الفصل السادس

اليوتوبية والنظرية السياسية

تبدأ اليوتوبية بعدم الرضا وتقول إن احتياجات الإنسان يمكن إشباعها إن تم توفير ظروف معينة. وأبسط حالات عدم الرضا تؤدي إلى أبسط حالات الإشباع وأبسط صور اليوتوبيا، التي لم يتم الوصول إليها في معظم العالم؛ مَعِدة خاوية تُملأ، جسد عارٍ يُستر، سكن للوقاية من التعرض للعوامل الجوية. لكن بعض منتقدي اليوتوبية ربطوها ببعض مشكلات القرن العشرين، مثل الحربين العالميتين وعمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا ورواندا. وعلى وجه الخصوص، نُظر إلى الشيوعية والنازية، وحديثًا الحركة الإسلامية، التي يؤمن أتباعها أنها سُبل لحياة أفضل، بوصفها الأساس لما أُطلق عليه القرن العشرين الديستوبي. وعلى الجانب الآخر، يدفع مؤيدو اليوتوبية بأنها كانت الركيزة الأساسية للتغلب على أسوأ مآسي القرن العشرين، وأنها ضرورية من أجل استمرار الحضارة، بل وجزء جوهري من بشرية الإنسان. وإلى حد ما، كلاهما على حق.

بعد عام ١٩٨٩، مع سقوط حائط برلين وانهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي (لا تزال الشيوعية الأيديولوجية الرسمية في الصين وكوبا ولاوس وفيتنام)، نُشر الكثير من الأعمال التي تعلن نهاية اليوتوبيا، تمامًا كما كانت هناك أعمال تتوقع نهاية الأيديولوجية في خمسينيات القرن العشرين. زعمت تلك الأعمال التي تتحدث عن «نهاية اليوتوبيا» أن مناهضي اليوتوبيا قد فازوا في الصراع بين مؤيديها ومناهضيها. ولأسباب واضحة، ظهر هذا الموقف على أقوى نحوٍ في ألمانيا؛ فبسبب معاناة الكثير من الألمان من كلٍّ من النازية والشيوعية، سعدوا بالاعتقاد بأن اليوتوبيات لم تعد تهددهم، لكنهم اعتقدوا أيضًا أن نهاية اليوتوبيا ستؤتي لهم بحياة أفضل. والآن لا يرى الجميع أنها فعلت ذلك، ويرى كثيرون، لا سيما في ألمانيا الشرقية السابقة، أن الحياة كانت أفضل في ظل الشيوعية؛ لأنهم شعروا — رغم الفقر وانعدام الحرية — أنهم كانوا يتمتعون بالأمن الاقتصادي، وفي شعورهم هذا لا يمكن اعتبارهم محقين تمامًا ولا غير محقين تمامًا. وهكذا نرى مجددًا ظاهرة تخيل الوصول لليوتوبيا ثم اكتشاف أنها غير ملائمة، وبداية رحلة السعي وراء يوتوبيا أخرى ستكون غير ملائمة هي الأخرى. ويُقيِّم مناهضو اليوتوبيا تلك العملية على نحو سلبي بينما يقيمها المؤيدون لها على نحو إيجابي.

(١) الحجة المناهضة لليوتوبيا

أَعتبرُ أن ما أُطلق عليه «اليوتوبية» نظريةً جذابة، وفي الواقع مبالغٌ في جاذبيتها؛ لأنني أعتبرها أيضًا خطرة وخبيثة. أعتقد أنها عقيمة وتُفضي إلى العنف.

كارل بوبر

في أغلب الفظائع التي حدثت، ثمة حلم يوتوبي كبير؛ مجتمع أنظف أو مجتمع أنقى.

ريتشارد موليكا

أكثر الأساليب التي يستخدمها مناهضو اليوتوبية في الهجوم عليها شيوعًا هو المساواة بين ما هو يوتوبي وما هو مثالي. تعني كلمة «مثالي» كامل أو مكتمل أو غير قابل للتغيير؛ ولا شيء يتصل بالبشر كامل أو مكتمل أو غير قابل للتغيير؛ ومن ثم فالمساواة هنا تجعل اليوتوبيا تبدو حمقاء أو — على الأقل — غير حكيمة. وقد كتبت جوديث سلار، المنظِّرة السياسية، أن «اليوتوبيا — منتج الأخلاقيين — هي بالضرورة كل متكامل متجانس لا يتغير.» وقد كتب عالم الاجتماع رالف داريندورف (المولود عام ١٩٢٠)، الذي أصبح مدير كلية لندن للاقتصاد، أن «جميع اليوتوبيات من «جمهورية» أفلاطون حتى عالَم جورج أورويل الجديد الرائع في «١٩٨٤» تشترك في عنصر بنيوي واحد؛ وهو أنها كلَّها مجتمعاتٌ يغيب التغيير عنها.» وكتب ليشك كولاكفسكي، الفيلسوف البولندي، أن إحدى ما يُطلق عليها «السمات العامة» للتفكير اليوتوبي هي «فكرة الأُخوَّة البشرية المثالية الخالدة».

عدد قليل جدًّا من اليوتوبيات الحقيقية هي التي تدَّعي تمتعها بقدر من المثالية؛ فلم يدَّعِ أفلاطون أو ماركس، مصدرا اليوتوبية اللذان تناولهما بوبر، أنهما يتحدثان عن الكمال. أمضى أفلاطون قسمًا كبيرًا من «الجمهورية» يدفع بأن دولته المثالية يجب أن تسقط لا مناص. وكان ماركس واضحًا عندما ذكر أنه لا يعرف، وليس بمقدوره أن يعرف، ما سيحمله المستقبل، وطبيعية المجتمع الذي ربما يخلقه الأشخاص المنعزلون. ووصْفه المكوَّن من جملة واحدة لمثل هذا المجتمع في عمله «الأيديولوجية الألمانية» (١٨٤٥-١٨٤٦) يؤكد على التنوع والتغيُّر. وفي رواية «رجال كالآلهة» (١٩٢٣)، يعرض إتش جي ويلز يوتوبيا تَمرُّ بتغيرات ضخمة، فيها يُشبه السكينة الظاهرة لليوتوبيا ﺑ «ثبات تيار الماء المتدفق الذي يدير عجلة الطاحونة، الذي يبدو ساكنًا في تدفقه الهادئ حتى تمرُّ به فقاعة هواء أو زبد أو عصا أو ورقة شجر فتكشف عن سرعته.»

وكثير من اليوتوبيات عبارة عن صورة أو لمحة من مجتمع موجود في لحظة من الزمن يضم ما يراه المؤلف أفضل، ومصمم لتحطيم حواجز الحاضر، وتشجيع الناس على التغيير والعمل من أجله. تجيد أغلب اليوتوبيات تصوير التغيير من الظروف الحالية إلى اليوتوبيا عن تصوير التغيير داخل اليوتوبيا، وبعضها يقصر عن عمد التغيير داخل اليوتوبيا على افتراض أنه لا ينبغي تغيير شيء جيد دون تفكير متأنٍّ، إلا أن كثيرًا من اليوتوبيات ترحب بإمكانية التغيير كما فعل اليوتوبيون في عمل مور عندما علموا بأمر المسيحية. ويتتبع عدد كبير آخر خُطى رواية «أطلانتس الجديدة» (١٦٢٧) لفرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) في إرسال الناس إلى العالم الخارجي، عادة لأماكن غير معلومة، لاكتشاف أيٍّ ما يكون مفيدًا لليوتوبيا. وهذا يشير إلى الانفتاح على التغيير. لا ينتهي التاريخ بظهور اليوتوبيا؛ فالتغيير قد يكون أبطأ، لكن التغيير — ومن ثَم المستقبل — سيحدث.

ثمة حجة أخرى بأن اليوتوبية تفترض أن جميع اليوتوبيات تقوم على العقلانية البشرية، وأن البشر عقلانيون جزئيًّا فحسب. يقول جاكوب تالمون (١٩١٦–١٩٨٠)؛ أستاذ التاريخ الحديث بالجامعة العبرية بالقدس في هذا الشأن:

تقوم اليوتوبية على افتراض أن العقل وحده — لا العادة ولا التقليد ولا التحيز — يمكن أن يكون المعيار الوحيد الحاكم في الشئون الإنسانية. لكن حتى يكون هذا الافتراض صحيحًا، يجب على العقل — كالرياضيات — أن يحظى بموافقة عامة؛ لأن له صحة واحدة وحصرية. في الواقع، اتضح أن العقل أكثر أدوات التوجيه تقلقلًا وعرضة للخطأ؛ لأنه لا يوجد ما يمنع مجموعة مختلفة من «العقول» من الظهور دون سابق إنذار، وأن يدَّعي كلٌّ منها صحته الوحيدة والحصرية، ولن يكون هناك حل وسط أو شيء يحتكمون إليه سوى القوة.

يقدم بوبر حجة مشابهة فيقول:

لا يمكن الإبقاء على النهج اليوتوبي إلا عن طريق الاعتقاد الأفلاطوني في مَثَل أعلى مطلق غير قابل للتغيير، إلى جانب افتراضين آخرين؛ هما: أنه توجد وسائل عقلانية لتحديد هذا المَثَل الأعلى على نحو حاسم، وكذلك وجود طرق مثلى لتحقيقه.

وهذه الحجة مشابهة للزعم الذي ساقه توماس هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩)؛ فيلسوف القرن السابع عشر الإنجليزي، في كتابه «لفياثان» (١٦٥٩)، بأنه بسبب غياب «العقل السليم»، ستكون العيشة في الحالة الطبيعية للإنسان «فقيرة وكريهة وبهيمية وقصيرة.» لكن يخلص هوبز إلى أنه من ثَم يجب أن يُؤسَّس نظام الحكم بوصفه «العقل السليم»؛ فهذا هو السبيل الوحيد لضمان الأمن الذي سيتيح بلوغ حياة كاملة؛ ولهذا السبب وصف البعضُ عملَ هوبز هذا بأنه يوتوبيًّا.

fig15
شكل ٦-١: كان كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤) من بين أهم فلاسفة العلم في القرن الماضي. وُلد بوبر وتلقَّى تعليمه في النمسا، وقضى أغلب حياته العملية في كلية لندن للاقتصاد. وكتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» (١٩٤٥) (إضافة إلى عدد من الطبعات اللاحقة) هو أهم إسهاماته في الفكر الاجتماعي والسياسي.

يدفع بوبر بوجود عملية من الإصلاح المتأني، يُطلق عليها «الهندسة الاجتماعية الجزئية»، بدلًا من «الهندسة اليوتوبية»، ويقول إنه عوضًا عن النهج اليوتوبي، ينبغي أن نحاول الحد من «الشرور الواقعية». وفي إطار إقامته لحُجَّته، يقارن بوبر بين صنفين من العقل، صنف يطلق عليه المنطق، وهو ما يؤيده، والصنف الآخر يساوي بينه وبين اليوتوبية؛ لأنه يقتضي غاية محددة — اليوتوبيا. وما هو عقلاني بالنسبة له يتحدد حسب علاقته بتلك الغاية، وهو شيء على غرار «الغاية تبرر الوسيلة».

غالبًا ما يَستخدم مناهضو اليوتوبية مثل بوبر كلمة «مخطط» لوصف اليوتوبيات، وهي كلمة يرفضها أغلب مؤيدي اليوتوبيا رفضًا باتًّا. وقد كتب المنظِّر السياسي الأمريكي جورج كاتب (المولود عام ١٩٣١) أن «أي مفكر يوتوبي جادٍّ لن يشعر بالراحة تجاه فكرة المخطط، لفكرة التوصيات المفصلة لكل منحًى من مناحي الحياة.» بعبارة أخرى، إن الحجة المؤيدة لليوتوبية تقول بأن اليوتوبيات لا تخلق الأدوات التي يقول بوبر وآخرون إنها تخلقها.

لكن مناهضي اليوتوبية ليسوا مخطئين تمامًا في وصفهم لِمَا يمكن أن يحدث إن آمن شخص، أو مجموعة يتمتعون بالسلطة لفرض إرادتهم على الآخرين، بأن اليوتوبيا هي الحل الوحيد لمشاكل البشرية. ولا يبتعد هذا عن اليوتوبيا سوى بضع خطوات؛ حيث يجب أن تتحول اليوتوبيا أولًا إلى أيديولوجية (منظومة من الأفكار)، ويجب أن يتمتع المؤمنون بها بسلطة، كما حدث مع الشيوعية في روسيا، والنازية في ألمانيا، وفي كمبوديا في ظل حكم بول بوت (١٩٢٨–١٩٩٨). لكن حتى إن قَبِلْنا بوجود يوتوبيات جاءت على إثر الفظائع التي ارتُكبت باسمها، لم يتمثل في أيٍّ منها اليوتوبيا المفصلة التي وصفها مناهضو اليوتوبيا. كانت اليوتوبيات غامضة تمامًا؛ ولم تكن محددة إلا في أجزاء منها، وظهرت المشكلة عندما أُعطي الأفراد سلطة تحديد التفاصيل ومحاولة جعل مجتمعاتهم تمتثل لتلك التفاصيل. وقد عرض آدم سميث (١٧٢٣–١٧٩٠)، الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي، هذه المسألة على نحو بديع، فكتب:

الرجل الذي لديه نظام يسعى لفرضه على الآخرين … عادةً ما يكون حكيمًا جدًّا في خيلائه، وكثيرًا ما يكون متيمًا بالجمال المفترض لخطة الحكم المثالية التي يؤمن بها، لدرجة أنه لا ينحرف قيد أنملة عن أي جزء منها، ويمضي في تطبيقها على نحو كامل وبكل تفاصيلها، دون أي اعتبار للمصالح العليا أو التحيزات القوية التي قد تعترض عليها. يبدو أنه يتخيل أنه بمقدوره ترتيب القطع المختلفة على رقعة شطرنج، ولا يدرك أن القطع على رقعة الشطرنج لا يحكمها أي قانون آخر للحركة باستثناء القانون الذي تفرضه اليد التي تحركها؛ لكن على رقعة الشطرنج الكبرى التي تضم المجتمع الإنساني، لكل قطعة مفردة قانونُ حركةٍ خاصٌّ بها يحكمها، مختلفٌ تمامًا عن القانون الذي ترتئي الجهة التشريعية أن تفرضه عليها. فإن تَوافَق كلا القانونين وعملا في نفس الاتجاه، فإن لعبة المجتمع الإنساني ستستمر بسلاسة وتناغم، وأغلب الظن أن اللعبة ستكون ناجحة وسعيدة. أما إن كانا متعارضين أو مختلفين، فستسير اللعبة على نحو بائس، وستجد المجتمع في كل الأوقات في أشد درجات الاضطراب.

يعبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤) عن تلك الإشكالية على نحو بارع، فكتب يقول: «من الضلع البالغ الاعوجاج المخلوق منه الإنسان، لا يمكن بناء شيء قويم تمامًا»؛ فمن يريدون إجبار «ضلع الإنسانية الأعوج» على الاستقامة ويتمتعون بالسلطة للمحاولة هم المشكلة، وليس الاعتقاد بأن العالم يمكن أن يكون أفضل. وحتى بوبر يجب أن يكون لديه تصور عن المقصود بكلمة «أفضل» عندما يؤيد التخلص من «الشرور الواقعية». يحمل أحد أعماله — الذي هو عبارة عن مجموعة من المقالات — عنوان «بحثًا عن عالم أفضل» (١٩٩٢)، ورغم أن بقية العمل مناهض لليوتوبية، فإن الجملة الأولى منه هي: «المخلوقات كافة تبحث عن عالم أفضل.»

لكن من الممكن أن ينخدع الناس. يعلق على تلك النقطة آرثر كوستلر (١٩٠٥–١٩٨٣)؛ الكاتب الذي كان شيوعيًّا من عام ١٩٣١ حتى عام ١٩٣٨، في عمله «ممارس اليوجا والمفوض»، فيقول:

إن قمة اليوتوبيا شديدة الانحدار، والطريق المتعرج كالحية الذي يؤدي إليها محفوف بمنحنيات ملتوية عديدة. وأنت في طريقك لأعلى لا ترى مطلقًا القمةَ، بل ترى الطريق أمامك، الذي يقودك إلى لامَكان. إذا تقدمت جمهرة ضخمة من الناس على الطريق المتعرج، فإنهم — حسب قوانين القصور الذاتي المهلكة — سيدفعون بقائدهم بعيدًا عن جادة الطريق ثم سيتبعونه، وستكون الحركة كلها عبارة عن سير في مسار إلى لامَكان.

المشاكل التي يشير إليها كوستلر هنا، وفي عمله الشهير «ظلام في الظهيرة» (١٩٤٠)، وفي إسهامه في عمل «الرب الذي فشل» (١٩٥٠)؛ هي مشاكل الإيمان وميل بعض المؤمنين لاتِّباع القائد أينما ذهب، حتى إن كان ذلك إلى ديستوبيا أو حتى إلى الموت، كما حدث في حالات الانتحار الجماعية في جونزتاون.

(٢) الحجة المؤيدة لليوتوبيا

السمة المميزة لليوتوبية هي أنها نظرية سياسية هدفها الأساسي خلق السعادة البشرية.

جودوين وتايلور

لم أفهم قَط سبب الاعتقاد السائد بأن التهمة الموجهة لليوتوبية هي أن هدفها الاعتراض على نظرية سياسية؛ فبالتأكيد أحد التطلعات المشروعة للنظرية الأخلاقية والسياسية هو أن تبدي لنا مسارات الفعل التي يجب أن نلتزم بالسير فيها من خلال القيم التي نقر بقبولها.

كوينتن سكينر
إضافة إلى تأكيد المؤيدين لليوتوبية أنها ليست ما يقوله عنها المناهضون لها، فإنهم يزعمون أن اليوتوبية ضرورية، وأحيانًا ما يبالغون لدرجة أنهم يعرِّفون البشر بأنهم الحيوانات التي تخلق اليوتوبيات. وقد رأى إرنست بلوخ اليوتوبيا في كل مكان؛ ففي كتابه «مبدأ الأمل» (١٩٥٥–١٩٥٩)، الذي صدرت الترجمة الإنجليزية منه في عام ١٩٨٧، يبدأ تحليله لليوتوبيا بحقيقة أننا نحلم أحلامَ يقظةٍ؛ أحلامًا نأمل فيها صراحة في الحصول على شيء ينقصنا. وأغلب مثل تلك الأحلام ليست يوتوبية على نحو خاص، من منطلق أنها تركز على أنفسنا ولا تشمل الآخرين إلا لإشباع احتياجاتنا ورغباتنا. وهي أغلب الظن تدور حول الغذاء والجنس، والتحرر من العمل أو المديرين، لا حول التخلص من الجوع، وإشاعة السلام العالمي، والمساواة والحرية للجميع. إلا أن هذين البعدين وثيقا الصلة. يقول في هذا الشأن الباحث في مجال الدراسات الكلاسيكية إم آي فينلي (١٩١٢–١٩٨٦):

يكتنف أشكالَ التفكير اليوتوبي كافة عنصرٌ من الفانتازيا، أو من الحلم، أو — على الأقل — من الاشتياق لحياة أفضل وعالم أفضل. والناس كافة يحلمون بتلك الطريقة فيما يتعلق بأنفسهم وأسرهم، إن لم يكن فيما يتعلق بالمجتمع عامة أو العالم ككل.

fig16
شكل ٦-٢: كان إرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧) فيلسوفًا ماركسيًّا ألمانيًّا، ويُعتبر كتابه «مبدأ الأمل» (الذي ظهر في ثلاثة أجزاء فيما بين عامَي ١٩٥٥ و١٩٥٩، وصدرت ترجمته الإنجليزية في عام ١٩٨٧) تأريخًا لليوتوبية بكل تجسيداتها، وأيضًا حجة مؤيدة للدور المهم الذي تلعبه في الفكر السياسي.

إلا أن أحلام اليقظة لا تصل بنا لبعيد؛ إذ إنها علامة على استيائنا أكثر من كونها مرشدًا للتغيير.

بالنسبة لبلوخ، اليوتوبيا هي «الحلم المستقبلي»، وما لم يتحقق «حتى الآن» جوهري لفهمه لليوتوبيا. وتحمل كلمة «الآن» أهمية خاصة؛ إذ توحي بأن اليوتوبيا تعبر عما هو ممكن. يشير بلوخ إلى «أننا لا نسأم من رغبتنا في تحسين الأوضاع»، وأن «الانجذاب نحو ما نفتقر إليه لا ينتهي.» لكن مثل تلك الرغبة ينقصها التوجيه، فيجب أن تصبح دافعًا أو حاجة، ويجب أن تنتقل مما يطلِق عليه بلوخ «اليوتوبيا المجردة» إلى «اليوتوبيا الواقعية»، من يوتوبيات منفصلة عن الواقع الإنساني إلى أخرى مرتبطة به. وهو لا ينكر الدافع الذي يؤدي إلى اليوتوبيا «المجردة»؛ إذ يؤمن أن التفاؤل أفضل من التشاؤم، وأن اليوتوبيا المجردة تعبر عن الأمل، حتى إن كان هذا الأمل منفصلًا عما هو ممكن. لكن اليوتوبيا الواقعية هي اليوتوبيا المضمنة في فهم الواقع الحالي، وتتصل بإمكانية إجراء تحسين اجتماعي فِعلي ذي أهمية.

وفي نفس السياق، وصف فريدريك إل بولاك، عالِم الاجتماع الهولندي، ما أطلق عليه «صور المستقبل الإيجابية»، التي يزعم أنها تجذبنا إلى الاتجاه الصحيح. كما يقول بولاك إن «اليوتوبيا تهدف إلى إعلاء الكرامة الإنسانية من خلال جهودنا.» ويذهب إلى أن اليوتوبيا متأصلة في القدرة البشرية على تحقيق الكرامة.

ثمة قضية مركزية في مسألة اليوتوبيا؛ وهي: هل النظام الاجتماعي الأفضل هو ما يتيح للناس أن يصبحوا أفضل، أم أن الأشخاص الأفضل هم مَن يخلقون نظامًا اجتماعيًّا أفضل؟ كِلا جانبَي القضية يطرحان مسألة كيفية البدء؛ فيطرح الأول سؤالين: مِن أين يأتي النظام الاجتماعي الأفضل؟ وهل يمكن خلقه من جانب الأشخاص المتمثلين فينا الآن؟ والثاني يطرح سؤالًا واحدًا: من أين يأتي الأشخاص الأفضل؟

النظام الاجتماعي الأفضل الذي يتيح ظهور أشخاص أفضل هو النموذج اليوتوبي الكلاسيكي، وهو محور تركيز أغلب الهجوم الذي يشنه مناهضو اليوتوبية. وفي هذا النهج، يُكتب عمل يوتوبي بقصدِ استخدامه — أو بدون قصد ذلك — نموذجًا لتحقيق مستقبل أفضل؛ على سبيل المثال، قال إدوارد بيلامي إنه قَصَدَ ذلك، ولم يقصده في الوقت عينه، عند كتابة روايته الشهيرة «نظرة إلى الماضي»؛ فاليوتوبيا تجتذب أتباعًا لها، كما فعلت رواية بيلامي، وتنشأ الحركات الاجتماعية والسياسية لمحاولة وضع بعض أجزاء اليوتوبيا — على الأقل — موضع التنفيذ. وأحيانًا ما تتأسس مجتمعات مقصودة للغرض نفسه، وكثيرًا على أمل أن إقامة نموذج ناجح سيقنع الآخرين بأهمية اليوتوبيا. وقد حدث ذلك في حالة رواية بيلامي، رغم أنه عارض تلك المجتمعات.

وحيث يُنتظر من أناس أفضل أن يَخلقوا نظامًا اجتماعيًّا أفضل، فإن مشكلة المكان الذي سيأتي منه هؤلاء الأشخاص يحلها في أغلب الأحيانِ الدينُ. وثمة موضوع شائع في اليوتوبيات المسيحية، وهو أن الناس يمارِسون فيها تعاليم المسيح، وبذلك يحققون عالمًا أفضل. يمكن أن يبدأ ذلك برجل دين ملهم أو بشخص يُضرب مثلًا يَختار الآخرون أن يتبعوه، كما في رواية تشارلز إم شيلدون (١٨٥٧–١٩٤٦) «على خطاه: «ماذا كان سيفعل المسيح؟»» (١٨٩٧). تقوم اليوتوبيات المسيحية الأخرى على المجيء الثاني للمسيح، لكن ثمة الكثير من الأعمال الساخرة التي تتناول المجيء الثاني للمسيح، وتشير إلى أن المسيح سيلقى رفضًا، كما في مشهد «المحقق الكبير» في رواية «الإخوة كرامازوف» (١٨٨٠) للروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (١٨٢١–١٨٨١).

عندما تُصمَّم يوتوبيا بحيث تكون بديلًا واقعيًّا، لا يكون القصد منها أن تكون مجتمعًا قابلًا للتحقق بكافة تفاصيله، لكنْ وسيلة لتقديم بديل للحاضر. ومن هذا المنطلق، اليوتوبيا هي مرآة للحاضر مصممة لإظهار عيوبه لتوضيح السبل التي يمكن أن تكون بها الحياة أفضل، وليس بالضرورة السبل التي ينبغي أن تكون بها الحياة أفضل.

ولأننا ننشأ في مجتمع معين ويكون علينا قبول آرائه، يحتمل ألا نكون قادرين على امتلاك الوعي النقدي لوضعنا؛ فيمكننا أن نعتبر غياب الحرية حرية، وانعدام المساواة مساواة، وفقدان العدالة عدالة. والمنظومات العقائدية السائدة قادرة على أن تعمي أبصار الناس عن حقيقة أوضاعهم. ويحاول الحلم اليوتوبي أن يخترق المواقف التي تميل إلى القبول بالوضع الراهن، ويمكن أن يكون هذا تجربة قاسية؛ لأنها تشير إلى أن واقعنا الحالي خطأ.

يصوِّر منظِّران اجتماعيان معاصران، وهما: فريدريك جيمسون (المولود عام ١٩٣٤) وزيجمونت باومان (المولود عام ١٩٢٥)، الازدواجية الراهنة بشأن اليوتوبيا؛ فقد كانت اليوتوبيا محورية في فكر جيمسون، بدءًا من كتابه «الماركسية والشكل» في عام ١٩٧١ وحتى «حفريات المستقبل» في عام ٢٠٠٥، وقد ناقش اليوتوبية بوجه عام، إضافة إلى عدد من الأعمال اليوتوبية. وهو يدفع بأن اليوتوبية إيجابية لأنها تفتح الباب أمام إمكانية التغيير المستقبلي، لكنه أيضًا يقول بأن «اليوتوبيات تتحدث عن الفشل، وتطلعنا على المزيد عن حدودنا ونقاط ضعفنا أكثر ما تطلعنا على المجتمعات المثالية.» ويؤكد جيمسون على أن أغلب محاولات تخيل اليوتوبيات تكشف عن استحالتها؛ لأننا مرتبطون بالثقافة والأيديولوجية، وهذا يمنعنا من الانفصال عن واقعنا لتخيل أي شيء مختلف جذريًّا، حتى إن كان أفضل. ويؤكد أيضًا في الوقت نفسه على أهمية الاستمرار في المحاولة، ضاربًا المثل بأهمية اليوتوبيات النسوية والاشتراكية التي حاولت تخيل عوالم تخلو من الهيمنة على أساس النوع أو التراتُب الطبقي.

ومن منظور مختلف نوعًا ما، يقيم باومان حجة مشابهة؛ ففي كتابه «الاشتراكية: اليوتوبيا العاملة» (١٩٧٦)، يقول بأن اليوتوبيا معنية بإمكانية الوصول إلى الكمال (العملية) لا الكمال نفسه (الغاية). واليوتوبيا تحض على التحرر من منطلق أنها بإمكانها أن تساعد على تحرير «النفس من السيطرة العقلية والمادية الطاغية لما هو روتيني واعتيادي و«طبيعي».» ولاحقًا قال إن اليوتوبيات الخاصة بالحقبة التي يطلِق عليها الحداثة «الصلبة» تؤكد فعليًّا على الكمال، الذي يقارنها بحقبةِ ما بعد الحداثة «المائعة». وكتب أنه في الحداثة:

اليوتوبيا هي رؤية لعالم مراقب، مرصود، موجه عن كثب ومُدار يوميًّا. وفوق كل شيء، هي رؤية لعالم مسبق التصميم، عالم فيه التنبؤ والتخطيط يُلْغِيَان دور الصدفة.

إلا إنه يستمر في الدفع بأن اليوتوبيا جانب جوهري من بشرية الإنسان، فيقول:

أنْ تقارن الحياة «بوضعها الراهن» بحياة «مثالية» (أي حياة «يُتخيل» أنها مختلفة من الحياة «الحالية»، لا سيما حياة أفضل؛ ومن ثم تكون «مفضلة» عن الحياة الحالية) هي سمة مميزة وأساسية للبشر.

إلا أنه لا يحب يوتوبيات ما بعد الحداثة، التي يرى أنها يغلب عليها الطابع الخاص والاستهلاكي والفردي والوحدوي، فيقول:

كل يوتوبيا مصمَّمة خصيصى بما يخدم مصلحة الفرد، وبما يحقق استمتاعًا فرديًّا بالكامل، حتى وإن كان هذا الفرد برفقة جماعة.

كما يعلن أنه لم يَعد مطمئنًّا لليوتوبيا التي كان يؤيدها من قبل، فيقول إنه في الحداثة:

في مدينة العقل، لم تكن هناك طرق متشابكة، ولا مسالك مسدودة، ولا مواقع لم تَجِد من يعتني بها متروكة للصدفة؛ ومن ثم لا عابرو سبيل أو متشردون أو هائمون.

انتهى باومان، الذي بدأ مؤيدًا قويًّا لنوع معين من اليوتوبيا، إلى إنكار تلك اليوتوبيا واليوتوبيات التي يجدها حاليًّا من حوله، لكنه لا يزال يرى اليوتوبية جوهرية للوجود الإنساني، لبشرية الإنسان. وهذا أساسي بالنسبة للحجة المؤيدة لليوتوبيا. ربما لا تروق لك أنواع بأسرها من اليوتوبيات، لكنه لا يزال من الضروري أن نستمر في الإيمان بإمكانية إقامة مجتمع أفضل حالًا.

(٣) العولمة

الجدل بين مؤيدي العولمة ومناهضيها هو جدل بين يوتوبيتين؛ أي رؤيتين عما ينبغي أن يكون عليه العالم في المستقبل وكيفية الوصول إليه. ثمة عدد من اليوتوبيات، أو الديستوبيات — كما يفضل البعض أن يطلق عليها — العالمية، وأشهرها اليوتوبيا التي تربط العالم اقتصاديًّا من خلال التجارة الحرة والسوق الحرة. ويؤيد الرأسماليون والقوى العالمية الكبرى هذه اليوتوبيا، إلا عندما تؤثر عليهم بالطبع بالسلب، وعندها يفضلون الحماية الجمركية والرقابة. على سبيل المثال، تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية بقوةٍ التجارةَ الحرةَ في الوقت الذي تفرض فيه رسومًا لحماية صناعاتها، وتقدم الدعم المالي لمزارعيها، وفي الوقت نفسه تعارِض بعنفٍ دعمَ الاتحاد الأوروبي لمزارعيه؛ فالسوق الحرة آلية عظيمة ما دام أن الوطن فقط هو الذي يستفيد منها. وتتمثل اليوتوبيا في الاعتقاد بأن الأسواق الحرة والتجارة الحرة تأتي بنتائج إيجابية دون سواها. وهذا يغفل — كما يعي جميعنا اليوم — أن الأسواق تنكمش كما تزدهر. أما في اليوتوبيا، فالجميع مستفيد. سيستفيد الجميع اقتصاديًّا من العولمة التي ستساعد على نشر الديمقراطية بفتح الأسواق أو تحريرها ودمج الأسواق عالميًّا.

تنشأ اليوتوبيا العالمية الثانية من الحركة المناهضة للعولمة، وهي لا تعتبر يوتوبيا عالمية كسابقتها؛ لأنه خرج من رحمها المئات، وربما الآلاف، من الجماعات ذات الأجندات المختلفة جدًّا التي تشكل تلك الحركة. في جوهرها، هي ذات توجه إنساني أو مَعنيَّة برفاهية الإنسان، رغم أن هذا الوصف — مع تضمُّنِه لحركة حقوق الحيوان والإيكولوجيا العميقة — يقلص من معناها كثيرًا جدًّا. وهي معنية بشأن كوكب الأرض من منطلق أنها تضع تصورًا لإقامة حياة أفضل لجميع الكائنات الواعية، أو — من باب إدماج الإيكولوجيا العميقة — الغلاف الحيوي.

ثمة بعض التناقضات الجوهرية في هذه اليوتوبيا؛ فعلى أبسط مستوًى، يجب أن يوجد عدد أقل بكثير من البشر لكي تحصل الحيوانات أو الغلاف الحيوي على حقوقها. وعلى مستوًى أكثر تعقيدًا، يريد العالم النامي أن يتمكن من توفير حياة أفضل لمواطنيه، ما قد يستتبع قدرًا غير يسير من التأخر بالنسبة للعالم المتقدم.

تلقَّت كتب «الإمبراطورية» (٢٠٠٠) و«الجموع» (٢٠٠٤) و«الثروة المشتركة» (٢٠٠٩) للباحث الأدبي الأمريكي مايكل هاردت (المولود عام ١٩٦٠)، والمنظِّر السياسي الإيطالي الراديكالي أنطونيو نيجري (المولود عام ١٩٣٣)؛ تأييدًا، وتعرَّضت للهجوم من كلٍّ من اليسار واليمين، ومن مؤيدي العولمة ومناهضيها؛ ففي «الإمبراطورية» يقولان إن الدولة القومية قد بطلت، ونتج عنها «شكل عالمي جديد للسيادة» لا يقوم على أساس إقليمي. ويؤكدان على أن ما نُطلق عليه إمبراطورية هو مرحلة ضرورية في التطور، وهو ما يشبه تأكيد ماركس على أن الرأسمالية مرحلة ضرورية في التطور نحو الشيوعية، وكما أن الرأسمالية كانت أفضل من أشكال المجتمع السابقة، فإن «الإمبراطورية» أفضل من السيادة على أساس قومي. ورغم أن بعض الحجج المساقة في كتاب «الإمبراطورية» قد عفا عليها الزمن، من منطلق أنه لم يَعد من الممكن رؤية الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القوة العظمى الوحيدة ذات «الهيمنة على استخدام القوة العالمي»؛ فهذا يعدِّل وحسب من التفاصيل، لا من حجة المؤلفين الأساسية.

كما أنهما يسيران على خطى ماركس في قولهما بأن «الإمبراطورية»، شأنها شأن الرأسمالية، تحمل في طياتها بذور دمارها، وهو ما يطلقون عليه في هذه الحالة «الجموع»، التي يمكن تشبيهها تقريبًا — لكن ليس تمامًا — بالحركة العالمية المناهضة للعولمة. وفي «الثروة المشتركة»، يركزان على «المشاعات» التي يحددانها على نحو واسع لتشمل الأرض ومواردها، و«مخرجات الإنتاج الاجتماعي الضرورية من أجل التفاعل الاجتماعي والمزيد من الإنتاج، مثل المعارف واللغات والشفرات والمعلومات والعواطف وهكذا.» ويقولان إن ذلك لا ينبغي أن يكون ملكية لجماعة أو لدولة مهيمنة، بل يكون متاحًا للاستخدام العام، كما كانت الأرض في الكثير من التقاليد.

من الممكن أن تكون مؤيدًا للعولمة وتعارِض عملية العولمة الحالية. على سبيل المثال، من منظور مختلف تمامًا، يهاجم جوزيف إي ستيجلتز (المولود عام ١٩٤٣) — الذي شغل منصب نائب أول رئيس للبنك الدولي وكبير الخبراء الاقتصاديين به، وتقاسم جائزة نوبل في الاقتصاد عام ٢٠٠١ — بقوةٍ العولمةَ التي تجري حاليًّا من منظوره كشخص مؤمن بأن العولمة يمكن أن تكون قوة إيجابية.

وهذا يطرح النقطة المهمة الأخيرة؛ وهي أن نظرتك للعولمة واليوتوبيا تتوقف على موقفك: إن كنتَ لا يزال لديك دخل، فستتمكن من شراء سلع معينة بسعر أرخص؛ لأن آخرين خسروا وظائفهم، وهذه هي الطريقة التي ينظر بها مؤيدو عولمة السوق إلى الأمر. لكن فكِّر في التأثير غير المباشر لخسارة تلك الوظائف على المحال والمقاهي والحانات التي تحصل على أغلب دخلها من الذين فقدوا وظائفهم؛ فمالكو الأعمال الصغيرة يخسرون أعمالهم ويخسر موظفوهم وظائفهم، والأماكن التي ينفقون فيها أموالهم تتأثر كذلك، ويفقدون منازلهم جراء عدم قدرتهم على سداد الرهون العقارية، وتفلس البنوك، كما شاهدنا في عامي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، وهكذا.

ومثل تلك الأشياء تعني أنه من الأصعب بكثير بالنسبة للناس أن يروا أنفسهم شخصًا واحدًا من أن يروا أنفسهم يتنافسون من أجل البقاء، وهو بالضبط ما يريده مؤيدو عولمة السوق. لكني أعتقد أنه لا تزال هناك إمكانية يوتوبية في العولمة، لكنها يجب أن تأتي من الحركة العالمية المناهضة للعولمة من خلال بناء مساحات من الأمل محليًّا، وذلك حسب قول ديفيد هارفي (المولود عام ١٩٣٣)، عالِم الجغرافيا والمنظِّر الاجتماعي. لن نقضي على الفقر بالشعارات. لن ينجح الأمر إلا بالتوقف عن خداع الناس بالعبارات الرنانة، وبناء مجموعات معارضة تستطيع أن تفعل شيئًا على أرض الواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤