مقدمة

المأساة الكبرى

وضعْتُ هذه الرواية في الحرب الحاضرة، وجعلتها على أسلوب الروايات التشخيصية؛ لكي أجعل لأشخاصها في كلامهم وأفعالهم صُوَرًا خاصةً تدل عليهم، وتنطق عنهم بلسانهم؛ لتكون العبرة من ذلك في معرض الفكاهة أوقعَ في النفس.

وقسَّمت الكلام فيها قسمين: قسم حقيقي واقع؛ وصفت فيه مقدِّمات الحرب والأعمال التي جرت فيها، وقسم تخيلي منتظر؛ جعلته توطئةً «للمحاكمة» المقصودة من كل هذه الرواية، والتي تظل صحيحةً مهما تكن النتيجة، لمثيريها أو عليهم، عسى أن تنجلي هذه الأمور الاجتماعية البسيطة للجمهور، فيصون نفسه ومصالحه من عبث العابثين، وينزِّه مداركه عن أن يكون كالآلة العمياء في أيدي السفاحين المخرِّبين؛ لقضاء أغراض لهم سافلة في غالب الأحيان، كما هي الحال في هذه الحرب الشنيعة التي تضحِّي الناس فيها بالملايين لأحلام ومطامع لا يجوز أن تصدر في هذا العصر خاصة إلا من مُصدَّعين مجانين، ولا يقبلها إلا المغفَّلون.

ولا غرو؛ فجنون العظمة والغرور كلاهما جنون، كما هو شأن إمبراطور الألمان اليوم متعاظمًا بعراقة محتِدِه، وبسطة مُلْكه، وقوة أُمَّته، وهذا أقل عيوب الأُسَر المالكة، وكما هو شأن أُمَّته مغترةً بما وصلت إليه من النجاح الباهر في العلم والصناعة والتجارة في هذا الوقت القصير، فأصابها من ذلك خُمار كخُمار مُحدَثي شاربي الخمرة، وللمُحدَثين في كل شيء — حتى في العلم — خُمار أيضًا؛ فانقادت بحُكم التربية المصنوعة إلى مطامع إمبراطورها الجنونية، وصبَّت الويلات على العالم غير حاسبة للأضرار التي تلحق بها من ذلك حسابًا، كأنها فعلت كل ذلك عن غير رَوِيَّة، أو عن روية غير ناضجة، أو هي مختمرة اختمارًا فاسدًا، فأتت أعمالًا تُحاسَب عليها حتى الأُمم الجاهلة، ولا تليق بأُمَّة مثلها سَمَت سُموَّها في العلم والحضارة، ولما فعلت ذلك لو أنها شاءَت أن تدرك مبادئ علم الاجتماع الطبيعي كما ينبغي أن يكون.

فأنا توخيت من هذه الرواية أغراضًا أربعة:
  • (١)

    أن أصفَ وصفًا بسيكولوجيًّا (أخلاقيًّا) الأشخاص الذين ذُكروا فيها ينطبق على أخلاقهم ومطامعهم وأحلامهم ومراميهم على ما فيها من الغرابة والحمق اليوم؛ للتنفير منها.

  • (٢)

    أن أصفَ الوقائع — بالإشارة إليها — وصفًا تقريريًّا في الجانب الحاصل منها، ويكاد يكون نتيجةً لازمةً في الباقي غير الحاصل، بناءً على أنه في حالة الاجتماع الحاضرة لا يجوز أن تصح نتيجة أخرى، مهما تقلَّبت أحوال الحرب، ومهما طال أجلها.

  • (٣)

    أن أشيرَ إلى بعض انتقادات في أمور اجتماعية كائنة؛ لأنها كانت لا تهضمها مَعِدة الاجتماع الراقي.

  • (٤)

    أن أبحث بحثًا سوسيولوجيًّا (اجتماعيًّا) فيما يجب أن تكون نسبة الأُمم بعضها إلى بعض، ولا سيَّما الراقية بناءً على ما هي صائرة إليه، طبقًا لمرامي العلم الطبيعي الصحيح المفهوم كما هو، لا كما يؤوِّله أصحاب الغرض، وأصحاب النظر القصير.

فإذا كنت لم أبلغ غاية الإجادة في الوضع كرواية تُمثَّل على المراسح؛ فأنا لم أنظر فيها إلى ذلك بقَدْر ما نظرت إلى الغاية التي قصدتُها منها، وهي القضاء على ما في العقول من السخائم، وتأييد مصلحة الاجتماع بمقاومة ما فيه من النظامات الفاسدة التي لا تتفق مطلقًا مع هذه المصلحة، ولا سيَّما في هذا العصر الذي ينبغي فيه على الأُمم الراقية أن تكون متضامنةً؛ للبلوغ بالاجتماع إلى الغاية القصوى من العمران، فلقد نظرت إلى جسم الاجتماع كما ينظر الطبيب إلى الجسم الحيِّ؛ ليتعهد — كما يتعهد هذا الجسم في صحته، وفي مرضه — بتوفير الأعضاء الصحيحة، ومداواة الأعضاء المريضة بما يصلحها — إن أمكن — وإلَّا فبالقطع أو البتر إذا كانت لا تُرجى؛ لئلا يمتدَّ فسادها إلى المجموع، لا أن تُعكَس الآية ويُقوَّض الصحيح النافع من الأُمم، ويُوالى الفاسد الضار من الدول التي لا تُرجى. وكل عمل اجتماعي يخالف ذلك هو خرق وهمجية مهما يكن مقام صاحبه، هكذا يجب أن يكون طبُّ الاجتماع لقوم يحرصون على صحة هذا الجسم ونمائه.

على أن هذه الحرب مهما تكن اليوم شنيعةً، فظيعةً، مدمرةً، مُثكِلةً، مثيرةً للعداوات، باعثةً على التخاذل والتقاطع، مُفكِّكةً لأوصال الأُمم؛ فإن الاجتماع سيجني منها فوائد أدبيةً كبرى تفوق جدًّا الخسائر المادية اللاحقة به منها، والتي ضررها يقتصر على المعاصرين المساكين؛ إذ تكون له كالصرخة في أُذُن الغاطِّ المُستبحِر في نومه، أو كالعصا على كِفل الحمار البليد؛ فتستفزُّ الأُمم للانتباه إلى حقوقها، ومعرفة مقامها في الاجتماع، فتهبُّ لإصلاح نظاماتها وشرائعها، وتضع حدًّا لمنازع أصحاب الامتيازات الموروثة، أو الطامعين فيها من سواهم، والذين هم قَيْد في رِجْل الاجتماع، وغِلٌّ في عنقه، وسيف مسلول فوق رأسه، وتُنزلهم عن عروشهم المُغتصَبة إلى مستوًى ترفع إليه الجمهور، وتشتغل بما يحقِّق لها الفوز على الطبيعة، ويذلِّل لها مصاعب الحياة القصيرة، وتُخلِّص الاجتماع ممَّن هم فيه بمنزلة «البقر»، وما عددهم في كل أُمَّة حتى اليوم بقليل، وتُسرع في الانتقال بهم إلى مقام البشر الحقيقيين؛ سعيًا وراءَ سيادة الكل لأجل مصلحة الكل، وهي نتيجة لازمة، ومن حسنات الطبيعة في تطوُّرها مهما توالى عليها من التقلُّبات والنكبات والوقوف والتقهقر الوقتيَّين؛ فإن النتيجة، وإن أبطأت بذلك، فإنما هي إلى الارتقاء أخيرًا، وما الثورات — حتى الطائشة مثل التي نشهدها اليوم — إلا مِهْماز في جَنْب الاجتماع الخامل للإسراع في السَّير لبلوغ هذه الغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤