الفصل الثاني

التطبيق العملي لليوتوبيا

على مدار قرون، حاول الكثير من الأفراد والمجموعات تطبيق رؤاهم على أرض الواقع. حاول البعض الحصول على السلطة السياسية للقيام بذلك (نجح القليلون)، وأنشأ آخرون حركات اجتماعية (محققين نجاحًا أكبر في ذلك). واليوتوبيون الذين حازوا على السلطة السياسية خلقوا في الغالب ديستوبيات وليس يوتوبيات، مع كون بلدانٍ في القرن العشرين مثل ألمانيا النازية تحت حكم أدولف هتلر (١٨٨٩–١٩٤٥)، وكمبوديا/كمبوتشيا في ظل حكم بول بوت (١٩٢٨–١٩٩٨)، أمثلةً جديرة بالملاحظة في هذا الشأن.

لكن الشكل الأشيع لتطبيق رؤية بعينها على أرض الواقع كان خلْق مجتمع صغير للانعزال عن المجتمع الأكبر؛ لتطبيق معتقدات أعضائه دون تدخل أو تطفُّل من أحد، أو لإثبات أن اليوتوبيا التي يؤمنون بها قابلة للتطبيق للمجتمع الأكبر. ورغم أن المؤرخ آرثر يوجين بستور الابن (١٩٠٨–١٩٩٤) أنكر علاقة النهج الأخير باليوتوبيا، فقد أطلق عليه «نماذج أصلية للمجتمع الطيب»، وهو لقب في الواقع يؤكد تلك العلاقة.

إضافة إلى ذلك، يُنظر الآن إلى الإجراءات الصغيرة المؤقتة على أنها يوتوبية؛ لأنها توظف بشكل عام صورة يوتوبية في مقابل الديستوبيا التي تعارضها، كما يرى مؤيدوها. وتتخذ تلك الإجراءات عدة أشكال مختلفة من الأداء الفني إلى الاحتجاج.

(١) المجتمعات المقصودة

ما نطلق عليها الآن في أغلب الأحيان المجتمعات المقصودة، المعروفة للعامة باسم كوميونات، كان لها أسماء كثيرة في الماضي، يرتبط عدد منها على نحو مباشر باليوتوبية؛ مثل: المجتمع اليوتوبي، والتجربة اليوتوبية، واليوتوبيا العملية، والمجتمع البديل، والمجتمع التجريبي. لم يجرِ القبول بهذه الأسماء وأشكالها المختلفة، أو تم التخلي عنها من أجل مصطلح أكثر حيادية، وكثير من الأفراد الذين يعيشون بتلك المجتمعات يرفضون أن يُطلق عليها «مجتمعات يوتوبية»، ويفضلون «المجتمعات المقصودة». إلا أنه رغم هذا الرفض، ورغم أن أغلب تلك المجتمعات لم تكن يوتوبية بالمعاني التي يشيع استخدام الكلمة بها، فثمة علاقات وثيقة بين اليوتوبية وتلك المجتمعات.

لا يوجد تعريف متفق عليه بالكلية للمجتمع المقصود، لكن سيوافق كثيرون على شيء قريب من تعريفي التالي:

مجموعة من خمسة أفراد بالغين أو أكثر وأطفالهم، إن وُجدوا، قادمين من أكثر من أسرة نووية، اختاروا أن يعيشوا معًا لتعزيز قيمهم المشتركة أو لغرضٍ ما آخر اتفقوا عليه فيما بينهم.

الجزء الأهم من هذا التعريف، والجزء الذي يربط بين هذه المجتمعات واليوتوبية هو التأكيد على عيش حياة تقوم على «قيمهم المشتركة» أو «غرض اتفقوا عليه فيما بينهم».

كل تلك المجتمعات، حتى تلك التي تؤمن أنها تنتظر المجيء الثاني للمسيح في المستقبل القريب، لها دساتير و/أو قواعد ولوائح و/أو اتفاقات (رسمية أو غير رسمية) حول الكيفية التي ينبغي على أفرادها أن يعيشوا حياتهم بها. فإن كانت تلك الوثائق والاتفاقات أعمالًا أدبية، كنا سنطلق عليها يوتوبيات بلا شك، وغالبًا ما تكون أعمالًا أدبية من منطلق أنها لا تعكس بدقة الكيفية التي يعمل بها المجتمع في واقع الأمر.

أُقيمت المجتمعات المقصودة حتى يستطيع أعضاؤها اتِّباع أسلوب حياة معين. وقد سعى بعضها إلى تغيير السلوك الجنسي تغييرًا جذريًّا، وغيَّر كثير منها الطريقة التي يتناول بها أعضاؤها طعامهم؛ فالمجتمعات النباتية غيَّرت ما يأكله أعضاؤها، وغيَّر كثير منها كيفية تنظيم العمل، وعلى وجه الخصوص ألغت الفوارق بين الجنسين في الكيفية التي ينبغي بها تخصيص العمل، وعمدت أخرى — محرزةً بعض النجاح — إلى إلغاء التمييز بين العمل العقلي والبدني.

الكثير من هذه المجتمعات كانت دينية، وحاولت أن تتبنى أسلوب حياة يؤمن أعضاؤها أن إيمانهم يقتضيه. وتبع الكثير منها قائدًا ذا شخصية كاريزمية، وأخذت تبشر بنسختها من المعتقد الديني، واكتسبت أتباعًا كثيرين، وأسست مجتمعات أخرى، في حين اتبع غيرها أفكار أحد المنظِّرين الاجتماعيين. وثمة أسباب أخرى كثيرة تجعل الناس ينسحبون من المجتمع ليعيشوا على نحو مختلف.

ربما كان أول هذه المجتمعات الدينية الأشرام الهندوسية، ومن بعدها الأديرة البوذية. من بين أُولَى تلك المجموعات التي انسحبت من أجل ممارسة معتقداتها فيما أصبح جزءًا من التقاليد الغربية كانت الأسينيون، وهي جماعة دينية يهودية ظهرت في كثير من المدن، من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي، وأسست مجتمع خربة قمران، وكتبت مخطوطات البحر الميت التي يُعتقد أنها كانت مكتبتهم. كان أغلب الأسينيين متبتلين، وعاشوا على نحو جماعي. وفي وقت لاحق، بعضٌ من المجتمعات المسيحية بالتحديد التي تكونت في زمان مبكر تَشكَّلَت حول رجال دين، عادة نُسَّاك، يُعرفون جملةً باسم «آباء الصحراء».

استند كثير من المجتمعات المنعزلة الدينية في طقوسها على تأويلها للكنيسة الأولى في القدس، لا سيما وصف مجتمع الخيرات في سفر أعمال الرُّسل (٢: ٤٤-٤٥) — «وجميع الذين آمنوا كانوا معًا، وكان عندهم كل شيء مشتركًا، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحد احتياج» — الذي كان يُشار إليه باستمرار في وصف المجتمعات اللاحقة لنفسها. وآمن كثير من مؤسسي المجتمعات أن الطقوس الكوميونية التي مارستها الكنيسة الأولى عكست نية المسيح. وفيما بعدُ، ارتأت تلك المجتمعات أن الملكية المشتركة مناسبة لمن يكرسون أنفسهم للكنيسة وليس للناس العاديين.

(٢) أديرة الرهبان في المسيحية

كانت الخطوة الكبيرة الأولى نحو قيام تقليد الرهبنة المسيحية كتاب «مبادئ القديس بندكت»، وفيها عرض بندكت (٤٨٠؟–٥٤٣؟) تفاصيل نظام رهبنة مصمم ليوفر إطارًا بنيويًّا من الممكن من خلاله أن يتم عيش حياة أفضل، تكون أقرب إلى الحياة المسيحية المثالية. تقتضي مبادئ بندكت ألا يحوز أي راهب أي ملكية، فيقول: «يجب استئصال رذيلة الملكية هذه تمامًا من الدير أكثر من أي شيء آخر.» وفصَّل مسألة الطعام الذي سيُوزع (المبدأ رقم ٣٩)، ومقدار النبيذ المسموح به، وهو نصف لتر في اليوم (المبدأ رقم ٤٠). وثمة مبدأ يحدد مقدار العمل اليدوي ويعترض على الكسل (المبدأ رقم ٤٨)، ويعرض تفاصيل الملابس التي سيجري توزيعها (المبدأ رقم ٥٥)، وبالطبع التسلسل الكهنوتي في الدير، والطقوس الدينية، وإجراءات القبول بالدير. ساعدت تلك المبادئ على خلق مجتمعات مصممة من أجل جعل الحياة المستقيمة ممكنة. والمدافعون عن الرهبنة كانوا مقتنعين تمامًا بأن أغلب الناس لم يكونوا قادرين على مثل تلك الحياة، وأنه لن يمكن تحقيق هذا الهدف اليوتوبي على نحو واضح إلا داخل الدير.

مع ازدهار الأديرة وعدم تمسك الرهبان بأسلوب التقشف الموصى به من قِبل القديس بندكت، أدخل القديس الفرنسي أودو الكلوني (٨٧٨ تقريبًا–٩٤٢) إصلاحاتٍ أرسى من خلالها الشكل الكلوني للأديرة، بغرض تصحيح ما اعتبره إفراطًا في رتب الرهبنة الأخرى. وشدد القديس فرانسيس الأسيزي (١١٨١ / ١١٨٢–١٢٢٦) أيضًا على ضرورة الإصلاح، واقترح رتبة جوالة من الرهبان الذين يعتمدون في حياتهم على الاستجداء. أفسد المحافظون بالكنيسة منهج فرانسيس، وتأسست في النهاية رتبة فرانسيسكانية أكثر تقليدية.

تُعتبر محاولة إعادة تحقيق مبادئ بندكت وأودو وفرانسيس وغيرهم موضوعًا متكررًا في تاريخ الرهبنة. تُوضع قواعد جديدة يطلقها أحدهم ويجري تطبيقها؛ فتصبح الأديرة ناجحة وتمر بفترات ازدهار تكون هي سبب انهيارها؛ حيث يصاب الرهبان بالكسل، ويعتادون على الحياة الطيبة، ثم تُدشن قواعد جديدة وتُستأنف الدورة من جديد.

تمخضت عن حركة الإصلاح البروتستانتي مجموعات كثيرة أملت في تكوين حياة تستند إلى تأويلهم للعهد الجديد. على سبيل المثال، تأسست الأخوية الهوترية إبان حركة الإصلاح الراديكالي في القرن السادس عشر. سُمي الهوتريتيون، كما كانوا يُعرفون أيضًا، بهذا الاسم على اسم مؤسسهم، وهو جاكوب هوتر (١٥٠٠ تقريبًا–١٥٣٦)، الذي أصرَّ على إقامة مجتمع يقوم على الملكية المشتركة واللاعنف.

fig4
شكل ٢-١: تعد المجتمعات الرهبانية من ضمن أقدم المجتمعات المقصودة، وهي لا تزال تنمو وتتكيف مع التغيرات في المجتمعات التي توجد بها، بما في ذلك البنية المعمارية للأديرة، كما يتضح من هذا الدير التابع لجماعة البندكتيين في سانت لويس، ميزوري.

وللهرب من الاضطهاد، انتقل الهوتريتيون إلى بلدان عدة في أوروبا قبل أن يستقروا في أمريكا الشمالية في أواخر القرن التاسع عشر. وفي الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب العالمية الأولى، جرت ملاحقتهم بسبب اتِّباعهم مذهب اللاعنف، وانتقل الكثير من الجماعات إلى كندا. واليوم توجد حوالي ٥٠٠ جماعة من الهوتريتيين، أغلبها في كندا.

لا تزال توجد جماعات أخرى قليلة من عصر حركة الإصلاح البروتستانتي، لكنَّ كثيرًا من الجماعات التي ظهرت بأوروبا إبان المائتي عام اللاحقة أسست مجتمعات في الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما «جماعة الوحي الحق»، المشهورة باسم «جماعات أمانا»، في آيوا، التي تعود أصولها إلى ألمانيا في عام ١٧١٤، وتعاليم إبرهارد لدوفيج جروبر (المتوفَّى في عام ١٧٢٨)، ويوهان فريدريش روك (١٦٧٨؟–١٧٤٩)، اللذين اعتقدا أنهما كانا يتلقَّيان وحيًا مباشرًا من الرب.

نشأت جماعات دينية أخرى في بريطانيا والولايات المتحدة، واختارت إنشاء مجتمعات تُمكِّنها من ممارسة معتقداتها. من أشهر تلك الجماعات «الشيكرز» (المعروفة رسميًّا باسم الجمعية المتحدة للمؤمنين بالظهور الثاني للمسيح) وجماعة أونيدا. لا تزال توجد جماعة شيكرز واحدة تمارس معتقداتها في ولاية مين، لكن اليوم أفراد جماعة الشيكرز معروفون بالأعمال الحرفية. لم تستمر جماعة أونيدا لنفس الأمد وتحولت إلى شركة مساهمة تنتج آنية أونيدا الفضية. لكنْ في أوج ازدهار تلك الجماعتين، عُرف عنهما أنهما كانت لهما ممارسات جنسية خاصة بهما؛ فأفراد جماعة الشيكرز كانوا متبتلين. أما جماعة أونيدا، فمارست ما أطلقت عليه «الزواج المعقد»؛ حيث يُفترض أن جميع أعضاء الجماعة متزوجون بعضهم من بعض، مع أن العلاقات الجنسية لم تكن — بوجه عام — مباحة دون قيود. آمنت كلتا الجماعتين بالمساواة بين الجنسين وحاولت تطبيقها؛ إذ آمنت جماعة الشيكرز بأن المجيء الثاني للمسيح قد حدث متخذًا شكلًا أنثويًّا متمثلًا في مؤسستها آن لي (١٧٣٦–١٧٨٤). وبدأت جماعة أونيدا إجراء تجربة تقوم على عملية تحسين النسل باختيار المسموح لهم بإنجاب أطفال معًا. وتُعتبر — بوجه عام — تلك التجربة ناجحة من منطلق أن أغلب الأطفال الذين نتجوا عنها كانوا أصحاء وأذكياء على حدٍّ سواء. وفي أغلب الأحوال استمر الحال هكذا في نسلهم.

fig5
شكل ٢-٢: ملتقى جماعة الشيكرز في كانتربيري، نيوهامبشير، ويظهر فيه بابان منفصلان أحدهما للرجال والآخر للسيدات.

تأسست مجتمعات أخرى بناءً على أفكار إصلاحيين، مثل الرجال الذين حددهم فريدريش إنجلز (١٨٢٠–١٨٩٥) بوصفهم اشتراكيين يوتوبيين؛ لتمييزهم عن الاشتراكية العلمية الماركسية. حدد إنجلز ثلاثة منظِّرين بوصفهم اشتراكيين يوتوبيين: الويلزي روبرت أوين (١٧٧١–١٨٥٨)، والفرنسيَّين تشارلز فورييه (١٧٧٢–١٨٣٧)، وهنري سان-سيمون (١٧٦٠–١٨٢٥). ورغم أن أيًّا منهم لم يكتب رواية يوتوبية، فقد نشروا رؤيتهم للمجتمعات المثالية، وكتب آخرون روايات يوتوبية استندت إلى أفكار أوين وفورييه. أسس أوين مجتمعات مقصودة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، في حين أسس آخرون مجتمعات بناءً على أفكاره في هذين البلدين وفي أيرلندا. كان أوين منشغلًا بإدخال إصلاحات في المصانع، والإصلاحات التي أدخلها بمحلج القطن خاصته في قرية نيو لانارك، اسكتلندا، حققت نجاحًا كبيرًا. وقرية نيو لانارك الآن بقائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. والمجتمعات التي قامت على مقترحات فورييه وسان-سيمون تأسست في فرنسا، وفيما بعدُ في الولايات المتحدة الأمريكية.

fig6
شكل ٢-٣: كانت قرية نيو لانارك الموقع الذي شهد أول خطوة كبرى في حياة روبرت أوين (١٧٧١–١٨٥٨) باعتباره إصلاحيًّا. عندما تولى أوين منصب مدير محلج القطن في تلك القرية، وفَّر لسكانها اللائق من المسكن والتعليم والرعاية الصحية والطعام بأسعار في المتناول، والتي لم يكن أيٌّ منها متاحًا في أغلب البلدات التي تتكون حول المصانع. ألغى أوين أيضًا وسائل العقاب البدني، ووضع قيودًا على عمل الأطفال. حققت تجربة أوين نجاحًا عظيمًا من منطلق أنها زادت من الإنتاجية، وفي الوقت نفسه كان العمال في حال أسعد. وقرية نيو لانارك الآن بقائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي.

(٣) الكيبوتسات

تأسس الكثير من المجتمعات الدينية والعلمانية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلا أن الحدث الكبير اللاحق في تاريخ المجتمعات المقصودة كان تأسيس ديجانيا، أول كيبوتس، في فلسطين في عام ١٩٢٠. انتقل الكثير من اليهود، أغلبهم من الشباب، إلى المنطقة لتأسيس كيبوتس عبر ما يُعرف الآن بإسرائيل. كانت الكيبوتسات الأولى علمانية في الأساس، رغم تأسيس مجتمعات دينية أيضًا أُطلق عليها الموشافات.

كانت الكيبوتسات ناجحة — بوجه عام — حتى أجبر اجتماع العولمة، مع المشكلات التي طرأت على اقتصاد إسرائيل، الكثيرَ منها على إدخال تعديلات كبيرة على اقتصاداتها الداخلية. تجاوزت أغلب الكيبوتسات أوقاتها العصيبة، لكن الكثير منها أيضًا لم تعد كوميونية أو ميسورة الأحوال كما كانت في السابق.

يصف هنري نير، مؤرخ حركة الكيبوتسات، الكيبوتسات اليوم ﺑ «ما بعد اليوتوبية»، دافعًا بأن تأسيسها كان يوتوبيًّا بوضوح من منطلق أن مؤسسيها توقعوا أنها ستخلق حياة أفضل وجديدة بالكامل لأعضائها، لكن لأنه لم يحقق أي شعب أو أي نظام اجتماعي الآمال التي قام عليها تأسيسه، فعلى الناس التكيف مع واقع الحياة اليومية مع غيرهم وفقدان الرؤية الأصلية. وهي «ما بعد يوتوبية»؛ من منطلق أن كثيرًا من أعضائها كيَّفوا رؤيتهم اليوتوبية مع الواقع، والبعض ببساطة غيَّر حلمه، والبعض عدَّه من الماضي، والبعض الآخر خلص إلى أن الموقف الحالي أفضل من البدائل، وأرجأ آخرون تحقيق اليوتوبيا إلى أجل غير مسمًّى بالمستقبل.

في أوج صعود حركة الكيبوتسات، اجتذبت دعمًا أخلاقيًّا وماليًّا كبيرًا من حكومة إسرائيل، ورأت بعض البلاد الأخرى مزايا في تأييد المستوطنات الكوميونية. وفي الولايات المتحدة، إبان كساد ثلاثينيات القرن العشرين، أُنشئ حوالي ١٠٠ مجتمع على سبيل الإغاثة وإعادة التوطين. وفي نيوزيلندا، في سبعينيات القرن العشرين، طُبق برنامج لتأسيس مجتمعات عُرفت باسم «الأوهو»، وهي كلمة باللغة الماورية تعني تحقيق شيءٍ ما «عن طريق العمل والمساعدة الودية». وأُنشئت بعض المجتمعات، لكن سرعان ما ضعفت بفعل البيروقراطية.

(٤) المجتمعات الديستوبية

كانت الكوميونات الصينية التي تأسست في عهد ماو تسي تونج (١٨٩٣–١٩٧٦) نسخة سلطوية من الكوميونية. ويظهر لنا أنها يمكن أن تكون ديستوبية من منطلق أن حياة الكثيرين من أهلها الذين فُرض عليهم الانضمام إليها كانت أسوأ بوضوح مما كانت عليه من قبلُ، كما تشير حوادث الانتحار الجماعي في جونزتاون ومعبد الشمس إلى أن الانضمام إلى مجتمع له قائد قوي وصاحب شخصية كاريزمية على نحو استثنائي، يمكن أن يجعل الناس يُقْدمون على فعل أشياء ربما لن يقوموا بها في أي حال آخر، بما في ذلك قتل أنفسهم. وفي حين أن كثيرًا من التُّهم التي وُجهت إلى المجتمعات المقصودة اتضح أنها كاذبة، ثمة ما يكفي من الأمثلة على إساءة المعاملة تقتضي التسليم بالجانب الديستوبي من الكوميونية.

(٥) مجتمعات حقبة «الستينيات»

أفرزت حقبة الستينيات زيادة عظيمة في المجتمعات المقصودة عبر العالم، ضمت آلافًا من المجموعات الحضرية التي لم يُكتب لأغلبها البقاء طويلًا، والتي عرفت نفسها على أنها كوميونات، والمئات من المجموعات الريفية التي تأسست على رؤًى يوتوبية مختلفة. أُنشئت هذه المجتمعات في أوروبا وأمريكا الشمالية. وبسبب فكرة الصحافة عن تلك المجتمعات، والمتمثلة في أن بها حرية جنسية، أو أنه لا توجد أي قيود على العلاقات الجنسية بها (كان بعضها كذلك، في حين لم يكن البعض الآخر كذلك)، فقد انبهرت بكوميونات الهيبيز؛ مثل: «دروب سيتي» الريفي، و«هوج فارم»، و«كريستا» في منطقة هيت أشبري، سان فرانسيسكو. كانت بعض الكوميونات الحضرية «منازل آمنة» للنشطاء المناهضين للحرب الذين حاولوا تجنُّب اعتقالهم؛ وأدى هذا بالصحافة إلى إدانة جميع المجتمعات؛ لأنها تُؤوي راديكاليين خطرين. في كلٍّ من أوروبا وأمريكا الشمالية، كانت الغالبية العظمى من تلك المجتمعات تحاول فحسب تطبيق ما يراه أعضاؤها أسلوب حياة أفضل، وأقل مادية، وأكثر حرية. واستمرار وجود عدد كبير منها لأكثر من أربعين عامًا يشير إلى أن بعض الناس وجدوا ما كانوا يبحثون عنه.

fig7
شكل ٢-٤: كان «دروب سيتي» مجتمعًا مقصودًا تأسَّس في جنوب كولورادو في منتصف ستينيات القرن العشرين، ورغم أن مَن أسَّسَه في الأصل طلاب الفنون من جامعتَي كولورادو وكانساس، فقد أصبح أيقونة لكوميونية الهيبيز. وهو يشتهر بتصميمه المعماري المقبب.

كذلك، انجذب في فترة الستينيات كثيرون إلى الأديان الشرقية، لا سيما البوذية والهندوسية؛ نتيجةً لذلك، بدأ الرهبان البوذيون في الانتقال إلى البلدان الغربية بهدف التبشير وإنشاء الأديرة، كما قَدِمَ مدرِّسون ومعلمون روحيون من الهندوس إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وأسسوا أشرامًا.

لكن المجتمعات التي كانت الأقرب شبهًا بالمجتمعات المبكرة لم تقم على الأديان الشرقية، بل على رؤية جديدة، مثل المجتمعات التي ألهمتها الرواية اليوتوبية لعالم النفس السلوكي بي إف سكينر «والدن تو». وأشهر هذه المجتمعات «توين أوكس» في فيرجينيا ترك منذ أمد بعيد نموذج سكينر، لكن المجتمع الآخر الذي استمر حتى الآن من مجتمعات سكينر الأصلية «لوس هوركونز» في المكسيك لا يزال يحمل مظاهر من الرؤية الأصلية التي تَستخدم مؤسسات المجتمع لتعديل السلوك وتحسينه.

«توين أوكس» عضو باتحاد المجتمعات المساواتية، وهو مجموعة صغيرة من المجتمعات التي تحاول أن تستوفي سبعة معايير. وهذه المعايير أهداف تطمح المجتمعات إلى تحقيقها ولم تحققها بعدُ، لكنها تعبر بوضوح عن رؤية يوتوبية. ويقوم كل مجتمع من مجتمعات الاتحاد بما يلي:
  • (١)

    مشاركة الأرض والعمل والدخل وغيره من الموارد بين الجميع.

  • (٢)

    تحمُّل المسئولية فيما يتعلق بحاجات أعضائه، وتلقِّي نواتج عمله وتوزيعها هي وجميع الموارد الأخرى بالتساوي حسب الحاجة.

  • (٣)

    تطبيق أسلوب اللاعنف.

  • (٤)

    استخدام شكل من أشكال اتخاذ القرار يتمتع فيه الأعضاء بفرص متساوية للمشاركة؛ إما عبر إجماع الآراء، أو التصويت المباشر، أو حق الاستئناف، أو النقض.

  • (٥)

    العمل دون كلل على إرساء المساواة بين الجميع، وعدم السماح بالتمييز على أساس الجنس، أو الطبقة الاجتماعية، أو العقيدة، أو الأصل العرقي، أو السن، أو النوع، أو التوجه الجنسي، أو الهوية الجنسية.

  • (٦)

    العمل على الحفاظ على الموارد الطبيعية لأجيال الحاضر والمستقبل مع السعي إلى التحسين المستمر للوعي والممارسة البيئية.

  • (٧)

    إنشاء عمليات من أجل المشاركة والتواصل بالمجموعة، وتوفير البيئة التي تدعم تطوير الناس.

وتوجد شبكة من المجتمعات في الولايات المتحدة الأمريكية يتم تناول أخبارها في مجلة «كميونيتيز: لايف إن كواوبراتيف كالتشر»، التي تُنشر منذ عام ١٩٧٢، وثمة شبكة مماثلة بالمملكة المتحدة يتم تناول أخبارها في دورية «ديجرز آند دريمرز»، التي تُنشر منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، وهناك شبكة عالمية من القرى البيئية.

(٦) المجتمعات المقصودة المعاصرة

ثمة حركتان حديثتان مرتبطتان ارتباطًا مباشرًا بالكوميونية أو ذات صلة بها؛ فحركة القرية البيئية هي بوضوح جزء من الكوميونية، وفيها تُحاوِل مجتمعات صغيرة موجودة في جميع أنحاء العالم الوصول لنمط حياة وبنية معمارية وتصميمٍ مجتمعيٍّ أكثر توازنًا بيئيًّا. وبعضٌ من هذه المجتمعات، مثل «فارم» في تينيسي بالولايات المتحدة الأمريكية، تقدم أيضًا الدعم لتطوير المجتمعات الأخرى التي من هذا النوع. وبعض هذه المجتمعات أو أعضائها تستخدم الخبرة التي اكتسبتها في أوقات الحاجة للوصول إلى اتفاق في الآراء؛ لتدريب الناس في المجتمعات الأخرى وخارج الكوميونية على ديناميكيات الجماعات.

توجد صلات بين حركة الإسكان المشترك، التي نشأت في الدنمارك وانتشرت في أرجاء البلدان الغربية، والمجتمعات المقصودة. في إطار تلك الحركة، تكون الملكية مزيجًا من الملكية الخاصة والجماعية؛ فتكون ملكية الموقع والمنشآت المشتركة جماعية، عادة على شكل مساهمة، في حين تكون ملكية منازل الأفراد ملكية فردية. وتؤكد شخصية الجماعة على أهمية التفاعل داخل المجتمع. وترى بعض مجتمعات الإسكان المشترك نفسَها مجتمعاتٍ مقصودةً، إلا أن مجتمعات أخرى ترفض الفكرة. وهذا الانقسام يعكس بدقة واقع هذا النوع من المجتمعات. وعادة ما يكون شكل الملكية في تلك المجتمعات واحدًا أو متشابهًا على الأقل، إلا أن حدود الحياة الاجتماعية داخلها تختلف اختلافًا كبيرًا؛ فمن ناحية، تكون الاجتماعات المجتمعية والعمل المجتمعي والوجبات المشتركة وما إلى ذلك هي المعيار السائد، ومن الناحية المقابلة، يكون التفاعل في المجتمع قليلًا، ولا يوجد إلا بالحدود التي تفرضها الاتفاقات القانونية الملزمة. وأغلب المجتمعات يقع في موقع متوسط بين هذين النقيضين.

وجمعيات الإسكان التعاوني، التي تتنوع من منزل وحيد يوفر الإقامة لطلاب الجامعة إلى المجمعات السكنية الضخمة، هي أيضًا مجتمعات مقصودة. ورغم أن الكبرى منها قد لا تستوعب نشاطًا كوميونيًّا كبيرًا، فالصغرى منها غالبًا ما تبدو كمجتمع حضري مقصود، وتعمل على نحو كبير بالطريقة نفسها التي يعمل بها. علاوة على ذلك، بعض الجمعيات الخاصة بالمنتجين، مثل «موندراجون» في إسبانيا، عادة ما تُعتبر مجتمعات مقصودة من منطلق أنها لا توفر فقط وظائف لعمالها، بل أيضًا تشركهم في إدارة العمل، وتوفر لهم وسائل الراحة، التي غالبًا ما تشمل المسكن، التي تفوق كثيرًا ما توفره أغلب الشركات.

ينبغي أن يكون من الواضح أنه لا يوجد نموذج واحد فقط للحياة المجتمعية؛ فللمجتمعات المقصودة أغراض كثيرة؛ فعلى سبيل المثال، كان مجتمع «بلاك ماونتن كوليدج» مجتمعًا بمنزلة مركز ثقافي وسياسي، وضم في عضويته المطرب بيت سيجر (المولود عام ١٩١٨)، والملحن جون كيدج (١٩١٢–١٩٩٢)، والراقص ومصمم الرقصات ميرس كنينجهام (١٩١٩–٢٠٠٩).

لسنوات طوال، ضمَّت بلجيكا مجتمعات مصممة للمرضى العقليين، وانتشرت هذه المجتمعات العلاجية بعد ذلك في دول العالم؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وفَّرَ مجتمع «جولد فارم» في ماساتشوستس ومجتمع «كوبريس» في نورث كارولاينا منذ فترة طويلة مثل هذا الإطار. ومجتمعات كامبهيل في جميع أنحاء العالم، التي تقوم على تعاليم المفكر النمساوي رودولف شتاينر (١٨٦١–١٩٢٥)، تعمل مع أصحاب إعاقات التعلم، والذين لديهم مشكلات عقلية وغيرها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتوفر لهم بيئة آمنة وداعمة يستطيعون فيها باعتبارهم أفرادًا تطويرَ مهاراتهم قدر الإمكان.

ثمة مجموعة من المجتمعات تعتبر نسخة مختلفة من المجتمعات العلاجية هي مجتمعات العمال الكاثوليك، التي تأسست لمساعدة مدمني الكحوليات ومدمني المخدرات وغيرهم ممن هم موجودون بِقاعِ السلَّم الاجتماعي على تحسين حالهم. تضم تلك المجتمعات منازل العمال الكاثوليك الموجودة في أسوأ المناطق بالمدن الكبرى وعددًا من المجتمعات الريفية؛ حيث يمكن للناس الذهاب إليها لاستنشاق بعض الهواء النقي وممارسة بعض النشاط البدني للمساعدة على شفائهم. وكانت هناك نسخة أقدم ومماثلة جدًّا من تلك المجتمعات، تمثلت في المجتمعات التي أَسَّسَها «جيش الخلاص» في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. تأسست كلٌّ من المستعمرات الحضرية والريفية، وكانت الخطة تتمثل في التوسع في بناء مستعمرات خارج البلاد؛ حيث يستطيع من أحرزوا نجاحًا في المجتمعات الريفية بدْءَ حياة جديدة تمامًا.

(٧) عوامل نجاح المجتمعات أو إخفاقها

ما الذي يجعل مجتمعًا ما ناجحًا أو فاشلًا؟ ثمة إجابة نموذجية؛ وهي فترة استمراره. كان المعيار النموذجي هو ٢٥ عامًا، واقترحته روزابيث موس كانتر (المولودة عام ١٩٤٣)، الأستاذة التي تشغل كرسي إرنست إل آرباكل بكلية هارفرد لإدارة الأعمال، في كتابها «الالتزام والمجتمع» (١٩٧٢)، لكن بالنسبة لأغلب أعضاء المجتمعات، فإن هذا معيار معيب بصورة بالغة؛ ففي حين توجد مجتمعاتٌ كثيرةٌ اليومَ تجاوزت معيار الخمسة والعشرين عامًا بزمن طويل، بما فيها عدد كبير تأسس في فترة الستينيات، ويُعتقد عمومًا أنها انتهت منذ أمد بعيد، فإن فترة الاستمرار ليست هي المعيار الأهم لنجاح المجتمع أو فشله بالنسبة للكثيرين.

لا يعني استمرار المجتمع أنه ضم نفس السكان. بعضُها فعل هذا، وأما البعض الآخر فلا، لكن أغلب المجتمعات حظي بمعدل تَعاقُب سكاني ضخم. يبدو في الواقع أن افتراضات كانتر تُناسب المجتمعات الدينية التي استمر بعضها لعدة أجيال. فإنْ أَمَرَك الرب أو ممثل الرب بالبقاء فستبقى. وفي حين أن فترة الاستمرار يمكن أن تكون مقياسًا للنجاح عندما تجتمع مع عوامل أخرى، فهي وحدها لا تشكل أي معنًى. ومع أن كانتر نفسها كانت تدرك ذلك، فإن هذا المعيار البسيط مع ذلك جرى تطبيقه على يد آخرين منذ ذاك الحين.

يورد المفكر التقدمي الأمريكي هنري ديمارست لويد (١٨٤٧–١٩٠٣) أحد المداخل لتناول مسألة نجاح أو فشل المجتمعات:

هل تفشل المجتمعات على الدوام؟ لَم تُشاهَد إلا في تلك المجتمعات، في الحدود الواسعة للولايات المتحدة، حياةٌ اجتماعية امَّحَى فيها الجوع والبرد، والدعارة، وإدمان الكحوليات، والفقر، والعبودية، والجريمة، والشيخوخة المبكرة، وارتفاع معدل الوفيات والذعر والهلع الصناعي. لو كانت قد فعلَت ذلك لعام فحسب، لكانت استحقت أن توصف بأنها «المجتمعات» الناجحة الوحيدة بهذه القارة، وبعضها يبلغ من العمر أجيالًا عديدة. وكل هذا لم يقُم به قدِّيسون بالسماء، بل على الأرض على يد رجال ونساء عاديين.

ثمة معيار آخر، وهو معيار سيقدِّره أفراد المجتمعات، يتمثل في أن نجاح المجتمع يعتمد على قدر وفائه باحتياجات أعضائه مهما بلغت مدة عضويتهم فيه. بالنسبة لأغلب الأعضاء، فإن نجاح المجتمع لا يقاس بفترة استمراره، وإنما بمدى تحسينه أو عدم تحسينه لحياتهم في الفترة التي كانوا فيها أعضاءً فيه. بالطبع تتنوع الاحتياجات بوضوح من عضو لآخر، وتتغير بتغير الناس؛ ومن ثم ستتغير الديناميكيات الداخلية للمجتمع بمرور الوقت.

(٨) التطورات الحديثة في التطبيق العملي لليوتوبيا

ثمة شكلان من أشكال التطبيق العملي الحديث لليوتوبيا، أحدهما متعلق بالمجتمعات المقصودة، يوضحان النحو الذي ابتعدت به اليوتوبية عن الفئات التقليدية. أولهما — الذي أَطلق عليه حكيم بك (بيتر لامبورن ويلسون، المولود عام ١٩٤٥) «المنطقة المستقلة المؤقتة»، وأطلق عليه جورج ماكاي (المولود عام ١٩٦٠) ثقافة «افعلها بنفسك» — مساحة من النشاط المنشأة لغرض معين. يركِّز كلٌّ من حكيم بك وماكاي في هذا الشأن في المقام الأول على الاحتجاجات، إلا أنه يمكن إدراج مخيم الموسيقى السنوي للمثليات في ميشيجان وغيرها من الأماكن المؤقتة. وبالنظر إلى الماضي، يمكن أن نَصِفَ تلك الأماكن بأنها يوتوبية؛ لأنها أفرزت على نحو مؤقت ما رآه المشتركون بها حياة أفضل، وإن كانت لفترة قصيرة، وهي ترتبط بما سبقها من يوتوبيات مؤقتة مبكرة مثل الاحتفال بعيد الإله ساتورن، والصورة المبكرة من الكرنفال، وعيد البلهاء، وخيم الاجتماعات التي تقام من أجل إيقاظ الروح الدينية، و«أحداث» فترة الستينيات. وبعضها أنشأ مجتمعات دامت لفترة طويلة، مثل مخيم السلام النسائي في قاعدة جرينهام كومون الجوية في بيركشاير، بإنجلترا، الذي استمر من سبتمبر من عام ١٩٨١ حتى عام ٢٠٠٠.

يمكن كذلك وصف ظواهر مؤقتة على نحو أكبر بأنها يوتوبية؛ فهناك، على سبيل المثال، مبادرة «فري» الفنية الجماعية البريطانية التي تنشئ احتجاجًا سياسيًّا في مكان عام من خلال، مجرد قصد مكانٍ ما، عادةً، حاملين شعارًا ما، والوقوف هناك لساعات مكونين «منطقة مستقلة مؤقتة» أو مساحة يوتوبية مؤقتة حول أنفسهم، وهذا مجرد أسلوب من ضمن أساليب أخرى. ويصنع الأعمالَ الفنية الأشخاصُ الذين يتفاعلون معهم. وثمة الكثير من هذه المجموعات، لكن مجموعة «فري» تصف ما تفعله بأنه يوتوبي.

أحد جوانب تلك الظاهرة الأداءُ الفني. وفي كل أداء، سواء كان موسيقَى أو رقصًا أو تمثيلًا مسرحيًّا أو بعض أشكال الفن الجماهيري، ثمة أمران على الأقل يحدثان؛ أحدهما بين المؤدِّين، والآخر لدى المشاهدين. وفي حالات نادرة، يجتمع الاثنان وتتشكل لحظة يوتوبية بحق، لكن في الأغلب، يوجد ما قد نفكر فيه على أنه لحظات يوتوبية أصغر. في الغالب، وإن كانت تلك حالات نادرة، يخلق المؤدُّون المساحة اليوتوبية فيما بينهم من خلال الأداء الفني. وقد أشار منظِّرو الأداء إلى هذا. فعلى سبيل المثال، كتبت جيل دولان، أستاذة المسرح بجامعة تكساس (المولودة عام ١٩٥٧) تقول:

أرى أن المسرح والأداء الفني يمكن أن يُعبِّرا معًا عن مستقبل مشترك؛ مستقبل أكثر عدالة وإنصافًا، مستقبل يمكننا جميعًا أن نشارك فيه على نحو متساوٍ أكثر، مستقبل يحفل بفرص أكبر للحياة الكاملة، وللمساهمة في صنع الثقافة.

يوجد الكثير من مثل تلك اللحظات، وفي حين أننا نعلم أن العرض القادم قد لا يبلغ نجاحَ سابقِه، فمعرفة أن الأمر ممكن وأن المشاعر التي يطلقها عندما يجري هي الأمر المهم. وهذا مهم من نواحٍ ربما تكون سياسية؛ لأن الرضا في تلك اللحظة يمكن أن يتسرب خارج مكان الأداء ليُلقي الضوء على الاستياء الذي نشعر به في الحياة اليومية.

والاستياء هو بداية اليوتوبية، واليوتوبية في النهاية تدور حول تغيير الحياة اليومية. تُواجِه اليوتوبيا حقيقة أن الحياة هي كلٌّ متكامل، وأن الأطفال والعائلات والزواج والتربية والاقتصاد والسياسة والموت وغير ذلك مرتبطة كلها. والمجتمعات المقصودة راديكالية بوجه خاص من منطلق أن أعضاءها لا يمانعون في تغيير حيواتهم. ويكون على جميع أعضاء تلك المجتمعات التعامل مع هذا التغيير كل يوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤