معظم المثقَّفين اليوم لا يجدون هذا الاكتشاف مدهشًا على الإطلاق.

فقد اكتشفوا أنَّه ثمة علاقة مباشرة بين ثلاث مسافات موسيقية اعتبرها الإغريق متناغِمَةً أو عذبة الصوت، وهي الأوكتاف والمسافة الرابعة والخامسة التامة من ناحية، وبين ثلاث نِسَبٍ رقمية من ناحية أخرى. ويمكن التعبير عن تلك العلاقة عن طريق أطوال الأوتار التي تُنْقَرُ لإصدار النغمات الموسيقية. ولنأخذ على سبيل المثال آلة المونوكورد أحادية الوتر التي قد تكون أول ما ظهر فيه هذا الاكتشاف. فعن طريق الضغط على الوتر في أماكن مختلفة منه يمكن إصدار نغمات موسيقية مختلفة مثلما يحدُث في الجيتار، فإذا ضغطت على الوتر في منتصف طوله بالضبط تُصبح النغمة الصادرة أعلى بمقدار أوكتاف واحد عنها في حالة اهتزاز الوتر بحرية (أي إذا لم يُضغط على الوتر). وهكذا فإن المسافة الموسيقية للأوكتاف تتطابق مع النسبة ٢ : ١، فالنغمة الأكثر انخفاضًا تصدر عن وتر يبلغ طوله ضعف طول الوتر الذي يصدر النغمة الأعلى بمسافة واحدة. وعلى نحو مماثل فإن المسافتين الموسيقيتين ذواتي الصوت العذب والمعروفتين باسم المسافة الرابعة والخامسة التامة تتطابقان مع النسب ٤: ٣ و٣: ٢ على التوالي.

ما أروع هذا الاكتشاف! إذ يوضح أن الظواهر (وهي في تلك الحالة الأصوات الموسيقية) لها بنية خفية يمكن كشفها. وهو برهان مادي على أن الأرقام بوسعها أن تكشف أسرار العالم. كما أن النسب الثلاث (٢ : ١ و٤ : ٣ و٣ : ٢) تضم الأرقام ١ و٢ و٣ و٤ والتي يبلُغ مجموعها ١٠، وهو أمر رائع أيضًا لأن الرقم ١٠ كان الرقم المثالي بالنسبة للفيثاغوريين حيث كان يتمتع بمغزى روحي عظيم لديهم. لقد سُرَّ الفيثاغوريون كثيرًا بأن لاحظوا أن المسافات المتناسقة التي تتمتع بأهمية خاصة في الموسيقى الإغريقية تطابق أرقامًا ذات دلالة خاصة.

ومن منظورنا الحالي المنتفع بالفكر العلمي، بوسعنا أن نؤكِّد أن تفسير اكتشافات الفيثاغوريين يَكْمُنُ في ثلاث حقائق؛ أُولَاها: أن طبقة النغمة الموسيقية تتعلق بمعدل اهتزاز الهواء، وثانيتها: أن هذا المعدل في حالة الآلات الوترية يحدده معدل اهتزاز الوتر، وأُخراها: أن معدل اهتزاز الوتر هو دالة لطول الوتر، (أما الرقم السحري ١٠ فليس له أي مغزى حقيقي). لم يكن الفيثاغوريون في موقف يسمح لهم بتقديم مثل هذه التفسيرات، ولكن يبدو أن هذا الاكتشاف المذهل جعلهم يشعرون أنهم في موقف يسمح لهم بالقفز إلى استنتاج شامل، وهو أن الأرقام من المتطلبات الأساسية لنظام الطبيعة التي تغلِب عليها الفوضى؛ ولذلك فقد لَعِبَ الفيثاغوريون دورًا أساسيًّا في تفسير الظواهر الطبيعية، حالهم في ذلك حال الأرقام (أو بشكل عام المفاهيم الكمية). حاول أن تتخيل كتابًا مدرسيًّا يتحدث عن الفيزياء أو الكيمياء بلا أرقام فيه، سيكون ذلك أمرًا مستحيلًا. ولا يدهشنا أن الفيثاغوريين لم يتمكَّنوا من صياغة كل ذلك فلجَئُوا إلى المفردات التي توارثوها عن الملطيين؛ ومن ثَمَّ فقد رأوا أن الأرقام هي «أصل» كل شيء.

وفي حديثنا عن طاليس وخلفائه أشرنا بالفعل إلى الغموض الذي يكتنِف مفهوم «الأصل». فهل كَوْنُ الأرقام أصولًا يعني أنها أول الأشياء التي وُجِدَتْ، أم أنها المادة التي صُنع منها كل شيء، أم أنها بطريقةٍ ما السببُ في حدوث أي شيء؟ لقد استعرض أرسطو العديد من الاقتراحات حول مقصِد الفيثاغوريين ولم يؤيِّد معظمها، بل كانت نبرته عند الحديث عن أسلافه السابقين نبرة معلم رياض الأطفال الذي يقص الروايات الساذجة التي سمعها من الأطفال في المدرسة اليوم، خاصة عندما يذكر الفيثاغوريين وهذيانهم بشأن الأرقام. وهو يعترض بشدة على «إيمان الفيثاغوريين … بأن الطبيعة بأكملها تتكوَّن من الأرقام» مؤكدًا أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا لأن «الأجسام الطبيعية وهبتْها الطبيعة وزنًا وخفة، إلا أنه لا يمكن تجميع عدد من الوحدات (أي الأرقام) لنُكَوِّن منها جسمًا، ولا يمكن أن يكون لها وزن.» وممَّا لا شك فيه أن تفكير أرسطو في هذا المقام كان شديد الحرفية، فهل يمكن أن يكون الفيثاغوريون قد افترضوا بالفعل أن الرقم ٦ على سبيل المثال له وزن، أو أنك إذا حطمت صخرة فسوف يُخلف حطامها مجموعةً من الأرقام؟ والإجابة على الأرجح هي لا. من المؤكد أن الفيثاغوريين خلصوا إلى أن الطبيعة رياضية الأصل. ونظرًا لطبيعة ذلك العصر، كان من الطبيعي بالنسبة لهم أن يقوموا بتلخيص أفكارهم الغامضة في كون الأرقام تُمَثِّلُ «أصول» كل شيء أو مبادِئَه، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن الأشياء المادية مصنوعة من الأرقام بالطريقة نفسها التي صُنِعَت بها المنازل من الطوب.

لكن يبدو بالفعل أن الفيثاغوريين قد اعتقدوا أن الأشياء المادية تتكون من الأرقام بطريقة معينة أو بالأحرى بطريقة خاصة تنبع من أسلوبهم في تناول الهندسة. ولنأخذ على سبيل المثال الطريقة التالية: ارسم شكلًا من أربع نقاط مثل ذلك الموجود على زهر النرد، ثم قم بتوصيل تلك النقاط عن طريق خطوط لتُكوِّن مربعًا، ثم ارسم المزيد من النقاط والخطوط لتُكَوِّن مكعبًا. في هذا التدريب البسيط كوَّنَت النقاط خطوطًا، وكوَّنت الخطوط شكلًا هندسيًّا، وكونت الأشكال الهندسية مجسمًا. وهذه تقريبًا هي نظرة الفيثاغوريين ذوي العقلية الهندسية للأشياء المادية؛ فهي لديهم تتكون من نقاط وخطوط وهكذا. اعتقد أرسطو أنهم يقدِّمون إجابة للسؤال القديم الذي طرحه الملطيون عن المادة التي صُنعت منها الأشياء المادية، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يطرحون سؤالًا آخر؛ فقد وجدوا في التركيز على الجانب الرياضي للأمور تجديدًا مثيرًا وفضَّلوا مناقشة ذلك. وقد يكون هذا هو السبب الذي دعاهم للقول إن الأشياء المادية صُنعت من الأرقام بطريقة ما. ورغم أننا نميز بوضوح بين الأرقام والنقاط الهندسية فقد تناول الفيثاغوريون مفهوم الوحدات بشكل أوسع، وهو ما قد يعني أنه يشير أحيانًا إلى أمر معين وأحيانًا أخرى إلى أمرٍ آخر. ولا ريب أن ذلك الغموض قد زاد منه أن مثلوا الأرقام بأشكال هندسية من النقاط أو الحصى كالأشكال التي توجد على حجر الدومينو أو زهر النرد.

ولسوء الحظ، لا يستطيع أكثر مفسري النظريات الفيثاغورية تعاطفًا إنقاذ الفيثاغوريين من بعض التطرف الذي قادهم إليه افتتانهم بالأرقام. ويبدو أنهم ذهَبوا إلى حَدِّ مطابقة بعض الأرقام المحددة بالعديد من الأفكار المجرَّدة؛ فقد ذكر أحد المعلِّقين القدامى أن الفيثاغوريين كانوا يَرَوْنَ أن العقل يحمل الرقم ١، والذكورة الرقم ٢، والأنوثة الرقم ٣، والعدل الرقم ٤، والزواج الرقم ٥، والفرصة الرقم ٧ (بعض المصادر الأخرى تعطي أرقامًا مختلفة للعديد من تلك المفاهيم). وفي بعض الأحيان يمكن للمرء أن يرى بصعوبة مصدر الإلهام لتلك الأفكار الرقمية غير المترابطة، وخير مثال على ذلك هو العدل الذي يحمِل الرقم ٤؛ إذ مُثِّلَ هذا الرقم بشكل مربع متساوي الأضلاع، ولذلك يمكننا أن نسميه شكلًا عادلًا. وما زلنا حتى الآن نستخدم في اللغة الإنجليزية كلمة square بمعنى «عادل» كما في حديثنا عن تسوية الديون squaring debts. ولكن رغم أنه قد يكون في الأفكار المجنونة شيء من عقل، فلا يخرجها ذلك عن كونها جنونًا. ولا ريب أنَّ شيئًا ما — حبذا لو علمناه — قد حدا بهم إلى قول ذلك، ولكن لدى الفيثاغوريين ثمة أفكار أخرى أكثر أهمية تستدعي النظر فيها.

أما آخر جزء من عقيدة الفلسفة الشاملة للفيثاغوريين سنتناوله هنا فهو الجزء الذي يتناول الأصول والمبادئ الأوَّلية للكون، والذي يأتي على رأس أولوياتهم. رغم اعتقادهم أن الأرقام بطريقةٍ ما هي مقوِّمات كل شيء؛ فلم يعتقدوا أنها المقومات الأولية فحسب بل آمنوا أيضًا بأن بوسعهم الغوص أعمق من ذلك؛ إذ إن الأرقام نفسها قد تكوَّنت من شيء آخر. وهذا الشيء الآخر كان «المطلق» الخاص بأناكسيماندر أو شيئًا يشبهه.

ويُعَدُّ المفهومان الأساسيان في الفكر الفيثاغوري هما المحدود واللامحدود؛ إذ يرى الفيثاغوريون أنه أينما بحث الإنسان عن تفسير للنظام أو الجمال في أية ظاهرة فلا ريب أن هذين المفهومين يكمنان خلفه. وقد اكتشف أفلاطون لاحقًا عقيدةً لا بُدَّ وأنها تنتمي للفيثاغوريين، وهي تمضي على النحو التالي:

لقد أورثَنا أسلافُنا الذين كانوا أفضل منَّا وأقرب منَّا إلى الآلهة هديةً في صورة قول مأثور يقول إن كل الأشياء الموجودة منذ القِدَم تتكوَّن من شيء واحد ومن أشياء متعددة، وإن في طبيعتها مزيجًا بين المحدود واللامحدود.

ويبدو أن الفكرة التي تكمن خلف هذا الحديث عن المزيج بين المحدود واللامحدود هي كالتالي: يُخلق النظام والجمال عندما يُفرض نوع من الحدود، أو التحديد، على المادة الخام اللامحدودة للكون. ومن الأمثلة الدنيوية على ذلك الطريقة التي يُستخدم بها قالب الخبز لتكوين شكل محدَّد من قطعة عجين عديمة الشكل. وكما رآها الفيثاغوريون، تقوم النِّسَب الموسيقية بتحديد النتائج المهمة لفرض النظام على الصوت عديم الشكل. ومثلما تؤدِّي النِّسَب إلى إحداث التناغُم الموسيقي من الضوضاء المتنافِر، رأى الفيثاغوريون أن العديد من الأشياء الأخرى القَيِّمة إنما هي أمثلة على التناغُم أو تناسُق الإيقاع كالجسد الصحي والروح الفاضلة والمجتمع العادل، وهي أمور رَأَوْا فيها النِّسَب الصحيحة أو المزيج الصحيح من العناصر. وفي كل حالة تُعد النسبة أو المزيج المتناسق مثالًا على إنشاء النظام أو الحدود. ويؤثر المفهوم المزدوج للمحدود واللامحدود على الأرقام عن طريق المفاهيم الحسابية الخاصة بالأعداد الزوجية والفردية؛ فاللامحدود يطابق الأعداد الزوجية (أو ربما يؤدي إلى تكوينها)، أما المحدود فله العلاقة نفسها ولكن مع الأعداد الفردية. وتتحد الأعداد الزوجية والفردية مكوِّنة الرقم ١، بينما تكونت كل الأعداد الأخرى من الرقم ١.

وهكذا نحصل على وصفة الأرقام ومن ثَمَّ الوصفة الخاصة بكل الأشياء الأخرى التي تتكوَّن من الأرقام بشكلٍ ما. ولكن كيف جاءت الأرقام أصلًا؟ قدم الفيثاغوريون تفسيرًا لبداية الكون. في نسخة أناكسيماندر من تلك الرواية انفصلت بيضة أو بَذرة بشكل ما عن المطلق غير المحدود، وظلت تنمو حتى صارت العالم الذي نعرفه الآن. وبالمثل تبدأ رواية الفيثاغوريين ببذرة، ولكن بذرتهم تنمو عن طريق امتصاص اللامحدود ومن ثَمَّ إعطاؤه شكلًا أو حدودًا. وكذلك نشأ كل شيء في العالم من كواكب وصخور وموسيقى وربما حتى البشر، نتيجة لهذا النمو الذي يقتات على المشيمة اللامحدودة عديمة الشكل. ويبدو أن هذا الامتصاص كان مقصودًا بالمعنى الحرفي إلى حَدٍّ ما، فيشار إلى اللامحدود في هذا السياق بالروح؛ أي الهواء أو النَّفَس. وهكذا أصبح لدينا تفسير لتطوُّر الكون تسيطر عليه صورة كائن حي ينمو ويتنفس ويستمدُّ غذاءه من البيئة المحيطة به.

ولكن كيف يُفترض بذلك التفسير البيولوجي الزائف أن يستمر في ظِلِّ وجود الأفكار الفيثاغورية الأكثر تجرُّدًا وتعقيدًا حول الهندسة والأرقام؟ إن ثمة قولًا بأن كل الأرقام يمكن أن تنشأ من الرقم ١ (على سبيل المثال بتكرار إضافة الرقم ١) أو أن المكعب يمكن اعتباره مكوَّنًا من نقاط وخطوط. ولكن هل بوسعنا الآن أن نفترض أن الرقم ١ قد نشأت عنه الأرقام الأخرى والتي بدورها أنجبت الخطوط التي أنجبت الأشكال الهندسية … إلخ في لحظة محددة من تطوُّر الكون؟ يبدو الأمر كما لو كانت بضع صفحات من بداية سِفر التكوين قد فُقدت واختلطت مع صفحات من كتاب الرياضيات للمرحلة الابتدائية.

وتلك هي النقطة التي يُستحسن فيها التوقُّف عن الافتراض؛ إذ إن مصادر كل تلك التأملات حول الفيثاغوريين هزيلة وربما تكون فاسدة، وفي مرحلةٍ ما يُضْطَرُّ المرء إلى الاعتراف بأنه لا يمكن الحصول على مزيدٍ من المعلومات من هذه المصادر. وهنا تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الفيثاغوريين لم يكونوا رجالًا خارقين تحرَّروا في خطوة واحدة من الأفكار البُدائية لأسلافهم، بل كانوا لا يزالون يتبعون طرق علماء الطبيعة الأوائل الذين اهتمُّوا كما رأينا بالروايات البسيطة لكيفية بَدْءِ كل ذلك، وكانوا يبذُلون قصارى جهدهم للانتقال إلى أنواع أخرى من الأسئلة وخاصة الأسئلة الرياضية، ولكنهم لم يدركوا كيف يتخلصون تمامًا من الأساليب العتيقة في الحديث.

•••

وكما رأينا سابقًا، كان يُفترض بالفيثاغوري الصالح أن يُكَرِّسَ كل وقته وجهده لدراسة الطبيعة، وخاصة علم الفلك والرياضيات والموسيقى، وهو ما يفترض أن يُطَهِّرَ روحه. ومن السهل الإعلان عن النوايا الحسنة في بداية الفصل الدراسي، ولكن ماذا حَقَّقَ الفيثاغوريون في ذلك؟

ورغم قلة ما نعلمه عن مساهماتهم في الموسيقى (أو بشكل أكثر دقة في علم الأصوات الموسيقية) فهي معلومات مفيدة، تتكون من الملاحظات المشار إليها سابقًا والتي أظهرت العلاقة بين النِّسَبِ والمسافات الموسيقية المتناغمة ذات الأصوات العذبة، وهذا كل شيء. ورغم ذلك فقد انبهر بها مؤرِّخو العلوم في العصر الحديث، حيث يقال إن انشغال الفيثاغوريين بعلم الصوت هو «الحالة المهمة الوحيدة التي نملِك فيها دليلًا على انخراط الفلاسفة في البحث التجريبي» قبل أفلاطون. لكن الفكرة الموسيقية الأشهر لدى الفيثاغوريين — وهي إيمانهم ﺑ «التناغم» أو «الموسيقى السماوية» — لم تكن لها إلا علاقة ضعيفة بالبحث التجريبي، بل إنها صورة تلخص بدقة تخيُّلهم عن الكون. وقد آمن الكثيرون بهذه الفكرة لأنها كانت تبدو فكرة جذَّابة. ويشهد على كثرة إيحاءاتها ظهورُها في أعمال كلٍّ من أفلاطون وشيشرون وتشوسر وشكسبير وميلتون وبوب ودرايدن وآخرين. وقد وصفها أرسطو بشكل جيد في كتاباته، إلا أن الفكرة وُصفت على النحو الأفضل على لسان لورنزو في مسرحية «تاجر البندقية» حين قال:

اجلسي يا جيسيكا وانظري كيف رُصِّعَتْ السماء،
بأجسام من الذهب البراق،
إنها من كوكب مهما صغُر حجمه فلا ترينه إلا يغني أثناء حركته،
كالملاك الذي يبعث أنغامه،
إلى أسماع الملائكة الصغار،
مثل هذا التناغم تعرفه الأرواح الخالدة،
فإن أطبقت عليها أجسادنا الفانية الغليظة المخلوقة من طين،
سلبتنا القدرة على سماعه.

في حقيقة الأمر، صاغ لورنزو الفكرة بشكل يوحي بأنه تفوَّق على الفيثاغوريين. ويبدو أن المعتقد الأصلي كان يقول إن سبب الأصوات التي تطلقها الأجرام السماوية يرجع إلى انطلاقها بعنف في الفضاء بسرعات مختلفة، وإن النسب بين تلك السرعات المختلفة هي النسب الصحيحة لضمان تناغُم تلك الأصوات وإننا لا نلاحظ تلك الموسيقى لأننا سمعناها منذ لحظة ولادتنا حتى اعتدنا عليها. ويصِف أرسطو الفكرة في مقدمة كتابه (رغم عدم اقتناعه بها) قائلًا: «إنَّ ما يحدث للناس هو ما حدث من قبلُ للنحاسين الذين اعتادوا على الضوضاء الصادرة من ورشة الحداد، حتى إنها لم تعُد تمثل بالنسبة لهم أي اختلاف.» ورغم وجود معتقد فيثاغوري يؤكد أن فيثاغورس نفسه كان بإمكانه سماع التناغُم السماوي لأنه كان في حقيقة الأمر إلهًا وليس إنسانًا، فإنه لا يوجد الكثير من الأدلة قبل شكسبير على حقيقة أننا لا نستطيع سماع تلك الأصوات لأننا بشر. ورغم ذلك تتَّسم فكرة شكسبير نوعًا ما بالطابع الفيثاغوري أكثر من الفيثاغوريين أنفسهم، فنظرية احتباس الروح مؤقتًا في «ثوب بالٍ قذر» طوال الحياة الفانية ممَّا يبعدها عن الإدراك الكامل للنظام والجمال المتناغمين في الكون؛ إنما هي فكرة أورفية خالصة، وكان فيثاغورس سيُعجَب بها ولكن يبدو أنه لم يفكر قط في تطبيق تلك الفكرة على مسألة: «لِم لا يستطيع الإنسان سماع التناغم السماوي؟»

أما موقف أرسطو من هذا الموضوع فقد كان أقل من الناحية التصويرية حيث قال:

رغم عذوبة تلك النظرية وشاعريتها فلا يمكن أن تكون تفسيرًا واقعيًّا للحقائق … فالضوضاء الشديدة كما نعلم تُحَطِّمُ الأجسام الصُّلبة حتى للكائنات غير الحية … ولكن إذا كانت الأجسام المتحركة شديدة الضخامة والصوت الذي ينفذ من خلالها إلينا متناسبًا مع حجمها؛ فسوف يصل إلينا هذا الصوت بأضعاف شدة صوت الرعد، وسوف تكون قوة حركته هائلة. وفي حقيقة الأمر يكمُن السبب وراء عدم سماعنا هذا الصوت وعدم تأثُّر أجسادنا بتلك القوة العنيفة في أمر بسيط جدًّا ألا وهو أنه لا وجود لهذه الضوضاء من الأساس.

ولكن بالنسبة للفيثاغوريين، كانت تلك النظرية أروع من ألَّا تُعتبر حقيقية، فقد كانت تربط بين ثلاثة أمورٍ يُعَدُّ الربط بينها هو جوهر الفلسفة الفيثاغورية وهي نظام الطبيعة (متمثلًا في الحركات المنتظمة للأجرام السماوية) وجمالها (متمثلًا في التناغُم والتناسق الناتج عن تلك الحركات) وانتشار الأرقام (متمثلًا في النسب التي توضح ذلك التناسق).

وكما عانت تلك النظرية من حيرة افتراض وجود صوت لم يسمعه أحدٌ من قبل، اعتمدت المعتقدات الفلكية الأخرى للفيثاغوريين على أشياء خَفِيَّةٍ تثير الشك في وجودها. وينطبق ذلك على الأقل على آخر النظريات الفلكية للفيثاغوريين وأشدها تأثيرًا والتي وضعها كُتَّاب القرن الخامس قبل الميلاد. وتنص هذه النظريات على أن الأرض والأجرام السماوية كافة تدور حول نار مركزية غير مرئية أو «موقد مركزي» كذلك الموجود في منتصف المنزل، وأن ثمة «أرضًا مضادة» غير مرئية أيضًا تدور في مدار بين الأرض والنار المركزية. وقيل إن الفيثاغوريين فسَّروا حقيقة أننا لا نرى أيًّا من تلك الأشياء بأننا نعيش على جانب من الأرض بعيد عنها دائمًا.

تتمثَّل أهم الحقائق بشأن تلك النظرية في أنها أزاحت الأرض عن موضعها كمركز للكون، وجعلتها تدور حول النار المركزية مثلها كمثل الأجرام السماوية الأخرى. يبدو أن تلك الفكرة المبتكرة لا علاقة لها بالأجزاء الأخرى من الفكر الفيثاغوري على الإطلاق، ولكنها ليست أمرًا تافهًا. وفي إهدائه لكتاب «عن ثورات الأجرام السماوية» الذي نُشر عام ١٥٤٣م يقول كوبرنيكوس إن التفكير في هذا النظام القديم هو ما شجعه على بحث الافتراض غير التقليدي في ذلك الوقت بأن الأرض تدور حول الشمس ولا تقبع في مركز الكون (وهو المعتَقَد السائد لدى الجميع في العصور الوسطى) فقال في ذلك: «وانطلاقًا من تلك النقطة بدأت أفكر في حركة الأرض.» وهكذا كانت الفيثاغورية نقطة الانطلاق لعلم الفلك الحديث، حتى وإن كان ذلك محض مصادفة.

وأيًّا كانت الأسباب التي دفعت الفيثاغوريين القدامى لعرض وجهات نظرهم الفلكية، لا يوجد إلا القليل من الأدلة على ما دوَّنوه من ملاحظات تفصيلية حول الأجرام السماوية أو حتى على تطبيق الرياضيات المحبَّبة إليهم على علم الفلك، وهو ما يثير الدهشة. ولكن أول من قام بمحاولة جادة لتطبيق الرياضيات من أجل اكتشاف قوانين الحركة السماوية وهو يوهانز كبلر (١٥٧١–١٦٣٠م) كان فيثاغوريًّا خالصًا (وإن جاء بعد انقضاء عصرهم)، وقد قاده يقينه بأن السموات لا بُدَّ أن تكون مرتَّبة في نمط متناسق يتجلى واضحًا في علاقات رياضية بسيطة إلى صياغة العديد من التعميمات حول الكواكب، والتي كان بعضها أضغاثًا مضللة طواها النسيان اليوم، وخاصة ممَّن يرغبون في إقصاء رجال العلم الحديث عن خزي الارتباط بالفلاسفة القدامى المخبولين، وبعضها الآخر أصبح الآن من معالم علم الفيزياء. وكثيرًا ما يُستشهد بقوانين كبلر الثلاثة لحركة الكواكب بوصفها البوابة التي انتقل منها علم كونيات العصور الوسطى إلى علم الفلك الحديث. لكن كبلر كان فيثاغوريًّا في كثير من أفكاره حتى إن بحثه الذي يحمل عنوان «تناغم العالم» (١٦١٩م) والذي أعلن فيه عن العديد من اكتشافاته الشهيرة لم يحلِّل حركة الكواكب بلغة السلالم الموسيقية الكبيرة والصغيرة فحسب، بل حدد النغمات المختلفة الخافتة التي تصدرها مدارات كلٍّ من زُحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد بالإضافة إلى القمر والأرض.

ورغم أن الفيثاغوريين الأصليين كانوا مصدر إلهام للأجيال اللاحقة؛ فمن الصعوبة بمكان تحديد ما يجب أن يُنسب إليهم من فضل في تقدُّم علم الفلك الوليد في عصرهم. أما الرياضيات البحتة فقد كانت أمرًا مختلفًا، فحتَّى أرسطو المتشكِّك اضطُرَّ إلى الاعتراف بأنهم «أول من ساهم في تقدُّم ذلك العلم.» ويبدو أن أهم نتائج ما أُحرز من تقدُّم في علم الرياضيات — والذي يرجع الفضل فيه للفيثاغوريين بما فيه النظرية الشهيرة ذاتها — تعود إلى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد أو ما بعده؛ أي بعد وفاة فيثاغورس بفترة طويلة، ولكن بعض الأجزاء الأخرى من المعتقد الرياضي قد يرجع تاريخها إليه. ربما كان تصنيف الأرقام إلى «مربعات»، كالرقمين ٤ و٩ على سبيل المثال، موجودًا منذ القِدم (فقد كان الفيثاغوريون يمثلون تلك الأرقام بمربعات من النقاط، وهو سبب تسمية هذا المصطلح)، وربما ينطبق الأمر نفسه على العديد من النظريات حول الأرقام والتي تناسب ذلك التمثيل الهندسي. وقد يكون تقسيم الأرقام إلى أرقام زوجية وأخرى فردية أحد اختراعات الفيثاغوريين القديمة، أما فكرة أن فيثاغورس نفسه كان أول من قدَّم إثباتات أو نظريات رياضية دقيقة — وليس محض ملاحظات متعددة حول الأرقام والمثلثات وغيرها — فهي شيء يتمنى أنصاره أن لو كان صحيحًا.

ومن بين هؤلاء الأنصار كان راسل الأكثر جرأة في العصر الحديث، ويعتمد ادعاؤه أن فيثاغورس كان الأكثر تأثيرًا بين المفكِّرين على فكرة أن تأثير الرياضيات على المجالات الأخرى من الفكر لا يرجع الفضل فيه إلا لفيثاغورس. ويبدو أن راسل كان يقصِد بكلامه نوعين من التأثير رغم أنه لم يحدِّدهما بوضوح، أحدهما يتعلَّق بطريقة الإثبات الرياضي الذي نجِده في كتاب «العناصر» لإقليدس الذي كُتب عام ٣٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، والذي ظَلَّ المرجع الرئيس في علم الهندسة حتى أُضيف إليه العديد من أسفار العهد الجديد في القرن التاسع عشر. وتنطلق براهين إقليدس ببعض الاستنتاجات من مسلَّمات بسيطة يُفترض أنها بدَهية وصولًا إلى استنتاجات جوهرية ومعقدة. وكان لهذا الأسلوب الشاقِّ في البناء المنطقي عميق الأثر خارج مجال الرياضيات وداخله، ليس بوصفه نموذجًا لطريقة تنظيم النتائج العلمية فحسب (فقد كتب نيوتن على سبيل المثال كتاب «الأصول» بالطريقة نفسها) بل في القانون وعلم اللاهوت. وقد قال راسل: «لولا فيثاغورس ما كان علماء اللاهوت لِيَسْعَوْا إلى إيجاد براهين منطقية لوجود الله ولفكرة الخلود.» وإذا كان بوسعنا القول إن مفهوم الأدلة الرياضية تطوَّر على يد الإغريق وكذلك قبل عصر إقليدس (الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد) فليس ثَمَّةَ ما يدعو للاعتقاد أن فيثاغورس أو أتباعه هم من يُنسب إليهم كامل الفضل في اختراع هذا المفهوم أو حتى جزء من هذا الفضل. ويظهر هذ الاستنتاج الدقيق جليًّا في أعمال بارمنيدس الذي سنتناوله في فصل لاحق. إن ما يُنسَب الفضل إليهم فيه حقًّا هو أمر ذو صلة ولكنه أكثر دقة؛ إذ يبدو أن الفيثاغوريين كانوا أوَّلَ من أكَّد أن الرياضيات يمكن الاهتمام بها من أجل الإشباع العقلي، وليس لأنها تصلح لإجراء الحسابات فحسب. وربما كان جوناثان سويفت يرسم صورة هزلية للفيثاغوريين في ذهنه عندما وصف علماء الرياضيات شاردي الذهن في جزيرة لابوتا في روايته «رحلات جليفر»:

لقد بُنيت منازلهم بطريقة سيئة … فلا زوايا قائمة في أيَّة وحدة سكنية ولو حتى واحدة، ويرجع ذلك الخلل إلى الاحتقار الذي يُكنُّونَه للهندسة العملية … ولم أَرَ قَطُّ مَنْ هم أكثر حمقًا ورعونة من هؤلاء، ولا مَن هم أشد منهم بطئًا وارتباكًا في المفاهيم المتعلقة بكل الموضوعات ما عدا الرياضيات والموسيقى.

كان اتخاذ موقف نظري ثابت تجاه الرياضيات كما فعل الفيثاغوريون الحقيقيون سيساعد دون شك على الأقل في تمهيد الطريق لفكرة البراهين الرياضية التي لم يكن الإغريق — وهم أكثر البشر اتباعًا للطرق العملية في التفكير في ذلك العصر — ليستخدموها بكثرة. ونظرًا لاهتمامه بالتأمُّل ورغبته في كشف النقاب عن الأساس الرياضي للأشياء، يهتم الفيثاغوري بالأشياء الرياضية كالمثلثات والأرقام في حَدِّ ذاتها وليس بوصفها محض نماذج لقطع الأرض أو المبالغ المالية، كما يحاول الفيثاغوري التفكير في تلك الأمور بشكل مجرَّد ليتوصل إلى كيفية ارتباط الحقائق والمفاهيم الرياضية ببعضها؛ مما ينتهي به إلى أسس براهين إقليدس سواء أدرك هذه الأسس أم لم يدركها.

أما النوع الآخر من تأثير الرياضيات الذي يَنسب راسل الفضل فيه إلى فيثاغورس فهو أكثر غموضًا من النوع الأول، وهو ناتج عن الفكرة القائلة إن الرياضيات تتيح المعرفة المتعلقة بعالم من الأشياء المثالية (كالدوائر المثالية أو الخطوط المستقيمة استقامة تامة)، وهو أعلى منزلة ممَّا ندركه عن العالم المادي الوعر غير المثالي من خلال الحواس. ويُفترض بالمعرفة الرياضية ألَّا تكون أكثر دقة فحسب، بل أن تكون أكثر سموًّا وإيضاحًا كذلك؛ ذلك أنها أكثر تجريدًا ممَّا يجعلها نموذجًا يُحتذى به لكل أنواع المعرفة الأخرى. وعندما كتب راسل لاحقًا عن «تراجُعِه عن تأييد فيثاغورس» بشكل نهائي، أكَّد أن ما تراجع عنه هو «الشعور بأن العقل أرقى من الحواس أي الإدراك الحسي كالإبصار.» ومن السهل اعتبار هذا الشعور تطورًا طبيعيًّا للديانة الأورفية؛ فالجسد وكل ما ينقله لنا من معرفة إنما هي أشياء ملوثة فاسدة، أما العقل أو الروح وما ينقلانه لنا فهي أفضل وأحسن. وكان أهم مؤيدي ذلك الاتجاه هو أفلاطون؛ ولذلك كان راسل محقًّا عندما اعتبر أن الفيثاغوريين — وإن لم يكن فيثاغورس نفسه — جزءًا من إلهام أفلاطون في هذا الأمر. ولكنَّ الجزء الذي يبالغ فيه راسل هو الافتراض بأن وصول الفيثاغوريين أولًا لذلك الأمر يعني أنهم أصحاب الفضل في كل محاولات السير في هذا الدرب، ولكنه يبدو دائمًا طريقًا طويلًا يغري الكثيرين للسير فيه. وبعد كل ذلك، إذا كان الروحانيون من علماء الرياضيات يرغبون في نموذج يتخذونه قدوةً فإن فيثاغورس هو غايتهم المنشودة. وقد لا يكون فيثاغورس في حقيقة الأمر قد قام بالمعجزات التي تُنسب إليه ولكن هذا ينطبق على كل القديسين أو معظمهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤