الفصل التاسع

وهَبَّت رياح المتاعب: السفسطائيون

عاش «السفسطائيون» في أثينا في النصف الثاني من القرن الخامس وشغلوا مناصب سفراء ومعلمين خصوصيين ومستشاري علاقات عامة ومحاضِرِين وممثلي مسرح وكاتبي خطابات وفلاسفة وخطباء ليليين وأطباء نفسيين في آنٍ واحد، أو العديد من هذه المناصب في معظم الحالات على الأقل. ولمعرفة كيف يمكن لشخص — فضلًا عن طبقة من الناس — أن يجمع كل هذه الوظائف ويقوم بكل هذه الأدوار، لا بُدَّ من الابتعاد عن الخلافات الفلسفية والنظر إلى مدينة أثينا وسكانها.

بحلول منتصف القرن الخامس تحول ما كان تحالفًا مفكَّكًا بين الولايات الإغريقية ضد الفرس إلى إمبراطورية مركزها مدينة أثينا، ويرجع الفضل في ذلك إلى أسطول أثينا، وهو ما جعلها إمبراطورية غنية. وكانت الولايات الأخرى الأعضاء في الحلف يدفعون لها الجزية. وقد أُنفق جزء من هذه الأموال على أشياء لا تزال باقية حتى يومنا هذا بما فيها معبد البارثينون. وكان الدافع وراء تشييد معظم هذه الصروح هو تشجيع بريكليس حاكم أثينا الذي جاء ذكره بالفعل ضمن رفاق أناكساجوراس من المفكرين حيث قال: «ما أعظمَ تلك المعالم والتماثيل التي تركناها في إمبراطوريتنا! سيتعجب اللاحقون من صنيعنا كما يتعجب أبناء هذا الجيل منه.» هذا ما أصاب بريكليس في توقُّعه في خطابه الذي ألقاه في ذكرى المحاربين الأبطال في المدينة.

وفي الخطاب نفسه أثنى بريكليس على الحياة في أثينا التي فَسَّرت — بجانب ثراء المدينة — ظهور السفسطائيين قائلًا:

إن دستورنا يُوصَف بالديمقراطي لأن السلطة ليست في يَدِ أقلية وإنما في يد الناس جميعًا. وعندما يتعلق الأمر بتسوية النزاعات الخاصة فالكل أمام القانون سواء، وعندما يتعلق الأمر بتفضيل شخص على آخر في المناصب العامة فلا يهم الانتماء إلى طبقة معينة بل قدرات الفرد نفسه.

وكانت أهم تلك القدرات على الإطلاق هي القدرة على الكلام ومجادلة النُّخَب السياسية أو هيئات المحلَّفين وإقناعها. وتكمُن قوة بريكليس بشكل كبير في قدرته على التأثير في المجموعة التي أمامه وضمها إلى صفه. ويستمر في كيل المديح والإشادة قائلًا:

إننا أهل أثينا نبني قراراتنا على أساس وتخطيط أو نُخضِعُها للمناقشة؛ لأننا لا نؤمن بعدم التوافُق بين الأقوال والأفعال، فما أسوأ الاندفاع إلى عمل شيء قبل مناقشة عواقبه بشكل سليم!

لقد أَحَبَّ أهل أثينا الحجج القوية، بل وأحبوا الرديئة منها أيضًا إذا كان الجدال مسليًا. كما اشتهروا أيضًا بالمشاكسة، وأحيانًا كانوا يجعلون من أنفسهم مادة للمزاح للغرض نفسه. وفي مسرحية هزلية لأرسطوفان يقود أحد التلاميذ فلاحًا يدعى ستربسيادس داخل مدرسته ويُرِيه التجهيزات العلمية فيها ويدور الحوار كما يلي:

التلميذ : ولدينا هنا خريطة للعالم. هذه أثينا.
ستربسيادس : دعك من هذا، فأنا لا أصدقك. أين هيئة المحلَّفين؟

لقد أُعجب ستربسيادس بهذه المدرسة؛ لأنه أراد لابنه أن يتقن فن الكلام حتى يرد على دائنيه في المحاكم بعد إفلاسه. ولم يهتم المحتالون فحسب بالتمرُّن على الجدال، فكيف كان لمواطن أن يستغل الفرص التي تقدمها الديمقراطية إن لم يُولَد خطيبًا مفوَّهًا؟ ولم يكن نظام التعليم التقليدي وقتها وسيلة لتحقيق ذلك، فكان الفتية في أثينا يتعلمون القراءة والكتابة والموسيقى، ويمارسون الرياضة والتمرينات البدنية، وربما يتعلمون بعض الرياضيات وقدرًا كبيرًا من الشِّعر الملحمي. وكانوا يبدءون تعليمهم في سن السابعة وينتهون غالبًا في الرابعة عشرة. أما الفتيات فَكُنَّ يتعلمن بعض الأعمال اليدوية فقط. ولم يكن غريبًا أن يطالب بمستوى أعلى من التعليم مَن يطيقون تحمل نفقاته. وكان السفسطائيون هم الذين قَدِمُوا من جميع أنحاء اليونان للوفاء بالحاجة إلى تهذيب النفس فكريًّا.

وكان من الطبيعي أن ينجذب أيٌّ من متحدثي اللغة اليونانية من ذوي العلم والموهبة إلى أثينا. ولو لم يكن هذا الرجل مواطنًا من أهل أثينا لما تَمَكَّن من المجادلة على الملأ، وما حقق أهدافه بتلك الطريقة، ولكن كان يمكنه أن يكسب قدرًا لا بأس به من المال وأن يتمتع بكرم الضيافة من خلال تدريب أهل أثينا على المجادلة وتعليم أولادهم، وتسليتهم وتثقيفهم في ولائمهم والترفيه عنهم في حفلاتهم وإسداء النصح لهم. وكان من أوائل من قَدِمُوا إلى أثينا وحَصَّلوا المال بالاشتغال بالتدريس هو بروتاجوراس الذي عاصر أناكساجوراس وإمبيدوكليس وأصبح صديقًا لبريكليس، وقد ظهر باسمه أو شخصه في كثير من محاورات أفلاطون. وكان بروتاجوراس قد جاء في الأساس إلى أثينا سفيرًا لبلدته أبديرة، كما جاء سفسطائيون مشهورون آخرون سفراء أيضًا، ومن ضمنهم جورجياس الليونتيني في صقلية وهيبياس الإيلي.

وقبل ظهور هؤلاء الرجال كانت كلمة سفسطائي تُطلَق على جميع أنواع الحكماء. ومن الغريب أنه حتى بعد هذا الوقت استمر بعض كُتَّاب القرن الرابع في استخدام الكلمة للإشارة إلى كل الفلاسفة السابقين حتى طاليس، ولكن في زمانِهم اقتصرت الكلمة بصورة رئيسة على الذين يُعَلِّمُون الناس مقابل المال، وخاصة من عرضوا تدريس المهارات البلاغية والسياسية وكيفية التفوُّق في المجادلات الأخلاقية والقانونية (وهذا ما سنقصده بكلمة «سفسطائي» فيما بعد). وفي إحدى محاورات أفلاطون، يتوجه سقراط — وهو الراوي — بالسؤال إلى بروتاجوراس عمَّا يقترحه بالتحديد لتعليمه لأحد التلاميذ المرتقبين، فيجيب بروتاجوراس:

أعلِّمه كيفية الاهتمام بكل أموره الشخصية لكي يحسن إدارة بيته، وأعلمه كذلك الاهتمام بأمور الدولة لكي يصبح قوة حقيقية في المدينة كمُتَكَلِّم ورجل أفعال.

ويرد سقراط: هل أفهم من كلامك أنك تقصد فن السياسة والوعد بتربية مواطنين صالحين؟

فقال: إن هذا تحديدًا ما أفعله.

يقدم أفلاطون هنا صورة بروتاجوراس ببساطة مبالغ فيها، فرغم أن أفلاطون يظهر احترامه للسفسطائيين الأشهر؛ فهو يختلف مع كل معتقداتهم تقريبًا، وعارَضَ على وجه التحديد فكرة أنه من المقبول أو حتى من الممكن دفع المال مقابل تعليم قِيَمٍ وفضائل مثل المواطن الصالح أو السياسي الماهر. ولهذا كان ادِّعاء السفسطائيين تعليم النجاح العملي هو ما ركَّز عليه أفلاطون هجومه. وفي الحقيقة كان هذا بعيدًا كل البُعد عن أن يكون جُلَّ منهجهم، فمن بين المواد التي كانوا يُدَرِّسونها: قواعد اللغة ونظرياتها، والبلاغة، والنقد الأدبي، والموسيقى، والقانون، والدين، والأخلاق، والسياسة، وأصل الإنسان والمجتمع، والرياضيات، وبعض العلوم الطبيعية. وبين أنفسهم قدَّموا منهجًا متكاملًا للتعليم العالي، فبدءوا يحلون كناشرين للحكمة محل الشعراء التقليديين وشعراء القصائد الملحمية والفلاسفة ذوي الأطوار الغريبة الذين عملوا دون أجر مثل أناكساجوراس.

ولا ريب أن بعض السفسطائيين تخصَّصوا في بعض المواد بينما قدَّم البعض الآخر تدريبًا شاملًا. فقد كتب بروتاجوراس مثلًا رسالة عن طبيعة الآلهة، يقال إنها قُرِئَت على الملأ لأول مرة في بيت الكاتب التراجيدي يوريبيديس. ومن المؤكد أنه اهتمَّ بالقانون والحكومة حيث إن بريكليس قد أوكل إليه سَنُّ القوانين لمدينة جديدة في جنوب إيطاليا. ويقال إن بروتاجوراس وبريكليس استغرقا يومًا كاملًا في مناقشة مشكلة قانونية تتعلق بتحديد الجاني في حوادث القتل الخطأ في منافسات رمي الرمح. كما كان بروتاجوراس يفسر معاني القصائد، وقد دَرَّسَ اللغة وألَّف فيها حتى إنه يوصف أحيانًا بالنحوي الأول (إذ كانت الفوارق اللغوية التي قدَّمها مفيدة لأفلاطون الذي أضاف إليها ليدحض آراء بارمنيدس المعقدة بخصوص اللاشيء). وبالنسبة للموضوعات الأقل ارتباطًا بالفلسفة ظهر بروتاجوراس في محاورات أفلاطون وهو يناقش قضايا أخلاقية مختلفة ويناقش طبيعة المعرفة، كما كتب بروتاجوراس أيضًا مقالًا عن الحقيقة يتضمن المقولة الشهيرة والغامضة التي تقول إن الإنسان مقياس كل شيء، وسنناقش هذه الفكرة لاحقًا.

كل هذا يجعل بروتاجوراس رجلًا موسوعيًّا باهرًا، وقد كان كذلك حقًّا حتى إنه كتب مقالًا عن المصارعة. ولكنَّ ما وصل إليه لا يقارن بسفسطائي أصغر منه سنًّا هو هيبياس؛ فقد كان هيبياس من الناحية العملية مستعدًّا لتدريس أي شيء، ولم تقِف مواهبه عند التدريس فحسب، بل روى أفلاطون أن هيبياس قد تباهى بأنه عندما ظهر في الألعاب التي كانت تقام على جبل أولمبوس ليلقي بعض قصائده، وقد صنع نعليه وعباءته وسترته وحزامه وخاتمه بنفسه، إضافة إلى فرشاة وقارورة زيت كانتا بحوزته. وفي ظهوره العلني الذي ادَّعى أنه جمع منه مالًا كثيرًا كان هيبياس مستعدًّا لإلقاء خطب مُحَضَّرة وتَلَقِّي الأسئلة من كل الحاضرين. وحينما لم يكن يصنع ملابسه أو حُلِيَّهُ كان يجمع تاريخ الرياضيات والفلسفة، كما كان يكتب بعض المسرحيات، إلا أن أفلاطون سَخِرَ منه وما ذلك عليه بجديد. ولم يكن تعليم هيبياس عميقًا بقدر ما كان موسوعيًّا متعدد المجالات، ويبدو أنه لم يُقَدِّم إسهامات كبيرة في أيٍّ من العلوم المتعددة التي دَرَّسها، ربما باستثناء اكتشاف أحد المنحنيات الهامة في الهندسة. ولم يقر التاريخ بما أقرَّه هيبياس من تقييم لنفسه والذي نقله أفلاطون على لسانه قائلًا: «لم أَجِدْ قَطُّ رجلًا يتفوَّق عليَّ في أي شيء.»

كان أنتيفون أحد السفسطائيين الأكثر تواضعًا من هيبياس، وكانت كلماته أحيانًا مفعمة بالتشاؤم؛ فها هو ذا يقول: «إن الحياة كلها مدعاة للشكوى، فليس فيها ما هو مميَّز أو عظيم أو نبيل، فكل شيء تافه وواهن وزائل ومحزن.» وقد كتب أيضًا: «وما الحياة إلا يوم واحد، لا تلبث إلا لهذا اليوم الذي ما إن نرَ فيه النور حتى ننقل أمانتنا إلى الجيل القادم.» أما أهم كتاباته الباقية فقد تحدَّثت عن الأخلاق وتحديدًا ماهية العدالة، وهذا من المرجح ما كان يُدَرِّسه على وجه الخصوص. كما عرض أيضًا المزيد من السلع الأساسية للبيع، وكان مهتمًّا على وجه الخصوص بالأحلام وتفسيرها، ويبدو أنه قدَّم نوعًا من خدمات العلاج النفسي.

كان جورجياس من بين السفسطائيين الأكثر تخصصًا؛ إذ كان خطيبًا مشهورًا وألف عدة كتيبات عن البلاغة. وضمن أشياء أخرى ألَّف جورجياس عددًا من الخطب التي أُعِدَّت لتُدرَس وتقارَن كنماذج للجدل الإقناعي، وكانت أطولهن هي الخطبة القوية في الدفاع عن هيلين الطروادية. وقد ركز أفلاطون جُلَّ الهجوم الذي شنه على السفسطائيين على هذا الجانب؛ حيث ادَّعى أنهم لم يهتموا بالحقيقة في جدالهم بل بتعليم تلاميذهم خدع الفوز بالجدال. ولم يكن يَعنِي السفسطائيين ما إذا كنت عادلًا أو صاحب حجة قوية؛ فالسفسطائيون سيعلمونك كل أنواع الحيل التي تُجدي في أية منافسة كلامية. وقد اقتفى أرسطو أشهر تلاميذ أفلاطون أثرَ أستاذه، وواصل هجومه على السفسطائيين قائلًا: «إن مهنة السفسطائي هي الوصول إلى صورة للحكمة دون الحقيقة، والسفسطائي رجل يكسب المال من الحكمة الظاهرية غير الحقيقية.»

•••

إن النقد الذي وجَّهَه أفلاطون وأنصاره إلى السفسطائيين التصق بهم، كما سيشهد أيُّ قاموس تُعَرَّف فيه السفسطائية بعد ذلك. فهل كان ذلك النقد مستحَقًّا؟ ولماذا وُجِّه إليهم؟ ليس صحيحًا أن منتقدي السفسطائية رأَوْا أن الجدال والإقناع لا يجب تنميتهما كمهارات أو تدريسهما على الإطلاق. وقد كتب أرسطو نفسه أقوى المقالات تأثيرًا عن البلاغة، وذكر فيها ما تعلَّمه من جورجياس فقال: «حيث أوصى جورجياس بمواجهة جِدِّ الخصم بالهزل وهزله بالجِدِّ، وهو ما أصاب فيه.» ولم يكن أفلاطون وأرسطو يعتقدان أنه من المنافي للأخلاق تعليم التلاميذ رؤية كِلَا الجانبين من الجدال — وهي تهمة كثيرًا ما وُجِّهَتْ للسفسطائيين وكأنها قمة الوضاعة — حيث قال أرسطو ذات مرة:

يجب أن نكونَ قادرين على استخدام وسائل الإقناع … في كِلَا الاتجاهين، ليس لكي نتمكن من الإقناع بشكل عملي على كِلَا الطرفين (فلا يجب ألَّا نُقنِعَ الناس بما هو باطل) ولكن لكي نرى الحقائق بوضوح، وحتى نتمكن من دحض حجج من يجادلون بالباطل.

ولم يكن صحيحًا أيضًا أن أفلاطون وأرسطو قالَا إن كبار السفسطائيين كانوا بلا مبدأ ولم تكن لهم أيَّة قيمة، بل كان معظمهم يُعامَل باحترام يَصِلُ إلى حَدِّ الإشادة عندما يأتي ذكره. ولكن الحقيقة المثيرة هي أن «الفاسدين» من السفسطائيين أيًّا من كانوا دائمًا ما بَدَوْا كمحتالين مندسِّين بلا اسم، إلا أنهم لم يتعرضوا لنقد أفلاطون اللاذع لشخصهم إلا نادرًا؛ ذلك أن دوافع أفلاطون للنقد والهجوم كانت عميقة بحيث يصعُب التعبير عنها بوضوح أو مواجهة أيٍّ من كبار السفسطائيين بها صراحة.

ثَمَّة عوامل أخرى كانت تقف وراء هذا النقد قد يكون من ضمنها العجرفة؛ فقد كان أفلاطون أحد النبلاء وكان (على عكس تابعه بريكليس النبيل) متشككًا في فضائل الديمقراطية، وربما عارض مبادئ السفسطائية المنادية بالمساواة والتي تقول إن كل إنسان يمكن أن يتعلَّم الحكمة وأن يتحلَّى بالفضيلة وأن يُعَدَّ لأداء دور معين في الحكومة إذا كان لديه المال اللازم لاستئجار معلم سفسطائي فحسب. وذكر أحد رفاق سقراط أنه شبَّه السفسطائيين بالعاهرات لأنهم مستعدُّون لبيع خدماتهم لمن يدفع ثمنها. ولكن كان هناك دافع شخصي أشد ألمًا لدى أفلاطون، فلقد ألَّف معظم أعماله (وربما كلها) بعد محاكمة بطله سقراط عام ٣٩٩ق.م. وإعدامه، وهي المأساة التي يُحَمِّل أفلاطونُ السفسطائيين المسئولية غير المباشرة عنها. وكان أفلاطون يرى أن الجرائم التي اتُّهم سقراط بها — وخاصة الادِّعاء بأنه أفسد عقول الشباب؛ لأنه «جعل الحُجَّة الأضعف تغلب الحجة الأقوى وكان يعلِّم الآخرين أن يحذوا حذوه» — ناتجة عن سمعة بعض السفسطائيين. وكان كبير مُتَّهِمِي سقراط ديمقراطيًّا يُدعى أنيتوس، وقد زعم أفلاطون أنه كان يُكِنُّ الكراهية والبغضاء للسفسطائيين، رغم أنه لم يكن يعرف مَن هم بالتحديد. وفي إحدى المحاورات التي كُتِبَت في الأوقات السعيدة قبل المحاكمة يروي أفلاطون حوارًا وديًّا بين أنيتوس وسقراط، وكان أنيتوس قد وجَّه نقدًا عنيفًا لسفسطائيين لم يسمهم، وكان هذا نص الحوار:

سقراط : هل تسبَّب أيٌّ من السفسطائيين لك في أي أذًى؟ وإلا فما سبب انتقادك لهم؟
أنيتوس : يا إلهي، لا! لم أَحْتَكَّ في حياتي بأيٍّ منهم، كما لم أسمع أن أحدًا من أهلي قد احْتَكَّ بهم.
سقراط : إذن ليس لك أية تجربة مع أيٍّ منهم على الإطلاق؟
أنيتوس : ولا أريد ذلك أبدًا.

لم يكن الرجل العادي في أثينا ليملك الوقت الكافي ليفرق جيدًا بين أساليب المشهور سقراط وأساليب غيره من المفكرين، بل كان يسمع عن سقراط أنه داهية يجلس طوال اليوم ليناقش الشباب الذين أرادوا أن يتعلموا منه، ومن ثَمَّ كان سقراط يبدو سفسطائيًّا وحسب في نظر الرجل العادي. وكما رأى أفلاطون؛ فإن الاتهام الذي كان يتعين على سكان أثينا أن يوجِّهوه إلى السفسطائيين الفاسدين قد أضر سقراط بالخطأ مثل الرمح القاتل الذي تحدَّث عنه بريكليس وبروتاجوراس.

ولا ريب أن الكثير من سكان أثينا قد خلطوا بين جميع أنواع المفكرين؛ ولذلك كان يوريبيديس يُعتَبَر أحيانًا سفسطائيًّا لأن مسرحياته كانت حديثة الطابع بشكل مزعج (فقد قدَّم أحيانًا العبيد كنبلاء والأبطال أدنى من أن يوصفوا بالفضيلة). وقد انتشرت شائعة أن سقراط ساعد يوريبيديس في كتابة هذه المسرحيات ربما بسبب ما شاع عن غرابة كلا الرجلين. وقد ظهر سقراط نفسُه في مسرحية أرسطوفان «الغيوم» التي عُرِضَتْ أول مرة في أثينا عام ٤٢٣ق.م. كسفسطائي أحمق فاسق فاسد الأخلاق، كما ظهر أيضًا في عدة مسرحيات هزلية ضاعت الآن ربما على القدر نفسه من البذاءة (يرد في أحد أجزائها الباقية: إنني أبغض سقراط ذاك الفقير الثرثار). وفي رواية أفلاطون لمحاكمة سقراط بعد عدة أعوام، يشير سقراط بحزن إلى الفكرة الخاطئة الشائعة لدى الناس عنه فيقول: «لقد رأيتم سقراط بأنفسكم في مسرحية أرسطوفان وهو يمشي وكأنه في دوار مدعيًا أنه يمشي على الهواء ويتفوه بكثير من الهراء.» ويقول أيضًا: «سأحاول في الوقت القليل المتبقي لديَّ أن أخلِّص أذهانكم من الانطباع الخاطئ الذي تَكَوَّنَ عني على مدار أعوام عديدة.»

ولم يشغل أرسطوفان جمهوره بالفروق الدقيقة بين العلماء الأوائل والسفسطائيين، بين سقراط والمخادعين ذوي الأخلاق الفاسدة؛ إذن لأفسد الدعابات التي كانت هادفة في عيون معظم أهل أثينا. كان من يطرح أية تساؤلات علمية بخصوص الطبيعة يُعتَبَر مُخِلًّا بتعاليم الدين الموروثة، وبهذا يُخِل بالقيم الأخلاقية التقليدية. وكذلك اعتُبر مَن يتساءل عن الأخلاقيات التقليدية مُخِلًّا بتعاليم الدين الموروثة، واتُّهِم بالحديث بكثير من الهراء حول صواعق البرق والذرات. وقد كان هذا حال المفكرين جميعًا فاستحقوا ما أصابهم. ففي مسرحية «الغيوم»، احترق «مصنع المنطق» الخاص بسقراط عن آخره على يد مواطن غاضب (وهو ستربسيادس الفلاح المثقَل بالديون والمذكور آنفًا). وفي الحياة الواقعية وبعد أربعة وعشرين عامًا، أُدين سقراط وحُكِم عليه بالإعدام من أناس كانوا من المحتمل ضمن جمهور مسرحية «الغيوم».

وحتى لو لم يكن هؤلاء بالسوء نفسه الذي يتَّسم به السفسطائيون في «مصنع المنطق» الذي ابتدعه أرسطوفان، فمن المحتم أنه كان هناك بعض الشخصيات السيئة بين السفسطائيين الحقيقيين. وحتى أَجَلُّ المعلمين لا يمكن أن يُسأل عن أفعال تلاميذه؛ فقد أصبح أحد الشباب الذين سَعَوْا إلى مرافقة سقراط على الأقل طاغية وسفاحًا بعد ذلك. وعبثًا قال سقراط: «لم أشجع أبدًا أي عمل منافٍ للعدالة يصدر من أي شخص بما في ذلك من يعتبرهم بعض الناس تلاميذي بدافع من الحسد.» وفي ظل عدم سيطرة السفسطائيين على زملائهم أو أتباعهم كان عملهم خطيرًا وقد يؤثر على سمعتهم. وقد كان أفلاطون مدركًا لتلك المشكلات فقال:

عندما يبدأ الشباب في اكتساب حس المجادلة يسيئون استخدامه وكأنه نوع من الرياضة، ويستخدمونه باستمرار من أجل الجدل. وعندما يتغلَّبون على الآخرين ويغلبهم الآخرون فسرعان ما يفقدون ثقتهم فيما كانوا يؤمنون به وتكون النتيجة تشويه سمعتهم وسمعة الفلسفة ككل.

ولإنقاذ سمعة الفلسفة بشكل عام وسقراط بشكل خاص، كان على أفلاطون أن يفصل بين سقراط والحركة السفسطائية، وهو ما فعله بالفعل بتعظيم الفروق بينهما. لقد كان سقراط رجلًا فاضلًا بينما كان السفسطائيون قومًا فاسدةً أخلاقُهم أو على الأقل يسببون الضرر ويجلبون الأذى أينما حَلُّوا، وكان سقراط يسعى وراء التساؤلات الفكرية الحقيقية على عكس السفسطائيين الذين اختلف سعيهم عن ذلك كثيرًا. كان أفلاطون يقر أن بعض السفسطائيين مثل بروتاجوراس وجورجياس كانوا صادقين إلا أنه قال إنهم أيضًا قد ضلوا الطريق في بعض الجوانب، وإن مذهبه كان في مجمله سيئًا. لقد نجح أفلاطون في عرض نقاط الضعف في بعض ما قالوا إلا أنه أغلق عينيه عن نقاط القوة لديهم وعن أن كبار السفسطائيين كانوا يبحثون عن الحقيقة كما كان هو نفسه يبحث عنها، كل ما في الأمر أنهم كانوا يبحثون عنها في مكان آخر.

•••

وكما يمكن أن يتوقع المرء من وضعهم المهني، كان للعديد من السفسطائيين مذهب علمي في المسائل العقلية أكثر من المفكِّرين الآخرين؛ فلم يكن لديهم ما يكفي من الوقت لما اعتبروه نظريات وتأمُّلات عبقرية ولكن غير مقنعة وغير مثمرة. فمن يمكنه تحديد ما إذا كان العالم كتلة من المياه أم حشدًا من الأرقام أم جسمًا تَكَوَّن من اندلاع حريق أم مزيجًا من العناصر أم عاصفة من الذرات؟ لم تكن أيٌّ من هذه النظريات أقوى بصورة قاطعة من نظيراتها، ولم يُحدِث الاختيار بينها أي فارقٍ في الحياة اليومية. ألم ينكر العديد من الفلاسفة وجود الحياة اليومية نفسها؟ ومن كان يمكنه أن يصدق حجج بارمنيدس التي ساقها ليثبت أنه لا شيء يتغير بينما يثبت كل حدث في كل يوم عكس ذلك؟ ولم تكن فلسفة النظرية الذرية بأفضل منها حالًا؛ لأنها أيضًا ألغت عالم الخبرات اليومية بوصفه حجابًا قبيحًا يواري الحقيقة الجوهرية ﻟ «الذرات والفراغ».

بالنسبة للعقل السفسطائي يبدو أن ثمة خللًا حدث في مجال التعليم؛ فقد بدا العقل والجدل واللغة كأنها سُرِقت، وبدا أن المنطق السليم قد ضاع خِلْسَةً. وهناك مقالة عبقرية لجورجياس تقول إن اللغز يتنكَّر في صورة جدال، ويمكن اعتبارها محاولةً لتوضيح سخافة الأمر برُمَّتِه؛ فهي تدعي إثبات ثلاثة أشياء؛ أولها: أنه لا شيء كائن على الإطلاق، وثانيها: أنه حتى إن وُجِدَ شيء فمن المستحيل فهم طبيعته، وآخرها: أنه حتى إذا أمكن فهم طبيعته فمن المستحيل مشاركة ذلك مع الآخرين.

وربما كان جورجياس نفسه سيتحير أمام لغزه ولو شيئًا يسيرًا، وإن لم يتحير، فحريٌّ به أن يفعل. لم يكن ليستطيع تحديد المغالطات في اللغز على وجه الدقة، حيث إن المفردات النقدية في ذلك الوقت لم تكن معقَّدة بدرجة تكفي للقيام بذلك، ولكنه بالتأكيد لم يقبَل هذا الشذوذ المنطقي على عواهنه. وربما أراد أن يحرج به أي فيلسوف ينقصه من الحكمة ما يجعله ينكر العالم اليومي، وذلك ببيان أن هذه الأفكار قد تفاقمت سريعًا، أو ربما أراد أن يبين أن ما يُدْعى «الحقيقة» يمكن لأي خطيب ماهر مثله أن يُضعِفها حتى ولو بدتْ مؤكدة، أو ربما كان يسلي به نفسه وجمهوره؛ إذ كان الإغريق يحبون الألغاز الكلامية. وأيًّا كان الغرض فالمحصلة واحدة؛ فقد كان اللغز تذكيرًا بأن هناك ما يثير الشك في الطريقة التي كان يتحدث بها الفلاسفة ويجادلون بخصوص الحقيقة المطلقة. ومن الممكن أن يتحول حديثهم هذا إلى فيض جارف من السخافات.

ولا نحتاج إلى استقصاء تعقيدات لغز جورجياس، كما أن إدراكه الذاتي المنمَّق لا قيمة له. ففي الجزء الثالث من اللغز الذي يتحدث عن المشاركة مع الآخرين، عقد جورجياس مقارنة بين «الكلام» وبين «ما يوجد حولنا». لقد أدرك الفجوة الكبيرة بينهما، كما أدرك قدرة اللغة على صياغة نظرة الإنسان للعالم. وقد كتب في موضع آخر أن «تأثير الكلام على بناء الروح يشبه تأثير المخدِّرات على حالة الجسد»، وأضاف أن «الإقناع عند امتزاجه بالكلام يمكن أن يُخَلِّف أي انطباع تريده على الروح.» وكما يرى جورجياس وبعض السفسطائيين الآخرين، استخدم العديد من قدماء الفلاسفة اللغة لخلق صورة غير مجدية وغير صحيحة عن العالم، وما نهدف إليه الآن هو خلق صور مجديَة بدلًا منها.

كان هدف هؤلاء السفسطائيين هو الوصول إلى فلسفة تشمل خبرات الحياة اليومية، إلا أن هذا الهدف وضعهم وجهًا لوجه مع أفلاطون في ساحة الفلسفة. فكما رأينا، كانت نظرة أفلاطون للمعرفة حُبْلَى بكثير من شعائر الديانة الأورفية والفيثاغورية. وبالنسبة له ولأسلافه من المفكِّرين كانت مهمة الفلسفة أن تفتح الطريق إلى ما وراء عالم الحياة اليومية لتنقية حقائق العقل. أما السفسطائيون فقد أرادوا السير في الاتِّجَاهِ المعاكس؛ فبالنسبة لهم كان الهدف إعادة صياغة التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها الفوضوية كوسيلة للوصول إلى الحياة المنشودة. ولكن الأفعال تختلف عن الأقوال، فما هي التجربة التي تصلُح أن تكون وسيلة الوصول إلى الحياة المنشودة؟ فالعالَم يمثل رؤًى متصارعة تختلف باختلاف البشر. إن الإدراك المتبايِن هو المشكلة التي حاول ديموقريطس أن يقف لها على حل حينما رفض الأحكام الذاتية عن الحلو والمر والساخن والبارد وغير ذلك لأنها محض اعتقادات، وقدَّم بديلًا موضوعيًّا لها وهو «الذرات والفراغ». أما بروتاجوراس فقد قدَّم الحل للمشكلة نيابة عن السفسطائيين في صورة فكرة مختلفة وصادمة؛ إذ تمسَّك بالذاتية بدلًا من رفضها، فما أُدركه هو حقيقة بالنسبة لي وما تدركه أنت هو حقيقة بالنسبة لك، فقال إنه لا توجد حقيقة واحدة للعالم المادي ولكن ذلك لا يعني أنه لا توجد حقيقة له على الإطلاق، بل على العكس فهناك كَمٌّ من الحقائق لكل شيء في الوجود لأن ما يدركه كل فرد هو حقيقة بالنسبة له. وهذا ما قصده بروتاجوراس عندما قال مقولته المشهورة: «إن الإنسان مقياس كل شيء.»

يُعرف هذا النوع من وجهات النظر بالنسبية؛ لأنها تقول إن الحقيقة نسبية في نظر كل مؤمن بها كما تعني حاليًّا أن الحقيقة نسبية في نظر كل مجموعة ممن يؤمنون بها. إنها وسيلة لإعادة المعرفة إلى الناس. وبدلًا من أن تكون الحقيقة خفية يصعب اكتشافها فهي متناثرة في كل مكان مثل طعام المَنِّ من السماء يحصل كل إنسان على قدرٍ منه. ويبدو أن بروتاجوراس هو أول من وضع مفهوم النسبية الذي نوقش بالتفصيل فيما بين بعض السفسطائيين وخصومهم وعلى رأسهم أفلاطون، ومنذ ذلك الوقت ظهر لها العديد من الصيغ. ويُعزى كثير من الزخم للنسبية الحديثة إلى كانط (١٧٢٤–١٨٢٤م) وهو ما لم يكن ليَسعَد به كانط نفسه؛ فقد آمن كانط بوجود حقائق مطلقة وثابتة، ولكنه فتح الباب دون قصد أمام النسبية بسبب الطريقة التي فسر بها تلك الحقائق، حيث قال إن الخصائص المتعددة لصورة العالم في أذهاننا يفرضها العقل البشري، وبما أن كل العقول البشرية متماثلة في جوانب مهمة فإن تلك الحقائق متماثلة بالنسبة للجميع. وتبنَّى العديد من المفكرين بعد كانط فكرته أن الحقيقة تتحدد جزئيًّا عن طريق العقل البشري، ولكنهم رفضوا افتراضه القائل بأن كل العقول متماثلة؛ فكانت النتيجة ازدهار النسبية؛ إذ إن كل الصور المرسومة للعالم تعكس الأدوات المفاهيمية التي استخدمها أصحابها، إلا أن أيًّا من هذه الصور ليست أصح من أختها.

وتَظهَر النسبية نفسُها في صور وأشكال عدة، بعضها أوسع نطاقًا من الآخر، فيرى بعض الناس أن القيم الأخلاقية نسبية بحيث يعتمد الصواب والخطأ على المجتمع أو الحقبة محل النقاش، بينما يؤمن آخرون أن النسبية لا تنطبق على القيم الأخلاقية، بل على النظريات العلمية أو ربما كل «الحقائق». وبشكل عام تظهر قيود التفكير النسبي في هذا العصر في كتابات علم الإنسان وعلم الاجتماع والنقد الأدبي أكثر من كتابات الفلاسفة. وبينما تبدو المعرفة الموجودة بتنوُّع المعتقدات والعادات الإنسانية مشجِّعة على التعاطُف مع النسبية، يميل الفلاسفة إلى الحذر من الالتباس والمفارقات التي تكمُن وراء العديد من صورها. لنأخذْ على سبيل المثال النسبية الأخلاقية، حيث تقول إحدى نسخها المباشرة إنه من الخطأ انتقاد قِيَمِ الثقافات الأخرى؛ لأن كل ما تؤمن به كل ثقافة هو الصواب بالنسبة لها. ولكن هذه الأطروحة المسالمة المتسامحة تناقض نفسها في الحقيقة. فما هي المعايير الأخلاقية التي تقضي بأنه من «الخطأ» انتقاد قِيَمِ الآخرين؟ فإذا كانت إحدى الثقافات ترى أنها أفضل أخلاقيًّا من الثقافات الأخرى فالنسبية الأخلاقية ذاتها تستلزم أنه من الصواب أن تنتقد هذه الثقافةُ نظيراتها.

تميل النسبية بكل أشكالها إلى الإخفاق حينما تُطبق على نفسها، كما أن بها العديد من الصعوبات والنقاط الغامضة. ولقد أثار سقراط بعض المشكلات المتعلقة بالنسبية في إحدى محاورات أفلاطون، وتُدعى «ثياتيتوس»، والتي نوقشت فيها آراء بروتاجوراس وجرى تحليلها ثم رفضها في النهاية. في بداية المحاورة اقتبس سقراط جملة بروتاجوراس التي تقول إن الإنسان مقياس كل شيء، ثم شرع في تفسيرها بأنها تعني أن أي شيء «أرى حقيقته كما يبدو لي أنا وترى أنت حقيقته كما يبدو لك أنت.»

ويضرب سقراط بالرياح مثلًا يدلِّل به على صحة ما يقول فقال: «أحيانًا عندما تهب هذه الرياح يشعر أحدنا ببرد خفيف بينما لا يشعر الآخر بذلك، أو يشعر أحدنا ببرد خفيف ويشعر الآخر ببرد قارس.» وفي هذه الحالة يمكن القول إن حال أحد الرجلين (القائل إن الرياح باردة) يختلف عن حال الآخر. وقال ديموقريطس إنه بما أن الرياح تبدو باردة وغير باردة في آنٍ واحد فلا محيص من أن الرياح ذاتها غير ذلك تمامًا. أما بروتاجوراس فاستنتج من المظاهر المتناقضة أن الرياح باردة وغير باردة معًا، فكل إنسان هو السلطة المطلقة (أو «المقياس») للحكم على الأشياء التي تبدو له؛ ولذلك فما يقوله عنها صحيح.

ولكن عند القول إن الأشياء في حقيقتها تطابق ما تظهر به لشخص ما، فقد انحرف بروتاجوراس كثيرًا عن جادة الصواب؛ لأن ذلك يتضمَّن أنه ما من إدراك خاطئ. وهذه أطروحة غير معقولة؛ ولذلك شن عليها سقراط هجومًا ضاريًا.

سقراط : يبقى السؤال حول الأحلام والاضطرابات وبخاصة الجنونُ، وجُلُّ الأخطاء التي يُعتقد أنها تنتج عنه في النظر أو السمع أو غير ذلك من الخطأ في الإدراك؛ ففي تلك الحالات يكون إدراكنا خاطئًا بالتأكيد، ويكون ما يبدو لأي إنسان أبعد ما يكون عن الحقيقة، بل إن هذا الإدراك ليس صحيحًا على الإطلاق.
بروتاجوراس : هذا صحيح تمامًا يا سقراط.
سقراط : إذن ماذا يتبقى من حجة لمن يؤمن أن ما يظهر لكل إنسان صحيح بالنسبة له؟
بروتاجوراس : … في الحقيقة لا أستطيع إنكار أن المجانين والحالِمين يؤمنون بما هو باطل عندما يتخيل المجانين أنهم آلهة، ويعتقد الحالمون أن لهم أجنحة يطيرون بها في منامهم.
وعندما شَعَرَ سقراط أن خَصمه بدأ يضعف زاد من الضغط عليه، فحتى وإن اعتبر بروتاجوراس المجانين والحالمين حالة خاصة — فضلًا عن حالات الإدراك الخاطئ التي تَقِلُّ في الأهمية — فبماذا يرد بروتاجوراس على الاعتراض الذي يقول إنه إذا كانت النسبية حقيقة فهذا يلغي وظيفته؟ وكما يقول سقراط في مناسبة أخرى:

إذا كان بروتاجوراس محقًّا في أن حقيقة الأشياء هي ما تظهر عليه لكل إنسان، فكيف يكون أحدنا حكيمًا والآخر أحمقَ؟ وإذا كان ما يظهر لكل إنسان هو صحيح بالنسبة له فلا رجل أكثر حكمة من الآخر.

بعبارة أخرى، كيف يمكن لبروتاجوراس أن يُعَلِّم الحكمة إذا لم تكن موجودة من الأساس؟

أراد سقراط أن ينصف بروتاجوراس فَبَيَّن له كيف يرد على هذا الاعتراض. وتقودنا هذه الإجابة إلى قلب الفكر والممارسات السفسطائية. يتصور سقراط أن بروتاجوراس يجيب بأن السفسطائي الحكيم لا يعرض تعليم التلاميذ أية معتقدات أصح بأي شكل من معتقداتهم؛ إذ إن ذلك سيكون مستحيلًا إذا صحت النظرية النسبية، بل عليه أن يعلمهم معتقدات أنفع لهم وأجدى. فمَثَل السفسطائي كمَثَل الطبيب يعالج عقول الناس بدلًا من بطونهم، ويعلم الآخرين كيف يفعلون ذلك أيضًا، فمن الأجدى والأنفع أن يتبنَّى المرء أفكارًا بعينها، وهذا ما يقدمه السفسطائيون.

وفي نهاية القرن التاسع عشر حاول مجموعة من الفلاسفة الأمريكيين — أطلقوا على أنفسهم اسم البرجماتيين — أن يطوروا فكرة أن الشيء المهم في المعتقدات هو فائدتها العامة ودورها في الحياة. وأوضح البرجماتي الكبير ويليام جيمس (شقيق هنري جيمس) هذه الفكرة بشكل يذكرنا بما قاله سقراط على لسان بروتاجوراس. ورغم أن جيمس لم يتوصل إلى أن الحقيقة نسبية فقد رأى أن أفضل طريقة لتحديدها تُبنى على المنفعة بالمعنى العام لها، فقال في ذلك:

إن كل شيء يثبُت أنه صالح في ظل المعتقدات السائدة في عالمنا هو شيء حقيقي، فكما أن هناك أطعمة معيَّنة لا تناسب حاسَّة التذوق لدينا فحسب، وإنما تفيد أسناننا وبطوننا وأنسجتنا، فهناك كذلك أفكار لا يمكِن التفكير فيها واستخدامها لدعم ما يروق لنا من الأفكار الأخرى فحسب، بل يمكننا كذلك الانتفاع بها في الكفاح العملي في الحياة. وإذا كان ثَمَّة حياة أفضل ينبغي أن نسعى إلى تحقيقها، وإذا كانت هناك فكرة تساعد على ذلك إذا اعتنقناها؛ فمن الأفضل لنا أن نؤمن بهذه الفكرة إلا إذا تعارض الإيمان بها بالمصادفة مع منافع أخرى أكبر وأكثر حيوية.

إن المعتقدات التي يبدو هذا التفسير البرجماتي مناسبًا لها — ولو في الظاهر على الأقل — هي المعتقدات التي تتعلق بالأمور العملية الخاصة بالبشر كالسياسة والأخلاق. ويستمر سقراط في إيضاح كيف يمكن لبروتاجوراس أن يدافع عن نفسه في هذا الموضوع فيقول:

إن الخطباء الحكماء والشرفاء في المجتمع يستبدلون الآراء السليمة (بمعنى «الصحية» أو «النافعة») بالآراء الخاطئة لما هو صحيح؛ فأنا أُومِن أن كافة الممارسات التي تبدو صحيحة وقابلة للتطبيق في دولةٍ ما تعتبر صحيحة بالنسبة لهذه الدولة طالَمَا تمسَّكت بها، أما عندما تصبح هذه الممارسات خاطئة في حالة معينة فإن الرجل الحكيم يستبدل بها ممارسات أخرى سليمة. وبالمبدأ نفسه يتصف السفسطائي، بما له من قدرة بالأسلوب نفسه على إرشاد تلاميذه إلى الطريق الذي يتعيَّن عليهم اتباعه، بالحكمة ويستحق أجرًا مناسبًا عليهم عندما ينتهي من تعليمهم. وبهذه الطريقة يكون كِلَا الأمرين صحيحًا؛ فهناك من هم أكثر حكمة ممن سواهم، وكذلك ليس ثَمَّة رجل أحمق في تفكيره. وهذه الاعتبارات تنقذ عقيدتي من الانهيار.

ويجب على السفسطائي أن يوظِّف قدراته البلاغية ليجعل الرؤية النافعة أو «الصالحة» مقبولة في المجتمع بوصفها الرؤية الصحيحة أو العادلة؛ ولذا يبدو في هذه النسخة من عقيدة بروتاجوراس أن النسبية تنطبق على بعض الأشياء دون غيرها، فهي تنطبق على العدالة والشرعية الأخلاقية؛ (إذ إن «كافة الممارسات التي تبدو صحيحة وقابلة للتطبيق في دولة ما تعتبر صحيحة بالنسبة لهذه الدولة») ولكن ليس على ما هو نافع ومفيد في جوهره، (فأحيانًا ما تكون آراء المجتمع «غير صالحة له»). ويمكن تشبيه الأمر هنا بالمريض وطعامه؛ فكل إنسان على صواب فيما يخص مذاق طعامه بالنسبة له، ولكن إحساسه قد يكون مع ذلك «خاطئًا» بمعنى أنه قد يكون هذا الطعام أفضل له إن كان مختلفًا. وعلى أية حال هذا ما تصور سقراط أن بروتاجوراس يقوله.

لاحظْ كيف تبدَّل موضوع النسبية تدريجيًّا من الفرد إلى «الدولة»، فلم يَعُدِ الأمر يتعلق بما يراه كل فرد في العدالة صحيحًا بالنسبة له، بل بما تظنه كل دولة أو مجتمع صحيحًا بالنسبة لتلك الدولة أو ذلك المجتمع. إن الجماعات وليس الأفراد هي ما لا تخطئ في ممارساتها الأخلاقية والسياسية ما دامت تتمسك بها. ويثير هذا التحول مزيدًا من المشكِلات المزمنة في النسبية، فكم عدد الأفراد الضروريين لتكوين مجتمع كبير يصلح لحماية النسبية؟ وإلى أي مدى ينبغي لهم أن يتَّفقوا فيما بينهم ليصيروا مجتمعًا موحَّدًا؟ وماذا إذا لم يتفق فرد واحد فقط أو قليل من الأفراد مع رأي البقية؟ وهل يجب اتِّهام هؤلاء المنشقِّين بسوء فهم فلسفي إذا قالوا إن الأغلبية خاطئة فيما يخص الخير والشر كما تقول النظرية النسبية، أم أنهم يُعَدُّونَ مجتمعًا صغيرًا يستحق نصيبًا من الحقيقة المؤكَّدة في ظل إعادة التوزيع السخي للنتاج الفكري في ظل النسبية؟

والواقع أن معظم الناس لا يتخذون موقفًا نسبيًّا تمامًا في الخلافات حول العدالة والقيم الأخلاقية فضلًا عن مواضيع أخرى يُفترض أن تنطبق النسبية عليها، وإن التزموا بالنسبية فلن يكون هناك خلافات حقيقية. وتعتبر هذه الحقيقة ذاتها مشكلة في النسبية كما سيبين سقراط؛ فهو يوضح أن العديد من الناس بمن فيهم هو نفسه لا يتفقون على أن كل إنسان أو مجتمع هو مقياس كل شيء. ويرى كثير من الناس أن هناك بالفعل حقائق صحيحة بالنسبة لكل شخص، وطبقًا للنسبية ذاتها يعتبر اعتقادهم صحيحًا لأن النسبية تقول إن أحدًا لا يخطئ فيما يؤمن به (ربما باستثناء المعتقدات المتعلقة بما هو نافع). وبناء عليه فإن النسبية لا تكون في أحسن الأحوال صحيحة إلا لمن يؤمِن بها، فهي ربما تكون صحيحة بالنسبة لبروتاجوراس ولكن ليس بالنسبة لسقراط، ولكن لا يمكن لبروتاجوراس أن يقول إن سقراط أخطأ برفضها. وإذا كان رأي الأغلبية هو معيار الحقيقة؛ فعلى بروتاجوراس نفسه أن يُقِرَّ بخطأ عقيدته لأن معظم الناس يختلفون معها. وبمساعدة سقراط وضع بروتاجوراس نفسه في موقف لا يُحسَد عليه.

ومع ذلك يجب ألَّا ننسى أن هذا محض خيال؛ فبروتاجوراس الحقيقي قد مات قبل كتابة محاورة أفلاطون «ثياتيتوس» بوقت طويل، ولا أحد يمكنه التأكُّد من كيفية رده على هذه الانتقادات، فضلًا عن أننا نتناول حركة فكرية كانت نشطة في يوم من الأيام، ولا يمكن أن تخمد أو تختفي فقط لأن شخصًا آخر كان يستطيع القضاء عليها بالوسائل المنطقية، فربما كان بروتاجوراس — في مواجهة حجج سقراط الداحضة — سيجد غايته في لغز جورجياس. ألم يبين هذا — بقدر معرفة الناس آنذاك — أن الفيلسوف البارع يمكنه دَحْضُ أي شيء إن أراد ذلك؟ فمن الأفضل تجاهُل هذه الحجج الداحضة إذن ومتابعة الطريق.

كانت فكرة بروتاجوراس القائلة إن الإنسان هو مقياس كل شيء — إضافة إلى كل أفكار البرجماتيين والنسبيين المستمدة من السفسطائيين — استجابة عملية لمشكلات عملية. لقد زاد إدراك الإغريق لتنوُّع المعتقدات والعادات الأخلاقية، وهو أمر كان السفسطائيون معتادين عليه نتيجة التَّرحال المستمر. وقد نتج عن هذا التنوع الأخلاقي مشكلة المظاهر المتناقضة كالتي تَحَدَّثَ عنها ديموقريطس وبروتاجوراس والمتعلقة بالحس والإدراك، فكما قد يجد شخص ما الرياحَ باردة بشكل غير مستحبٍّ ويجدها الآخر منعشة، قد يرى الإغريقي أن فكرة إحراق الموتى فكرةً نبيلة بينما يراها بعض الأجانب فكرةً بغيضة من الناحية الأخلاقية. ويذكر المؤرِّخ هيرودوت بعد أن لاحظ هذا التضارُب في الأخلاق أنه «إن سأل أحدهم الناس جميعًا عن أفضل العادات من بين المتاح للجميع، لاختارت كل أمة — بعد التفكير — عاداتِها؛ لأن الجميع على اقتناع تامٍّ أن عاداته هي الأفضل على الإطلاق.» وأضف إلى هذا أنه ما من شيء أكثر حكمة وعقلانية من القول أن لا أمة في الحقيقة تمتلك «التقاليد الأفضل على الإطلاق» ولكن المعقول أن «تقاليد كل أمة هي الأفضل بالنسبة لها.»

وقد أثار هذا الأمر تساؤلًا مهمًّا بحث فيه السفسطائيون، فكيف يمكن أن تتباين القيم الأخلاقية والسياسية في المقام الأول؟ وقد أجاب السفسطائيون بالاستشهاد ببعض الاختلاف بين الطبيعة والتقاليد البشرية؛ فالتقاليد والممارسات والمعتقَدات الأخلاقية البشرية لم تُملِها الطبيعة (ولا الآلهة التي تُعَدُّ جزءًا من الطبيعة) بل تطورت بشكل مستقلٍّ تَبَعًا للظروف وما كان مناسبًا لكل مجتمع. وهكذا قدم السفسطائيون تفسيرًا لنشأة المجتمع كذلك الذي قدَّمه ديموقريطس، والذي يقول إن الأنظمة القانونية والأخلاقية ظهرت للحفاظ على الحضارة. وقد قَبِل أفراد المجتمع قواعد هذه الأنظمة بوصفها عقدًا اجتماعيًّا ملزمًا، ويعود بالنفع على الجميع، وهي من النوع الذي تحدث عنه لوك وروسو فيما بعدُ في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكما قال أنيفتون — أحد كبار السفسطائيين: «إن القوانين البشرية عرَضية ولكن قوانين الطبيعة حتمية، وقد وُضِعَت القوانين البشرية بالاتفاق وليس عن طريق الطبيعة.»

ويرى السفسطائيون أن القوانين البشرية المقبولة طوعًا تختلف اختلافًا كليًّا عن قوانين الطبيعة الحتمية، إلا أن جُلَّ هذه القوانين تختلف في الواقع عن بعضها. وأحيانًا ما تتعارض متطلبات الطبيعة مع القوانين البشرية. وقد شط أنتيفون بخياله بعيدًا عندما قال: «معظم الأشياء العادلة من الناحية القانونية معادية للطبيعة.» كما قال أيضًا إنه إذا اتبع الإنسان ما تمليه الطبيعة عليه فسيفعل ما يُمَكِّنُه من النجاح وما فيه أكبر قدر من النفع. وإذا كان الإنسان سيفلت بفَعلته فهذا شيء يرغب الفرد فيه ومن ثَمَّ ترغب فيه الطبيعة، إلا أن القانون يسعى غالبًا إلى تقييد المصلحة الشخصية في سبيل مصلحة المجتمع ككل. وبهذه الطريقة أو بطريقة أخرى «تسبب التقاليد — التي تعتبر الطاغية البشري — الضرر للطبيعة» كما يقول هيبياس السفسطائي في إحدى محاورات أفلاطون.

ويوضِّح أنتيفون أنه حتى إذا كان الإنسان فاضلًا ولا يجور على حق غيره؛ فإن الالتزام بالقوانين قد يضر بمصلحته الشخصية. فمثلًا إذا ظلَم رجلٌ رجلًا آخر يلجأ المظلوم إلى القانون بدلًا من الانتقام ومعالجة الأمر بطريقة غير قانونية، وقد لا يُعَاقَب المخطئ أبدًا، وحتى لو عوقب فسيحدث ما يلي:

إذا أُحيلَت الواقعة للمحاكمة فلن يكون للمجني عليه أيَّة أفضلية على الجاني؛ إذ عليه أن يُقنِع القضاة بدفوعاته أنه تضرَّر حتى يقتَصَّ لنفسه. وقد يُنكِر الجاني هذا الاتهام لأنه يمكنه الدفاع عن نفسه، ولديه الفرصة نفسها في أن يُقنِع القضاة أن المجني عليه هو من ارتكب المخالفة؛ وبذلك لا يكون النصر حليفًا إلا لمن يتحدث بشكل أفضل.

وهذه الجملة الأخيرة هي لب فلسفة السفسطائيين؛ ففكرة أن «النصر لا يكون حليفًا إلا لمن يتحدث بشكل أفضل» ليست بالضرورة دعوة سوداوية أو فاسدة للغش في النزاعات كما اعتقد أفلاطون وغيره من أعداء السفسطائية، بل يمكن اعتبارها إعلانًا لحقيقة الأمور في المحاكم. وبما أن النصر يذهب فعلًا إلى من يقدر على الإقناع (أو يوظف غيره لذلك)؛ فإن مهارات السفسطائيين يمكن أن تكون قوة في سبيل الخير والعدالة والحقيقة، وعندما تُستَخدَم هذه القوة بشكل مسئول يمكن أن تُعالِج العيوب الموجودة في أيِّ نظام قانوني. ومهما كانت رؤيتنا لفكرة السفسطائيين أن حسن الخلق محض تقليد إنساني، فلا يمكن إنكار أن إجراءات العدالة كما تطبق فعليًّا في أي مجتمع لا تصل إلى الكمال.

ويستطيع السفسطائي أن يوظف مهاراته ليدافع عن بريء أو يحاكم المذنب والعكس صحيح، كما يمكنه أيضًا أن يساعِد المجتمع على تحسين مفاهيمه بتنقيتها ونقدها. ولا ريب أن بعض السفسطائيين استخدموا قدراتهم بما ينافي الأخلاق، ولكن المبالغ الضئيلة التي حصلوا عليها ما كانت لتحتكر لهم الشر؛ فقد تخصَّصوا في الجدل الأخلاقي والسياسي إن لم يحتكروه، ويحسب لهم أنهم لم يستمتعوا بالفوز بالقضايا وتعليم الآخرين كيفية الفوز بها فحسب، بل تكلَّموا عن الأسس الأخلاقية كذلك.

وغالبًا ما كانت أفكارهم هدامة؛ فقد خَلَّفَت الأسئلة التي طرحوها حول التعارُض بين الطبيعة والتقاليد أفكارًا سيئة وصادمة. فهل العدالة موجودة لحماية الضعفاء فحسب؟ وهل للقوي أن يتجاهلها إن استطاع؟ وهذا السؤال دائمًا ما طَرَحه أفلاطون. وإذا ظَنَّ بعض المحافظين من أهل أثينا أن السفسطائيين قد أخرجوا الثعابين من جحورها فقد أصابوا، ولكن إخراجها كان حتميًّا، فإذا لم تطرح السؤال على الأقل فلن تَصِلَ إلى الجواب. وقد أخذ أفلاطون بعد ذلك على عاتقه بناء الأخلاق على ما اعتقد أنه أساس متين؛ وذلك عن طريق السعي إلى المواءمة بين أفكار الطبيعة والتقاليد كما سنرى. وربما ما كان أفلاطون ليتحمَّل عناء القيام بذلك إن لم يزعجه السفسطائيون، كما أقر أفلاطون كذلك بأن أفضل السفسطائيين لم ينشروا الأفكار الهدامة بقدر ما أثاروا مخاوف كانت موجودة بالفعل لدى الناس بخصوص النظرية التقليدية للأخلاق. لقد كان واضحًا في أعمال هسيود — التي كانت لُبَّ العملية التعليمية بجانب أعمال هوميروس — أنه في الوقت الذي كانت النظرية التقليدية للأخلاق ترتكِز على طاعة الرغبات المفترضة للآلهة، اعتمدت هذه النظرية في الحقيقة على نوع من المصلحة الشخصية؛ فالمخطئون سيُعَذَّبون لأن زيوس يضمن عقابهم، ولكن إن لم يتمكن زيوس من فرض الأخلاق بتلك الطريقة وعاش المخطئون من ثَمَّ في نعيم؛ فلا فائدة تُرجى من التحلي بالفضيلة. وكما يقول هسيود:

عين زيوس ترى كل شيء وتفهم،
وعندما يريد يرمي ولا تخيب رميته.
ما أعدل المدينة بداخله!
ولكني لن أكون عادلًا ولن يكون ابني عادلًا،
بين الأشرار لأنه من الشر أن تكون أمينًا بين الفُجَّار،
وأفوض أمري إلى زيوس أن يخلصني من العثار.

كانت الثقة بزيوس أساسًا واهيًا للفضيلة، فكان من الصواب أن أعاد السفسطائيون دراسة مفهوم العدالة المعروف بشكل كامل.

لقد شجع أسلوب السفسطائيين في التعليم التفتُّح العقلي المتَّسم بالشك الذي أزعج بعض الناس وأثار السخرية العدائية لدى أرسطوفان. فبممارسة فن الجدال وتدريسه اشتغل السفسطائيون حتمًا بالبحث في الأسباب التي تدعم القضايا المختلفة أو تدحضها، بما فيها القضايا الأخلاقية والسياسية وحتى الدينية. وحالما اسْتَلَّ أتباع المذهب العقلي سيوفَهم لم يكُن أي معتقد تقليدي غير راسخ في عالم السفسطائيين ليصمُدَ أمامهم، وهذا ما آخَى بين السفسطائيين والفلاسفة الطبيعيين الأوائل، رغم أن الفريق الأول تجاهل التأمُّلات غير المجديَة للفريق الثاني. وكان كِلَا الفريقين من أتباع المذهب الطبيعي التشكيكي؛ إذ كانوا يميلون لرفض التفسيرات والمعتقَدات الأسطورية التي لم تكُن لتلقَى قَبولًا فيما سبق إلا على أساس من عادات أو تقاليد أو دين. لقد نظر علماء الطبيعة بارتياب إلى محاولات تفسير العالم وما يحويه من آلهة، وبدلًا من ذلك سَعَوْا إلى الوقوف على أسباب طبيعية لتفسير ظاهرة وجود الأشياء كما تبدو. وكان السفسطائيون يساورهم الشك بالشكل ذاته عن علاقة ذلك بالدِّين، والذي كان من الصعب مناقشته من الناحية العقلية. وقد قال بروتاجوراس: «فيما يخص الآلهة لا أستطيع أن أعرف إن كانوا موجودين أم لا، ولا أن أعرف هيئتهم؛ لأن العوامل التي تمنع ذلك كثيرة منها غموض الموضوع وقصر الحياة البشرية.» وأراد السفسطائيون معرفة الأسباب التي يمكن الوقوف عليها فيما يتعلق بالقضايا الأخلاقية، واتبعوا في ذلك المذهب الطبيعي.

إن ما كان يَسُرُّ السفسطائيين من الناحية العقلية دائمًا ما كان يزعج آخرين، خاصة إذا كان هناك من أهل الجدل العباقرة مَن يقدم الحجج مثل جورجياس. ولا بُدَّ أنه كان من المربِك أن تَجِدَ أحد تجار السلاح المثقفين مثل جورجياس يقف بعتبة دارك. ولم يكُن من الغريب أن يقاوم الناس السفسطائيين بالضَّحِك في مسرحية «الغيوم»، ولا أن يُقَدِّم أرسطوفانُ سقراطَ بوصفه بطلًا سفسطائيًّا؛ إذ كان سقراط أشهر المجادِلين في أثينا. لقد قَدَّمَ أرسطوفان صورةً غير منصفة لسقراط، ولكن أثناء الدفاع عن سقراط قدَّم أفلاطون صورة غير منصفة كذلك عن السفسطائيين. وبعد تناوُل السفسطائيين الحقيقيين آنَ لنا أن نتحدث عن سقراط الحقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤