الفصل السابع

العقل والمادة: أناكساجوراس

ولد أناكساجوراس (حوالي ٥٠٠–٤٢٨ق.م.) في مدينة كلازومني بالقرب من مدينة سميرنا، ولكن لحسن حظه لم يَبْقَ هناك؛ فهو الذي حمل فلسفة الطبعانية الأيونية غربًا حيث أثينا. وعندما وصل إلى أثينا عام ٤٦٠ق.م. كان سقراط حينها لا يزال صبيًّا ولم يكن أفلاطون قد وُلِدَ بعدُ، ويبدو أن المدينة لم تعرِف أيَّ فيلسوف أو رجل علم حتى ذلك الوقت. وقد تحمله سكان أثينا قرابة ثلاثين عامًا، وأطلقوا عليه اسمًا يشوبه التهكُّم إذ سموه «عقل»، وكانوا يلهون بتداول النوادر عن فكاهاته الساخرة وبُعده عن أرض الواقع، ولكنهم لم يكونوا ليتساهلوا معه أكثر من ذلك، فاتهموه في النهاية بالفسق ففر نحو المشرق حتى وصل إلى لامبسكس بعد أن ترك أثرًا عميقًا في نفوس أهل أثينا.

وتتمثل جريمته المعلنة رسميًّا في أنه كان يعتقد بأن الأجرام السماوية ليست آلهة تستحق العبادة بل أحجار ملتهبة يجب تجنُّبها، إلا أن العديد من الكُتَّاب القدامى قالوا إن السبب الحقيقي في مقاضاته هو صداقته للقائد العظيم بريكليس؛ إذ وجد أعداؤه في أناكساجوراس ببُعده عن الواقعية هدفًا أسهل لهم. ويبدو هذا التفسير معقولًا؛ فقد طالت تلك الاتِّهامات غيره من أصدقاء بريكليس، وشاعت في أثينا المحاكمات ذات الدوافع السياسية بتهمة البِدَع الدينية بنهاية القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن تلك المحاكمات لم تكن لتؤدِّي أغراضها السياسية لو لم تُثِر الهرطقة والكفر بالغيبيات استياءً متأصلًا بين أهالي أثينا، أو على الأقل في نفوس بعضهم.

وقد جاء ذكر أناكساجوراس في رواية أفلاطون عن محاكمة سقراط بتهمة الفسق بعد نحو ثلاثين عامًا، حيث توجه سقراط إلى أحد مُتَّهِميه وهو رجل يُدعى ميليتوس، وسأله عمَّا إذا كان الاتهام الموجَّه إليه هو «أني لا أؤمن بأن الشمس والقمر آلهة، في حين أن معظم الناس يؤمنون بذلك.» فأكد ميليتوس كلامه قائلًا: «إنه فعلًا لا يؤمن بذلك أيها السادة المحلَّفون؛ فهو يقول إن الشمس قطعة من الحجارة والقمر كتلة من التراب.» وقد أتاح هذا الرد الفرصة لسقراط ليمزح قليلًا على حساب ميليتوس فقال: «عزيزي ميليتوس! هل تتخيل أنك تحاكم أناكساجوراس؟ ألهذا الحد تستهين بهؤلاء السادة حتى تظن أنهم جهلاء فلا يعرفون أن كتابات أناكساجوراس الكلازومني مفعمة بنظريات مثل هذه؟»

لا شك أن أناكساجوراس كان مهتمًّا بالفلك اهتمامًا بالغًا ولكن بصبغة أيونية. وقد قيل إنه تنبَّأ بسقوط نيزك وسقط فعلًا على مدينة إيجوسبوتامي في تراقيا عام ٤٦٧ق.م. صحيح أن هذه القصة أبعد عن المنطق حتى من قصة نبوءة طاليس بالكسوف منذ أكثر من قرنٍ قبله، إلا أن هذه القصة ذات مغزًى؛ فربما تكون قصة سقوط صخرة من السماء قد أكَّدت فكرة أناكساجوراس عن ماهية النجوم. ولا بأس بذلك التخمين عن الأجرام السماوية في أيونيا بفكرها الحر، أما في أثينا المتحفظة فمن الواضح أنه لم يكُن مقبولًا.

كان أناكساجوراس معارضًا للخرافات بشتَّى أشكالها وليس للخرافات المتعلقة بالنجوم فحسب. وقد روى بلوتارخ في كتابه «حياة بريكليس» قصة إحضار رأس خروف بقرن واحد إلى بريكليس وكان به نتوء في منتصف رأسه، وادَّعى أحد العرافين — ويُدعى لامبون — أن وجود مثل هذا الشيء الغريب على أرض بريكليس يعني أن بريكليس سيصبح قائد أثينا (وهو ما حدث بالفعل). أما أناكساجوراس — كما تروي القصة — فأمر ببساطة بتشريح رأس الخروف، وأوضح أن القرن الوحيد نما على تلك الشاكلة لأن مخ الخروف كان مشوَّهًا. ويشير بلوتارخ إلى وجهة نظر أناكساجوراس القائلة إنه لم يكن هناك داعٍ للبحث عن معنى وراء هذا الحدث ما دامت تلك الحقيقة الفسيولوجية قد اكتُشِفَت.

ويبدو أن بريكليس قد أفاد كثيرًا من صحبة مستشار شكَّاك ومحبٍّ للاستطلاع مثل أناكساجوراس؛ فقد ألمح بلوتارخ إلى إن بريكليس «تشبَّع بما يُسَمَّى بالفلسفة العليا والتدبُّر الرفيع» إثر ارتباطه بأناكساجوراس قائلًا: «فسمى به أناكساجوراس فوق الخرافات» التي لطالما «أصابت هؤلاء الذين يجهلون أسباب … الأشياء، فأصبحوا مهووسين بفكرة التدخل الإلهي …» كما يعزو بلوتارخ جُلَّ وقار بريكليس وروح الدعابة التي يتمتع بها لتعرُّضه لفلسفة أناكساجوراس. كذلك قال سقراط إن فلسفة أناكساجوراس هي سبب مهارة بريكليس في الجدل والبلاغة. لكن مهما كانت الآثار الطيِّبة التي تركتها رؤية أناكساجوراس للعالم على بريكليس لم يكُن سقراط ليأخُذَهَا كاملةً؛ فقد رأى أنها علمية ضيِّقة الأفق تهتمُّ كثيرًا بالأسباب الميكانيكية للأشياء وتُهمِل معناها وغرضها.

كان رفض سقراط لرؤية أناكساجوراس نقطةَ تحوُّل في تاريخ الفلسفة، ويُقال أحيانًا إنَّه بيت القصيد الذي تحوَّل فيه الموضوع من دراسة تأمُّلية في الطبيعة إلى دراسة معنوية جادَّة للإنسان، وهذا ما قاله شيشرون بعد قرابة ثلاثة قرون:

منذ قديم الأزل وحتى عهد سقراط تناولت الفلسفة الحركات والأرقام، وتساءلت عن الأشياء من أين أتت وهل عادت أم لا، كما بحثت الفلسفة بشغف في حجم النجوم والمسافات التي تفصلها ومساراتها وكل الظواهر السماوية الأخرى. أما سقراط فهو أول من أتى بالفلسفة من السماء ووضعها في ميادين الإنسان … وأكرهها على طرح أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر.

في هذا الحديث بعضٌ من الصحة ولكن ليس الكثير، فليس صحيحًا أن الفلسفة كانت مقصورة على المسائل العلمية حتى مجيء سقراط؛ إذ إن كثيرًا من الفلاسفة مثل فيثاغورس وهرقليطس طرحوا «أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر» قبل سقراط بوقت طويل. وقد كانت أحكامهم الغامضة التي توصَّلوا إليها في ظل القرن السادس أقل تعقيدًا ممَّا قاله سقراط، إلا أنه كانت هناك محاولات أكثر حذقًا وحجاجًا لتناوُل مسألة الأخلاقيات في عهد سقراط بأثينا، ولم تكن هذه المحاولات ناتجة عن تأثيره (انظر نهاية الفصل الثامن). وظلت الفلسفة تتناول موضوعات الفلك وغيرها من المسائل العلمية لوقت طويل في أثينا وكل بقعة أخرى في بلاد اليونان لوقت طويل بعد أن أتى بها سقراط من السماء إلى الأرض.

ويرجع عدم اكتراث سقراط بالجانب العلمي من الفلسفة جزئيًّا إلى أنه وجد ذلك الجانب مثيرًا للجدل والخلاف؛ حتى إنه لم يستطِع أن يقرر أيَّة مدرسة يتبع من بين المدارس المتخاصمة في ذلك المجال، لكن السبب الرئيس في ذلك هو أنه كان أكثر اهتمامًا بالإنسان وسلوكه في وقتٍ لم يكن لدى العلم ما يقوله عنهما إلا القليل. كما أن سقراط وأفلاطون وَجَدَا مشكلة أخرى تتعلَّق بفلاسفة من طراز أناكساجوراس؛ فالفلسفة العلمية التي نَادَيَا بها لم تستفِد بدور السبب والغرض في الطبيعة إلا قليلًا. ولا نعرف رأي سقراط في هذا المذهب، لكن أفلاطون قال إنه كان يتبنَّى ذلك الرأي. وكان سقراط يَوَدُّ سماع تفسيرات للطبيعة تحاكي عَمَلَ وظائف العقل الذكية، فكان يريد تفسيرًا لسلوكيات الطبيعة يشبهه بسلوكيات الإنسان ويشرح ما يقوم به من عمليات في ضوء الأهداف التي كان يسعى إلى تحقيقها.

ويقول أفلاطون إن هذا هو سبب انجذاب سقراط في بادئ الأمر لما سمعه من أناكساجوراس؛ فقد ألمح أناكساجوراس إلى أن ثَمَّةَ «عقلًا» يتحكم في العالم بأسره وفي كل العمليات الطبيعية، ولكن سرعان ما خاب ظن سقراط في هذه الفكرة لأن أناكساجوراس لم يستفِد منها حق الاستفادة فقال:

عندما كنت صغيرًا كنت شغوفًا بالعلوم الطبيعية؛ إذ ظننت أنه سيكون أمرًا رائعًا أن يعرف المرء الأسباب التي تؤدِّي إلى وجود الأشياء واستمرارِها في الوجود وانقطاعها عنه، وتساءلت: هل صحيح أن المخلوقات تتكاثَرُ عن طريق الاختمار بفعل الحرارة والبرودة كما يقول البعض؟ وهل نفكِّر بفعل الدماء التي تجري بداخلنا أم بفعل أبخرة النيران المشتعلة داخلنا؟ في النهاية توصلت إلى أنني على وجه الخصوص لست مؤهلًا لمثل تلك التساؤلات. لقد حيرَتْني تلك التأمُّلات حتى إني لم تَعُدْ لَدَيَّ المعرفة التي ظننتُ أني أعرفها …

وذات مرة سمعت أحدَهم يقرأ من كتاب قال إنه لأناكساجوراس، وأكد أن العقل هو المتحكِّم في النظام، وهو مسبب كل شيء. وسُرِرت بهذا التفسير، وبَدَا لي منطقيًّا أن يكون العقل هو مسبِّب كل شيء، وبدأت أتأمل أن لو كان الأمر كذلك فإن العقل ينظم كل شيء كيفما يلائِمُه. ومن ثَمَّ إذا أردنا أن نعرف سبب حدوث أي شيء أو توقُّفه أو استمراره يجب أن نتبين أفضل حالٍ لذلك الشيء …

وقد دفعتني تلك التأمُّلات إلى الاعتقاد أني قد وجدت في أناكساجوراس مرجعيةً أطمئن لها حول المسبِّبات، وافترضت أنه سيشرع في إخبارنا ما إذا كانت الأرض مسطحة أم كروية، ثم سيسهب في شرح سبب ذلك وضرورته المنطقية بأن يشرح لنا كيف أن ذلك هو أفضل حالٍ وما هي أسبابه. ولم يخطر ببالي أبدًا أن يقدِّم الرجل الذي أكَّد أن ما تبدو عليه الأشياء من نظام إنما هو نتيجة عمل العقل أيَّ تفسير آخر لها، غير أنها في أنسب حال لها … (يقول سقراط إنه اشترى بعد ذلك نسخة من أعمال أناكساجوراس.)

… وعندما شرعت في القراءة اكتشفت أن ذلك الرجل لم يستفِد من العقل ولم ينسب له أي علة (أي تفسير) لنظام العالم، بل أخذ يُقدم أسبابًا مثل الهواء والأثير والماء وغيرها من السخافات.

بعبارة أخرى، لم يقدم أناكساجوراس شيئًا جديدًا. وسأعود لاحقًا للحديث عن أهمية تفسير الأشياء بالرجوع إلى العقل وبحث «الحال الأنسب للأشياء». وقد قاد أفلاطون — ويليه أرسطو — ذلك الاتجاه، وعلى مر ٢٠٠٠ عامٍ توارى خلفهما التفكير العلمي ذو الطراز المادي الميكانيكي الذي صاغه أناكساجوراس وعلماء الطبيعة من قبله. وبعد ذلك عاد عَلَم العِلْم المادي يرفرف فوق سارية الحياة، وازدهر في عهد جاليليو ونيوتن، ولكنه قبل أن يخبو مؤقتًا وراء أفلاطون وأرسطو كان قد بلغ أوج مجده في العالم القديم على يَدِ من يُدعَون «الذَّرِّيِّين»، مثل ليوكيبوس وديموقريطس، الذين يُعَدُّونَ في بعض الأوجه من زمرة مفكِّري القرن السابع عشر، بيد أنهم جاءوا سابقين لزمانهم.

نشأ تفسير أناكساجوراس للطبيعة في ظِلِّ فكر بارمنيدس، شأنه في ذلك شأن الذَّرِّيِّينَ من بعده وإمبيدوكليس من قبله، فكان عليه أن يجد سبيلًا لإعادة ترتيب العالم المادي المتغيِّر الذي هاجمه بارمنيدس. ورغم أن أناكساجوراس لم يذكر عن العقل ما يرضي أفلاطون فقد ذكر عن المادة الكثير، وذلك ما أعطاه مكانته في ذاكرة تاريخ الفلسفة وليس هجومه على الخرافات.

•••

لقد انطلق أناكساجوراس من النقطة نفسها التي انطلق منها إمبيدوكليس، لكنه انتهى في نقطة مخالفة تمامًا. فإذا كان إمبيدوكليس قد ضاعَفَ «الحقيقة الواحدة» السرمدية غير القابِلَة للانهيار لدى بارمنيدس وأتى ﺑ «العناصر الأربعة» الخالدة غير القابلة للانهيار، فإن أناكساجوراس كان يطمح إلى مضاعفة عالمِ ما وراء الطبيعة بطموح أكبر من ذلك؛ فقال إن كل المواد خالدة وغير مخلوقة وغير قابلة للانهيار. ويمكننا تبيُّن مصدر هذه الفكرة إذا نظرنا في التساؤل الغريب الذي اعتراه: «كيف للشَّعر أن ينشأ من غير الشَّعر …؟»

يشير أناكساجوراس في هذا السؤال إلى أن الطعام الذي نأكله ويبدو (في المجمل) أنه لا يحتوي على أي شَعر فيه يتحول إلى أجسامنا النامية، التي تحتوي على شعر. إذن فالشعر ينشأ من غير الشعر. ولكن لماذا تحيَّر أناكساجوراس من ذلك؟ يرجع ذلك كما قال أحد أتباع بارمنيدس إلى استحالة نشوء الشيء من العدم أو من شيء مغاير، فدفعه ذلك إلى محاولة تفسير كل الحالات الظاهرة للأشياء التي تأتي إلى الوجود مثل نُمُوِّ الشعر. وكان إمبيدوكليس قد حاول في نظريته عن العناصر الأربعة تفسير تلك التغيرات قائلًا إنها تتمثل في إعادة ترتيب للعناصر؛ فمثلًا بترتيب الماء والتراب والنار كما ينبغي تحصل على العظام. ومن ثَمَّ فليس هناك أي شيء جديد ينشأ عندما تنمو العظام لأنها ليست إلا نتاج إحدى طُرُقِ الترتيب المتعددة التي يمكن لمكونات العالم الموجودة مسبقًا أن تترتب عليها. ولكن أناكساجوراس لم ينجذب إلى تلك الفكرة فطرح نظريته المتطرفة.

وتتمثَّل فكرة أناكساجوراس الجوهرية في أن كل مادة تحتوي على كَميات صغيرة من الكثير من المواد الأخرى. وتقدم هذه الفكرة حلًّا لمشكلة تحوُّل الشيء إلى شيء آخر؛ لأنها تقول إن المادة «الجديدة» كانت موجودة في المادة القديمة طوال الوقت، إذن فليس هناك جديد فيما نشأ. ومن ثَمَّ فعندما يغذينا الطعام الذي نتناوله ويتحول إلى شَعر أو عظام أو غير ذلك؛ فهذا لأنه يحتوي على الشَّعر من البداية. ويبدو أن أناكساجوراس رأى أن أيَّ شيء يمكن أن يتحول إلى أي شيء آخر (ربما من خلال مراحل وسيطة عدة)؛ ولذا قال إن كل مادة تحتوي على كَميات من الكثير من المواد الأخرى بل من كل المواد الأخرى. ولذلك فما نسمِّيه خبزًا يحتوي أيضًا على اللحم والماء والتراب والدقيق والذهب وكل شيء آخر لكن بكميات صغيرة؛ حتى إننا لا نرى إلا المادة السائدة وهي مادة الخبز. ويصف أرسطو هذه الفكرة (التي يعارضها) قائلًا:

تبدو الأشياء … مختلفة عن بعضها وتحمل مسميات مختلفة وفقًا لما يزيد عدده فيسود بين خليط مكوناتها اللانهائية؛ فليس ثمة … ما هو بأكمله أسود أو أبيض أو حلو أو عظم أو لحم، وإنما يكتسب الشيء طبيعته مما يغلب بين مكوناته.

كان ذلك حلًّا يستند إلى الخيال — إذا استخدمنا أخف الألفاظ — مما يَسَّرَ على الفيلسوف الروماني لوكريتيوس (حوالي ٩٨–٥٥ق.م.) أن يسخر منه في قصيدته «عن طبيعة الأشياء»، فزعم أنه وفقًا لنظرية أناكساجوراس «ينبغي أن يظهر على حبات الذُّرة عند طحنها تحت حجر الرَّحَى علامات وجود الدَّمِ أو غيره من المواد التي تغذي أجسادنا.» ورأى لوكريتيوس أن ذلك استنتاج عبثي، ولكنه لو واجه أناكساجوراس بهذا الاستنتاج لقَدَّمَ أناكساجوراس ردًّا جاهزًا له ولقال إن الذُّرة بالفعل تحتوي على الدَّمِ، ولكن لا يبدو لنا أنها تدمى لأن حجر الرَّحَى لا يستطيع أن يطحنها بما يكفي لنرى جزيئات الدم الصغيرة رأي العين. ولا يكفي النَّظَر للذُّرة لمعرفة بواطنها الحقيقية.

لقد رأى أناكساجوراس إذن أن الحواس لا تُقَدِّمُ ما يكفي من المعلومات الدقيقة عن العالم. وفي إشارة إلى الكَميات غير المرئية الموجودة في الخبز والماء على سبيل المثال، قال أناكساجوراس إن تلك المواد تحتوي على «أجزاء لا يدركها إلا العقل.» أي إن الحجج العقلية لا الحواس هي التي ترشدنا إلى أن الخبز لا بُدَّ وأن يحتوي على كَميات صغيرة من الأشياء الأخرى. وتشير هذه الحجة إلى أنه لا توجد طريقة أخرى لتفسير تحوُّل الخبز إلى مواد أخرى في أجسادنا ليغذينا. وفي هذا الإطار اتَّبَع أناكساجوراس الفرضية التي قدستها إلهة بارمنيدس والتي تنادي ﺑ «تحكيم العقل» وعدم الانسياق وراء ما ندركه بحواسنا والانخداع به. ولكن أناكساجوراس كان أقل تطرفًا وتشدُّدًا من بارمنيدس؛ فلم يعمد إلى تحكيم العقل بتجاهُل الشواهد تمامًا، وإنما بمحاولة فهمها فهمًا معقولًا، وأعرب عن ذلك في عبارة غامضة قال فيها: «ما الظواهر إلا لمحة من الغموض والإبهام.» أي إن الحواس ترسم لنا خطوطًا ضبابية لفَهم العالم فيأتي العقل ليوضحها لنا ويركز عليها.

وزعم أناكساجوراس أن المادة حتمًا يمكن تقسيمها تقسيمًا لا نهاية له، فمهما طَحنت قطعة من الذهب مثلًا (والذهب يعني لأناكساجوراس جزءًا من مادة يغلِب الذهب على معظمها) فإن كل جزيء منها سيحتوي على جزيئات أصغر من الذهب، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وإلا لأمكن إبادة قطعة الذهب بطحنها إلى قطع صغيرة جدًّا حتى لا يبقى منها شيء. أما أناكساجوراس وغيره من أتباع بارمنيدس الجدد فلم يستسيغوا قط فكرة الإبادة المطلقة، وقد قال في ذلك: ليس هناك «أصغر صورة» لما هو صغير، ولكن هناك دائمًا «صورة أصغر» (لأنه يستحيل لشيء موجود أن يفنى بتقطيعه).

لقد رأى أناكساجوراس إذن أن العالم مُتخَم بما يشبه عددًا لانهائيًّا من الصناديق الصينية متدرجة الحجم، يحوي كلٌّ منها الآخر بداخله. لكن كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ لقد فسَّر إمبيدوكليس طريقة ترتيب الأشياء في الكون باستحضار قوى الحب والصراع المستخدمة في فلسفته، والتي جعلت العناصر الأربعة الأصلية تلتحم وتنفصل بالتبادُل حتى أخذت الأشكال المتنوعة والمتغيِّرة التي نراها اليوم. أما أناكساجوراس فقد استحضر قوة أقل حيوية ولكنها تنم عن اختيار أبعد من حيث الخيال ألا وهي قوة العقل، فقال إنه في البداية كانت هناك كتلة جامدة وغير متمايزة من الأشياء تتكون من كل المواد بعضها مع بعض، ثم بطريقةٍ ما بدأ العقل في تحريك الأشياء فقال:

وقد بدأت تدور في محيط صغير، لكنها صارت الآن تدور في محيط أكبر، وستدور بعد ذلك في محيط أكبر منه … وكل ما كُتب له الوجود … رتبه العقل، حتى دوران النجوم والشمس والقمر وكذا الهواء والأثير اللذان ينفصلان الآن، وقد تسبَّب ذلك الدوران في هذا الفصل، فينفصل الغزير عن القليل والساخن عن البارد والفاتح عن الداكن والجاف عن الرطب.

قد يبدو بعض ذلك مألوفًا حيث استعار أناكساجوراس أفكار الملطيين عن فصل السِّمَات المتضادة وطورها من ناحيتين أساسيتين؛ أولاهما: أنه أتى بفكرة جديدة بأن كل أنواع المواد كانت موجودة في المزيج الأصلي رغبةً منه في التوفيق مع مبدأ بارمنيدس القائل إنه لا يمكن لشيء أن ينشأ عن شيء آخر، والأخرى: أنه أُتيَ بقوة خارجية في صورة العقل لتفسير الحركة. ومن الواضح أن أناكساجوراس قد خالف بارمنيدس في الاعتقاد باستحالة الحركة، إلا أن هجوم بارمنيدس حيَّره حتى شعر بالحاجة لإيجاد تفسير لها، ولم يستطع أن يقبل الحركة كأمر مسلَّمٍ به كما فعل الملطيون.

والحق أن تفسيره للحركة لم يأتٍ بشيء ذي جدوى، فكل ما فعله هو أن وجَّه بنانه نحو هذا «العقل» الغامض واتهمه بالتسبب في كل هذا. ولكن لماذا اختار العقل بالذات لهذا الدور؟ غالبًا ستكون الإجابة على هذا السؤال كما يلي: يقول أناكساجوراس في مناسبة أخرى إن العقل لم يدفع الدوران الأوَّلِي للمواد البُدائية وحسب، بل إنه لا يزال يتحكَّم في كل الكائنات الحية، هذا بالإضافة إلى حقيقة أن كل قطعة من أيَّة مادة تحتوي على كل أنواع المواد الأخرى، وقد قال في ذلك: «هناك بعض الأشياء (ويقصد بها الكائنات الحية) لديها عقل كذلك.» والفارق الوحيد بين الكائنات الحية وغير الحية بالنسبة للإغريق هو أن الكائنات الحية تستطيع أن تحرك نفسها بنفسها؛ ومن ثَمَّ يُفترض أن أناكساجوراس استنتج أن العقل هو الذي يمكِّنها من ذلك (وربما تتمتع النباتات بعقول بُدائية تُمَكِّنُها من النُّمُوِّ). وبذلك لم يتبقَّ إلا خطوة بسيطة للوصول إلى الاستنتاج بأن العقل هو الذي بَثَّ الحياة في الكون في بدايته وحَرَّكَه، كما هو الحال مع الكائنات الحية التي لا يزال يبث الحياة فيها.

لقد تحدَّث أناكساجوراس عن عقله باعتباره كيانًا «يملك المعرفة الكاملة عن كل شيء ويمتلك أعظم القوى» وعلى أنه شيء «لانهائي ومستقل وواحد قائم بذاته» ومنفصل عن المادة العادية، وهذا يسوِّل للمرء أن يستنتج أننا نقف أخيرًا أمام فيلسوف إغريقي نجح في التخلُّص من المادية الفظة وبالتالي يستحق أن ننسب له الرؤية «الثنائية» للعالم التي ترى الواقع منقسمًا إلى عالَمَين: أحدهما هو عالم العقل المعنوي الذي يميزه الذكاء، والآخر هو عالم المادة الصُّلبة العجماء. إلا أن هذا الاستنتاج سابق لأوانه؛ فالحقيقة هي أن أناكساجوراس نظر للعقل باعتباره شكلًا مميزًا من أشكال المادة وليس كيانًا منفصلًا عنها تمامًا، فوَصَفه بصفات مادية قائلًا إنه مادة رقيقة ونقية، وإنه يشغل حيزًا وليس بمعدوم المادية تمامًا. إذن فرغم أن أناكساجوراس كان يصارع ضد قيود المادية الفظة فلم يكن ليتجنبها تمامًا.

أوضح سقراط لاحقًا أنه بعد ظهور العقل على عجالة لدى مولد الكون سرعان ما اختفى من المشهد؛ مما خيب أمله، فيبدو أنه لم يَعُدْ للعقل دور نحو المواد غير الحية بعد أن بدأ دورانُها الأوَّلِيُّ، وسرعان ما طغت الأسباب المجردة الطبيعية على ساحة التفسيرات فلم يذكر أناكساجوراس سوى تلك الأسباب عند تفسيره لتطوُّر الكون بعد أن بدأ الدوران، فقيل إن النجوم عبارة عن أحجار قذفها دوران الأرض وأصبحت مضيئة بفعل الحرارة الناتجة عن سرعة حركتها. وهكذا أخذ أناكساجوراس يفسر ما بوسعه من ظواهر طبيعية بذلك الأسلوب الميكانيكي مستندًا إلى قوة الطرد المركزي وقوة الاندفاع نحو المركز والمبدأ الإغريقي القديم القائل بانجذاب المتماثلين. وبذلك اقتصر دور العقل على إلقاء الكرة في الملعب الكوني، وحال انطلاق تلك الكرة تنطلق المواد سريعًا وحدها في طريقها الصاخب النابض بالحياة.

ومن حسن حظ أناكساجوراس أنه نحَّى العقل جانبًا، فهذا ما نجاه من التراجع إلى مرتبة «علماء اللاهوت» القدامى بقصصهم عن أهواء الآلهة التي لا يمكن التنبؤ بها، كما أن تفسيره لأغلب عمليات الكون من خلال قوى مجردة وطبيعية أعاده إلى زُمرة علماء الفيزياء المعاصرين فأصبح أحد أوائل علماء الفيزياء.

ومن ضمن الأشياء التي تَفَكَّرَ فيها أناكساجوراس الطقس وبعض جوانب علم الأحياء والإدراك بالإضافة إلى علوم الكون والفلك وغيرها من الأمور. ويبدو أنه أدرك أن القمر يأتي بضوئه من الشمس وأنَّ ظل الأرض هو المتسبِّب في خسوف القمر. ونرى في كل ذلك أثر تراث الملطيين، إلا أن أناكساجوراس — على عكس طاليس — لم يكن رجلًا عمليًّا؛ حيث وُلد ثريًّا ثم تخلى عن أملاكه ليركز في الفلسفة، ولم يُبدِ أي اهتمام بالسياسة أو المال. وتروي إحدى القصص أن طبعه الرواقي الذي لا يلقي بالًا للأمور الدنيوية طال أبناءه أنفسهم حتى قيل إنه عندما وصلته أنباء موت أبنائه قال: «أعلم أن أبنائي قد وُلدوا ليموتوا.» وبالمثل عندما وبخه شخص (ربما من أهل أثينا وكان يوَد لو أن أناكساجوراس بقي في كلازومني) قائلًا: «ألا يهمك بلدك الأم؟» أجاب: «بل يهمني بلدي الأب كثيرًا.» وأشار إلى السماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤