يوميات فوكس ميكي

عن زينا والطعام والبقر وأشياء أخرى

مالكتي زينا تُشبِه فوكس أكثر مما تُشبِه الفتيات؛ إنها تقفز في كلِّ مكان، وتلعب وتحاول التقاط الكرة بيدِها (لا تستطيع أن تلتقطها بفمها)، وتبتلع السكر تمامًا مثل كلبٍ صغير. دائمًا ما أتساءل: هل لها ذيل؟ إنها دائمًا ما تتجوَّل مُرتديةً بطانيتها الصغيرة وتأخذها معها إلى الحمَّام، ولا تسمح لي بالذهاب معها؛ فلربما تجسَّستُ عليها.

ظلَّت البارحة تتفاخر أمامي وتقول: انظر إلى عدد الكرَّاسات التي لديَّ يا ميكي. واحدة للحساب، وواحدة للإملاء، وأخرى للموضوعات الإنشائية … بينما أنت جَرْو تَعِس الحظ لا تستطيع التحدث أو القراءة ولا حتى الكتابة.

هووو! لكنني أفكِّر، وهذا هو الأهم. أيهما أفضل؟ فوكس ذكي أم مجردُ ببَّغاء يردِّد الكلمات؟ ها!

أستطيع القراءة قليلًا، ولكني أقرأ فقط كتُبَ الأطفال ذات الأحرف الكبيرة.

كما أنني أكتب … حسنًا، اضحك … اضحك كما تشاء (لا يَرُوقني الأمرُ عندما يَسخَر الناسُ مني)، وأستطيع الكتابة كذلك.

صحيحٌ أنَّ أصابعي لا تَنثني؛ لأنني لستُ إنسانًا أو قردًا، لكنني أستطيع على الأقل أن ألتقط القلم بفمي وأحرِّكه على الورق في خطوطٍ طويلة متعرِّجة بلا مَلل، وأكتب.

في البداية، كانت الحروف تبدو مثل ديدانٍ مسحوقة، لكن فوكس لديه إصرار وهمَّة تَفُوق أيَّ فتاة.

أستطيع الآن الكتابةَ مثل زينا. ولكن المشكلة الوحيدة أنني لا أستطيع بَرْي القلم. وعندما لا أستطيع الكتابةَ بالقلم الذي معي، أتسلَّل بهدوء إلى المكتب وآخُذ حَفنةً من الأقلام الجاهزة التي بَرَتها أفرادُ العائلة.

•••

وضعتُ ثلاثَ نجمات عن عمد. لاحظتُ هذا في كتب الأطفال، عندما ينتقل الشخص إلى فكرة جديدة يضع ثلاثَ نجمات …

ما أهمُّ شيء في الحياة إذَن؟ إنه الطعام. لا يوجد ما يُضاهيه أهميةً. لديَّ هنا منزلٌ مَلِيء بالناس، إنهم يتحدثون ويَقرءون ويَبكون ويَضحَكون، ثم يجلسون ليأكلوا بكل هدوء. يأكلون صباحًا، ويأكلون في منتصَف اليوم، ويأكلون مساءً. بل إنَّ زينا تأكل ليلًا أيضًا؛ إذ تُخبِّئ تحت فراشها البسكويتَ والشوكولاتة وتتناولهما خُلسةً.

كَمْ يأكلون كثيرًا! وكَمْ يأكلون طويلًا! يأكلون وجباتٍ كثيرة وبكَمياتٍ وفيرة، ثم يقولون إنني أنا الشَّرِه …

يضعون في طبقي العَظْمة المتبقية من شرائح الكستلاتا (بينما يتناولون هم الكستلاتا نفسها)، بجانب نِصف صحن من الحليب، وهذا كلُّ شيء.

وأنا هل أشتكى؟ هل أطلب المزيدَ مثل زينا ومثل بقية الأطفال؟

هل أتناول هذه الحلويات الأشبه بالعجينة التي يُسمُّونها الجيلي، أو هذا الوحل السائل بطعم البرقوق والزبيب، أو هذا الشيء المريع البارد الذي يُسمُّونه الآيس كريم؟ أنا كلبٌ كيِّس وحسَّاس؛ لأنني أنتمي في الأساس إلى الثعالب. أستطيع قضم العَظم وأكله، والتحلية بقطعة بسكويت من يد زينا، وهذا يكفيني.

لكن هم … لا أعلم ما فائدة الحَساء؟ أليس الماءُ بلا إضافات لذيذًا بما فيه الكفاية؟

وما فائدةُ البازلاء والجزر والكرفس وغيرها من الإضافات العديمة النفع التي تُفسِد الشواء؟

لا أعلم لمَ يحبونها من الأساس؟

منذ فترة تذوَّقتُ قطعةً من اللحم النِّيء (سقطَت على أرض المطبخ؛ ومن ثَم سُمِح لي بأكلها!) أؤكِّد لكم أنها كانت ألذَّ بكثير من قِطع اللحم الأخرى التي تُصدِر أزيزًا في المِقلاة.

لتتخيَّلوا فقط كيف يكون الطعام جيدًا بلا سلق أو قلي! لن يكون هناك طُهاة، وهذا أفضل؛ فهم لا يعرفون كيف يطهون على نحوٍ لائق للكلاب. وإذا بدأنا في تناول طعامنا على الأرض دونَ أطباق، أصبَح الأمرُ أكثر إمتاعًا من وجهة نظري الخاصة. عندما يجلسون هم إلى الطاولة بينما أجلس أنا تحت الأقدام، فإنهم يدفعونني ويرتطمون بي ويَدوسون على كفوفي طوال الوقت … نَعَم تخيَّلوا كم هذا ممتع!

أو ربما الأفضل من ذلك هو تناول الطعام على العشب أمام المنزل. كلُّ فرد يحصل على قطعةِ لحمٍ نيئة، وبعد أن نتناول عشاءنا يبدأ الجميع في اللعب والصراخ مثلما نفعل أنا وزينا. هوو! هوو!

ويُسمُّونني أنا الشَّرِه (فقط لأنني أخذتُ رَشفةً من حليب القِطة، فكِّروا جيدًا مَن الشَّرِه) …

حتى بعد الحَساء، واللحم المَشوي، والكمبوت، والعصير، يشربون أيضًا عِدَّة أشياء مُلوَّنة: الأحمر يُسمُّونه نبيذًا، والأصفر جِعَة، والأسود قهوة …

لماذا؟ لا أعرف، ولكنني أجلس تحت الطاولة أتثاءب إلى حدِّ البكاء من شِدَّة الملل، رغم أنني اعتدتُ التسكُّع حول البشر، فإنَّ كلَّ ما يفعلونه هو الجلوس ثم الجلوس ثم الجلوس. هوو! والثرثرة، ثم الثرثرة، ثم الثرثرة، كما لو أنهم ابتلعوا جراموفون في بطونهم.

ثلاثُ نجمات

فكرةٌ جديدة. بقرتُنا دورا. لمَ تُعطي هذا القَدْر الكبير من الحليب؟ لديها ابنٌ واحد — عِجلٌ صغير، ومع ذلك فإنها تُعِيل البيتَ كلَّه. ولكي تَتمكَّن من إعطاء كثير من الحليب تأكل طوالَ اليوم، تأكل العشب … تأكل … وتأكل. من المؤسِف مُشاهَدتُها تفعل هذا طوالَ اليوم. لكن لا أستطيع منْعَ نفسي عن التفكير … لماذا لا يعطي الحِصانُ أيضًا هذا الكَمَّ الكبير من الحليب؟ ولماذا تُطعِم القطةُ صِغارَها فقط ولا تَهتمُّ بأيِّ شخصٍ آخَر؟

تُرى، هل يستطيع الببَّغاءُ القادر على الكلام أن يأتي بفكرة كهذه؟

بل تُساوِرني أفكارٌ أكثر من ذلك. لماذا يضع الدجاج هذا القدْرَ من البيض؟ هذا مريع … إنهم لا يستمتعون أبدًا ولا يَمرَحون، ويَمشون مُنوَّمين مثل سِربٍ من الذُّباب. نَسُوا كيف يَطيرون، ولا يغرِّدون مثل الطيور الأخرى … للأسف كلُّ هذا بسبب البيض.

أنا أَكْرَه البيض، زينا أيضًا تَكرَهه. إذا أمكنني الحديثُ بلُغة الدجاج، فسوف أنصحُهم بعدمِ وضعِ كَمِّياتٍ كبيرة من البيض.

من الجيد أنني أنتمي إلى الثعالب: أنا لا آكُل الحساء، ولا أعزف هذه الموسيقى الغريبة التي تُجهِد أصابعَ زينا، ولا أُدِرُّ الحليبَ «وما شابَه» كما يقول والدُ زينا.

رائع! انكسَر القلمُ الرَّصاص. يجب أن أنتبه أكثرَ أثناء الكتابة، المدارس ما زالت مُغلَقة وليس هناك عددٌ كبير من أقلام الرَّصاص المَبْريَّة.

في المرة القادمة سأكتبُ قصائدَ كِلابية، هذا يثير اهتمامي كثيرًا.

فوكس ميكي
أول كلب يستطيع الكتابة

قصائد وقِطط وبراغيث

دائمًا ما يقرأ الكبارُ لأنفسهم بلا صوت. الكبار هم أكثرُ الناس مَللًا تمامًا مثل الكلاب المُسِنَّة. أمَّا زينا فهي تقرأ بصوتٍ عالٍ؛ فهي تُردِّد الحروف والكلمات بصوتٍ عالٍ طوالَ الوقت، بينما تُصفِّق على ركبتَيها أو تُخرِج لسانَها لي. بالطبع هذا مُسلٍّ أكثر. أمَّا أنا، فأتمدَّد تحت المكتب، أستمع إليها بينما أحاول الإمساك بالبراغيث؛ ومن ثَم يصبح وقتُ القراءة مُمتِعًا. لاحظتُ أنَّ هناك أشياءَ تَقرؤها زينا بطريقةٍ خاصة جدًّا كأنها تُقطِّع شرائح من اللحم. كانت تقرأ جملةً، ثم تقف لفترةٍ قبل أن تبدأ جملةً أخرى. وفي نهايةِ كلِّ سطر، دائمًا ما توجد كلماتٌ متشابهة ذاتُ نغمةٍ مميَّزة مثل «أطفال – أعمال» أو «بسمة – خمسة» … هذا هو الشِّعر.

بالأمس أمضيتُ اليوم كلَّه مُستلقيًا تحت الأريكة، حتى إنني فقدتُ بعضًا من وزني. كنت أرغب في تأليفِ شيء من هذا القبيل. وفي النهاية، توصَّلتُ إليه وأنا فخور بنفسي.

عبْرَ النافذة تَسمعُ الرياحَ جامحةً
تقود خلفها الأوراقَ مُسرِعةً
بينما جلستُ أنا فوكس ميكي أُراقبُها
بذكائي الذي فاقَ المخلوقاتِ قاطبةً.

عظيم! بعد أن كتبتُه كنتُ مُتحمِّسًا للغاية حتى إنني لم أستطِع تناوُلَ الغداء. هل تَتصوَّرون؟ هذه أولُ قصيدة يَكتبها كلبٌ في العالَم، لكنني لم أدرُس في مدرسةٍ متخصِّصة ولا في ورشة للشعر … هل تستطيع الطاهيةُ أن تؤلِّف مثلَ هذه القصائد؟ كما أنها تَبلغ من العمر ثلاثةً وأربعين عامًا، بينما ما زلتُ في عامي الثاني. هوو! زينا التي تُشبِه زنابقَ الماء ليس لديها أيُّ فكرة عمَّن يعيش تحت سقف منزلها … لقد لفَّتني في وِشاحٍ كبير، ووضعَتني بين ركبتَيها، ثم وضَعَت لي طلاءَ الأظافر بأداة تشبه جِلدَ الغزال. جلستُ أتنهَّدُ في صمت. هل يُمكِن لهذه الفتاة أن تقدِّم أيَّ شيءٍ ذي قيمة للمجتمع مِثلي؟

وبينما نحن جالسان لا نستطيع الحَراك، أخذتُ أقرأ قصائدي من جديد. هوو! تُرى هل يمكنني أن أجعل القصيدة رنَّانة أكثر من ذلك؟

عبْرَ النافذة تَسمعُ الرياحَ جامحةً
تقودُ خلفها الأوراقَ مُسرِعةً
بينما جلستُ أنا فوكس ميكي أُراقبُها
بذكائي الذي فاقَ المخلوقاتِ قاطبةً …

أوه، لا لا لا، ما هذا؟

إنها القططُ مرةً أخرى. هل يخبرني أحدٌ من فضلكم أين هي والدتُها؟ يا لها من مخلوقٍ ماكِر بمجردِ أن يأتي الصباح تذهب وتختفي في الحديقة طوالَ اليوم، بينما تترك صِغارها هنا مُعلَّقةً على ظَهري مثل جِذع شجرة وعليَّ أن ألعب معها … إحداها تَلعَق أنفي، وبمجرد أن أُنزِلها عن رأسي أجدُ قطةً أخرى تَمصُّ أصابعي. هل تظنُّ هذه القطط أنني أمُّها أم ماذا! أمَّا القطة الثالثة، فتزحف على ظهري وتخدشه؛ فمع أنها قِطةٌ صغيرة، فإن كفوفها مثل المِبشرة. إرررر … اهدأ يا ميكي اهدأ … تبتسم زينا، وتحاول أن تَكتم ضحكاتها وهي تقول: «أنت ابنُ عمومتها كما يقولون.»

لست غاضبًا: إنها بحاجة إلى مَن يلعب معها، وهي أيضًا بحاجة إلى اللعب والخدش … لا أدري لمَ تَضحك هذه الفتاةُ الغريبة؟

أوه يا لها من مفاجأة! هذا غريب! لقد عادت القطةُ الماكرة أخيرًا إلى صِغارها. عندما تركتني القططُ الصِّغار وزحفَت ناحيتَها، راقبتُها حتى وصلت تحت مفرش المائدة، ارتجفتُ وانتصبَ شعري كمدًا، وبكيتُ بعصبية. يجب أن أكتب قصيدةً عن مشاعري هذه.

ذهبتُ إلى الزقاق. لا أريد أن ألعبَ مع القطط بعد الآن! لم تُقدِّر ما في قلبي. ولا أريد اللعبَ مع زينا أيضًا! لقد لطَّخَت وجهي بأحمر الشِّفاه …

سأصبح كلبَ فوكس بريًّا، وسوف أعتاد أكْل الكستناء واصطيادَ الحَمَام … هووووو!

•••

رأيتُ صورةً قديمة على إحدى أسطوانات الجراموفون، كانت لكلبِ فوكسٍ يجلس أمام آلة البوق، وينحني برَقَبته مُقرِّبًا أذنَه كي يسمع جيدًا … كلامٌ فارغ! لن يستمع أيُّ فوكس محترَم إلى هذا الصفير المزعِج الصادر عن البوق. لو كنتُ والِد زينا، لَفضَّلتُ أن أضَعَ البقرة في غرفة المعيشة. إنها أيضًا تُصدِر صفيرًا وخُوارًا، كما أنه سيكون من الأسهل حلبُها في المنزل بدلًا من الذهاب إلى الحظيرة كلَّ يوم. غريبون هم البشر …

آه، نَعَم، لقد تصالحتُ مع زينا. جلسَت تُدحرِج الكرةَ الكبيرة على الأرض وأنا أحاول إيقافَها بكلِّ قُوَّتي. أوه، هذه هي لُعبتي المفضَّلة، أحبُّ مطارَدة كل ما يتحرك وكل ما يَدور، من المُسلِّي الإمساكُ بها …

إلا أنَّ الفتاة تظلُّ فتاةً في النهاية.

في النهاية، جلستُ على الأرض وتَثاءبتُ ثم قالت: «ميكي، أَلَا تتعب من لعب اللعبة نفسها ولو مائةَ مرة؟»

بلى، لا أتعب؟ إنها لديها دُمية وكتبٌ وأصدقاء، ووالدها يُدخِّن ويلعب بالبطاقات السخيفة ويقرأ الصحف، ووالدتها لديها العديد من الملابس والفساتين التي ترتديها وتغيِّرها طوالَ اليوم … أمَّا أنا، فلا أملك سوى كُرَتي، ومع ذلك هي مَن تُوبِّخني!

كَمْ أكره البراغيث … «أ. ك. ر. ﻫ. ﻫ. أ». أعتقد أنها تستطيع لدْغَ الطاهية أيضًا (أتمنَّى ألَّا تصلَ إلى زينا المسكينة)، لكنها لا تعضُّ الآن غيري أنا، وكأنني قطعة من السكَّر …

يبدو أنني التقطتُ هذه البراغيثَ من القطط الصغيرة عندما قفَزَت فوق رأسي. حسنًا، سأذهبُ إلى غرفة المعيشة الآن، وأستلقي على السجادة الخَشِنة وأفرك ظهري بشِدَّة حتى أتخلَّصَ من هذه البراغيث. هوو. هوو. هوو!

أوه، لقد أشعلوا الموقد. انظروا إلى الشُّعلة الملتهِبة. ماذا تكون هذه الشُّعلة؟ لا أحدَ يعرف.

فوكس ميكي
الكلبُ الشاعر الذي لا يوجد أذكى منه في هذا العالَم

أسئلة متنوِّعة عن أحلامي وعن أفكاري الكلابية

السؤال عبارة عن جملة في نهايتها خطَّافٌ يُسمَّى علامةَ الاستفهام، وأنا لديَّ خمسةُ أسئلة تعذِّبني. لماذا قال والد زينا أن عينَيه وقَعتا من وجهه بينما عيناه لم تذهبا إلى أيِّ مكان؟ لقد تحقَّقتُ من ذلك بنفسي. لمَ يقول كلماتٍ لا يَعنيها؟ تسلَّلتُ إلى أعلى الخزانة، وجلستُ أمام المرآة حتى أستطيع أن أراه بنفسي، وبالفعل لم يحدُث ما قاله؛ كانت عيناه في مكانهما بوجهه.

وسؤال آخَر: هل تعيش الثعالب على سطح القمر؟ وماذا تأكل؟ وهل تَعوي عندما ترى الأرضَ مثلما أعوي عندما أرى القمر؟ وأين تذهب عندما يختفي القمر لعِدَّة أيام؟ لا أحدَ يعرف أين يذهب القمر. ميكي … ميكي … سوف تُصاب بالجنون من كثرة التفكير.

‏لماذا تذهب الأسماك إلى سطح البحيرة حتى تقع في الشبكة؟ أيُعقَل أنَّ فُضولها يأخذها إلى سطح الماء كي تعرف شكلَ الحياة في الخارج؟ ألَا يُمكِنها العيشُ في هدوء في البِركة؟ أشعر بالأسف حقًّا من أجلها؟ في الصباح تَسبح وتُخرِج الفقاعات الصغيرة، وفي المساء تُهضَم في مَعِدة بشرية مُظلِمة وضيِّقة. وعلاوةً على هذا، هناك هذه القطة الماكرة التي تَحُوم في الحديقة طوالَ النهار مُتربِّصةً بها.

لماذا عندما أتصرَّف تصرفًا سيئًا، يضعون كمَّامةً على فمي، بينما يَثمل البستانيُّ مرتَين في الأسبوع ويتشاجر مثل الثور المجنون ولا يُعاقِبونه أبدًا؟ يقول عمُّ زينا إن البستانيَّ أُصيبَ بصدمة من جرَّاء انفجارِ قذيفة بالقرب منه في الحرب؛ ومن ثَم يَحظى بمعاملةٍ خاصة. سأكتشفُ يومًا ما معنى «صدمة القذيفة»، ثم أُصيب نفسي بها كي يُعامِلوني معاملةً خاصة. سأذهبُ الآن وأقضمُ بعضَ العَظم (إنني دائمًا ما أخبِّئ بعضًا منها … أين؟ لن أخبرك بالطبع) … وبعدها أعودُ إلى الكتابة مرةً أخرى.‏

•••

آه لو تَعلمون ما رأيتُه في حُلمي! بدا الأمرُ كما لو أنني مديرُ مدرسة للكلاب. تجلس الكلاب في الفصول الدراسية وتتعلَّم تاريخ الكلاب المشهورة، وقواعد السلوك الجيد للكلاب، وكيف تأكل العَظم، وأمورًا أخرى مفيدة لها.

دخلتُ إلى فصل المبتدئين وألقيتُ عليهم التحية: «مرحبًا يا جِراء»، ثم صدَر عن الميكروفون هذا الصوت: «جاف جاف جاف»، وسألتُ: «هل أنت راضٍ عنهم يا سيد موبس». وهنا، انحنى السيد موبس معلِّم الموسيقى وأخبرني أنه ليس لديه أيُّ شكوى، ولكنهم يريدون التدرب. فقلتُ: «حسنًا … حسنًا، لا مشكلة. يُمكِنك إعطاؤهم نصفَ ساعة للتدريب». لكن، يا إلهي، ماذا حدَث بعدها؟ لقد شكَّلت الجِراءُ الصغيرة عصابةً وهجَمَت عليَّ. طرحَتني أرضًا وسكَب أحدُهم المِحبَرة فوقي، بينما وخَزني آخَرُ بريشة في طرفِ ذيلي. بعدها، بدأ جَرْو ثالث بسحبِ أذني يَمْنةً ويَسْرة، كما لو كانت من المطَّاط …

‏صرختُ مثل بخارية، واستيقظتُ أخيرًا. أول ما لمحتُه هو القمر، وعلى ضوئه رأيتُ صرصورًا يجلس على الأرض، ويأكل قطعةً من بقايا البسكويت التي أوقعَتها زينا.

تركتُ غرفةَ زينا وتسلَّلتُ إلى الرواق خلف المطبخ، ثم جلستُ على السجَّادة بجانب سرير الطاهية. فأنا — كما تعلمون — لا أحبُّ الطاهية، إنَّ صوتَ شخيرها العالي يَكفي لتحريك المعلَّبات فوق الرف، كما أنها تُمسِك بساقها اليُمنى طوالَ الوقت تحت البطانية وتهزُّها أثناء النوم … لكن لماذا تفعل ذلك يا تُرى؟

تحوَّلت النافذةُ إلى اللون الأبيض، بينما كنتُ أفكِّر وأتساءل عما يَعنيه حُلمي. لدى الطاهية كتابٌ مُهترئ اسمه «كتاب الأحلام»، كثيرًا ما تتصفحه بأصابعها السمينة وتقرأ بعضَ الأمور عن زَوجٍ مُرتقَب. لا أعلم مَن سيتزوَّج سيدة المقلاة هذه! ‏لكن هل سيفيد كتابُ الأحلام في حالتي؟ لا أعتقد أنه يحتوي على تفسير لأحلام الكلاب؛ فهم يظنُّون أننا لا تُراوِدنا أحلام … لكن لا؛ هذا الحُلم كان في مُتناوَل يدي … لا، مهلًا … كان في مُتناوَل مِخلبي.

أفكار

يتجمَّد الماء في الشتاء تمامًا كما يَحدث لي كلَّ صباح. إنَّ أبشعَ اختراعٍ بشري هو أطواقُ الكلاب الجلدية. لماذا يَحرث جارُنا الأرضَ ويَخبز الخبزَ على الرغم من وجودِ مَخبَز بجانب منزله؟ لماذا عندما يتبوَّل الجَرْو على الأرض يُوبِّخونه، وعندما يَفعل شقيقُ زينا الصغيرُ الشيءَ نفسَه يغيِّرون حِفاضَه ويُلبِسونه ملابسَ جديدة؟ لقد تَشاجرتُ مع القنفذ لكنه مُخادِع، أخفى رأسَه وأدار لي ظهرَه المليء بالشوك. إررر! أيُّ نوع من القتال هذا؟ عندما أكلتُ النقانق، ابتلعتُ عن غيرِ قصدٍ خيطَ النقانق الشبيه بالدُّود، فهل سأصابُ بالتهابِ الزائدة الدودية؟

تُشبِه رائحةُ زينا حليبَ اللوز، وتشبه رائحةُ والدتها كعكةً دافئة، وتشبه رائحةُ والدها حقيبةً قديمة، أمَّا رائحةُ الطاهية … فالأفضلُ ألَّا أقول.

لا مزيدَ من الأفكار الآن. هوو! لماذا لا يعطيني أحدٌ قطعةً من السكَّر؟

فوكس ميكي
الذي يَجدُر به حقًّا أن يكون أستاذًا

فوضى خريفية

حلَّ الخريف. المطرُ يُحطِّم كلَّ شيء. لماذا لا يكلُّ المطرُ من التدمير طوالَ اليوم؟ تتساقط جميعُ الأوراق الصفراء، وسرعان ما يصبح الشجرُ عاريًا تمامًا. وبعدها، يُخيِّم الضباب، وبسببه تَصعَد كلبةٌ في الشارع الخلفي فوق الكشك، وتَعوي من الصباح حتى المساء. أذهبُ أحيانًا لزيارتها. لكنها غبية وغير متعلِّمة مثلي، عندما ألعبُ معها وأحاوِل الإمساكَ بذيلها برِفق، تضربني على رأسي بكفِّها، وتعضُّ بطني بأسنانها … إنها شَرِسة.

ضباب … ضباب … ضباب …

وَحْل … وَحْل … وَحْل …

ثم فجأة تشعر بالدِّفء، وترى الطيورَ تنطلق محلِّقةً في كلِّ اتجاه. سوف تصبح السماءُ زاهيةً مثل تنُّورة زينا الزرقاء عندما تغسلها. وسوف تظهر أشياءُ خضراء صغيرة فوق العِصِي البُنِّية الموجودة في الحديقة، ثم سوف تتفتَّح هذه الأشياء وتستدير وتسقط … أوه، جيد. إنه الربيع.

تزداد الأشجار بهاءً كلَّ الربيع، حتى القديمة منها. لكن هذا لا يَحدث للبشر أو الكلاب … كيف؟ عَمُّ زينا، على سبيل المثال، أصلعُ تمامًا. سقَط كلُّ الشعر عن رأسه فأصبح عاريًا مثلَ كُرَة البلياردو، فهل يُمكِن أن يَنبت العُشب الأخضر على جمجمته من جديد لقدوم الربيع؟ أو ربما بعضُ الزهور؟

أم هل يُمكِن أن يَنبت للكلب بُرعمٌ أخضرُ في طرف ذيله في نهاية أبريل؟

لا أستطيع أن أغيِّر العالَم للأسف، فماذا يُمكِن لكلبٍ صغير مِثلي أن يفعل؟

في المنزل تعمُّ الفوضى، يُزيلون السجادَ من مكانه، ويضعون عليه مادةً تُسمَّى نا… فتا… لين. هوو! إنني أعطسُ بمجردِ ذِكر اسمها. ولذا، لا أدخل إلى الغرف. بل أستلقي على الشرفة وأفرك أنفي بمَخالبي. وكما هو معلوم، فإنني حافي القدمَين دائمًا، ولا أستطيع التجول في الأرجاء دونَ أن يَعلَق هذا الشيءُ بقدمي … إنها مِحنةُ كلِّ عام!

•••

تَجمعُ زينا كتبها وتُرتِّبها. وفي الوقت نفسه، يَرقد شقيقُها في فراشه ويَصرخ مثل الجَرْو. أمَّا أنا فوكس ميكي، فأسعلُ مثل إنسان بتواضُع وأدب؛ إذ أعاني من التهاب الشُّعب الهوائية. أتمنَّى أن يذهبوا من دوني. لن أذهبَ معهم إلى باريس تحت أيِّ ظرف، سأختبئ في القش بجوار البقرة ولن يَجِدوني … حسنًا، ماذا يوجد في باريس؟ عندما اصطحبوني إلى طبيب الكلاب هناك، رأيتُ مليونَ شارع (والمليون أكثر من عشرة)، وأينما تنظر في كلِّ مكان، فإنك ترى نفسَك محوطًا بسيقان وأقدامٍ كثيرة لا حصْرَ لها. أمَّا السيارات، فهي مثل وحيدِ قرنٍ مخمور، تنطلق مُسرِعةً، وتطلق أزيزًا، وتتحرَّك حولك في كل مكان …

لم أترك تنُّورة زينا من بين أسناني طوالَ الوقت، كانوا يَسحبونني من السلسلة، والكمَّامة تضغط على فمي، وما زلتُ مشغولًا بالتفكير كيف يُمكِن لأحدٍ أن يعيش في مثل هذه المدينة المزدحمة؟

علاوةً على أنني لا أستطيع الجلوسَ بجوار النافذة في سلام حتى تظهر لي ساقُ إنسان، والبوَّاب كان يناديني بالخنزير الصغير، وبعدَ هذا كلِّه، يتساءلون لمَ أختبئ بين الكراسي وتحت الأرائك! لأنهم يَلُومونني على ما أصابني من البراغيث وانتشارها في أرجاء المنزل. أنا لا أصنع البراغيث، كما أنها تنتشر وحْدَها في كل مكان …

أوه، كم بَدَت الكلاب الأخرى مُقزِّزة! بولدوج ذو المَخالب الطويلة والقِناع الذي يغطي وجهَه بالكامل لمنعِه من عضِّ الناس، والكلبُ المخطَّط الذي يشبه الجزَّارين، أمَّا كلاب اللولو فهي أقربُ إلى الحشرات من الكلاب، آذانُها مُتدلِّية، وعيونُها ناعسة … هوو! هوو! كَمْ هذا غريب! لماذا هذه الكلاب مختلفة إلى هذا الحد، لكن للقطط كلها الشكل نفسه؟ ومع ذلك، تقول زينا دائمًا إنَّ كلَّ الكلاب مُتشابِهة، كما أنَّ الكلابَ غالبًا ما تُشبِه سادتَها، والسادة غالبًا ما يُشبِهون كلابَهم. ماذا عنَّا نحن: زينا وميكي؟ حسنًا نحن مُتشابِهان، الاختلاف الوحيد هو أن رَبطةَ شَعرها خضراء ورَبْطتي صفراء.

أخْ! كيف أستطيع الخروجَ والبابُ مُقفَل! المِعطفُ على الأريكة، لكن لا أعرف كيف أختبئ داخله. وللأسف مهما قلت، فالأيدي مهمة. جاءت شاحنة وأخَذَت الأمتعة، وفي غرفة الطعام تناثرت الأوراق والمُهمَلات. لماذا ينتقل الناسُ من مكان لآخَر؟ من أجل العمل؟ التعليم؟ بحثًا عن مَسكَن جديد؟ «هذا التنقل أشبهُ بحياة الكلاب!»

يقول والِد زينا إنَّ حياةَ الكلاب أفضلُ من التنقل، وهذا ما أعرفُه أنا بالفعل.

سوف يتركونني هنا، سأكوِّن صداقةً مع كلبة الفِناء، ولا شيءَ آخَر لأفعله. أخبرَتني زينا ألَّا أبكي؛ وعَدَتني بأنْ تَزُورني مرةً كلَّ أسبوع إذا أحسنتُ التصرف. سوف أفعل! إنني أحبُّها كثيرًا! أخذتُ ألعقُ وجهَها طوالَ اليوم وهي تُربِّت على أنفي … إنها صديقتي الرائعة.

أُمر البستانيُّ بإطعامي، فلْيُحاوِل أن يَنساني مرةً وسوف أحطِّم كلَّ زجاجاته الغالية! كما أن الجزَّار يحبُّني، وعندما يأتي إلى هنا بالتأكيد، سوف يعطيني شيئًا ما.

لقد كبرَت القططُ الصغيرة؛ فهي تَكبر سريعًا … لقد نَسِيتني تمامًا واندفعَت في أرجاء الحديقة كأنها هنا منذ قرون. سيَتعيَّن عليَّ تكوينُ صداقات معها من جديد …

لكن الشيء الأكثر أسفًا هو أن قلمي الأخير قارَبَ أن يَتآكل سِنُّه تمامًا. كما أنهم أزالوا كلَّ شيء من المكتب. أوه، لماذا لم أفكِّر في تَخبئة المزيد من الأقلام؟ وداعًا يا مُذكِّراتي … لقد توسَّلتُ إلى زينا كثيرًا من قبلُ، توسَّلتُ كثيرًا حتى إنني وافقتُ على ارتداءِ الفستان الذي تحبُّه ووقفتُ أمام طاولة المكتب، لكنها لم تَفهَمني وأخذَت تضع الشوكولاتة في فمي، يا لها من مأساة! الأمر صعبٌ دونَ أيْدٍ، لكن دونَ لسان فهذه كارثة!

دفتر ملاحظاتي أثمنُ من الذهب والفِضَّة والماس. سأضعُه تحت الخِزانة ليَبقى هناك حتى الربيع القادم … هوو! هوو!

يا إلهي! لاحظَت زينا أنني أكتب … إنها قادمةٌ نحوي. سوف أبتعد …

أنا وَحْدي

لا يوجد أحدٌ في البيت، تهبُّ رياحٌ كلابية من خلال جميع الشُّقوق (لماذا رياحٌ كلبية؟). بوجهٍ عام، الرياحُ حمقاء: إنها تهبُّ في حديقة خالية، وليس هناك ما يُوقِفها. ما زلتُ أستطيع التعامل معها بطريقةٍ ما في الفِناء، أقفُ وظهري للرياح ورأسي للأسفل وأبسطُ ساقيَّ الأماميتَين، و«أتظاهر أنني لا أهتم» كما يقول البستاني.

لكن حتى في الغُرَف المغلَقة لا يُمكِنك الاختباءُ من الرياح المتسلِّلة؛ فهي تندفع من تحت الباب، ومن خلال فتحاتِ النوافذ، وعبر فُوَّهة المدخنة، وتُصدِر ضجيجًا وصريرًا وعواءً كما لو كانت كلبةً حاملًا. الرياح ليس لديها طوقٌ ولا مَعِدة ولا جسد، ولكن لا أستطيع أن أفهم لماذا تَعوي طوالَ الوقت …

أزحفُ تحت الوسادة، وأُغمضُ عينَيَّ، وأحاول الهروبَ من الضَّجَّة. سأقدِّم كُوبًا كاملًا من دقيقِ الشوفان (لأنه رهيب!) لو أنَّ أحدًا يوضِّح لي لماذا هناك خريف ولماذا هناك شتاء؟ لماذا يوجد مثل هذا الوَحْل الذي لا يُمكِن اختراقُه في كلِّ الشوارع، والذي لم أرَه إلا تحت وحيد القرن في حديقة الحيوان. الجو رطب، والأغصان عاريةٌ تُصفِّق وتترنَّح. رأيتُ غُرابًا يشبه الحيواناتِ المَحشوَّة، كان ينظر إليَّ وكأنه يقول: «وأنت لماذا لم يَصطحبوك معهم إلى المدينة؟».

لأنهم لا يريدونني! هذا أمرٌ مؤسِف لكني بخير. بالأمس بَكيتُ بالقرب من المِدفأة، لقد كانت مُقزِّزة وسطَ الظلام والرطوبة. وجدتُ شمعةً لكني لا أعرفُ كيف أُشعِلها. هوو!

•••

هذا صوتُ خربشةِ الفئران. على الرغم من أنَّ الثعالبَ لا يُفترض أن تفعل هذا، فإنني أُحبُّ الفئرانَ حقًّا. لماذا نَلُوم هذه المخلوقاتِ اللطيفةَ لكونها صغيرة جدًّا وجائعةً طوالَ الوقت؟

بالأمس، ظهَر فأرٌ صغير وبدأ في دحرجةِ الجَوز المُخزَّن من العام الماضي على الأرض. أنا أيضًا أُحبُّ أن أقوم بدحرجة الأشياء. أردتُ حقًّا أن ألعب معه، لكنني قاوَمتُ: «اجلس مكانَك أيها الأحمق! أنت كبير بحجمِ الفيل، ستُخِيف الفأرَ الصغير، وحينَها لن يأتي مرةً أخرى. ألست ذكيًّا؟».

اليوم، أصبح الصغيرُ جريئًا لدرجةِ أنه صعِد إلى الأريكة وتَشمَّم مِخلَبي. عضضتُ لساني وجفلتُ. هووه! كَمْ أُحبُّه!

ولكن كيف يُمكِنني حمايتُه من القطة؟ …

إذا تجرَّأت القطةُ على لمسه، فسوف أطاردُها إلى أعلى شجرة عيد الميلاد، وسأقف هناك طوالَ اليوم … يا إلهي، كَمْ أكرهُها!

لماذا أشجارُ عيد الميلاد خضراءُ طوال الشتاء؟ أعتقدُ أنه بسبب وجود الإبر. بالطبع، فأشجارُ عيد الميلاد لا تحتوي على أوراق بل إبَر، جرِّبْ أن تَلمسها بنفسك! إنها إبرٌ رقيقة تمرُّ الريحُ خلالها وكأنها مُنخُل …

•••

لا ألعبُ مع البستاني؛ فهو غاضبٌ طوالَ الوقت بسبب الوَحل الذي يَكسو مَخالبي، ماذا أفعل؛ هل أرتدي أحذيةً من أجله أم ماذا؟!

آه صحيح، نسيتُ أن أكتب … هناك شيءٌ وحيد جيد حدَثَ خلال هذه الفترة، وهو أنني عثرتُ على صندوق سيجار مَنسي به أقلام رَصاص في الخِزانة، سحبتُ الأقلامَ ودفترَ حسابات من خِزانة المؤَن، والآن أُكمِلُ مُذكِّراتي مرةً أخرى.

لو كنتُ بشريًّا، لَأنشأتُ بالتأكيد مجلةً للكلاب.

كَمْ أصبحتُ هزيلًا، إذا رأتْني عمَّة زينا الآن، فستتمنَّى أن تصبح هزيلةً مثلي؛ لأنها تريد أن تَفقد وزنَها بالرغم من أنها لا تَتوقَّف أبدًا عن الأكل.

لقد تآمرَ البستانيُّ والبوَّاب ضِدي؛ يأكلون كلَّ الطعام الجيد، ويطبخون لي هذا الشوفانَ الرهيب. يُعطون كلبةَ الفِناء العَظمَ الكبير والحَساء مع الخبز، بالرغم من أنها لا تُقدِّره. ولكن كيف يُمكِنها أكلُ هذا العَظم وهو أقوى من الحديد؟ والحَساء … يُمكِنهم استخدامُ هذا الحَساء في غسلِ الأطباق في حانة صغيرة!

حتى إنهم يَبخلون عليَّ بالحليب … أيُّها الجَشِعون! الحليبُ يأتي من البقرة وليس منهم. كنت جديرًا لأحلب البقرةَ بنفسي، فنحن صديقان، وهي دائمًا ما تَمُوء عندما أركض داخلَ الحظيرة. ولكن كيف سأحلبها بمَخالبي … يا له من شيءٍ مؤسِف!

هذا مُخزٍ، ولكنني أضطر لأكل أي شيء يُقدِّمونه إليَّ؛ فماذا يفعل أيُّ مخلوقٍ أمام الجوع؟

عندما ينحسر المطر، أركضُ أحيانًا إلى شارع مُجاوِر لمشاهَدةِ عازفٍ مشهور من المهاجرين. يعزف في المساء على آلة الجراموفون. إنهم يرقصون رقصةَ الفوركس روت. يجب أن يُسمُّوها رقصة الكلب.

فأنا أستطيع أن أقفَ على رِجليَّ الخلفيتَين وأشدَّ بطني وأَدُور وأُومئ برأسي.

سيتوقَّف الجميع عن الرقص … سوف يجتمعون في دائرة ويضحكون بصوتٍ عالٍ بحيث لا يُمكِن سماع الجراموفون.

وسيُعطونني شريحةً من اللحم الذي بالكاد يمكنني أخذُه معي إلى المنزل. سأُحضِرُ أيضًا عَظمًا من لحم العجل بين أسناني للإفطار … هكذا يُذلُّ المرءُ نفسَه كي يسدَّ جوعه!

ما يُحزِنني حقًّا أنني أفعل هذا وَحْدي ولا توجد كلبةٌ يافعة تُشارِكني الرقص. لكنا رقصنا وأكلنا أيضًا معًا.

•••

يجب أن أُدوِّن كلَّ أحزاني، وإلا فسوف أنسى.

نقَرني الديكُ في أنفي دونَ سبب. لقد صَعِدتُ للتو لأُلقي عليه التحية. لماذا يهاجمني؟ يا له من وغدٍ وَقِح! بكيتُ وبكيتُ، ثم وضعتُ أنفي في حوض لجمعِ مياه الأمطار، ولم يَهدأ أنفي إلا بحلول المساء …

لقد نَسِيتني زينا!

زحَف صرصورٌ أسودُ إلى وعاء الشوفان الخاص بي واختنقَ وغرِق. يا له من حظ! الطيور كلُّها باستثناء الديوك تطير ذَهابًا وإيابًا. والقطط مثيرة للاشمئزاز، لكنها ما زالت من الحيوانات. ولكن ما فائدةُ الصراصير السوداء؟!

كادت تَصدمني سيارة على الطريق السريع. لماذا لم تُصدِر تنبيهًا عند المنعطَف؟ لماذا رشَّتني بالوَحل؟ مَن سيَغسلني؟ أنا أكره السيارات! أ. ك. ر. ﻫ. ها!

لقد نَسِيتني زينا.

أخفتُ أرنبًا بريًّا في الحديقة، واصطدَم بسلكٍ شائك. هوو! كَمْ هذا مؤلِم! قالت زينا إن المرء إذا خدَش نفسَه بحديدٍ صَدِئ، فعليه أن يضع بعضًا من اليود على الفور. من أين أحصل على اليود؟ هل اليود يلسع …

أكلَت الفئران جزءًا من مذكراتي. لن أحبَّ الفئرانَ مرةً أخرى!

لقد نَسِيتني زينا …

اليومَ وجدتُ قطعة شوكولاتة قديمة في غُرفة البلياردو وأكلتُها. هذا ليس من بين أحزاني. لكن هناك القليل جدًّا من البهجة لدرجةِ أنني لا أستطيع تخصيصَ صفحةٍ مُنفصِلة لها.

الوحيد الحزين
الذي استبدَّ به البردُ والجوع أيضًا،
فوكس ميكي

الانتقال إلى باريس

هل تحبُّ العِليَّة؟ أنا أحبُّها كثيرًا. البشرُ يَضعون كثيرًا من الأشياء المثيرة للاهتمام في العِليَّات على عكس الغُرَف العادية حيث يضعون الكراسيَّ والطاولاتِ الصغيرة.

كما تقول عمَّة زينا: «عندما يكاد قلبي الحزين أن ينفجر من الحزن، أتركُ الحديقةَ الرتيبة وأمسحُ قدمي على الأريكة، ثم أركضُ ناحيةَ العِليَّة.»

العصافيرُ تطير فوق زجاج السقف؛ فهي مثل الفئران لكن لديها أجنحة. أستيقظ كلَّ يوم وأقول: «صباح الخير، أيَّتها العِليَّة».

ثم أُلقي التحيةَ على دُمية زينا القديمة. لديها مرضٌ ما؛ ولذا تجلس في حوضِ استحمامٍ مُترَب وقدماها مرفوعتان لأعلى. تحدَّثتُ معها عن زينا. نَعَم، بالطبع، قلبُ الفتاة مثل نَبْتة الهندباء. لقد نسِيَت دُميتَها ونسِيَت ميكي. في المستقبل سيكون لديها ابنة، وسيبدأ كلُّ شيء من جديد … ابنةٌ جديدة، دُميةٌ جديدة، وكلبٌ جديد. هاتشوو! هناك كثيرٌ من الغبار هنا.

أشمُّ الثُّريَّا المكسورة وألعقُ الكلبَ المطَّاطي الذي لديه ثقبٌ في بطنه … مزَّقتُ الكلبَ المطَّاطي بأسناني إلى أشلاء …

أنا ضجِرٌ وحزين في الوقت نفسه، ولا يوجد مَن يُلاعِبني!

لو كنت أقوى، لَاستطعتُ أن أُحرِّك حوضَ الاستحمام القديم وأبني لنفسي غرفةً في العِليَّة. كنت سأضَعُ قفصَ ببَّغاء تحت الأريكة المكسورة، ثم أتظاهرُ أنَّ هذه غرفةُ نومي. أمَّا طاولة البلياردو، كنت سأجعل منها مكتبًا. إنها مُنحدِرة ومُناسِبة جدًّا للكتابة.

وفوق السطح سوف يكون مِرحاضي. هذا «صحي» ومُمتِع في الوقت نفسه. سوف أتسلَّق الدَّرَج مثل بحَّار حتى أصل إلى القِمَّة، ثم أرمي مُخلَّفات في المدخنة. أتشوو! نَعَم هذا مخطَّط جيد.

ما هذا الذي على الطريق السريع! سياراتُ نقل … تُرى مَن هناك! مَن؟ مَن؟ مَن؟ أووو!

عادت زينا …

•••

هذا أسبوعي الثالث في باريس، شارع ديسومبسيون (شارع أوسبنسكايا)، بناية رقم ١٦. الطابق الثالث إلى اليمين.

لن تعرفني: أنا مُستلقٍ على وسادة بجوار المدفأة مثل قِطة صينية. رائحتي مثل صابون الليلك، وأضع رَبطةَ عُنق خضراءَ مع بطاقة فِضِّية عليها عنوان … لو كنتُ أستطيع التحدث، لَسرقتُ فرنكًا واشتريتُ لنفسي أساورَ للأكمام أيضًا.

زينا الآن في المدرسة … هناك كلبةٌ صغيرة مثيرة للاشمئزاز تجلس في الشرفة المجاوِرة. لديها كُتَل من الشعر داخل أُذنَيها، وكُتلٌ أخرى حول عينَيها، وشعرٌ يغطِّي شفتَيها، مَظهَرها الخارجي يُوحي بمِمسَحة قديمة وليس كلبة!

عندما لا يوجد أحد في الشُّرفة، أغيظها. الأمر مُسلٍّ! أُديرُ ظَهري وأبدأ في القفز على قدميَّ الخلفيتَين، أفعلها لخمسِ دقائقَ كاملة.

أوه! ثم تَنتابها نوبةُ غضبٍ عارمة مثل قِطة تقفز تحت سيارة.

ياي-ياي-ياي-و! أوه أوه أوه أوه أوه! أوي أوي أوي!

تأتي مالِكتُها راكضةً وفي يدها بَكرةُ خيط، تشبهها كثيرًا؛ لديها الشعر الأشعث نفسُه وبطنٌ مُتدلٍّ، تقترب من الكلبة ثم تقول فَزِعةً: «يا حبيبتي الغالية! مَن أزعَجكِ يا صغيرتي المسكينة! انظري إلى هذا الخيط الذهبي الطويل».

في هذه الأثناء، أهربُ من الشُّرفة إلى الغرفة كما لو أنني لم أكُن هناك قَط، وأقضي وقتي أتدحرج على السجادة، وأضربُ أنفي بمَخالبي من شِدَّة الضحك.

إنَّ الجيرانَ أسفلَ منَّا وفي الأعلى، والمجاوِرين لنا يمينًا ويسارًا، يعزفون البيانو طوالَ الوقت، أتمنَّى لو أستطيع أن أُخرِسهم جميعًا وأُلصِقَ أيديهم بعضها ببعض فلا يستطيعوا العزف.

زينا في المدرسة، لا أعلم لماذا تَدرس هذه الفتاةُ كثيرًا؟ سوف تَكبر على أيِّ حال وتقصُّ شعرَها وتَستلقي على الأريكة طوالَ اليوم. أنا أعرفُ هذا النوع من الفتيات.

جاء البستانيُّ أمسِ من الضَّيعة. أحضَرَ تفاحًا وبَيضًا. اختارت الطاهية الثمارَ للطَّهي! (لأنها تعرفها أفضلَ من الجميع بالطبع) أنا لا أفهم هؤلاء البشر … إنهم يَرتدون النظاراتِ ويَرتدون نظَّارةَ الأنف، ومع ذلك لا يستطيعون رؤيةَ الأشياء الواضحة تحت أنوفهم …

تسلَّلتُ إلى القاعة، وصعِدتُ على الكرسي، ووضعتُ أمعاءَ السمك في جيب مِعطَفها … والآن دَعْها تعرف!

•••

ذهبتُ مع زينة إلى السينما. كنت مُتحمِّسًا للغاية. لا أدري كيف يَفعلونها … كيف يجعلون الناس والسيارات والأطفال ورجال الشرطة يَركضون على القماش؟! ولماذا لا يوجد غير الرمادي والأسود والأبيض؟ أين ذهبَت الألوان؟ ولماذا يُحرِّك الجميع شِفاهَهم ولكن لا يُمكِنك سماعُ الكلمات؟

هذا يُذكِّرني بالفراشات المُجفَّفة التي رأيتُها في صندوق العِليَّة لكنها لم تَكُن تتحرَّك، وثانيًا كانت متعدِّدة الألوان …

ثم أدركَ ميكي … أنت أحمق، هل تعتقد أنك تَفهم كلَّ شيء!

كان الأداءُ غبيًّا جدًّا: وقَع الرجلُ في حبِّها وقادَ سيارةً إلى البنك. ووقعَت المرأةُ في حبِّه لكنها تزوَّجت من صديقه. وذهبَت بالسيارة إلى البحر مع شخصٍ ثالث. ثم كان هناك حريق وزلزال في حمَّام الباخرة، ثم هناك رجلٌ أسودُ يشقُّ طريقَه إلى مَقصورتهم، ثم أدركَ الجميع …

إنَّ حُبَّ الكلاب أذكى وأكثرُ جِديةً.

لا بدَّ من إنشاء سينما للكلاب. من المُخزي أن يستحوذ البشرُ على كلِّ شيء: الصحف والكرَّاسات والخرائط، ولا يَبقى شيء للكلاب.

لو أنَّ البشر يتركوننا لأسبوعٍ واحد فقط، لَاستطعنا أن نكتبَ أفضلَ الأعمال ونحن جالسون وأقدامُنا مَطوية. «عظمة شخص آخَر» … «جنازة لكلبٍ وحيد» … «البودل بوب يَخدع الجزَّار» (للكلاب من كِلا الجنسَين) … «أحلامُ كلبٍ عجوز» … «سانت برنارد يُنقِذ فتاةً من التجمُّد» (لكلاب اللولو) … «كلب الشرطة فوكس يَضَع بينكرتون في الأصفاد» (للأطفال والكلاب).

آه، كَمْ من موضوع لديك يا ميكي! ستكتب سيناريوهاتِ كلاب، ولن تحتاج إلى أحد … ‏ قصيدة جديدة:

انتفخَت الكستناءُ مِثلما تَنتفخ الكُلى،
هكذا نعرف أنَّ الربيعَ قد أَوشَك،
كُلْيَتا والدة زينا تؤلِمانها؛
ولذا، هي حزينة …
رئيس مُخرِجي سينما الكلاب
فوكس ميكي

على الشاطئ

هذا ما قلَب حياتي رأسًا على عَقِب. اقتحمَت زينا الغرفةَ بعَجلتها، وأوقعَت الطاولةَ وما عليها من الأقلام، وأفزعَت الطيور، ثم نظرَت إليَّ وانفجرَت مُهلِّلةً: «ميكي يا أميري المحبوب … نحن ذاهبون إلى البحر.»

ذهبتُ على الفور إلى كلبة البوَّاب، أتذكَّر أنها قالت شيئًا عن وِلادتها على البحر، كما أنها تُعامِلني بلُطفٍ شديد.

– «كيكي أخشى أنهم سوف يأخذونني إلى البحر … ما هذا المكان؟»

– «أوه، هذا مكان حيث يوجد كثير وكثير من الماء. عشرةُ أضعافِ حجمِ نافورة لوكسمبورج. يوجد تيارُ هواءٍ قوي في كل مكان. مالكتي تحبُّ هذا الهواء، ويُمكِنها أن تَسدَّ أُذنَيك بالقطن إذا أردت. البحرُ يَهدر، ثم يُصدِر صوتَ هسهسة، ثم يَسُود الصمت. لا مجالَ للنظام على الشاطئ. هناك كثير من الأسماك. أطفالٌ يَحفرون في الرمال، ويَدوسون على أقدام الكلاب. لكنك فوكس، سوف يرمون العِصيَّ في الماء وستُخرِجها لهم.»

– «رائع!»

–‏ «وعندما تَتعَب، توجد دائمًا غابة على تل بالقرب من البحر. يُمكِنك الشِّجارُ فيها مع حيوان ابن عرس والتدحرج على الكالونا.»

–‏ «وما هذا الشيء؟»

‏– «إنه عُشبٌ مُجعَّد مثل اللحية. كما توجد زهورُ الليلك، ورائحتُها مثل رائحة زيت التربنتين.»

‏– «شكرًا! أعطيني مِخلَبكِ لأشكرك. أيُّ هدية تريدين لقاءَ مساعدتك لي؟»

– «ربما أيُّ وِشاحٍ دافئ من فتاتك سيكون مُناسِبًا، وِشاحي أصبحَ باليًا بالفعل.»

– «كيكي أنا صريح! لا أستطيع سرقة زينا. لكن اليوم لدينا ضيوف، سأسرق أرنبَ شوكولاتة من أجلكِ.»

‏– «شكرًا. وداعًا ميكوتشكا.»

– ‏دخلَت الزاوية ومسحَت عينَيها بالستارة؛ يبدو أنها مُغرَمة بي.

•••

«عشرةُ أضعافِ حجمِ نافورة لوكسمبورج.» هذه الكلاب الصغيرة ليس لها أعين. إنها عشرون ضِعفًا على أقلِّ تقدير! يكاد الماء يُعانِق السماء، ولا يوجد سوى الماء في كل مكان.

كما أنها مياهٌ مالحة مثل الرِّنجة. لمَ هي مالحة؟ المطر عَذْب، وجداول الغابات أيضًا، كما أنها تَصبُّ في البحر، أليس من المفترَض أن يصبح البحرُ عذبًا أيضًا؟

يتجول الناس عُراة في سُتراتٍ مخطَّطة وسوداء. يُدخِلون أرجُلَهم في الثقوب من الأسفل. هذا الزيُّ يبدو غبيًّا. حمدًا لله، يُمكِنني السباحةُ بلا سُترة. فعَلْنا أنا وزينا كثيرًا من الأشياء في الماء. نبحتُ على الأمواج، وقذفَت هي الكرةَ في وجهي. لكن الكُرة كبيرة وزَلِقة، وفمي صغير. لم أستطِع الإمساكَ بها. هوو! جاف جاف!

صادقتُ جميعَ الأطفال. كان هناك أطفالٌ صِغار لدرجةِ أنهم لا يستطيعون حتى قول «ميكي»، ويدعونني «مي». يجلسون عُراةً على الرمال وينفخون الفُقاعات. وكانوا طوالَ الوقت يحاولون وضْعَ أقدامهم في أفواههم! تُرى لماذا؟

جريتُ وأخرجتُ قواربَ الأطفال من الماء، وقفزتُ فوق قِلاعهم الرملية، وتسابقتُ مع الكلب جاك، أصبحَ الشاطئ بأكمله يَعرفني. يقولون يا له من فوكس رائع! لمَن هذا الفوكس؟ مِلك زينا؟ فعلًا فوكس رائع.

بالأمس تجسَّستُ على زينا. وتأكَّدتُ أنَّ الأطفال ليس لديهم ذيول. لم يكُن. شكِّي في مَوضِعه …

•••

أمَّا عن الكبار. فيرتدي الرجال سُتراتٍ بيضاء. يُدخِّنون في نصف يوم، ويَقرءون الصحفَ في نصف يوم. يَسبحون لمدة نصف يوم. ويصوِّرون لمدة نصف يوم. إنهم يَسبحون جيدًا لكنهم يَسبحون بعيدًا جدًّا. أشاهدهم من منصَّة الاستحمام وأنا قَلِق: ماذا لو غَرِقوا؟ ماذا أفعل حينها؟

يستخدمون المنصةَ للقفز. يَضعون أيديهم إلى جانبهم ثم يُوجِّهونها إلى الأمام ويقفزون. يَتقلبون في الهواء مثل السمكة، ويضعون يدًا أمام أخرى وهم في الماء. ويظهر كثير من الرغوة. ثم يَسبحون بعيدًا ويذهب كلٌّ منهم في اتجاهٍ مختلف ليَسبح وحيدًا تمامًا.

‏صعِدتُ أنا أيضًا إلى المنصَّة، وأردتُ القفزَ لأكون رائعًا مِثلهم. لكنها مرتفعة جدًّا. والبحر عميق جدًّا. ارتجفتُ ونزلتُ بهدوء. هذا كثير على ميكي …

جميعُ السيدات يُغيِّرن الملابس، ثم يأتين بملابس أخرى. ثم يَخلَعن ملابسهن، ثم يُغيِّرنها مرةً أخرى. لا يُحبِبن السباحة كثيرًا. يتذوقن الماء بإصبعهن اليُمنى، ثم يَجلسن ويَرشُشْن الماء على أجسادهن، ثم يَرقُدن على الشاطئ مثل الديك الرومي يَتشوَّقن تذوُّقَ الطعام.

هناك بالطبع مَن يَسبَح من هؤلاء السيدات. لكنهنَّ يُشبِهن الأطفالَ أكثر. في الواقع أنا لا أفهم أيَّ شيء.

إنهن يُحبِبن التمثيل كذلك. لقد رأيتُ هذا بنفسي. كان بعضُهن يَرقُدن في الرمال، وأُخريات ينتظرن دَورهنَّ. ويَفعلن ذلك أحيانًا على القوارب … يضع المصوِّر بعضَ الديكورات ولافتةً باسمِ المنتجَع أمام السيدة، وبمجرد أن تنتهي تُنقَل اللافتة إلى سيدةٍ أخرى، وهكذا.

يا إلهي إذا تأخَّر المصوِّر، فإنهن يَرمُقنه بعيونهن الغاضبة.

حتى أنا يُمكِنني كتابةُ قصيدة عنهن …

عندما تتَّخِذ السيداتُ وضْع التصوير،

تراهنَّ يَقِفن،

‏تنتظر إحداهن وراء الأخرى،

ونظرةُ الغضب تَملأ عيونهن.

•••

حسنًا، وماذا تعلَّمتُ؟ يُصاب البحرُ أحيانًا بالجنون ويصبح عاليًا. ربما وجودُ المنتجَع يضايقه، أو ربما لسببٍ آخَر لا أعلمه، وبعدها نَجِد على الرمال كلَّ أنواع الأصداف والروبيان والرخويَّات … تقول زينا إن هذه كلَّها ديدانٌ بَحرية. وبعدها يَشعر البحرُ بالملل ويعود كما كان. يُطلِقون عليه «المَد والجَزر».

لسببٍ ما يُسمِّي الناسُ هذا البحرَ بالمحيط.

كنت أطاردُ البحرَ عندما يغادر، لكن زينا ربطَتني إلى المقعد. فتاة ليس في طَبْعها الفضول!

التقيتُ بالأمس الطاهيةَ داريا جالاكتيونوفنا. إنها تلتحق بمدرسةِ طهيٍ روسية قريبة، ذراعاها سميكتان مثل النقانق الإيطالية، لكنها بوجهٍ عام لطيفة. تناديني «ميكيتا» وتظلُّ تَتذمَّر؛ لأن أكُفِّي المليئة بالرمال تُثير الفوضى في المطبخ.

يُمكِن كنسُ الرمال بسهولة! فما المشكلة إذَن؟

•••

الطعام شَهِي. وإن كنت لستُ مُهتمًّا؛ فالأطفال يُطعِمونني الشوكولاتة وقِطَع اللحم وأشياءَ أخرى. تُطالبني زينا باستمرار بعدم تناوُل كثير من الطعام، وإلا فسيُصاب قلبي بالسمنة، وسوف تُضطر إلى اصطحابي إلى مارينسكي، وهي مدينةٌ مليئة بالمنتجَعات الصحية. ماذا لو كان هناك منتجَع للثعالب؟ ولْيَكن اسمها «فوكسنسكي». أتمنَّى أن أتمكَّن من فتح سينما للكلاب هناك … سباقات الكلاب، لعبة الروليت للكلاب، مصحَّة للكلاب التي تُعاني من النقرس … أكاد أموتُ غيظًا! لماذا … لماذا … لماذا لا نفعل شيئًا من أجل أنفسنا؟

لا توجد قطط هنا، ولا قطة واحدة. ولا نِصفُ قطة ولا رُبع قطة.

هل ذهبَت جميعها للحصول على اللحم؟ برر! لا، لا، ركضتُ إلى المطبخ، ونظرتُ: دجاج، لحم بتلو، لحم ضأن … كلُّ شيء موجود، وإلا كنت سأهرب من المنتجَع!

أرتني زينا خسوفَ القمر أمس. كان القمر مستديرًا، ضخمًا، شاحبًا … تمامًا مثل بطن مُضيفنا. فكَّرتُ في الأمر، وتَملَّكني الحزن، وعَويتُ قليلًا، مرتَين أو ثلاثًا فقط. انزعجَت زينا ووضعَت سروالَ الاستحمام على رأسي.

– «لا يجوز لك العواءُ بعد الساعة العاشرة!»

– ‏«ولكن، أولًا، ليس لديَّ ساعة حتى أعرف الوقت، بل ليس لديَّ جيوبٌ حتى أحمل ساعة. وثانيًا، الحالة المزاجية لا تعتمد أبدًا على ساعةٍ معيَّنة.»

كنت أرغب في إرسالِ بطاقةٍ بريدية إلى كيكي، لكنني أعلمُ أن البوَّاب الغَيُور لن يُعطِيها إيَّاها.

الرائع والفريد
فوكس ميكي

في حديقة الحيوانات

والدُ زينا مشغول دائمًا ولدَيه كثير من الأعمال. هكذا هُم البشر، يَدفعون مقابلَ كل شيء. فالمرء منهم يدفع مقابلَ الفيلا، ومقابلَ المِظلَّة، واللحومِ والخُبز وأطواق الكلاب، حتى إنهم يقولون ربما تكون هناك ضريبةٌ مُضافة على الثعالب مِثلي قريبًا.

ولكي تدفع، تحتاج إلى النقود. النقودُ قِطع مستديرة ومعدنية، العُملات التي بها ثقوب تُدعى «سِنتًا»، أمَّا العملاتُ التي دون ثقوب فتُدعى «فرنكًا». وهناك نوعٌ مختلف من الورق، ولسببٍ ما الورق أغلى ثمنًا، ويبدأ بخمسة فرنكات. تتغيَّر قيمةُ هذا المال بطريقةٍ ما، بين «انخفاض» و«ارتفاع». إنه موضوعٌ مُعقَّد وغيرُ مُجدٍ، لكنني لستُ إنسانًا؛ ولذا فالأمر لا يَشغلني. ولكي تحصل على المال، عليك مُمارَسة «الأعمال التِّجارية». هل فهمتم؟ يذهب والدُ زينا إلى باريس لمدة أسبوع، ويأخذ زينا معه، وزينا بالطبع تأخذني معها.

وبينما كان والدها يتحرَّك «جريًا» من عمل إلى آخَر (لسببٍ ما، كان دائمًا يجري في مجال الأعمال ولا يمشي أبدًا)، اصطحبَتني زينا ووضعَت سلسلةً حول عُنقي، ركبنا سيارة أُجرة (لماذا رائحتها كريهة جدًّا هكذا؟) وذهبنا إلى حديقة الحيوان.

‏حديقة! ليست حديقةً على الإطلاق، ولكنها مجردُ سجن للحيوانات التعيسة! انتظر لحظة: أشعرُ ببرغوث على ظهري … سألتقطه وأكتب كلَّ شيء بالترتيب.

•••

عندما كنت جَروًا صغيرًا جدًّا، أخبرَتني زينا عن هذه الحديقة: «رأيتُ هناك وحيدَ قرنٍ هائلَ الحجم! كَمْ كان الطين تحته! وأنت يا ميكي الصغير لا تريد أن تستحمَّ … عارٌ عليك!» لم يَكُن من الصواب هذا.

وحيد القرن ليس موجودًا. تُرى هل ماتَ من الملل أم هربَ إلى المدينة واختبأ في مترو الأنفاق حتى يُسحَق؟ …

لكني رأيتُ الجَمل. إنه يُشبِه بوَّابنا، إلا أنَّ لديه شِفاهًا أكبر، ويغطي الصوفُ كلَّ رقعة في جسده. توجد حَدَبةٌ كبيرة على ظَهْره، ولم أرَ رُكبتَيه بوضوح! يتغذَّى على الأشواك والخَل على ما يبدو. ربما أُعطيه إبرة الجراموفون ليأكلها! هوو! اللئيم! لمَ أعطته زينا كعكةً؟ هوو! أكَل الكعكة وبصَقها على الأرض! لو كنتُ حُرًّا، لَأريتُك.

الدبُّ القطبي لطيف جدًّا. يجلس في حمَّامٍ حجري ويَتنهَّد. هؤلاء الخنازير! لم يُكلِّفوا أنفُسَهم إعطاءَ الدِّبَبة القليلَ من الآيس كريم حتى في هذا الطقس الحار.

ألقى إليها صبيٌّ بقطعة من البسكويت. خرجَت ونفضَت الغبار عن نفسها، ثم وضعت مِخلَبها بأدب على جَبْهتها وأكلت. ثم فتَّتَ الصبيُّ قطعةً أخرى إلى قِطع صغيرة؛ لقد كان خائفًا على ما يبدو من أن تختنق. أكلَت العصافيرُ هذه القطعةَ الثانية. حسنًا، هل يُخبِرني أحدُكم بالسبب! لماذا هي مُحتجَزة في هذا القفص؟ زينا لديها دبٌّ مَحشوٌّ قديم. سأُحضِره غدًا وأرمي به إلى الدب ربما يتَّخذه ابنًا …

•••

لا أشعرُ بالأسف على القرود على الإطلاق. على الإطلاق! إنها مخيفة، ولم ألمسها قَط. ذهبتُ إلى القفص، ثم وقفتُ بعيدًا أنظر إليها من بعيد، الرائحة كانت سيئةً إلى حدٍّ رهيب … رائحةُ عَلكةٍ مُتعفِّنة وطعامٍ فاسد ومُخلَّفاتِ الخنازير المعتَّقة.

نظرَ أحدُهم إليَّ، وقال للآخَر: «انظر إلى هذا الكلب الأحمق يبدو غريبَ الأطوار.»

«أنا؟ هوو! أحمق! أنا. غريبُ الأطوار؟! وماذا عنك؟»

قلبي يَدقُّ غضبًا!

النمر مثير للاشمئزاز. مجردُ قطةٍ كبيرة. أتصوَّر أنني لو سمحتُ له بالدخول إلى محلِّ الحليب، لَشَرِب حوضًا كبيرًا من الحليب، هذه هي الكمية التي تناسبه. وبعدها، سيَلتهمُ كلَّ المنتَجات التي يَجِدها ويذهب إلى غابة بولونسكي كي يَحصُل على قسط من الراحة.

أمَّا عن الأسود، فالشِّبل الصغير يُشبِه الأسدَ الكبير تمامًا. لا تُميِّزه إلا بعضُ الطيَّات الموجودة تحت الجلد.

يوجد أسدٌ واحدٌ كبير، وهو يبدو لطيفًا. إنه عجوز، ولديه طيَّاتٌ تحت جلده، وأصلعُ ولا يهزُّ ذيله. قرأَت زينا ذاتَ مرة أن الأسد يحبُّ أن يُوضَع كلب في قفصه. وقالت إنه سوف يمزِّق أولَ خمسة، ويكوِّن صداقةً مع السادس، أعتقد أنَّ أوفرهم حظًّا هو السابع الذي ربما يتركه يَرحل في سلام.

لا يزال لديهم بعضُ الثيران. إنها شَعثاء ذاتُ قرون ورأس مُسطَّح. لا أفهم ما فائدة الثيران؟ لا يُمكِن اللعب معها أو حَمْلها. بوجهٍ عام، يوجد كثير من الأشياء غير الضرورية في العالَم.

هناك القنفذ، على سبيل المثال. ما فائدته بالضبط؟ هل يستخدمونه لتنظيف الموقد أم ماذا؟ أو الكنغر. لديه محفظة على بطنه، وكنغرٌ آخر داخل هذه المحفظة. ويبدو جلدها وكأنه مُثبَت على جسدها مثل ملابس زينا. كلامٌ فارغ!

حمدًا لله أنني فوكس ميكي! لا تُوضَع الكلاب في أقفاص. ولو أن بعضًا منها يستحقُّ: البولدوج — مثلًا — مختلِف عن الكلاب العادية والكلاب الدنماركية الكبيرة أيضًا. إنها كلابٌ غيرُ عاطفية بالمرة! وجامحة أيضًا. يعيش أمامَنا كلب بولدوج، ودائمًا ما يسعى إلى القيام بحِيَل قذِرة أمام بابنا. سوف أنتقم منه بالتأكيد. كيف؟ الأمر بسيط جدًّا … هم أيضًا لديهم باب …

لم أرَ بشرًا في الأقفاص. لا ضَيْر إذا وضعوا البستانيَّ جنبًا إلى جنب مع الطباخ. سأكتبُ تحتهما: «أعداء الكلاب». وأُطعِمهما الملفوفَ وجزرتَين في اليوم لا أكثر. لماذا لم يُطعِموني؟ لماذا سرقوا لأنفسهم البيضَ والقشدة والبراندي وركلوني بعيدًا بعَظمة صغيرة؟

رأيتُ ثعبانًا. ثعبان واحد كبير وطويل، يُشبِه الأمعاء، نظرَ إليَّ وصرخ: «وأنت لمَ لا أستطيع ابتلاعك؟!» الوحش … مَن سمَح له بابتلاع الثعالب الحية!

للفيل ذيلان: واحد من الأمام وآخَر من الخلف، وهناك قرون على جانبَي فمه. أخذوا يكرِّرون كثيرًا أنَّ هذا «خرطوم» وهذه «أنياب»، ولكنني أقول إنها «ذيل» و«قرون».

‏ قرَّرَت زينا أنك إذا نظرتَ إلى فأر من خلال تلسكوب، فسوف تراه فيلًا. وما التلسكوب؟ كيف لكلب أن يعرف ما هو!

حسنًا. اتَّضح أنَّ من الطيور ما يُمكِن أن يكون في حجم خِزانة المؤَن. كالنَّعام. ويوجد على ذيلها نفس ريش القبعة الموجودة في ألبوم جَدَّة زينا. لكن لم يَعُد هذا الريش موضة. والنعام لا يعطي الحليب؛ ولذا ما عليك سوى طهوه وحشوه بالكستناء وتناوله. هل يريد ميكي أن يَقضم ساقَ النعامة؟ حسنًا ربما لديَّ فضول لأُجرِّب …

الوقت تأخَّر. يجب أن نذهب إلى الفراش. لكن رأسي ما زال يدور من التفكير في القرود وسنام الجمل وريش الفيل وخرطوم النعام.

قلبي يَنبض مثل درَّاجة بخارية.

يبدو أنني مُتعَب بالفعل. أين هذا الشيء الذي يُستخدم في غسل الأطباق؟!

موكس فيكي.

كيف ضللتُ الطريق

يرتجف القلم الرصاص بين أسناني. ما حدَث في السينما هو ما يُسمَّى «مأساة»، بل في رأيي أسوأ من المأساة. عُدنا من باريس إلى الشاطئ مرةً أخرى، وكنت متحمِّسًا بعض الشيء. رُحتُ أجري حول الأكشاك، وأقفز على السيدات المستلقِيات على المقاعد، وأتشمَّم الأطفال بحيوية. كنت أنبحُ بسعادة. فلْتَذهب حديقةُ الحيوانات إلى الجحيم، ولْتَحيَ حريةُ الكلب.

‏وهكذا … قفزتُ صعودًا وهبوطًا. دخلتُ الحديقة وانطلقتُ في الأزقَّة الخضراء، ودخلتُ إلى حديقةِ شخصٍ ما ووجدتُ بها حذاءً قديمًا مزَّقتُه إربًا. ومن هناك ذهبتُ إلى الميدان، ومن الميدان إلى الطريق السريع. حينها فقدتُ إحساسي بالمكان! لقد ضللتُ الطريق. جلستُ على صخرةٍ أرتجف، وشعرتُ بالخوف، لقد «توقَّف عقلي عن التفكير». حتى الآن، لم أكُن أعرف ما هو هذا «التوقف».

شممتُ الطريقَ السريع: نِعالُ الآخَرين والغبار والمطَّاط وزيت السيارة … أين فيلَّانا؟ أصبحَت المنازلُ فجأةً مُتشابِهة، وأصبح الأطفال على البوَّابات مثل الفئران مُتشابِهين. ذهبتُ إلى البحر. لقد كان بحرًا آخَر! والسماء ليست كالتي أعرفها، والشاطئ فارغٌ وصُلب. كبار السن من الرجال والأطفالُ يُحاوِلون اصطيادَ المحار ولم ينتبه إليَّ أحد. بالطبع المحار الغبيُّ أكثرُ إثارةً من فوكس الضائع! تتطاير الرمال في عيني. البوص يُصدِر ضجةً ويثرثر بكلامٍ فارغ. إنه أحمق، لقد نما في مكانه ولن يضيع … الدموع تنهمر على وجهي مثل البازلاء. والأسوأ من ذلك كله: أنا عارٍ! تَركتُ طَوقي في المنزل، وعنواني كان على الطَّوق. ربما تَقرؤه فتاة (ليت هذا يحدث) وتأخذني إلى المنزل. رائع! لولا انخفاضُ المَد، فلربما أغرقتُ نفسي … ملاحظة: من الجيد أنني لم أفعل؛ كنت سأصبح أحمق كبيرًا؛ لأنهم وجدوني بعدها.

•••

أمام السياج الأصفر بجانبِ حديقةٍ ما، اتَّكأتُ على عمودِ التلغراف وأحنيتُ رأسي. رأيتُ في إحدى الصور كلبًا ضائعًا يقف بهذا الشكل، وقد أحببتُ هذه الوضعيةَ حقًّا.

حسنًا، لم أكُن مُخطِئًا. ظهرَت بقعةٌ وردية على البوَّابة. خرجَت فتاة (هم دائمًا أكثر لطفًا من الأولاد) وجلسَت أمامي على الطريق.

– «ما خَطبُك أيها الكلب؟»

بكيتُ ورفعتُ مِخلَبي الأيمن. كلُّ شيء واضحٌ دونَ كلمات.

– «هل أنت ضائع؟ هل تريد البقاءَ معي؟ ربما سيَجِدونك أيضًا … أمي لطيفة، لكننا سنُواجِه بعضَ الصعوبات مع أبي.»

ماذا يجب أن أفعل؟ هل أقضي الليلةَ في الغابة؟ هل أنا جَمَل بري كي أتحمَّل حياةَ البرية؟ مَعِدتي فارغة. تَبعتُ الفتاةَ ولعقتُ رُكبتَها بامتنان. إذا ضلَّت الطريقَ في أي وقت، فسوف آخُذها بالتأكيد إلى المنزل …

صاحت الفتاة:

‏– «ماما! انظري إلى فيفي، إنها ضائعةٌ. هل يُمكِن أن تَبقى معنا؟»

ماذا! «فيفي؟!» أنا ميكي ميكي! لكن أنا صاحبُ كلِّ هذه الأفكار الرائعة، لا أستطيع أن أنطق حتى بنصف كلمة من لُغتهم البشرية. فلْيَكن. مَن حفَر حفرةً لأخيه وقعَ فيها …

ارتدَت والدتُها نظَّارةَ أنف (كما لو أنها حتى من دون نظَّارة الأنف لن تَعرف أنني كلبٌ مفقود!) وابتسمَت:

– «إنها جميلة. يبدو أن مالكتَها اعتنَت بها وأطعمَتها جيدًا. تبدو أنيقةً جدًّا … لكننا سنرى.»

«إنها» … لا يوجد «إنها»! أنا ذكَرٌ. لكنني كنت جائعًا للغاية وكان عليَّ الخضوع.

أكلتُ ببطء كما لو كنتُ أُسدِي لهما معروفًا. إنهما يُقدِّمان لي واجبَ الضيافة، وأنا أقول لهما شكرًا، سوف آكل. لكن من فضلِكما لا تعتقدا أنني كلب ضالٌّ جائع.

ثم جاء الأب. لماذا يضع هؤلاء الآباءُ أنوفَهم في كل شيء، لا أعرف …

– «ما هذا الكلب؟ ما تَسْليتُكِ في جرِّ كل الحيوانات إلى الفيلا لدينا يا «ليلى»؟ ربما يَحمل مرَضًا! … اذهب، اخرُج من هنا. هيا! ماذا؟ مريض …!»

كانت الفتاة تئنُّ بصمت. تقدَّمتُ خطوةً نحو البوَّابة بكرامة. لكنَّ الأمَّ نظرَت بصرامة إلى الأب. يبدو أنه مَشهدٌ يَتكرَّر؛ تَنهَره بلوم ثم يُحرِّك الأبُ كتفَيه، ويذهب إلى الشُّرفة لقراءة جريدته.

قالت الأم: «هل أكلت؟»

وقفتُ أمامَها على قائمتَيَّ الخلفيتَين، وقمتُ بثلاثِ خطوات وقفزتُ فوق المقعد. هوو! ثم خطوة إلى الأمام، تجوَّلتُ في جميع أنحاء الغرفة ذَهابًا وإيابًا …

– «أمي إنها ذكية للغاية!»

هذا صحيح. لو كنتُ رجلًا، لَأصبحتُ أستاذًا.

•••

يتظاهر الأبُ الجديد بأنه لا يُلاحظني. وكذلك فعلتُ أنا … في المنام، رأيتُ زينا ونبحتُ بفرح: لقد أطعمَتني ملعقةَ شرابِ البيض وقالت: «أنت كَنزي … إذا فقدتُك مرةً أخرى، فلن أتزوَّج أبدًا.»

استيقظَت ليلى، كان الفجرُ ينشر ضوءَه الأبيض عبر النافذة. رفعَت رأسَها من السرير:

‏– «فيفي! ماذا تفعلين؟»

لا شيء. أشعر بالمعاناة. ربما ما كانت القطة لتهتم، اليومَ زينا، وغدًا ليلى. أمَّا أنا، فكلبٌ صادق وحنون …

إنه اليومُ الثاني دونَ زينا. جاء ابنُ عمِّ الفتاة الجديدة للزيارة، كان ولدًا سمينًا. الحمد لله؛ فالكلاب ليس لها أبناءُ عمومة … جلس فوقي وكاد يَسحقني. ثم شدَّني إلى السيارة! يريد أن يأخذني إلى داخل السيارة. تشبَّثتُ بمَخالبي في البيانو. لقد خدشتُه، ولكن بدافع الأدب فقط لم أعضَّه.

أطعمَتني والدة ليلى، وعندما وضعَت أمامَ الفتاة طبقًا من الحَساء أشارت إليَّ:

– «خُذي فيفي مثالًا. ألَا ترَين كيف تأكل بعناية؟»

فيفي مرةً أخرى! لمَ يختارون مِن بين كل الأسماء اسمًا يُشبِه أسماء الدجاج … وجدتُ مُكعَّبات عليها حروفٌ أسفلَ الخِزانة ورتَّبتُها: «ميكي».

سحبتُ الفتاةَ من تنُّورتها: اقرئيها! كانت واضحة. لكنها لم تَفهَم شيئًا وصاحت:

– «ماما! تستطيع فيفي أن تقوم ببعض الحِيَل.»

– «حسن. أعطِها بعضَ الشوكولاتة.»

أوه متى … متى سيجدونني؟ حتى إنني ركضتُ إلى مكتب العمدة. ربما أبلغَت زينا أنني ضائع. لكن لم يَحدث أيٌّ من هذا. استلقى كلبٌ هجين أشعثُ على العتبة وهدر:

– «هوو! إلى أين أنت ذاهب أيها المتشرِّد؟»

أنا؟! متشرِّد؟! يا له من تَعِس!

من حُسن حظه أنني تَربَّيتُ بحيث لا أُقحِم نفسي في قتالٍ فارغ …

•••

«انزاح الهمُّ مثل جبل عن كتفَيَّ.» كيف سقط؟ لا أعلم، ولكن باختصار … لقد وجدوني!

أخذتني «ليلى» معها إلى الشاطئ. وفجأةً على مَرمى البصر، رأيتُ فستانًا باللونَين الأرجواني والأبيض، كُرة مخطَّطة وشعرًا خفيفًا. زينا!

كيف قبَّل أحدُنا الآخَر، وكيف صرَخنا، وكيف بكينا!

اقتربَت ليلى بهدوء، وسألت:

‏– «هل فيفي كلبتُكِ؟»

‏ –«نعم! لكنه ليس فيفي، بل ميكي.»

– «آه، ميكي! آسفة لم أكُن أعلم. اسمحي لي أن أُعيده إليكِ. لقد ضلَّ الطريق، وأخذتُه إلى منزلي.»

لكن عينَيها كانتا «مأساة».

هدَّأت زينا من روعها. وشكرَتها كثيرًا جدًّا، ووعدَت باصطحابي معها لزيارتها. سوف تكونان صديقتين، لقد لاحظتُ ذلك بالفعل بمجرد النظر.

‏بالطبع، انحنيتُ أمام ليلى وطويتُ ساقَيَّ الأماميتَين: شكرًا جدًّا جدًّا … ‏ثم جريتُ مُحرَجًا، حيث تقف زينا ليس ببعيد عن ساقَيها الداكنتَين الجميلتَين.

ميكي

في السيرك

ظهرَت قوافل طويلةٌ في منطقتنا. إمَّا عرباتٌ صغيرة أو مقطورات تشبه المنازل، لونُها أحمر، ذاتُ أقفالٍ خضراء ومِدخنة فوق السطح، ودُخانٌ يتصاعد من المدخنة. كان هناك قزَم ذو رأس ضخم وعينَين حمراوَين، يجلس على دَرَج قابل للطَّي في إحدى هذه المقطورات، يُدخِّن غليونَه على نحوٍ كئيب. وفي الجزء الخلفي من الفِناء، كان يوجد أيضًا مقطورات ولكنها ذاتُ قضبان. وتَفُوح منها رائحةٌ تشبه رائحةَ حديقةِ حيوانات.

لكنها كانت أبشع. المُلصَقات مليئة بالعجائب … ثلاثةُ أسود تقفز فوق المروِّض، ثم تلعب معه لُعبةَ التظاهر بالموت. مهرِّج يلعب بمِصباح محترِق وكُرات البلياردو. ومهرِّج أحمق … ثم مَن كان يَتخيَّل أنَّ كلبَ البودل القادر على حلِّ مشاكل الجَمع والطرح يُمكِن أن يصبح أعجوبةً … ما الأهمية؟ … يُمكِنني حلُّ القِسمة والضرب … ومع ذلك، أنا لا أجلس بين المشاهير. ستؤدِّي الآنسة كارافيل رقصة جيجو «رقصة البحَّار» على سَرْج حِصان. كفى! لا تتحمَّس كثيرًا يا ميكي. ليست هذه أخلاقَ الكلاب التي تربَّيتَ عليها.

•••

حجَز والدُ زينا مقصورةً، لزينا ولي. المقصورة هي كشكٌ مثل أكشاك الكلاب، ولكنها دونَ سقف. الكراسيُّ مُبطَّنة بقماش أحمر نَتِن. وهي قابلة للطَّي وصُلبة؛ لأن السيرك مُتنقِّل.

الأوركسترا رهيبة! أكره الموسيقى بوجهٍ عام، ولا سيَّما الجراموفون. ولكن، عندما يَنفخ هيكلٌ عظمي في المزمار وزميلُه رجلٌ سمين يقف منتصبًا مع كمان ضخم، ويَعزف عليه بمِسطرة من نوعٍ ما، والثالث يَقرع الطبلة بعصاه ومرفقاه على مساطر نحاسية، ويركل دُفًّا كبيرًا مبطَّنًا، ورابعهم سيدةٌ ترتدي ثيابًا مثل دجاجة أرجوانية، تجلس على البيانو وتتحرَّك لأعلى ولأسفل …

المهرِّجون أغبياء. إنهم يُحاوِلون التظاهرَ بأنهم أغبياء، ولكنه عبَث. الحقيقة أنهم كذلك حقًّا. هل يوجد شخصٌ ذكي يَقبل أن يُصفَع على وجهه أو أن يتدحرج على نِشارة الخشب المتَّسِخة؟ هذا ليس مضحكًا على الإطلاق. شيءٌ واحد أعجبَني: المُهرِّج الذي توجد رسمةٌ للشمس على ظهر سِرواله العريض، كان لديه غُرَّة في مقدمة رأسه تتأرجح يمينًا ويسارًا … كانت فقرتُه مثيرةً للاهتمام.

كان هناك حِصانٌ فحل سمين، دونَ سَرْج، ولكن هذا لا يهمُّ. لديه ظهرٌ عريض حتى مع وجودِ جرحٍ عميق، بحيث يُمكِنك القفزُ فوقه — إن أردتَ — مثل الأسرَّة. قفزَ بكسل مثلَ بقرة … ونظرَت الآنسة كارافيل بجُبن إلى الحاجز، وتظاهَرَت بأنها أولُ راكبة في العالَم. ترتدي بدلةً جميلة لا شيء يُميِّزها من الأعلى، مع كثير من الخَرز الأخضر والأصفر في المنتصَف. لماذا ركبت الفرسَ لمدةٍ طويلة؟ في النهاية، كان الفحلُ يتصبَّب عرَقًا لدرجةِ أنني عطست. لم يكن مثيرًا للاهتمام.

ثم وضعوا شبكةً دائرية وجرُّوا أحدَ الأقفاص إلى الباب، وخرجت الأسود. خرَجَت وتثاءبَت. وحوشٌ برية مُذهِلة! كانت زينا خائفةً قليلًا (فتاة!) لكنني كنت جالسًا بجانبها. لماذا هي خائفة؟ ظلَّت الأسودُ لفترةٍ طويلة عازفةً عن القفز فوق المروِّضة: توسَّلَت إليهم ودغدغَت رقبتَها وهمسَت بشيء في آذانها، ودفَعَتها بالسَّوط تحت بطونها. وافقَت الأسود أخيرًا، وقفزَت. ثم عصبَت عينَيها بأشرطةٍ بيضاء، وأخذت جرسًا في يدَيها، وبدأت تُحرِّكه. صعِد أحدُ الأسود ثلاثَ درجات ثم استلقى. شمَّها آخَرُ وتبعَه. خدعة! رأيتُ هذه بنفسي: كانت في يدها قطعةٌ صغيرة من اللحم. لم يكُن الأمر مثيرًا للاهتمام أيضًا.

ثم ظهرَت بعدها عائلةُ الأكروبات الهولندية. ركبَ الأبُ العجلةَ الأمامية للدرَّاجة (وَحْده!) وركبَت الأم العجلةَ الأخرى (وَحْدها أيضًا!) وركبَ الابنُ كُرةً كبيرة، وارتدَت الابنتان أطواقًا عريضة … هذا رائع!

ثم طارت الأطباق والسكاكين والمصابيح والمظلَّات والفِتيان والفتَيات. رائع! حتى إنني نبحتُ بفرح. وفي النهاية، صنعَت الأسرةُ كلُّها هرَمًا. في أسفله الأب والأم، والبنتان على أكتافهما، والولد على كتف الفتاتَين، وكلب على كتف الولد، وعلى كتف الكلب قِطة صغيرة، والقطة على كتفها عصفور. تبًّا، ثم انتهى كلُّ شيء. نزلوا على السجادة وركضوا خلفَ الستار. برافو! كرَّروا مرةً أخرى! جاف، جاف، جاف!‏

•••

كان الأمر أكثر متعةً خلال فترات الاستراحة. الاستراحة تكون بين عَرضَين؛ انتهى أحدُهما، والآخر لم يبدأ بعدُ. وهكذا ذهبَ الكبار مع الأطفال الأكبر سنًّا وراء الستار لمشاهَدة الخيول والحيوانات الأخرى، وخرَج أصغرُ الأطفال من جميع المقصورات والزوايا إلى الساحة ونظَّموا سِيركَهم الخاص.

تخيَّلَت فتاةٌ ذاتُ ربطةِ شعرٍ خضراء نفسَها حِصانًا مدرَّبًا، وأخذَت تقفز على طول الحاجز، كان رأسُها يميل إلى الجانب، وتَرفس كلَّ شيء بساقها اليُمنى. كان الأولاد بالطبع مثل الأسود، وربما كانوا أشرسَ من الحقيقيِّين، كانوا يُصدِرون ضجَّةً عالية ويَبصقون ويَرمون نشارة الخشب بعضهم على بعض. تَقاتلَ اثنان؛ أحدُهما ضربَ الآخَر — ليس مثل ضربِ المهرِّجين المُزيَّف — فبادَله الآخَر الضرب، وكلاهما زأرَ زئيرًا لم يُشبِه صوتَ المهرِّج على الإطلاق … ركضتُ في جميع أنحاء الساحة مُحاوِلًا الإمساك بهم جميعًا (مازحًا بالطبع)!

خرج قزَمٌ يرتدي مِعطفًا أرجوانيًّا ذا أزرار نحاسية ودقَّ الجرس. دينج! دينج! يَسُود الصمتُ الساحةَ مرةً أخرى، ويستمر العرض! كان واحد من «الأسود» طفلًا صغيرًا لم يَرغَب في المغادَرة قَط. جاءت أمه من المقصورة، وأخذَت الأسدَ بين ذراعَيها وصفعَته وحمَلَته إلى مكانه. كان هذا مُحرِجًا بالنسبة إلى الأسد.

•••

ثم جاء دَورُ الفُقمة الضخمة. ركضتُ خلفَ الستار: اتَّضَح أن الفُقمة لديها حمَّامٌ كبير في قفصها. ويُقدَّم إليها بعدَ العرض السمكُ حيًّا، وشطيرةٌ بزيت السمك، وكوبٌ من الفودكا. رائعة!

وماذا لاحظتُ أيضًا؟ يَزحف الأولاد الوحيدون تحت حواف خيمة السيرك ويشاهدون العَرض … ويركض القزَمُ ويَصفع كعوبهم بعصاه.

الزنجيُّ بول بول مجنون نوعًا ما. كان يَعزف على عصا المكنسة «مسيرة التماسيح». استخدَم بطنه مثل طَبْل، وأحدثَ بقدمَيه بعضَ الأصوات العالية، كأنَّ لديه أربعةَ أزواج من الكفوف … رائحتُه كانت مثل القِرفة والفلين المحروق. أوف!

ثم خرَج المشعوذ. جرَح المشعوذ نفسه لكنه لم يَنزف. يبدو أنه يُجمِّد دماءه قبل العرض. اخترقَت شفتَيه إبرةُ حِياكة، ووضَع مِسمارًا في ذراعه، حتى إنني استدرتُ بعيدًا. لم تستطِع أعصابي تحمُّلَ النظر لفترةٍ أطول … والأسوأ من هذا أنه أخَذ ساعةً من النيكل من جندي سمين من الجمهور وابتلعَها، ولم يُرَ سوى طرف السلسلة يتدلَّى من فمه، وطلبَ من الجمهور الاستماع إلى دقَّات الساعة في صدره. شيءٌ مُرعِب. كان جلده مُمزَّقًا.

أعتقد أنَّ عَرْضه قد انتهى. كُنا نتناول وجبةً خفيفة عندما دخَل إلى الساحة كلبٌ صغير أشبه بحِصان أشعث ذو غُرَّة حمراء في مقدمة رأسه، مع كثير من الأجراس. لم أكن أعرف أنَّ هناك مثل هذه السلالة من الكلاب الصغيرة. قفَز قفزةً رائعة عبر الطَّوق، ووقفَ على رجلَيه الخلفيتَين وقفَز. شعرتُ بزينا وهي مُستمتِعة بهذا العرض، وهكذا كنت أنا أيضًا.

أتساءل لمَ لا يشتري والدُ زينا مثلَ هذا الحصان. كنا سنتسلَّق الكرسيَّ كي نركبه على طول الشاطئ. إنه ليس حمارًا ليسير بسرعة الحلزون! سيَتفاجأ الجميع، وسأحصل على كثير من السكَّر.

«مَن سيركبه؟» — «ميكي وزينا.»

«حصان مَن؟» — «ميكي وزينا! رائع!»

أنا مُرهَق. لا أقوى على المزيد … سأكتفي الآن بما سجَّلتُه، وسأركضُ إلى الشاطئ حيث السيرك. بووم! بووم!

مدرِّبُ الأكروبات الشهيرُ للكلاب والبولدوج
اللاعبُ والبهلوان فوكس ميكي

السفينة البُخارية

تتمايل باخرة البيت الأبيض بجوار رصيف المنتجَع. يوجد بها مدخنة وشرفة للقبطان، أسفلَها نوافذُ مستديرة بحيث يُمكِن للأسماك أن تَنظر إلى الكبائن. المقدمة مدبَّبة من الأمام، ولكنها ليست كذلك من الخلف … ينفجر الماء من الأسفل، ويُصدِر الحبل صريرًا، وينبعث الدُّخان من موقد الباخرة.

فوو! فوو! تَصدُر ضجةٌ عالية مثل غليون يَنبَح على نحوٍ مثير للاشمئزاز. يَسدُّ الجميعُ آذانَهم بسبب الصوت، ولكنني لا أستطيع. تأخذني زينا بين ذراعَيها وأنا أرتجف. الألواحُ تحتَنا تهتزُّ أيضًا، وتَحملني نحوَ هذا الشيء السيئ. والأب وراءنا.

نتحرك بعيدًا! من قِلة الأماكن على اليابسة … يُمكِنني السباحةُ في أيِّ وقت على الأقل، لكن ماذا سيفعلون بأحذيتهم وجواربهم إذا انقلبَت هذه الباخرةُ التي تُشبِه البيت؟

يتجوَّل الناس … يتجوَّلون ويتجوَّلون. يَرتدون السُّترات ويَضعون المناديل في جيوبهم (من الجيد أنهم لا يَضعون فُرشاتِ أسنان في عروة السُّترات، حمدًا لله!) يتدافع الجميع، والجميعُ يعتذر. آسف! لكن لا تَضغَط على قدمي، وعفوًا لا تَعتذر، وإلا فإن كلَّ كفوفك ستَتحطَّم.

جلسنا على المقاعد على الجانبَين، مثل العصافير على أسلاك التلغراف … السماء تتأرجح، والشاطئ يتأرجح، وأرضيتُنا تتأرجح. فقدتُ مركزَ جاذبيتي تمامًا، وجلستُ على الأرض مُنبطِحًا مثل ضفدع على الجليد.

لماذا تعذِّبون فوكس بريئًا مِثلي؟ لماذا؟!

فوو! فوو! فوو! لنَتحرَّك. يُلوِّح الجميع بأيديهم، ويُرسِلون قُبلات في الهواء. فقط فكِّروا … نحن نُغادِر لمدة ثلاث ساعات. هذا نِفاق. تسلَّلتُ إلى السِّياج في منتصَف القِدر البُخاري، ونظرتُ إلى أسفل: كانت الأذرُع الحديدية تَسير وترتفع وتَتقلَّب، وكانت الساق الرئيسية المغطَّاة بالزيت تَدور حولَها … إنها سيارة. شييك-فييك … شييك-فييك … شييك-فييك … شييك-فييك … لا تَتوقَّف ولو لدقيقةٍ واحدة!

•••

لم نرَ شيئًا بينما كنا نَسير عبر المَضِيق. الخليج … ثم الخليج. واو! البحر هناك، بل هنا. السماء مُتقارِبة مع الماء في خطٍّ واحد، الآفاق مفتوحة من كل جانب … هل هذا مُمكِن؟ وأين الأرض؟ خلفَ الباخرة، ظهَرَ الماء الأبيض الفوَّار، طيورُ النورس تَتسابق وراءنا وتَصيح مثل القطط الجائعة … يوجد كثير من الأسماك في البحر، يُمكِنك تناوُل الطعام طوالَ اليوم، فماذا عساهم يريدون أيضًا؟

حسنًا، نظرًا لأنها نزهة، فلا داعيَ للاختباء تحت المقعد. مشيتُ على ساقي، فرَدتُ ساقي بخجل. وحاولتُ المشي بصعوبة (مع الأسف)؛ البحَّارة لديهم أحذيةٌ خشبية مثل القوارب، والركَّاب لديهم أحذيةٌ عادية بيضاء وصفراء. إنها أحذيةٌ عملية ولطيفة. لكن، كان لكلِّ امرأة حذاءٌ ذو شكلٍ مختلف؛ فهناك حذاء ذو كعب، وحذاء بإبزيم، وحذاء بشبكةٍ حمراء، وحذاء ذو كعبٍ أخضر … مَن ذا الذي ابتكر لهنَّ كلَّ هذه الأشكال؟

دخلتُ إلى شرفة القبطان. إنه قبطانٌ عجوز وسمين، لديه لحيةٌ مثل رجلِ عيدِ الميلاد، وله عينان زرقاوان. يَفرد ساقَيه ويُسلِّي نفسه؛ يُدير العجلة والعِصيَّ في اتجاه، ثم في اتجاهٍ ثانٍ، ثم في اتجاهٍ ثالث، ويصيح وغليونه في فمه: «صباح الخير. صباح الخير. صباح الخير.» هذا ما سمعتُه، وربما أكون قد أخطأتُ من شِدَّة الضجيج.

وجدتُ المطبخ. كانت الطاهية نفسُها تتأرجح وهي تؤدِّي عملها. كانت تُباشِر إعدادَ الطعام بالطبع. أخذَت الطاهية قطعةً من جرَّاد البحر وانحنَت لتُطعِم جرْوَها الصغير، وبينما هي تضع القطعةَ تحت أنفه، رأتني وأنا أحدِّق إليها، فشعرَت بالخجل ومسحَت أنفها.

ما زالت اليابسة بعيدة، والأمواج مثل كلب البولدوج تتقاذف الرغوة من كلِّ مكان. الجميع يهزُّون رءوسهم لي. أوه! وإذا بالسفينة ترتفع، فيقعون. الجميع يضحك! ضَعْ سلطعونًا على أرضٍ جافة، وسيكون الأمر بالقَدْر نفسه من الصعوبة، حسبما أعتقد. يتعالى صفيرُ الرياح، فيصمُّ الآذان. أووه!

طارت قبعةُ جيراننا في الماء. أكَّد لنا والد زينا أن المياه عذبة. يا له من أحمق! إنها ليست عذبة. أستطيع تذوُّق بعض من المياه الصادرة من الانفجارات في مؤخِّرة الباخرة.

داست امرأةٌ عجوز لا أعرفها على مِخلَبي، أغمضتُ عينَيَّ وصرختُ بهدوء، بهدوء: فكِّر يا ميكي … البحر! البحر الذهبي … حسنًا، كفى، اهدأ. لن أعود إلى هنا مرةً أخرى. أنا كلبٌ صغير من سلالة الفوكس، كلبٌ تافه، لماذا داست على قدمَيَّ؟ لم ألمسها قَط، ولم أنبح عليها قَط (هوو! أعتقد أنني كذبتُ بشأن جملتي الأخيرة).

ومن ثَم، فقدتُ أعصابي. قفزتُ على المقعد، وأدرتُ ظهري إلى البحر ودُستُ على عوَّامةِ النجاة بمِخلَبي. لكنني اضطررتُ إلى تركِها تحسُّبًا فقط لأن أحتاجَ إليها لإنقاذ زينا ووالدها والقبطان. سوف أدَع الطاهية تغرق … أنا فوكسٌ غاضب. لماذا أكتبُ مثل هذه الأشياء السيئة؟ بالطبع، كنت سأنقذ أيضًا الطاهية وجَرْوها الصغير.

•••

هل هذا كلُّ ما حدَث؟ لا، ليس كلَّ شيء. إنَّ سكان الأرض الجَشِعين لا يُحسِنون التفكير، الشواطئ والغابات والحقول والطرق السريعة لا تكفيهم. ومن ثَم، قرَّروا الطيران فوق الماء. استقلَلنا قاربًا بمُحرِّك، وطِرنا بعيدًا. نَعَم، تبدو تجرِبةً مخيفة. لكن بعض المجانين يحبون أن يجرِّبوا، ربما ليس لديهم آباء، وليس هناك مَن يَمنعهم. الجميع هنا يريدون ركوبَ البحر: الأبناء، والأمهات، والآباء، والأجداد، وحتى الأطفال. ها هو القدَر («القدَر» مثل الخفَّاش الكبير الشرير) جاء يُعاقِبهم …

يقولون إنَّ الكلاب تُسيء التصرف. ها، الكلاب … ربما كان يَجدُر بك لو شاهدتَ كيف يتصرف أولئك الأشخاص ممَّن يرتدون سُترات ويَضعون مناديلَ جديدة في جيوبهم على متن الباخرة عندما تبدأ في الاهتزاز.

أغمضتُ عينَيَّ وحاولتُ كتمَ أنفاسي. شممتُ رائحةَ قشرِ الليمون … بررر!

لكن زينا كانت في حالٍ رائعة. ووالدها في حالٍ جيدة. والقبطان كذلك … أمَّا أنا، فالأفضل ألَّا أسأل.

•••

عندما ظهرَت اليابسة، أرضٌ خضراء جميلة، أرضٌ صُلبة بها منازل وكلاب وسفَّاحون وحُجرات للاستحمام، صِحتُ بشدة لدرجةِ أن صَيْحتي تجاوزت صوت صافرة الباخرة.

أتعهَّد وأُقسِم أنَّ مِخلَبي لن يَطأ متن سفينة مرةً أخرى. لماذا يَجرُّونني معهم في كل مكان؟ غدًا، سيبدأ والد زينا في المشي فوق السحاب، فهل عليَّ أن أطير معهم؟! عذرًا، لو تفضَّلت!

آها! كنت أعرف. هذا الأبُ الغريب قد انتقى صيَّادًا، وطلبَ منه أن يجهِّز له ليلةَ الغد مَركبًا به قُمرة وأدوات صيد …

سوف أنظر إلى القمر من الشاطئ، وآكل السمك، وهذا كلُّ شيء …

ومع ذلك، فإنَّ البحر هادئٌ اليوم، ونحن نعرف هذا الصمت. لكنَّ الغرفةَ أكثر هدوءًا. الأرضية لا تهتزُّ، والسقف لا ينقلب، والرغوة لا تَصعَد إلى النافذة، والناس لا يتحولون إلى اللون الأخضر والأصفر. بررر!

ثعلبُ البحر العتيد
فوكس ميكي

العودة إلى باريس ووضعُ النقطة الأخيرة

‏كانت الشُّرفة مليئةً بالحقائب؛ إحداها مصنوعة من جلد الخنزير، وأخرى من جلد التمساح، وحقيبة أصغر حجمًا … بررر! … أيُعقَل أن يكون جلدَ كلب. في الحديقة الأمامية، تَراقصت الأوراقُ الصفراء وداعًا لفوكس.

جريتُ إلى البحر، وقلتُ: «وداعًا.» «بوووم!» يا له من وقِح! جئتُه مُودِّعًا، وهو يَنفث الأمواج في وجهي …

ثم جريتُ إلى أكشاك الاستحمام المصنوعة من الكتَّان. كانت السماء بلونِ كلبٍ قَذِر. النجوم مُعلَّقة ورءوسُها إلى أسفل: إنها تشعر بالملل. وداعًا وداعًا! على الرغم من أنك عديمُ الرائحة، فلن أنساك أبدًا …

قلتُ وداعًا للغابة. ربما لم أفهم منها شيئًا: كانت تُحدِث ضوضاء وبعض القرقرة … ولم تَسمع قَط ما يقوله ميكي الصغير النابض بالحيوية.

قلتُ وداعًا لصاحبة المتجر. إنها امرأةٌ مُمِلة. انتهى الموسم ولم تتمكَّن من بيعِ سمكِ الإسبرط الفاسد.

كنت أدفع الحقائب على طول الطريق، ومنَعني هذا من التفكير. تَرتسم على وجه زينا تعبيراتٌ عابسة، مثل ببَّغاء مُعاقَب. وفي رأسي، حملتُ ذكرياتي عن المكان والأصدقاء والصور. لم تَنظر إلى وجهي. حسنًا، لا يهم. لماذا كلُّ هذا الحب لفصول العام؟ سوف أعقدُ صداقاتٍ جديدةً في باريس مع بعض كلاب الفوكس اللائقة.

•••

قُدنا السيارة طويلًا، وأخيرًا وصلنا. تعثرتُ في الكتابة، إلا أن هذا كان عن غيرِ قصد؛ إذ تَخدَّر مِخلَبي تمامًا.

نظرتُ إلى كلبة البوَّاب عند المَدخَل، لكنها أزاحت رأسها بعيدًا. يا لها من دوقة! حسنًا، يُمكِنني أيضًا أن أُخاصِمها.

سوف أجعلهم يأخذونني إلى عرض الكلاب، وعندما أحصل على الميدالية الذهبية سوف تنفجرُ هي حسدًا في عرين البوَّاب.

لقد نسيتُ تمامًا كيف أتعاملُ مع الأثاث. توجد خِزانةٌ جانبية، وخِزانةٌ أخرى أصغرُ على هذا الجانب، والأسرَّة أوسع من الباخرة التي ركبناها … لا ينقصها سوى أن يَضعوا لها بعض السلالم لتُشبِهها تمامًا. يا للاشمئزاز! وما زالوا يريدون شراءَ خِزانة ملابس قديمة من صانع الأثاث! يقولون إنها من خشب الماهوجني. حتى لو كانت من الخشب الأرجواني، فإنها لا تساوي في نظري بنسًا واحدًا.

أوه، كم الشقة ضيِّفة! مُنتهى الأفق أمام أنفي. الغابة عبارة عن ثلاثةِ أصص من الزهور. يمكنك القفز، ولكن لا يوجد أحد كي تَقفز معه. تدرس زينا في المدرسة المناطقَ الاستوائية. الطاهية غاضبة، وتُلطِّخ شفتَيها بأحمر الشفاه. ربما سآخذ أحمر الشفاه الخاص بها وآكله، حينها سوف تضطر إلى المشي بشِفاهٍ بيضاء.

تتراقص الأوراقُ البيضاء على الشُّرفة، وتُصدِر حفيفًا. اعتادَ عصفورٌ واحد الطيرانَ إلى شُرفتنا. فتَّتُّ له كعكةً، بينما هو يقفز حول أنفي ويَنقرني. تجاذبتُ معه أطراف الحديث أمس دَرءًا للملل.

– «أين تعيش أيها الطائر؟»

– «في كل مكان.»

– «حسنًا، كيف الحال في كل مكان؟ هل لديك أب وأم؟»

– «أمي في منطقةٍ أخرى، وأبي طارَ بعيدًا ليعيش في مدينة سان كلو.»

– «ماذا تفعل وَحْدك؟»

– «أتحرك في كل مكان. أطيرُ فوق الحديقة، أو أجلسُ على أحد فروعها. ها أنت تُطعِمني الفُتات.»

– «ألَا تشعر بالبرد؟ نحن في الخريف.»

– ‏ «هذا غريب، ولكن، حسنًا، لديَّ بعضُ الزغب ليَحميني. يا إلهي! هناك بعضُ العصافير تتقاتل في الزاوية. مهلًا، انتظروا أريد أن أتشاجر معكم أيضًا! فووو!»

ثم طار العصفور بعيدًا …

أوه يا إلهي … لماذا لا أملكُ أجنحةً؟

•••

أرتجف، وأرتجف، ولكن هناك ما يدعو لذلك. لقد ظلَّت التدفئةُ المركزية تُطلِق هسيسًا أمس، وتوقَّفَت عن العمل الآن. والأفظع أنهم سيُحضِرون جهازًا جديدًا بعد فترة، وهو ما يعني أنني سأظلُّ أرتجف في بردِ الشتاء لمدة أسبوعَين.

يُغالِبني النوم بشدَّة. أنام كثيرًا؛ أثناء النهار، وفي المساء، وليلًا.

تقول زينة إنني أعاني من مرضِ النوم. وتقول والدتها إنَّ هذه شيخوخةُ الكلاب. ويقول مدرِّس الموسيقى إنه الطاعون. تبًّا! هل يُمكِن لكلبٍ واحد أن يَجمَع كلَّ هذه الأمراض؟!

إنني حزين وحسب. وآخِرُ ما أحتاج إليه أن أقضي الخريف والشتاء في شقة بها كثير من خِزانات الملابس.

كما أنَّ دفتر ملاحظاتي قد أوشكَ على الانتهاء. ولا يوجد شيءٌ أكتبُ عنه … أوه! لو كنتُ دُبًّا، لَذهبتُ إلى الغابة، واستلقيتُ في عَريني، ولطَّختُ مِخلَبي بالعسل، وظلِلتُ ألعقُه حتى الربيع.

اليومَ انعكس شعاع من الشمس على أرضية الشُّرفة، استلقيتُ تحته، لكنه ابتعد عني. يا إلهي!

قبل أن أنسى، يجب أن أكتبَ حُلمًا رأيتُه أمس. رأيتُ كما لو أننا جميعًا، أنا وبقية أفراد العائلة، نتَّجه جنوبًا إلى مدينةِ كان. ليَكُن الله في عَوننا مع شتاء باريس! بدا الأمر كما لو أن زينا ووالدتَها ذهبتا إلى عربةِ العشاء لتناوُل الإفطار. غلبَ النومُ الأب فنام (وهو دائمًا ما ينام في القطار)، وشعرتُ بالمرارة. لماذا لم يأخذاني معهما؟ سمعتُ من الحقيبة صوتًا يُشبِه مُواءَ القِطة، فشعرتُ بحنقٍ شديد؛ «لأنَّ الكلاب غيرُ مسموح بها في عربة الطعام. القطط مسموح بها في كل مكان، أمَّا الكلاب فيَتركونها وراءهم.»

تَملَّكني غضبٌ شديد، وأمسكتُ الحقيبةَ بأسناني و… استيقظتُ.

•••

تفقَّدتُ الصفحات. ماذا لو أنَّ أحدًا طبعَها؟! مع صورتي الفو-تو-غرا-فية؟

ربما لوَقعَ كتابي وقتَها في يدِ فتاة ترتدي فستانًا أخضر. تَقرؤُه وهي جالسة بجانب المِدفأة، وتتصفَّح أوراقَه وتبتسم. وفي كل منزل، توجد فيه أرجُل صغيرة بأشرطة شعر، أو من دونها، سيعرفون اسمي: «ميكي».

زينا نائمة، والساعة تدق. والبوَّاب يُصدِر شخيرًا، أستطيع أن أسمَعَ صوتَه عبْرَ أرضية الغرفة.

وداعًا دفتر الملاحَظات، وداعًا أيها الصيف، وداعًا أيها الأطفال — الأولاد والبنات — والآباء والأمهات، وأيضًا الأجداد والجَدَّات … أردتُ أن أبكي، ولكن بدلًا من ذلك عطست. وضعتُ نقطةً كبيرة، كبيرة جدًّا. آه، لَدَغني برغوثٌ مجدَّدًا. في هذه اللحظة المؤثِّرة …

الكلبُ الممصوصُ الدماء!
صديق الأطفال العالَمي
المتواضع الذي يُغالِبه النعاس فوكس ميكي
١٩٢٤–١٩٢٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤