الفصل الرابع

حقيقة اللاشيء: بارمنيدس

كان ظهور بارمنيدس أشبه بثعبانٍ يَلِجُ جنة الفلسفة اليونانية، ولكنه لم يأتِ ليهب المعرفة، بل جاء مهددًا بانتزاعها، فحجج بارمنيدس قوَّضت بنيان التفسيرات السابقة التي ناقشت مسألة الطبيعة. لقد حاول معظم العلماء الأوائل الوصول إلى تفسير لكيفية تطوُّر الكون، أما بارمنيدس فقد حاول أن يبرهِن أن الكون لم يتطوَّر بالمرة. وكذلك حاول المفكِّرون الأوائل أن يبحثوا عن تفسير للأحداث في عالم متغير يكتظُّ بالظواهر المتنوِّعة فجاء بارمنيدس ليبرهن أنه ليس في الكون ما يُعرف بالتغيُّر أو التنوُّع؛ إذ إن الواقع عنده يتكوَّن من شيء واحد يتَّصف بالكمال والثبات والخلود. وبعد رحيل بارمنيدس وتلاميذه كان لزامًا أن يُعادَ بناء صرح المعرفة الذي هدموه وقوَّضوا أساسه بما خلَّفوه من أدلة وبراهين محيرة.

رغم هذا لم يَرَ بارمنيدس أنه جاء ليهدِم، بل اعتقد أنه جاء ليُخرِج الناس من ظلمات الجهل والضلال إلى أنوار الحق والمعرفة ويصل بهم إلى ما سمَّاه «طريق الحقيقة». ومن أجل التأكيد على هذه الغاية صاغ بارمنيدس تفسيره في شكل وحي ادَّعى أنه نزل عليه من إحدى الإلهات خلال رحلة سماوية فقال:

وقد حيَّتْنِي الإلهة برفق وأخذت يدي اليمنى في يمناها وخاطبتني قائلة: «تحياتي أيها الشاب الصغير، يا من حضرت إلى منزلي في صحبة الخالدين من السائقين تجرُّك الجياد. لم يخبئ لك القدر شرًّا عندما كتب عليك أن تسلك هذا الطريق الذي ينأى كثيرًا عن طرق البشر، بل إنه كتب لك الحق والعدالة، وإنه لَحَقٌّ لك أن تنهل العلم كل العلم هنا.»

لا نعرف عن كاتب هذه الأسطر إلا قليلًا. وإن كُنَّا نعرف الكثير عن حياة هرقليطس فلا نعرف عن بارمنيدس إلا قليلًا، فليس لدينا إلا ما تبقى من رُفات أفكاره؛ إذ لم نقف على أيٍّ من أخبار حياته الخاصَّة. ويوضح وصف أفلاطون للقاء سقراط وبارمنيدس أنه وُلِدَ حوالي عام ٥١٥ق.م. وكان حينها بالتأكيد أصغر سنًّا من هرقليطس وأكبر من سقراط. وبالإضافة لذلك يمكننا القول إنه قد عاش هو وتلميذه زينون في مدينة إيليا وهي إحدى المستعمرات الأيونية على الساحل الغربي لإيطاليا، وقد كان على قدر لا بأس به من الثراء والنبوغ شأنه في هذا شأن الكثير من فلاسفة عصره.

ويبدو أنه لم يستقِ أفكاره من أي مصدر وكأنها نزلت عليه من السماء؛ فقد زعم البعض أنه أحد الفيثاغوريين المنشقِّين عن إيطاليا معتمدين في زعمهم هذا على قدومه منها، ولكن في الحقيقة لا يوجد دافع حقيقي للقول بصحة هذا الأمر اللهم إلا استخدامه الأدلة الاستنباطية التي افترض الناس أن الفيثاغوريين استخدموها في الرياضيات في الوقت ذاته تقريبًا. ويقال كذلك إنه كان أحد تلامذة الشاعر ورجل اللاهوت زينوفانيس، ولكن هذا القول قد يكون مضللًا بعض الشيء — وإن صَحَّ — لأن فكر بارمنيدس يتميز بالأصالة ولا يبدو أنه استقاه من أي شخص كائنًا من كان.

وكما سنرى لاحقًا، فإن بارمنيدس قد تلاعب كثيرًا بمفهوم «اللاشيء» بطريقة تذكرنا بالنكات الساخرة التي حِيكَتْ حول مصطلح «لا أحد» الذي لم يستطع لويس كارول أن يقاومه فقال:

استأنف الملك حديثه مع الرسول باسطًا إليه يده ليناوله مزيدًا من القش وسأله: «من قابلت في الطريق؟»

فأجاب الرسول: «لا أحد.»

فرد الملك: «صحيح، هذه الفتاة رأته أيضًا؛ لذا بالتأكيد لا أحد يمشي أبطأ منك.»

قال الرسول بنبرة عابسة: «لقد بذلت ما في وسعي، وأنا على يقين أن لا أحد يمشي أسرع مني.»

فأجابه الملك: «حقًّا لا يمكنه أن يفعل ذلك وإلا لسبقك إلى هنا.»

وهناك كثير من النِّكَات التي كانت متداولة بين اليونانيين منذ عهد هوميروس؛ ففي الأوديسة مثلًا يُروى أن عملاقًا وسيمًا وغبيًّا في آنٍ واحد يدعى بوليفيموس قد أمسك بأوديسيوس وسأله عن اسمه — وكان أوديسيوس معروفًا بحِيَله وألاعيبه الماكرة — فأجابه: «لا أحد.» ثم قام أوديسيوس بفقء عين هذا العملاق الذي لم يكُن له إلا عين واحدة، فانتبه جيران بوليفيموس على صراخه من شدة الألم وهرعوا ليقدموا له يد العون فأخبرهم أن «لا أحد» قد تعرَّض له بالأذى، وهو ما أساء جيرانه فهمه فرجعوا عنه وتركوه وحيدًا. ويسعنا القول هنا إن هذه القصة تنطوي على لُبِّ فلسفة بارمنيدس، ولكن استغلال بارمنيدس للتلاعُب بالألفاظ في هذه القصة اتخذ شكلًا جديدًا.

كما أن الشكل الذي اختاره لكتابة أعماله لم يكن مألوفًا على الأقل بالنسبة للفلاسفة؛ فقد استخدم الشعر سداسي التفعيلة وهو الشكل الذي كان شائعًا منذ عهد هوميروس وهسيود وكثير من الشعراء الأقل شأنًا. ولم يكتب بالشعر من فلاسفة ما قبل سقراط سوى زينوفانيس وإمبيدوكليس. وعلى عكس زينوفانيس يقلِّد بارمنيدس الأسلوب والخيال اللذَيْن استخدمهما الشعراء الملحميون في مقدمة قصائده على الأقل. وتذكرنا رحلته برحلة أوديسيوس إلى هاديس، كما أن الإلهة التي ألقت عليه التحية تُذَكِّرُنَا بربات الشِّعر اللاتي كُنَّ يوحين بالرؤى الشعرية التقليدية. وهكذا تقول الإلهات اللاتي كُنَّ على جبل هيليكون — واللاتي ظهرن في مقدمة قصيدة «ميلاد الآلهة» لهسيود — للشاعر: «إننا لندري كيف نتحدث بالكذب كما لو كان صدقًا، ولكننا كذلك ندري كيف نتحدث بالحق متى أردنا ذلك.» وبالمثل فإن إلهة بارمنيدس أخبرته أنها ستُحَدِّثُهُ بحديث يختلط فيه الحق بالباطل فقالت: «كل من القلب الراسخ للحقيقة الكاملة وآراء الخالدين التي لا يعول عليها أبدًا.»

ولحسن حظ بارمنيدس — أو بالأحرى لحسن حظ قُرَّائِه — ظلَّت كلمات الإلهة الصادقة بمنأًى عن كلماتها الزائفة. وتتكوَّن قصيدة بارمنيدس التي لم يتبقَّ منها سوى ١٥٠ بيتًا من ثلاثة أجزاء هي المقدمة التي كُتبت على غرار مقدمات القصائد البطولية التي سبق أن اقتبسنا منها جزءًا، والجزء الثاني الذي يتحدث عن «الطريق إلى الحقيقة» والذي يتسم بشيء من الكثافة والغموض والذي يقول فيه بارمنيدس إن العالم سرمدي جامد لا يتغير ولا يتبدل، ثم الجزء الأخير الذي قد يؤدي إلى خداع القارئ باعتراف بارمنيدس نفسه ويُسَمَّى «طريق التجلي» والذي لم يتبقَّ منه سوى فقرات صغيرة. ويسهُل فهم هذه الأسطر القليلة التي تأتي في نهاية القصيدة؛ فهي تقدِّم تفسيرًا طبيعيًّا للعالم المادي المتغير. ويظل السبب الذي دعا لكتابتها مبهمًا، فلماذا تُقَدِّمُ الإلهة تفسيرات أقرَّت بنفسها أنها خادعة ومضلِّلة وتتناقض مع ما ورد في الجزء السابق عليها «طريق الحقيقة»؟ وسأُرْجِئُ الإجابة على هذا السؤال قليلًا؛ فالجزء الأهم من القصيدة هو «طريق الحقيقة» وبه يَجِبُ أن نستهِلَّ حديثنا. (ولكي يسهُل فهم هذا التفسير سأتناول بعض أفكار ميليسيوس وهو أحد تلاميذ بارمنيدس المخلصين والبسطاء، ثم أشرح طريقة تفكير بارمنيدس بشكل يتلاءم مع فكره العام.)

•••

لقد بدأ بارمنيدس بفكرة بسيطة حول الفكر واللغة ثم حوَّل هذه الفكرة إلى فلسفة كاملة. لقد قال إنه ليس بوُسْعِ أي إنسان أن يفكِّر في شيء غير موجود أو يتحدَّث عنه؛ فهذا من وجهة نظره يعادل الحديث عن اللاشيء، والشخص الذي يتحدَّث عن اللاشيء أو يفكِّر فيه لن يستطيع أن يتحدَّث أو يفكِّر بشكل سَوِيٍّ بأي حال من الأحوال؛ ولذلك علينا أن نمحو الأشياء غير الموجودة أو اللاشيء تمامًا من فكرنا. وعَجَبٌ عُجَابٌ أن نجد أن الأمر ليس بالسهولة التي يتحدَّث بها بارمنيدس، فهذه الأفكار السلبية موجودة في كل شيء حولنا. ويوضِّح ذلك على سبيل المثال أنه لا سبيل لنا للحديث عن أن شيئًا ما قد خرج إلى الوجود؛ إذ يتضمن ذلك أنه لم يكن موجودًا من قبلُ، وهذا بالنسبة لبارمنيدس ضَرْبٌ من المستحيل فلا يمكننا أن نتحدَّث عن شيء غير موجود. وبالمثل لا سبيل لنا إلى الحديث عن شيء سينقطع يومًا من الوجود؛ لأن هذا ينطوي على الفكرة المستحيلة أنه سيأتي عليه يوم يكون فيه لا وجود له، ولذلك فلا ينبغي أن ندَّعي أن هناك شيئًا سيأتي إلى الوجود أو ينقطع عنه؛ ولذلك فكل الأشياء خالدة.

وهذه الفكرة في حَدِّ ذاتها كافية لإثارة الدهشة؛ فكلنا يرى أن الأشياء تُولَدُ وتموت وتأتي إلى الوجود ثم تنقطع عنه، ولكن الأسوأ لم يأتِ بعد، إذ يترتب على فكرة بارمنيدس بأنه لا يمكننا الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه أن لا شيء يتغير أبدًا؛ لأنه إذا تغيَّر أي شيء فإن هذا يعني أنه كان موجودًا في وقت معيَّن بشكل معين ثم أصبح غير موجود في وقت آخر، ولكننا لا نستطيع الحديث عن شيء غير موجود؛ ولذلك لا نستطيع الحديث عن التغيير. ويستتبع ذلك أيضًا أنه ليس ثمة شيء يتحرَّك، فحركته تعني أنه في وقتٍ ما كان موجودًا في مكانٍ معين ثم انتقل من مكانه ذاك إلى مكان آخر فأصبح غير موجود في مكانه الأول. ولا يسعنا أن نتحدَّث عن انعدام وجود الشيء في مكان معين؛ لأن هذا ينفي قدرته على الحركة. وإذا كان بارمنيدس مصيبًا في تفكيره، فليس في اعتقاد هرقليطس بكونٍ دائم الاضطراب إلا محض الخطأ.

يرى بارمنيدس أيضًا أن وجودَ أي شيء يقتضي كونَه في حالة من الكمال التام، فإذا افترضنا أن هذا الشيء ينقُصه أو كان ينقصه جزءٌ ما في وقت من الأوقات؛ فهذا يعني أن هناك جزءًا منه ليس موجودًا، وهو أمر لا يمكننا الحديث عنه أو التفكير فيه؛ ومن ثَمَّ فإن تفسيرات أناكسيماندر وأناكسيمينس لا بُدَّ أن تكون خاطئة إذا افترضنا صحة أقوال بارمنيدس، إذ لم يمر الكون بمراحل التطور التي قالوا بها أو بأي شكل آخر؛ لأنه وُجد على حالته تلك من الكمال التام. وفي سياق الجدل حول الكون وعدم تطوُّره عبر الزمن يقدم لنا بارمنيدس سببًا آخر على فكرة عدم انبثاق الكون من اللاشيء متسائلًا: «ما الذي دفع الكون إلى الوجود من العدم لاحقًا وليس سابقًا؟» أي «لماذا نشأ الكون من العدم في تلك اللحظة دون غيرها؟» ويبدو أن هذا السؤال لم يحاول أحد قبل بارمنيدس الإجابة عليه.

وبما أن الكون أو «الموجود» كما يحب أن يسميه بارمنيدس لا يتغير في كل الأوقات فهو لا يتغير في أي مكان؛ فلا مكان فارغ في الكون لأن هذا يعني أنه لا يوجد شيء في هذا المكان، وهو ما يرفضه بارمنيدس تمامًا؛ إذ إن الوجود لا بُدَّ أن يوجد ممتلئًا بكامله. وأخيرًا، بما أن بارمنيدس يعتقد أن «الموجود» يتَّسم بالاتساق والوَحدة فهو يرى أيضًا أنه فريد لا مثيل له؛ أي إنه لا يوجد منه إلا شيء واحد، ولذلك قال مثلًا: «إن الموجود يتَّسم بالكمال والتمام وانعدام المثيل.» ولأنه على ذلك الحال من الكمال (لأسباب أكثر تعقيدًا قُمتُ بحذفها) يُنهِي بارمنيدس الجزء الخاص ﺑ «طريق الحقيقة» بتشبيه غامض لذلك الشيء الواحد الموجود الفريد بالكُرَة، التي كان ينظر إليها اليونانيون على أنها الشكل الذي تتحقَّق فيه سِمَاتُ الكمال. ويتميز هذا الشيء — كما يقول بارمنيدس — بأنه «متساوٍ في بعده عن المركز من جميع الاتجاهات» وبهذا فنحن الآن نعلم الحقيقة أو بالأحرى حقيقة بارمنيدس التي لا تُصَدَّق؛ فليس ثمَّة ميلاد ولا موت ولا تغيُّر ولا حركة ولا تنوُّع، فليس هناك سوى شيء واحد سرمدي لا يتحرك يتسم بالكمال وعدم القابلية للانقسام ويشبه الفلك.

•••

من أهم سمات هذا الفكر أنه يتميَّز بالاتساق الذاتي؛ فبارمنيدس يعود مرارًا وتكرارًا لفكرة استحالة التفكير في شيء غير موجود، وهذا هو مصدر روعته. وانطلاقًا من هذه الفكرة ينسج بارمنيدس شبكة عنكبوتية تُمَكِّنُهُ من اصطياد أفكار التغيير والحركة والميلاد والموت والتنوُّع والنقص والتهامها جميعًا، ولكنه لم يَسْلَمْ من الخطأ الشديد في بعض الأمور التي علَّق عليها أرسطو قائلًا: «رغم أن هذه الأفكار تبدو وكأنها تتبع نهجًا منطقيًّا فالإيمان بصحتها يجعلنا على حافَة الجنون إذا وضعنا في اعتبارنا الحقائق المعروفة.»

ولا تتناقض أفكار بارمنيدس مع المنطق السليم فحسب بل مع بعضها البعض وبطريقة جلية واضحة للعيان؛ فهو دائم الإنكار للأشياء، ومن ذلك على سبيل المثال أنه يُنكِر وجود الحركة أو الميلاد أو الموت، وهذا في حَدِّ ذاته يُعَدُّ حديثًا عن أشياء غير موجودة وتفكيرًا فيها، وهذا وفقًا لفكره وفلسفته ضرب من ضروب المستحيل. ومن الغريب أن تنكر كل هذا في حين أنك تتجنب الحديث عن الأفكار السلبية.

ولكن هذا الاعتراض لا ينفُذ إلى صُلب الموضوع؛ إذ إنه يبرهن على أنه ثَمَّةَ خطأ فيما يقوله بارمنيدس — وهو أمر قد أدركناه على أية حال — ولكنه لا يحدد هذا الخطأ أو سببه، فنحن نحتاج إلى تشريح ما بعد الوفاة، لا مجرد شهادة وفاة. ولحسن حَظِّنَا، ليس علينا أن نتكلَّف عناء البحث الطويل حتى نصل إلى بُغيَتِنا ونتعرف على مصدر الخطأ؛ فالخطأ ينبع من فكرته الأولى التي تقول إنه لا يمكننا الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه، فنحن بكل وضوح يُمكِننا أن نفعل ذلك مهما حاول بارمنيدس أن يخالفنا؛ فعلى سبيل المثال يمكننا أن نقول إن حيوانًا خرافيًّا كالحصان وحيد القرن لا يوجد في أي مكان، وإن كريستوفر كولومبوس ليس على قيد الحياة الآن، وإن الطبشور ليس كالجبن، وإنني لا أمتلك أي رصيد في المصرف، والعديد من الأشياء الأخرى التي يُعَدُّ الحديث عنها حديثًا عن أشياء غير موجودة. وإذا كان هذا صحيحًا — أي إذا أمكننا أن نتحدث عن أمور غير موجودة ونفكر فيها — فسيكون لنا أن ننكر النتائج التي توصَّل إليها بارمنيدس معتمدًا على استنتاجاته الغريبة.

ولو كان بارمنيدس بين أظهُرِنا لما كان تحليلنا هذا لِيُقنعه، ولقال إن الناس يتوهَّمون قدرتهم على التفكير في أشياء غير موجودة والحديث عنها على خلاف الحقيقة؛ فهو يعتقد أن كل ما نفعله عند الحديث عن أشياء غير موجودة أو التفكير فيها ليس سوى «هراء لا طائل منه»، فكما تقول إلهته:

يجب أن تمسك بزمام فكرك وألَّا تدعه يتطرق إلى هذه الأمور، كما يتعين ألَّا تدع عادة الحديث عن هذه الأمور التي تمخضت عن كثير من التجارب تدفعك إلى ولوج هذا الطريق؛ فتجد نفسك تنظر إلى هراء لا طائل منه أو تسمع أو تتحدث عنه، ودع عقلك يحكم على كلماتي التي أثارت كثيرًا من الجدل.

في هذه الفقرة تطلب الإلهة من الإنسان ألا يفكر إلا فيما يخبره به عقله، وأن ينظر في حديثها بعين الاستقصاء والعقل، وأن ينسى ما يُملِيه عليه المنطق السليم، وحينها سيرى الحقيقة جَلِيَّةً واضحة وضوح الشمس في كبد السماء.

كان من السهل علينا أن نفهم هذه النصيحة إذا أسهبت الإلهة في حديثها إلى بارمنيدس وأسهب هو في إيضاحها لنا؛ فأجزاء القصيدة التي تتناول تفسير فكرة استحالة الحديث عن شيء غير موجود والتفكير فيه معقَّدة ومبهمة وربما ليست كاملة، بالإضافة إلى أن بارمنيدس لم يكُن من الشعراء المتمكِّنين؛ فكثيرًا ما نجده يتعثَّر في إنشاء التفعيلة السُّداسية. بل وربما لو ناقش فكرته وعرض مبدأه هذا في قالب نثري مباشر لعجز كذلك عن تفسير ولعه الزائد بهذه الفكرة، للدرجة التي جعلت من الصعب أن يحاول شخص آخر فهمه وتفسيره من بعده. (ولعل ملك لويس كارول يزعم أنه ليس ثمَّة من هو أمهر من بارمنيدس أو أذكى منه). وعلى كلٍّ فما زال من الممكن أن نعيد بناء جزء من القصة حيث إن بارمنيدس لم يرتكب خطأً ساذَجًا فحسب في حديثه عمَّا يمكن للمرء أن يفكر فيه ويتحدث عنه وما لا يمكن أن يفعل معه ذلك، بل على العكس يبدو أنه ارتكب خطأً ينم عن مهارة عالية.

لقد توصل بارمنيدس إلى أن عملية التفكير تتضمن اتصالًا مباشرًا مع الشيء الذي يفكر المرء فيه، وشبَّه عملية التفكير باللمس رغم عدم تصريحه بذلك، فكما يستحيل لمس شيء غير موجود فإن التفكير فيه أو الحديث عنه أمر مستحيل كذلك؛ فالتفكير في شيء غير موجود أشبه بمحاولة الإمساك بشبح، وهذا يوضِّح السبب وراء حذفه الأفكار السلبية مثل «اللاشيء» و«غير الموجود» ممَّا قدمه من تفاسير للعالم.

ولعل مكمن المهارة في هذه الفكرة القائلة إن العقل يجب أن يكون على اتصال بما يفكر فيه هو أنها كانت جزءًا من الإجابة على سؤال لم يشغل بالَ أحدٍ قبله، ألا وهو: كيف للكلمات والأفكار داخل عقلك أن تصِف الأشياء الموجودة في العالم الخارجي؟ أو بطريقة أخرى: كيف يتصل اللغة والفكر مع العالم الخارجي؟ والإجابة الوحيدة التي توصَّل لها بارمنيدس في هذا الشأن هي أن العقل لا بُدَّ له أن يتصل بالعالم الخارجي بطريقةٍ ما، وإن كان هذا لا يفسِّر الأمور بوضوح ولكنه بداية لا بأس بها.

لا نستطيع الآن أن نفهم القضية بشكل أعمق من بارمنيدس، ولكن لا يزال هناك العديد من الأسئلة حول الفكر والمعنى لم نعثر لها على إجابات حتى الآن، وهي الأسئلة التي تشغَل بال علماء النفس وعلماء اللغة النظريين والفلاسفة وعلماء الإدراك. ومنذ عهد بارمنيدس والسؤال الذي يؤرِّقهم جميعًا هو معرفة كُنه عملية التواصل بين العقل والعالم الخارجي والذي يفرز لنا الفكر واللغة. لقد صَبَّ كثير من الفلاسفة جَمَّ تركيزهم على هذه الأسئلة منذ مطلع القرن الماضي، وحمل كثيرٌ من إجاباتهم الأولى صبغةً من فكر بارمنيدس، ولكن لم يذهب أحد منهم بعيدًا رغم ذلك ويدَّعي أنه عند شروعك في الحديث عن شيء غير موجود أو التفكير فيه فإنك تقول هراءً لا طائل منه. ويبدو أن هذه الفكرة لم يؤمن بها سوى بارمنيدس وتلاميذه.

كان أفلاطون هو أول من حاول أن يفكِّك شبكة بارمنيدس المعقدة بالاستفسار عمَّا كان بارمنيدس يعنيه بفكرة «الحديث عن شيء غير موجود»، وأوضح أفلاطون العديد من الطرق المختلفة لاستخدام وصف «غير موجود»، وبيَّن أن وضع هذه الحالات جميعًا في سلة واحدة كما فعل بارمنيدس فِعْلٌ فيه ما فيه من عدم النُّضج، وبيَّن كذلك أنه حال إماطة لثام الغموض عن مفهومَي «الموجود» و«غير الموجود» ستتلاشى أسباب الحَيرة والتخبُّط عند الحديث عن «غير الموجود»، وسيكون من السهل أن ندرك أن استخدام مصطلحات سلبية أو إنكار الأشياء يختلف تمام الاختلاف عن التفوُّه بهراء لا طائل منه. ولم يقدم أفلاطون تصورًا شاملًا لعلاج هذه القضية، إلا أنه كان دافعًا كافيًا لتلميذه أرسطو أن يرفض فكر بارمنيدس وينحيه جانبًا في قوله: «إن زعمه أن الحديث عن «الموجود» لا يكون إلا من طريق واحد لهو قول مغلوط وزائف؛ لأنه يمكن الحديث عنه بأشكال عدَّة.»

لكن قبل أن نحذف بارمنيدس من قاموس الفلاسفة بسبب ما قدَّمه من شعر رديء، ولعجزه حتى عن فهم لغته الأصلية، يجب أن نضع في اعتبارنا شيئًا مهمًّا وهو أن أدوات التحليل النحوي التي استعملها أفلاطون لتفسير مفهوم «الحديث عن شيء غير موجود» كانت قد استحدثها للتو الرحالة من المعلمين السفسطائيين الذين تجمَّعوا في أثينا في العصر الذي عاش فيه سقراط. ولم تكن هذه المصطلحات اللغوية شائعة في ريعان شباب بارمنيدس، ولعله لم يفكِّر فيها بشكل منهجي قط. ولعل أفلاطون وأرسطو لم يخطر بباليهما أن يُفَكِّرَا في استخدام هذه المصطلحات أيضًا لولا أن دفعتهما إلى ذلك كتابات بارمنيدس ومن سبقوه، والتي تتميز بالغموض والتعقيد. ولم يكن بارمنيدس هو وحده من عجز عن إدراك بعض الحقائق حول اللغة والتي نَعُدُّهَا الآن واضحة بل تافهة. وفي الدفوعات التي قدمها بارمنيدس تجدر الإشارة إلى أن فكرة إيجاد وجهِ شَبَهٍ بين التفكير واللمس التي يبدو أنها أعجبته ربما كانت مستعصية على الفهم في زمانه أكثر من الآن، فالفعل noein المستخدَم في «طريق الحقيقة» والذي يعني «يفكِّر»، يحمل دلالات ومعاني مختلفة عمَّا يحمله الفعل «يفكر» الذي نستخدمه الآن؛ فهو يعني كذلك إدراك حقيقة الأشياء في العالم عن طريق الحواس عادة؛ ولذلك فمعناه يكاد أحيانًا يفوق ما يحمله الفعل «يدرك» من معانٍ. وفي الواقع، قال أرسطو ذات مرة إن الناس في عصر بارمنيدس ومن قبله كانوا ينظرون إلى عملية الفهم بوصفها عملية جسدية مثل الإدراك.

•••

وقد حلل أفلاطون فقرة «طريق الحقيقة» بلا رحمة ولا هوادة إلا أنه أعلى من شأن بارمنيدس وأظهر له كل تبجيل وتقدير واحترام. ففي إحدى محاوراته قال أفلاطون على لسان بطله الأثير سقراط: «إن ثمَّة شخصًا أُكِنُّ له احترامًا يفوق الجميع، إنه بارمنيدس الذي أراه كما يقول هوميروس شخصًا «وقورًا مَهيبًا». لقد قابلته ذات مرة وأنا في مقتبل عمري بينما كان هو قد طعَن في السن وألفيْتُ فيه نظرة عميقة لا تتسم إلا بالجلال والنبل.» وقد كان لبارمنيدس كبير الأثر في تكوين أفلاطون؛ فمن أهم الأفكار التي أخذها أفلاطون من بارمنيدس هي أن كل شيء يتصف بالحقيقة المطلقة لا بُدَّ أن يكون ثابتًا لا يتغير وخالدًا لا يفنى وبالتأكيد ليس بمخلوق، رغم أن الحجج التي ساقها أفلاطون لا علاقة لها بما يدَّعيه من استحالة «التفكير في شيء غير موجود.» وكذلك اقتبس أفلاطون فكرة بارمنيدس حول التفريق بين العقل والحواس بالإضافة إلى الفكرة الفيثاغورية (والأورفية الخالصة) التي تقول إن الفكر يحظى بمنزلة أعلى وأرقى من الحواس. وكما رأينا، فقد دعم الفيثاغوريون هذا الفكر العقلاني، ولكن بارمنيدس كان هو أول من طبقه عمليًّا في فلسفته.

أقام أفلاطون بناء على فكرة التفريق بين العقل والحواس نظرية تقول إن العالم مقسَّم إلى جزأين: أحدهما خالد لا يفنى أدركناه من خلال العقل، والآخر متغير متبدل أدركناه من خلال الحواس. وعلى العكس من بارمنيدس، كان أفلاطون مستعدًّا لقبول فكرة أن العالم الأدنى منزلة ومكانة والذي نراه ونسمعه ونلمسه هو عالم واقعي ولكن بدرجة أقل، ولكنه رفض هذه الفكرة واصفًا إياها بأنها محض تخريف وأوهام، وما كان ليقول إننا ندرك هذا العالم من خلال الحواس، بل إن الحواس وحدها تخدعنا وتجعلنا نصدق هذا الكلام. وثمَّة فرق آخر بين الرجلين، وهو أن أفلاطون رغم اعتقاده أن العالم الأرفع منزلة ومكانة يتسم بالخلود وعدم التغيُّر، كان يعتقد أنه يتضمَّن عدة أشياء على خلاف بارمنيدس الذي ادَّعى أن الحقيقة المطلقة «واحدة» تتكون من أشكال أو أفكار صافية ثابتة (سنتعرض لها بالتفصيل عند الحديث عن أفلاطون نفسه)؛ وبهذا نجد أن أفلاطون اقتبس جزءًا من الصورة التي قدمها بارمنيدس عن العالم وضرب صفحًا عن الأجزاء الأخرى. وقد راقت لأفلاطون فكرة وجود حقيقة مطلقة لم تُولد ولا تتغير ولا تفنى، ولكن يبدو أن هذه الفكرة لم تكُن كافية له، كما أنه لم يقتنع بأسباب بارمنيدس في الإيمان بأن العالم الواقعي لا يوجد؛ ولذلك حاول أن يثبت وجوده أيضًا.

ولم يكُن أفلاطون أول من ناقش فلسفة بارمنيدس؛ فقد قام أربعة من كبار الفلاسفة قبل أفلاطون في القرن الخامس قبل الميلاد بمحاولة لإرجاع الفكرة المعهودة عن العالم إلى سابق عهدها، وإن احتفظوا رغم ذلك بشطر من فكر بارمنيدس. على سبيل المثال قال إمبيدوكليس (حوالي ٤٩٥–٤٣٥ق.م.) إن العالم يتكون من عناصر أربعة هي النار والهواء والماء والتراب، وكلها تتمتع بالخلود والثبات تمامًا مثل فكرة الحقيقة المطلقة الواحدة لدى بارمنيدس. ورغم أن كل عنصر من هذه العناصر لا يُغَيِّرُ من خصائصه ولا يدخل إلى عالم الوجود ولا يَفنى، كان إمبيدوكليس يرى أن هذه العناصر يمكن أن تتحرك وأن تتَّحد مع بعضها لتُكَوِّن لنا الظواهر اليومية التي نراها. وقد أَقَرَّ أناكساجوراس (حوالي ٥٠٠–٤٢٨ق.م.) بفكرة أن المواد الأساسية لا تنشأ ولا تفنى، ولكن بدلًا من الإيمان بوجود أربعة عناصر فقط مثل إمبيدوكليس رأى أن كل المواد الطبيعية سرمدية لا تتبدل ولا تتغير، وأن الأشياء العادية تتكون من خليط من هذه المواد غير التي لا تفنَى. وكما يرى إمبيدوكليس، يتكون العالم من مجموعة من العناصر تتسم هي نفسها بالخلود وعدم التغيُّر.

وكان الشكل الأخير والأكثر تأثيرًا في هذه القائمة هو «النظرية الذَّرية». لقد قدم كلٌّ من ليوكيبوس (حوالي ٤٦٠–٣٩٠ق.م.) وديموقريطس (حوالي ٤٦٠–٣٥٧ق.م.) نظرية تتحدث عن «ذرات» متحرِّكة ومتناهية الصغر تتمتع بالصفات التي عزاها بارمنيدس إلى الحقيقة المطلقة الواحدة من خلود وثبات، وتختلف فيما بينها من حيث الشكل والموقع في الفضاء، وجميع الأشياء الأخرى التي نراها في الكون يمكن تفسيرُها على أساس هذه الذَّرَّات؛ حيث إن جميع المواد والأشياء الطبيعية بما في ذلك الإنسان والحيوان تتكوَّن من ذرات تسبح في الفراغ (فضاء خاوٍ) حتى تصطدم بذَرَّات أخرى لتُكَوِّن الأشجار أو الإنسان أو كُتَلًا من الفِضَّة وهكذا. وهذا العالم العامر بالحركة والضوضاء يبعُد كثيرًا عن فكرة العالم الذي تخيَّلَه بارمنيدس؛ فهو يحتوي على حركة وتنوُّع وكذلك فراغ في بعض أجزائه.

•••

لقد عرضنا الآن بعض المحاولات التي قام بها خلفاء بارمنيدس لمُسَايَرَةِ فكره، ولكن كيف ساير بارمنيدس نفسه؟ لقد وَضَعَ نفسه في موضع المستحيل. فإذا كان هناك شيء واحد فقط كما يُعتقد إذن فكيف يمكن أن يميِّز نفسه عنه؟ ووفقًا لما قَدَّمَهُ من حجج، إما أن يكون هو نفسه زائفًا أو خياليًّا مثل العالم البدَهي المتغيِّر الذي رفضه أو أن يكون مماثلًا للعالم الثابت غير المتحول الذي ليس فيه إلا حقيقة واحدة. وإذا ما نَحَّيْنَا هذا الاختيار الذي ليس به سوى السخافات جانبًا، فكيف للإنسان أن يتصرف في مثل هذا العالم؟ والحق أن لا فائدة تُرجى من القيام بذلك؛ لأن التغيُّر والحركة ضروب من المستحيل. ولنأخذْ على سبيل المثال مشكلة ميليسيوس التلميذ الوفي لبارمنيدس. لم يكن ميليسيوس فيلسوفًا لبعض الوقت فحسب، بل كان أميرًا لأسطول ساموس الذي حقَّق النصر في إحدى المعارك الشهيرة على الأسطول الأثيني عام ٤٤١ق.م. فقد تلقى كل أفكار معلِّمه وآمن بها، ولكن ماذا كان عليه أن يفعل في رأيه؟ فالسفن لا يمكن أن تتحرك، وهو كذلك لا يمكن أن يتحرك؛ ومن ثَمَّ فالمعارك لا يمكن أن تقع، هذا بالإضافة إلى أنه لن يوجد من يحاربه.

وليس بوسعنا إلا الظن أن بارمنيدس وميليسيوس قد اعتبرا الحياة العادية ضربًا من الأوهام، أو على الأقل لغزًا مبهمًا يمكن للمرء أن يلهو به كيفما شاء، ورغم أنهما لم يُعلِنَا هذا صراحةً فمن الصعب أن نظن فيهما غير ذلك؛ فكلاهما عاش حياة طبيعية ولذلك فشلا في التصرف؛ أو بالأحرى لم يتصرفا من الأساس وفقًا لمعتقداتهما الفلسفية الظاهرة.

وربما لم يَشْغَلَا نفسيهما أصلًا باختبار أفكارهما ومعتَقَداتهما بتطبيقها على متطلبات حياتهما اليومية. لا يوجد ما يدعونا للاعتقاد بذلك، ولا يحمل الجزء الذي يحمل اسم «طريق التجلِّي» — وهو الجزء الثاني من قصيدة بارمنيدس الذي فسرت فيه الإلهة المعتقدات الخاطئة لدى الإنسان — شيئًا مختلفًا. في الواقع، هذه الأجزاء لا تزيد الأمر إلا إبهامًا وغموضًا. وقد قال بلوتارخ (حوالي ٤٦–١٢٠م) إن بارمنيدس في الجزء الذي يحمل العنوان «طريق التجلِّي» «أخبرنا الكثير عن الأرض والسموات والشمس والقمر وسرد كيف نشأ الإنسان …» ولكنه لم يفسر لنا كيف يمكن لهذه الرواية أن تتَّسِق مع ما ورد في «طريق الحقيقة» الذي رأى العالم كله شيئًا واحدًا وأنه ليس ثمَّة شيء جديد ينشأ في الوجود.

لكن رغم أن الجزء الخاص ﺑ «طريق التجلي» لا يفصح عن آراء بارمنيدس الخاصة؛ إلا أنه لا يعتبر محض تسجيل تاريخي لما قاله الناس في هذا الشأن فحسب، بل إنه سجل أصلي كُتِبَ على طريقة علماء الطبيعة وإن كان أشد تعقيدًا في بعض المواطن، قالت الإلهة إنها ألفته «لئلَّا يتخطاك تفكير أي إنسان آخر.» ويوضح هذا أن بارمنيدس ضَمَّنَ جزء «طريق الحقيقة» في قصيدته ليُثبت أنه يمسك بناصية الفلسفة التقليدية؛ فقد استغل عادة حديث ربات الشعر بالحق والباطل كما في هسيود في محاولة منه لإثبات قدرته على ابتكار تفسير طبيعي للعالم من حوله وإثبات أن أي شخص يمكنه فعل ذلك وأنه يفوق أغلبهم في هذا الشأن.

ورغم ذلك فلم يتمكنْ أي شخص من كتابة «طريق الحقيقة» مثلما كتبه بارمنيدس، الذي تعد كتابته إنجازًا رائعًا في هذا المكان وذلك الزمان. وقد تكون حجج بارمنيدس المجرَّدة تجاوزت كل الحدود ولكنها حقًّا ظاهرة فريدة من نوعها، فمن خلال المحاولة التي قام بها بارمنيدس باستخراج مجموعة من الأفكار من مبدأ واحد، وهي فكرة تجنب الحديث عن «شيء غير موجود» وعلى نحو يتبع المنطق والحجة القوية، كان بارمنيدس أول من ابتدع استخدام التحليل النظامي للاستنتاج بعيدًا عن علم الرياضيات، وقد ابتدع كذلك طريقة التفكير التي تنتهج محاورة طويلة تدور حول المبادئ العامة للوصول إلى استنتاجات صادمة عن العالم ومعرفة الإنسان به. وهناك العديد من الفلاسفة الذين يعتقدون كذلك أن العالم ليس كما يبدو لنا، ولكن بارمنيدس تميَّز عنهم باستخدام البرهان المفصَّل لإثبات وجهة نظره واكتشاف الخصائص الحقيقية للواقع. وقد سار آخرون على الدرب نفسه الذي شقَّه بارمنيدس، ورأينا نماذج لهؤلاء على مدار التاريخ. ونجِد أهم هذه النماذج في كتابات هيجل ومن اتَّبَعُوه. ففي محاضراته عن تاريخ الفلسفة قال هيجل: «إن بارمنيدس قد استهل الفلسفة وسار فيها بشكل صحيح.» وربما قصد بذلك أن بارمنيدس كان المفكر الأول الذي امتلك من الحكمة ما أهَّلَه لأن يسبق هيجل.

أما باقي حديث هيجل عن بارمنيدس فيكتنفه الغموض، ولكن يبدو أن أكثر ما أعجبه هو فكرة أن «الشيء العابر لا حقيقة له» وهو ما يعني تقريبًا أن أي شيء يتغير لا يمكن أن يكون حقيقيًّا. وهذه في الواقع هي فكرة بارمنيدس الرئيسة التي يمكن صياغتها بحيث تبدو وكأنها فكرة دينية أو صوفيَّة، رغم أن استخدامه للجدل المنطقي يبعده كثيرًا عن التقليديين والرومانسيين من الصوفيين. (وقد أسهب نيتشه في كتابته عن طريق بارمنيدس البارد … المليء بالأفكار المجردة المذهلة.) ولا ريب أن هناك تشابهًا كبيرًا بين مفهوم بارمنيدس عن الحقيقة المطلقة كشيء واحد لا يَحُدُّه الزمن ولا يصيبه تغيُّر ولا تبديل، ومفهوم زينوفان عن الإله الأحد الصمد والذي لم يكن مألوفًا لدى الإغريق. ورغم ذلك فلا فائدة تُرجى من التفكير فيما إذا كان بارمنيدس قد تأثَّر بزينوفان أم أن التوافق بينهما محض صدفة لا أكثر كما يرى نيتشه. كما أن الرؤية القائلة إنَّ ثَمَّة عالَمًا سماويًّا يقع فوق عالَمنا المضطرب والتي نجدها عند كلٍّ من زينوفان في شعره وبارمنيدس في حججه، لا يمكن أن ننسبها لأيٍّ منهما دون الآخر.

ورغم أصالة الاستدلال المنطقي لدى بارمنيدس وأهميته التاريخية فلا يمكننا إغفال أنه كان ينطوي على شكل من أشكال العبثية. أَوَليس من السخرية أن يختلق حججًا وهو مرتاح على أريكته — أو من الأجسام السيارة في السماء كما في حالة بارمنيدس — تتناقض بكل بساطة مع ما يمكن أن ندركه بالطرق المباشرة والوسائل التي يُعَوَّلُ عليها؟ وما الفائدة من السعي لإثبات أن شيئًا واحدًا فقط يمثِّل الوجود في حين أنك عندما تنظر حولك تجِد أن ذلك هراء لا طائل منه؟

ورغم ذلك فلا يجب أن نجعل بداية بارمنيدس غير المقنعة تُلقِي بظلالها على هذه المشروعات الفكرية، فحتى لو كانت تتناقض صراحةً مع ما يعتقد الناس أنه المنطق السليم في هذا الوقت فإن الحجج المنطقية المجردة يمكن أن تكشف عن حقائق مهمة؛ ذلك أن «المنطق السليم» أحيانًا ما يُخطِئُ ودائمًا ما يعتريه النقصان. ومن أفضل المحاولات التي قام بها بارمنيدس، وربما المحاولة الوحيدة التي يمكن أن نقتفي أثرها، هي تلك التي نجدها في أعمال تلميذه زينون وهي موضوعنا التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤